الفصل الثالث

أزمتنا الثقافية والتحديات الداخلية

التراث وتساؤلات مشروعة «الخروج من الكهف»

(١) الكسل الفكري والمرض المزمن

أفرطنا في الحديث عن التحديات الخارجية، فذلك أيسر وأروح للنفس؛ إذ يعفينا من المسئولية، ويبرئ أنفسنا من عبء الإدانة أو بذل الجهد لسبر أغوار النفس، أو تغيير أصول تنشئتنا ومراجعة أُسس ثقافتنا، لذلك ننزع إلى إبراز العوامل الخارجية ونصوب إليها الاتهام، ونقف عند هذا الحد من الواجب، ونغفل تمامًا الحديث عن التحديات الداخلية، وإذا حدث وتعرَّضْنا لها، فإمَّا أن نتناول القشور، أو نعرض لمظاهر آنية وقتية، قد تتعلق بخصوم سياسيين لا لهدفٍ سوى إزاحتهم عن الطريق، وننسى أن هذه المظاهر هي عرض لمرضٍ مزمن، وجرثومة تمتد إلى أعماق التاريخ، اصطلحت عوامل كثيرة على تأصيلها وتعميق فاعليتها، وهي التي صاغت ذهنيَّتَنا.

وهكذا ننأى عن أي محاولة جادة وجريئة في سبيل مواجهة النفس وكشف المستور، من خلال نظرة تحليلية نقدية تاريخية، تتناول أصول الغِذاء الثقافي الذي نقتات عليه أجيالًا بعد أجيال، وصاغت نَهْجنا في الحياة، وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين مجتمعًا أو بيئةً أو طبيعة، وتمثل هذا كله في قيمٍ اجتماعية تحكم سلوكنا، وانعكس في علاقاتنا الاجتماعية ونُظم الحكم، ودور الرعية والراعي، وتَرَاكم حصادًا أو تراثًا على مدى القرون، الأمر الذي نخشَى مواجهته وتحليله ونقده.

لهذا لا بأس من الحديث بصوت عالٍ عن الاستعمار، وعن مؤامرات الغرب وحقده الدفين ضد الدين، وانتهاكه لمقدَّساتنا، ولا بأس من أن نروِّج أن صورتنا عن أنفسنا اهتزَّت بسبب أكاذيب وافتراءات المستشرقين. ولا نسأل لماذا لا نقوم نحن بالدور عن أصالة بدلًا منهم، ونكون نحن الصادقين. الغرب مُتآمِر علينا، جمَع لنا ويتربص بنا. والقضاء على ديننا شغله الشاغل، وقد تسنح الفرصة لبعضهم في ظلِّ نُظم تتيح قدرًا من حرية التعبير أو التنفيس، فيمتد الحديث أو النقد إلى فَضح عيوب ومَثالب السلطة الحاكمة، وكأنها حدَثٌ وقتي طارئ، وفيما عدا ذلك يُؤْثر المتحدِّثون السلامة، ويقنعون من الغنيمة بالصمت عن الكلام المباح بشأن التراث ودوره في إعاقة جهود الإصلاح، لا قصد الإنكار أو الجحود، بل قصد الفهم الواعي والتحليل النقدي، ومراجعة الرصيد ومحتوياته، وإيجابياته وسلبياته، في محاولةٍ لإضافة صفحة جديدة من الفعل المبدع لا القول المكرور.

(٢) المواجهة الواعية بداية التنوير

ومواجهة التحديات الداخلية فهمًا وتحليلًا، ثم عزمًا على التغيير دون تزييف للوعي أو خداع للنفس، شرط أول وأساسي لضمان أهلية المجتمع لمواجهة التحديات الخارجية، مواجهتها على أساس الفهم لها، ولأسبابها وحدودها ودلالتها وأخطارها، وعلى أساس الوعي الذاتي بالدور المنُوط بالمجتمع والفرد على السواء، حيث إن المواجهة ليست مسئولية حاكم، ولا شريحة اجتماعية بذاتها؛ فقد يكون هذا أو ذاك جديرًا بالاتهام بالتواطؤ، أو أنه غير ذي مصلحة في التغيير، وإنما أن تكون المواجهة مسئولية كل إنسان في المجتمع، وهذا هو الشرط الذي يقتضيه عصرنا الراهن، عصر الديمقراطية أو الإنسان العام، وأن يكون الفهم والوعي أساسَين للتنوير، أو إزاحة غمَّة الجَهَالة والتجهيل، وضمان أهليَّة المواطن أو الفرد للنجاح في تلك المواجهة المصيرية ضمن إطار حركة مجتمعية شاملة. بمعنًى آخر نسأل: هل بلداننا العربية بحاجة إلى أن تتوافر لها شروط ومتطلبات تضعها موضع الأهلية والثقة بالنفس، فيما يتعلق بأحكام المواطن وفهمه ووعيه، ليكون هذا ركيزة صالحة للتحدي ورسم صورة المستقبل ووضعها موضع التنفيذ، في ضوء ما يملك من إمكانات؟ مثلما نحن بحاجة إلى إدراك حقيقة التحديات الخارجية ووضعها في إطارها الصحيح، كذلك نحن بحاجة إلى مراجعة النفس وإعادة النظر فيما نملك من زاد موروث، وأن نلقي نظرة تحليلية نقدية لما توافر لنا من رصيد ثقافي في ضوء هدف مستقبلي منشود؛ ذلك لأن التراث الثقافي هو أحد العوامل الأساسية في تحديد توجهات الإنسان وما يريده من حياته، في رسم صورته عن ذاته، وصياغة نظرته إلى العالم وأسلوب تناوله لمشكلاته، كأن يكون مقدامًا جريئًا معتمدًا على نفسه، أو خانعًا متواكلًا، أو يؤمن بفاعليته ومسئوليته وحقه في الاختيار والعمل، بالأصالة عن نفسه، أو أن يدع أمور الخلق للخالق.

نحن بحاجة إلى صحوة لم تبدأ بعدُ، نُفيق بها من غفوة امتدَّت قرونًا، عاش الإنسان العربي على مداها عاطلًا غافلًا عن نفسه، أسيرَ فكرٍ هو ابن الماضي، كان يومًا فكرًا حضاريًّا زاهرًا، وصفحة من صفحات تاريخ حضاري عريق، ولكنَّه تخلَّف أكثر وأكثر شأن المعدن الصقيل عَلَاه الصَّدَأ.

(٣) نحن وخصوصية العصر

ثمة حقائق مجتمعيَّة، هي خصوصية العصر، ووليدة الواقع التاريخي الحديث تتعلق بصورةِ الإنسان والمجتمع وعلاقاته — مجتمعًا محليًّا ودوليًّا — وصورة الحياة والكون بعامة، وتتعلق بنُظُم الحكم ومؤسساته وتطوُّرهما في التاريخ، ومفاهيم العدالة وحقوق الإنسان، والمشاركة الفردية والمسئولية، وتنظيم إطارهما الاجتماعي وضماناتها، وتنمية قدرات الفرد الإبداعية، ودور العقل؛ العقل العام المستنير في إطار نشاط جمعي وسياق مجتمعي، واستنادًا إلى حقِّ حريةِ تلقِّي المعلومات، وكذا العقل العالم أو الباحث المتحرِّر من كل قَيد غير قيد الالتزام المنهجي بقواعد البحث، والالتزام بقيَمٍ إنسانية تتسق مع حركة الارتقاء الصاعد بقدرات الإنسان.

هذه حقائق واقع الحداثة التي يجسِّدها ويحفِّزها في آنٍ، نشاط اجتماعي إنتاجي خلَّاق، وتضمن ممارستها والالتزام بها قِيَم اجتماعية رسَخت بفعل حركة التطور الاجتماعي، ولهذا تنتفي في مجتمع راكدٍ خامل، وهو ما تعبر عنه إجمالًا كلمة «التخلُّف»، التخلف عن العصر الراهن لا عن الماضي؛ إذ إن وضوح هذه الحقيقة هو البوصلة التي تحدد توجهنا، ونرسم على هَدْيها مشروعَ مستقبلنا؛ ذلك لأن هناك من يرى أن التراث يؤكد أن الخاصيَّة المميزة لحضارتنا أنها حضارة أخروية، وأن خير العصور عصر ذهبيٌّ ولَّى نشتاق إليه، وأن التقدم يكون بالرَّجعى والتحوُّل إليه، أي بالحركة إلى الخلف.

وحريٌّ بنا إذا ما سلمنا بواقعِ تخلُّفِنا أن نتبين مظاهر التخلف وعوامله؛ نسبة إلى مقتضيات العصر وتحدياته، وما يعزِّز هذا التخلف في موروثنا الثقافي، وأن يكون حكمنا قائمًا على عقليةٍ ناقدة للحاضر والماضي على السواء، وأن نتبيَّن زادنا الفكري الثقافي موروثًا ومكتسبًا، ونعرف إلى أي مدًى يصلح لنا هذا الزادُ الآن، وما الذي يحتويه من عناصر إبداعية تُفيد حركتَنا نحو مُقبل الأيام، وفقَ صورة رسَمناها نحن عن المستقبل، وأن يَقترن هذا الفهم بإيمانٍ راسخ واعٍ بأن الأمس غير اليوم، وكل يوم له شأن، قضاياه ومشكلاته وواقعه وفكره؛ ذلك أن كبيرة الكبائر وأم الرذائل في حياتنا أننا نعشق الماضي، نركن إليه، نُقدِّسه تقديسنا لأرواح الموتى حين نَبكيها ونسترضيها ونأسى لفِراقها، ونحاول أن نَلْبس ثوب الماضي فكرًا وثقافة، بل وردًا حقيقيًّا، على نحو ما ترى بعضهم من واقع الفراغ والبطالة يتأسَّون بالسلف «الصالح» في كلِّ عاداته وسلوكياته وملابسه، إلا منهج السلف في مواجهة تحدِّيات عصرهم، حين كان لنا سلفًا صاحب مجد وحضارة مزدهرة، وليس سلف عصور الركود والبوار.

(٤) الهروب من المستقبل إلى الماضي

إذا لم نسلم بتخلفنا على هذا النحو، ومن هذا المنطلق، سيكون شأننا شأن المريض الذي يأبى الاعتراف بمرضه وبعلَّة مأساته، ويسقط همومه على الآخرين، أو يتهمهم بأنهم علة الداء، ويعيش فريسة لخِداع النفس، وضحية وسواس من الأوهام الكاذبة تحاصره وتحصره فتدفعه إلى مزيد من التدهور، ويستعصي الأمل في الشفاء على الرغم مما يجده في أوهامه من عذوبةٍ تلهيه وترضيه وتنأى به عن معاناة بناء الحياة، وما تقتضيه من كد وجهد، فيؤثر كهف الماضي على نبض الحاضر، ومن ثم يئِد المستقبل في مَهْده، ولتكن لنا أسوة حسنة في مغزى ودلالة قصة فتية أهل الكهف الموروثة عن السلف. كان هؤلاء الفتية، كما تروي القصة، أهل عقيدة أخلصوا لها، ثم أصابتهم غفوة امتدَّت بضع قرون، وطرأت صحوة، وظنُّوا أن بالإمكان العودة للتحدث إلى الناس بلغة الماضي، ودعوتهم إلى ما كانوا يدعونهم إليه، وكانوا صوابًا في عصرهم، ولكنَّهم كانوا من العقل والحكمة أن أدركوا أن الحياة تبدَّلت بشرًا وفكرًا وقضايا، وكشفت لهم بصيرتهم النافذة الهادية، أن لكل زمان رجاله وفكره، ومن ثَم آثروا السلامة، وعادوا إلى كهفهم، فهو بهم أحق، وتركوا الحياة لأهلها يصنعها الأحياء بما هيَّأه لهم عصرهم من إمكانات، فهم أعلم بأمور دنياهم.

(٥) حكمة العصر: إيمان بإرادة عقل الإنسان العام

وبعد الاعتراف تبدأ الحاجة إلى تحديد مشكلاتنا وقضايانا التي نعاني منها، وشروط الحوار لبيان صورة واقعنا، وعلاقتنا بحياتنا، وصورة الإنسان، كل إنسان، ودوره كمواطن دون تفرقة أو تمييز على أساس من عقيدة أو نسَب. ومثل هذا التحديد لا يجوز أن تتولاه، بالوكالة أو بالأصالة، صفوة تدعي احتكارها للعلم، علم دنيا أو دين، بل يتولاه أصحاب الشأن أجمعين، وكل من يملك عقلًا وفكرًا وقدرة على الإسهام في ذلك بنصيب. وهذه حكمة العلمانية: إيمان بعقل الإنسان، الإنسان العام، دون تسلط المؤسسات السابقة التي اعتادت احتكار حقِّ التفسير والتأويل، ومن ثم الهداية والتوجيه وإدارة المجتمع وتوجيه شئونه، ورسم خطوات حاضرِه؛ إذ لم يعد كل هذا، حسب منطق العصر، رهنًا بحكمة الحاكم وطاعة المحكوم، ولم يعد وقفًا على إرادة الحاكم، إن شاء نهض بالأمة، وإن شاء قعد وأغفل مهامَّه، والأمر في الحالين متروك لضميره، دون حساب أو رقيب، وإنما هي رهن بإرادة الإنسان العام، وبدوره وجهده وفكره المستنير، يقوم به من خلال حقه الإنساني في التعبير والمعرفة، وحقه بالوكالة من خلال مؤسسات تشريعية يسهم مباشرة في اختيار أعضائها وتنوب عنه، أو مؤسسات رأي حزبية، أو غيرها، تقوم بدورها الذي يكفله دستور وقانون. وليس الأمر منَّةً من حاكم، والإنسان العام يقوم بدوره اتكالًا على معلومات تتوافر له بحرية، واعتمادًا على عقله، يحتكم إليه ويهتدي به، ولهذا يُقال بحقٍّ: إن جوهر العلمانية أنها ردَّت لعقل الإنسان العام اعتباره، ووسَّعت نطاق مسئوليته ودوره الفعَّال، وإذ فعلت العلمانية هذا فإنما أكَّدت أن العقل لم يعد ملكية ميتافيزيقية اختصَّ بها السلطان، ثم صفوته بدرجة أقل، وحُرم منه العامة، وإنما العقل أو الفكر الرشيد نتاج المعرفة والنشاط الاجتماعي الإنتاجي المبدع، والناس جميعًا أهل له، إلَّا لسببٍ قد يُصيب السلطان والعامة، كعيبٍ خلقي أو حرمان من علم أو خبرة، أو بسبب قهرٍ وتسلُّط، وأن المرء — كل امرئ — بحكم أهليته هذه، مُشارك إيجابي، ومسئول عن عمله.

(٦) نحن فقهاء عصرنا

والعقل أو الفكر الرشيد يعني أن من واجبات المرء أن يتحمل نصيبه من المسئولية، وأن يكون العقل مرجعه في توجيه سلوكه وإدراك مسئوليته، العقل مرجعه، لا نص سابق وتأويل موروث، ولا مؤسسة تقليدية، يهتدي بأيهما أو بكلَيهما لتنظيم عمله، وملزم أيضًا بالبحث والسؤال عن مشورة العقل، ممثلة في إنجازاته الموثوق بها من معارف وعلوم ومناهج بحث، حين يُحدد أهدافه ويعالج قضاياه، وحين يُنظم أمور حياته الخاصة والعامة، وإلا عطَّل العقل، وأوكل مهام مسئولياته إلى غيره، وارتد وانتكس، ولم يعد مقبولًا، والحال كذلك، وصفه بأنه يُواجه حياته عن عقل ووعي.

وإذا كانت الحكمة ضالة المؤمن، والحكمة هي أجود وأحدث ثمار العقل العلمي، فإن الحكمة توجب الاطلاع الجادَّ على كل ما قدَّمه عقل الإنسان في كل مكان من حصاد وإبداع وفهمه فهمًا واعيًا، لا تصدنا عنه عقد موروثة، ولا نترك أنفسنا للتقليد استسهالًا، ولا نُسلِم لِجامنا لأئمة فكر وفقهاء عقيدة اجتهدوا لعصرهم، فأجادوا وأبدعوا ونجحوا، ولم يكن ما سطروه نهجًا وشرعًا لعصور تالية، بل أُثر عن بعضهم أنه تناول أحكامه الفقهية بالتعديل والتبديل بعد أن هاجر من مجتمعه إلى مجتمع آخر، فكان عاقلًا حصيفًا، لا جامدًا ولا جاحدًا.

إذا كان هذا صوابًا في أمور الدين، فماذا عسانا أن نقول عن أحكام بشأن أمور الدنيا في عصر غير عصرهم، وباعدَت بيننا وبينهم قرون طويلة، وظهرت إلى الوجود حيوات وعلاقات ومؤسسات وآليات اجتماعية لم تكن تخطر وقتذاك على قلب بشر، وقد كانت علوم عصرهم محدودة، يستطيع أن يُحيط بها عالم واحد، يتوقف على فهم أُسسها وأسرارها، ناهيك عن شيوع الأمية؛ إذ كانت الغالبية حقًّا وفعلًا بحاجة إلى من يَهديهم ويفتيهم؛ لأنهم دون الفقهاء علمًا، أمَّا الآن فالعلوم تخصصات واسعة المدى، متعددة المباحث، متباينة المناهج، والنظريات متغيرة الإيقاع، محكومة الخطوات، لا يُحيط بأُسسها عالم واحد، وإن قضى ساعاتِ ليله ونهاره قصدَ تحصيلها وفهمها، فضلًا عن الإحاطة بمشكلات الناس والحياة، على المستوَيَين المحلي والدولي، وهي مناط الإفتاء.

(٧) نحن والثقافة المعاصرة

من هنا وجب القول: نحن فقهاء عصرنا، فنحن لعصرنا أفْهَم، ولمشكلات حياتنا أفضل إحاطة، وأقدر على إدارتها وتوجيهها إلَّا عن إيثارٍ للكسل وجمود فكري، أو تزمُّت عقدي، والكسل أو الجمود ليس حجة تُعزز هيمنةَ فكر القدماء، كما وأنه ليس حُجة علينا — نحن دعاة إعمال العقل وتجديد التراث — أن القدماء لم يُفْتوا لمشكلات عصرنا، لم يعرفوا قضايا النقد والمصارف، أو علاقة الفن بالحياة، أو حقوق الإنسان، أو نُظم إدارة الحكم والدولة على نحوِ ما نفهم نحن الآن.

والالتزام بالعقل وإعلاء دوره وشأنه مشكلة تربوية واجتماعية وتطورية تنموية؛ إذ إن ذلك رهن بتحوُّل اجتماعي جِذري في مجالات النشاط الاجتماعي على اختلافها، ورهن بتنشئة اجتماعية تؤكِّد وترسخ دور العقل والعلم، هذا بينما نحن لا نزال تحت عباءة الريف أو القبيلة، ننظر إلى الحياة والزمان من منظورَيْهما، ولم يتغير الواقع الذي نعايشه. ولهذا ليس الأمر يسيرًا، ولا هو منوطٌ برغبة صادقة فحسب، أو قرار من حاكم، بل منوط بتحوُّل حقيقي في بِنية المجتمع وعلاقاته وإطاره الفكري، تحوُّل يطرح المشكلات ويفرض القضايا، ونجد في الثقافة الجديدة الوليدة أداةً ملائمة لحل هذه المشكلات والقضايا، وحينئذ يكون للكلام معنًى.

(٨) البحث عن لغةٍ مشتركة للخطاب

ويقترن هذا بالحاجة إلى لغةٍ مشتركة تكون لغة خطاب، وليكون حوارنا محدد المعالم والمضمون والدلالة، بدلًا من أن يُلقي كل من شاء بما شاء من كلمات، ينتقيها من هنا أو هناك، يصوغها في عبارات إنشائية وبراعة بلاغية، ولا ينتظر غير صَدَاها في نفوس تعطَّل عقلها وفعلها قرونًا، وتحجَّر فِكْرها، بل تدهور.

واللغة المشتركة لا تأتي ابتداعًا أو اصطناعًا، وإنما اللغة فكر والفكر وليد العمل من خلال تغيير الواقع، وهو تعبير عن هذا العمل والواقع المتغير على المستوى الاجتماعي، ومن ثم توجد اللغة أو تنشأ حيث يتوافر مقتضاها؛ ونظرًا لأن العمل عمل إنساني اجتماعي، أي رهن بنشاط مجتمعي، من حيث الأداء والهدف؛ لذلك فإن اللغة أو الفكر المتولِّد عن هذا الجهد هو فكرُ مجتمعٍ، أي وعاء رمزي لإنجازات المجتمع الحضارية، أعني لغة مشتركة، هذا على عكس أي عمل فردي، كأن يصطنع كاتب أو فنان أو عالم اسمًا خاصًّا لما ابتدعه، ويحتاج إلى تقديم مُذكرة يُفسر بها معنى هذا الوليد في ضوء إنجاز قدَّمه، ليخلق من خلال هذا التعريف أو التفسير الصلة الاجتماعية المشتركة بين فكره وفكر المجتمع، هذا؛ وإلَّا كان ما يقوله كلامًا مرسلًا، أو نوعًا من الهُزال الدال على حالة مرضية.

ولهذا ليس غريبًا أن كل مجتمع تنهار حضارته، أو ينهار حضاريًّا، يتبدَّى هذا الانهيار في لُغته؛ إذ تصيب لغته حالة من التشوُّش والفوضى؛ لأنه تعطل عن الإبداع، ومن ثم تعطَّل عن الفكر، وبدأ يتحدث لغةٍ مقطوعة الصلة بحاضره غريبة عنه، لغة سلف أو لغة وافدة، هي في جميع الأحوال ليست لغته.

وتغيب المعايير التي يحتكم إليها المجتمع بغياب الواقع، وتغدو المعايير أمرًا فرديًّا انتقائيًّا، ولهذا نقول إن اللغة المشتركة لا تأتي بقرارٍ من مسئول، أو اتفاق تعسُّفي بين جماعة من المثقَّفين، بل هي إنتاج مجتمعي، أو هي فكر يعبر به المجتمع عن نشاط قام به، توحَّدت من خلاله جهود الأيدي وإبداعات العقول؛ ولهذا أيضًا يظل الفكر الوافد غريبًا في المجتمع العاطل الاستهلاكي، يبدو رطانًا، إذ لا يعقله المجتمع، ولا يتَّحد مع نسيج فكره إلَّا إذا كان هذا المجتمع على المستوى الحضاري نفسه للأمة المبدعة.

(٩) منهج واحد للبحث

ومع وحدة اللغة، يلزم الوصول إلى وحدة المنهج في البحث؛ قواعد البحث وأُسس الفكر السديد، وبيان مرجعنا في الحكم على الصواب والخطأ فيما نسُوقه من آراء، وهذه مرة أخرى هي حكمة العلمانية؛ إذ أسقطت سلطة الصفوة من فقهاء الدين ومؤسساتهم مرجعًا أوحد ووحيدًا، ووضع حكماء العلمانية وفلاسفتها، في ضوء ما فرضته قضايا الواقع وإنجازات العلوم، خطوات البحث العلمي والتفكير العقلي؛ ليكون الإيمان بالعقل، في حياتنا الدنيا، ليس عملًا غيبيًّا بهيمًا غير محدد، بل جهدًا مطلقًا في العلم، بذلك نخرج من عَماء الأفكار المشوشة المتصادمة، ونصل إلى برِّ الأمان في تحديد أهدافنا.

وتطورت بالفعل مناهج البحث وأدواته، وتعدَّدت مع تباين مجالات البحث وتعدد الظواهر وتعقدها في إطار الاحتفاظ بقواعدَ عامة، الخروج عنها ينفي صفة العلمية عن أي أحكام تُقال، مهما صادفت مِن هوًى في النفوس، والخروج عنها نذير ضلال.

ولكن هذا كله لا يجد صَداه الإيجابي إلَّا حين نكون بشرًا فاعلين مبدعين، وهو ما نعنيه بالتحوُّل، فيطرح الواقع قضاياه ومشكلاته، ويكشف لنا منهج البحث عن جدواه؛ إذ يصل بنا إلى الحلول المبتغاة، والتوحد أكثر فأكثر مع الواقع في حركته، وهنا نشعر بالانتماء إلى المنهج وإلى الواقع والصورة الواحدة الوليدة عن الذات والمجتمع، وبدون ذلك يبدو المنهج غريبًا، والدعوة إليه اغترابًا، وربما رطانًا بدون معنًى.

(١٠) تساؤلات مشروعة عن التراث

وبعد ذلك، وبناءً عليه، نحن بحاجة إلى مناقشة بدهيات تملأ حياتنا وعقولنا، ونردِّدها وكأنها حقائق مطلقة، مِنْ ذلك مثلًا التراث، ماذا يعني؟ إذ ما هو التراث؟ هل هو التراث المكتوب، وكل المكتوب على تناقُضه وتباين مدارسه، أم التراث الشفاهي؟ أم التراث المعيش؟ أم هذا كله؟ وما هي العلاقة بين التراث والثقافة بالمعنى الإنساني التاريخي «الأنثروبولوجي»، التي تعني — من بين عشرات المعاني — أداة الإنسان في التعامل مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر هو الذات أم المجتمع أم الكون، أو هي كما يقول تايلور في تعريفه للثقافة أو الحضارة: «هذه المجموعة المركبة من المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد، وكل الممارسات التي يكتسبها الإنسان كعضوٍ في مجتمع ما»؟

ترى هل العلاقة بين التراث والثقافة بهذا المعنى – علاقة تطابق أم تداخل أم تمايز؟ ولماذا؟ وما دور الإنسان في التراث؛ هل كان سلبيًّا أم أنه صانعه هو والظروف الاجتماعية والبيئية؟ الإنسان فاعل متفاعل؟ وما هي أثر الشروط الوجودية المنتجة للتراث من إنسان ومجتمع وبيئة؟ ما هو دور العناصر الفاعلة؟ ما هو أثر عصور التسلط والطغيان على التراث، وما أطولها؟ لماذا برزت على السطح أفكار وكتابات وتوارت أخرى، وأيها أبقى أثرًا، ولماذا؟ ما هو دور تلاحم الدين والسلطة، أو السيف والسياسة؟ وكيف انعكس هذا التلاحم مقترنًا بالتسلط السياسي والطغيان على الإنسان فكرًا وسلوكًا، سواء كان هذا الطغيان تحت عباءة هَيْمنة عناصر أجنبية أو باسم الخلافة؟ أليس هذا بعض التراث، أعني نتائج هذا الطغيان على عقول وسلوك وتوجهات الناس؟

هل الأمثال العامية والأقوال المأثورة، بل والأنماط السلوكية والطقوس والرموز الاجتماعية بعض التراث؟ على نحو ما نجد من سلوكيات عامة، مثل القدرة على المبادأة، والاجتراء على الواقع، أو قوة الشعور بالانتماء والجماعية، على نحو ما نجد في مجتمعات مثل المجتمع الياباني، أو غلبة مشاعر الفردية والانعزالية والاتكالية ورفض تحمل المسئولية، ويتبدَّى هذا أو ذاك في سلوك أبناء المجتمع ورموزه، وأقواله المأثورة تعبيرًا عن شخصية قومية، وهل الدين هو المحدد لكل هذه الخصوصيات القومية أو التراث؟ وهل نقسم العالم بالتالي إلى مذاهب تراثية على أساس الدين؟ وهل التراث هو المرجع والمصدر الوحيد للمعرفة وخبرات المجتمع والحكم عليها صوابًا وخطأً؟ وهل المطلوب هو أن تكون هذه المعرفة أو الخبرات مطابقةً للواقع أم متَّسقة مع ذاتها؟ وما معنى الاتساق هنا؟ اتساق مع نصٍّ يجري انتقاؤه على نحوٍ تعسُّفيٍّ من بين خليط متضاربٍ وفق مصلحة ذاتية وضع تأويله القدماء، ولا يجوز الخروج عنه؟ أم أن الأجدى أن يكون اتساقًا مع عملية تفاعُلٍ حية بين تحدِّيات جديدة مفروضة وتكوين ثقافي قائم، مما يفضي إلى إضافة واختزال؟

(١١) التراث والواقع والتاريخ

كان بعض القدماء يرون أن الأرض مسطَّحة، وجاء مَن بعدهم من قال إن هذا تراث لا نخالفه، والتزم بالتراث ورفض ما جاء به العلم، ورأى في هذا حفاظًا على خُصوصيته القومية، ومن ثم فهل التراث بهذا المعنى بِنية أيديولوجية مغلقة، مقطوعة الصلة بالواقع، وهذا الواقع أهم خصائصه أنه متجدد؟ ثم لنا أن نسأل من اتخذوا التراث كهفًا آوَوْا إليه: متى يبدأ التراث؟ ومن أين؟ ومتى ينتهي؟ ولماذا؟ ذلك لأن هناك من يضع تاريخ بداية للخصوصية الثقافية القومية، وينفي أو يدين ما قبل ذلك وما بعده.

ويُفضي هذا إلى سؤال: هل التراث حقيقة تاريخية مكتملة؟ وهل هو متجانس العناصر؟ وما علاقته بالبِنية الاجتماعية بكل تناقُضاتها وصراعاتها وتباين مصالح شرائحها على مدى حركة التاريخ؟ وما هي مظاهر التباين الدالة على عصور الانحطاط أو الازدهار؟ وما هي آلية «ميكانيزم» التراث كظاهرة إنسانية مجتمعية، أم أنه حقيقة مطلقة خارج الزمان والمكان؟ وما هو دور كلٍّ من الخيال والعقل والعمل المنتج في التراث؟ متى يغلب دور الخيال؟ ومن يغلب دور العقل؟ وماذا يحدث إذا ما تعطَّل العمل المنتج وسادت العزلة ومظاهر ذلك في التاريخ؟ ترى أليس لكل هذه العناصر الثلاثة دور في التراث؟ هل التراث هو الماضي، والماضي فحسب؟ أم التراث عملية ممتدة مع التاريخ، تتعرض للاختزال والتجديد دائمًا وأبدًا، مع وجود خيط أو متَّصِل زماني أشبه بالعمود الفقري، يكفل الاستمرارية واطراد الهوية؟ وما هي مظاهر ذلك ودلالته؟ وما هو الأسلوب الأمثل للعلاقة بين الماضي، أو بين التراث، وبين الحاضر، أو الواقع، الذي هو تحديات متجددة؟ وكيف كانت تجارب الشعوب في هذا الصدَد؟ وما هي إبداعاتها في هذا المجال والحلول التي توصَّلت إليها؟

(١٢) التراث بين عصور الازدهار والانحطاط

لماذا لا نزال نحن نتعثَّر على الرغم من أن أكثر بلدان العالم الثالث عرفت أقدامها أول الطريق وصولًا إلى صيغة للتعامل، تجمع بين الحفاظ على إيجابيات التراث ومواجهة تحديات العصر؟ بل من حقِّنا أن نسأل: لماذا اندثرت سريعًا حقبة الازدهار الحضاري العلمي، التي نزهو بها في تاريخ العالم الإسلامي، وكانت سحابة صيف لم يمتد أثرها؟ أو نسأل: لماذا بقي الغزالي واندثر ابن رشد عندنا، بينما أحيت أوروبا فكره مع فجر نهضتها؟ الغزالي مقروء شائع وماثل في أذهان وسلوك العامة، بينما ابن رشد ومن ذهب مذهبه، وهم بعض التراث المحجوب، لا يعرفهم غير الخاصة، أو قلة نادرة، وكأنهم ذكرى متخفية؟ لماذا؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟

(١٣) الأصالة انتماء عقلاني

أليس المقصود من عبارة الأصالة أو الحفاظ على الذاتية الثقافية هو الإيمان بأن التراث ينطوي على عناصر تمثِّل محور بنية الشخصية القومية في اتصالها التاريخي، وأن الملاءمة لا تعني الانفصال أو النفي الكامل للتراث؟ وهو أمر مستحيل؛ لأنه يعني نفيًا للذات، وإنما المقصود هو الانتماء الواعي إلى التراث، وملاءمته من خلال استكشاف عناصره الإيجابية في إطار من التأويل الإبداعي، وهو ما يتأتى تلقائيًّا من خلال الانغماس في مواجهة تحديات الواقع بأدوات العصر؛ وفاءً لرؤية مستقبلية أو مشروع قومي يُحقق من خلاله المجتمع اطراد وجوده الذاتي. وشاهدنا على هذا أن الأقدمين من دعاة التجديد والإبداع في كل الحضارات لم يتوقَّفوا، ولم يقفوا من أنفسهم موقف الاتهام متسائلِين أين هم من التراث؟ بل انفعلوا بالواقع وعايشوا مشكلاته، وعالجوا قضاياهم، فكان الحصاد مزيجًا جديدًا رآه الخلف تراثًا، ولو أننا عايشنا قضايانا الواقعية فعلًا لأتت إيجابيات التراث طواعية واختيارًا تلقائيًّا.

(١٤) قضيتنا مع التراث: ماذا؟ ولماذا نختار؟

ليست قضيتنا مع التراث هي إحياء التراث بإعادة طبع نسخ جديدة من كتب قديمة، نقرؤها على نحو ما كان يقرؤها الأقدمون، وكانت لهم حياة وإبداع ثقافيٌّ لحل مشكلات حياتية واجهت واقعهم، وليست قضيتنا مع التراث هي البحث عن ذاتنا فيه نظريًّا، بأن نتفحص ما كتبه الأولون — وهو شديد التباين والتعارض — لنكتشف خصوصيتنا أو هويتنا المتميزة، فإن هذا يجعلنا نُحلِّق في فراغ نظري، وتقضي الأجيال المتعاقبة سنوات عمرها تحرث البحر ولا حصاد، ويفلت الواقع من بين أيديهم، وتضيع الحياة عبثًا وسُدًى، مع كتابات ليست لقضايا حياتهم وعصرهم، ولن نقبض غير الريح، فلا نحن اهتدَيْنا إلى خصوصيتنا، ولا نحن بنَيْنا حياتنا.

وليست قضيتنا مع التراث هي أن نختار، وماذا نختار فقط، بل أيضًا ولماذا نختار؟ إذ فارق كبير بين الأمرَين حين نقر مبدأ الاختيار، الأول قد يكون منطلقه انحيازًا وولاءً بغير علم، وبدون قضية أو هدف، أو انحيازًا عن وعي، ولكن لمصلحة مقنَّعة تخون حركة النهوض، والثاني رهن بهدف مشروع، علم بواقع معاصر، وتحدٍّ تفرضه الحياة، ومن ثم فإن لنا قضية تشغلنا، ونختار من التراث ما يحفز طاقة المجتمع لهدف مرسوم، وما يضمن لنا ثباتَ الذات واطراد الخطو إلى الأمام.

ولهذا نقول بشأن الدعوة إلى إحياء التراث إننا بحاجة إلى أن نُحْيِي من التراث ما يُحيينا، مثلما أننا بحاجةٍ إلى أن نتمثل من العلم الحديث ما يضع أقدامنا على طريق موكب المنتجين المبدعين، ثم نسأل كيف نجدد التراث، وعلى أي نحو نقرؤه؟ هل ما لم يتناوله التراث يُعدُّ حجةً علينا فلا نقربه؟

نعم، نحن بحاجة إلى أن نُعيد قراءة التراث دومًا، أي نقرؤُه على نحوٍ جديد، من منظورٍ معاصر، أن نُعيد قراءة التراث والتاريخ والواقع المتغيِّر مع كل مرحلة حضارية جديدة، إننا مع كل مرحلة حضارية تتغير زاوية الرؤية، وتتضاعف حصيلة المعرفة، ويتغير إطارها، ويتعدل منهج المعالجة والتناول، وتتجدد الظروف والأوضاع، ويُثار الجديد من المشكلات، وفي ضوء هذا كله، تكون القراءة الجديدة المتجددة، لا افتئاتًا على التاريخ، بل متابعةً والتزامًا أكثر عمقًا.

(١٥) التراث واقع إنساني اجتماعي تاريخي

التراث واقع إنساني اجتماعي تاريخي، أمَّا أنه واقع؛ فذلك لضَرورته، وأن نفيه نفي لوجود الإنسان ذاته، من حيث هو وجود واعٍ بحكم جِبِلته أو تكوينه البيولوجي وتطوره، وأمَّا أنه اجتماعي، فذلك أنه رَهْن بوجود المجتمع، ثمرة له، ولا حياة إلَّا به، وتعبير عن الوجود الاجتماعي بتناقضاته وصراعاته. وأمَّا أنه تاريخي؛ فذلك لأنه حركة متصلة معبرة عن حركة المجتمع في تحوُّلٍ وتجدُّدٍ مع وجود خيط جامع رابط يُمثل هوية المجتمع صعودًا وهبوطًا، وأنه كظاهرة اجتماعية يتعين فهم أسباب نشوء الجديد وعلاقاته، وأسباب انحسار عناصر وبروز أخرى.

إنه مثل حركة النهر، ماؤه متصل ومتجدِّد دومًا، يحمل ما يحمل من منابعه، ولكن الإضافات متواترة مع امتداده وحياته الدَّافقة، مثال ذلك تراثُ علم الطب، ليس مقصورًا على القديم وحده، بل إنه حركة العلم في اطِّراده المتجدد، يشتمل على الجديد المستحدث، ولكنَّه لا يغفل التاريخ القديم، في الصين أو مصر الفرعونية أو بابل وبلاد ما بين النهرين، وإنما يرى هذه جميعها بداياتٍ لا ينكرها باحث، والفارق أن تراث الطب هنا بات تراثًا إنسانيًّا عالميًّا، والتراث الثقافي للمجتمع يكون نسبة إلى مجتمع بذاته، والتراث بهذا المعنى ليس تميمةً أو تعويذة أو محرمًا «تابو» لا مساس به، ولكنَّه أداة إنسانية اجتماعية في حركة دينامية بين المجتمع والواقع المتجدِّد.

(١٦) التراث وأزمة التحول الاجتماعي

الأزمة وتجديد التراث

وحين يكون المجتمع بصدد عملية تحول وحركة نهوض؛ فإن التساؤل بشأن التراث الثقافي يكون أمرًا طبيعيًّا بل وضروريًّا، كوسيلة من وسائل المجتمع لمراجعة أدواته المعرفية. والتساؤل ينطوي، من بين ما ينطوي عليه، على نظرة تقييمية للتراث، تتمثل جدتها في مضمون المرحلة الجديدة ومتطلباتها، وهو حافز لحوار خصب، شرطه توافر هدف يُحدد المتطلبات. ويراجع المجتمع آنئذٍ رصيده الثقافي، أين أداته في التعامل مع الواقع في ضوء متطلبات هذا الهدف، ليجري ما يجري من تعديل وملاءمة في صورة تأويل إبداعي في اتساق مع الجديد من المعارف ارتقاءً بالوعي الإنساني أو الثقافي للمجتمع.

ومن ثَم فإن قضية التراث لا تُوضَع موضع بحثٍ وتساؤل، إلَّا حين يكون هناك جديد، وآلام مخاض ولادة هذا الجديد، أي في مجتمع مخصب ولود ومجدد. أمَّا حيث لا جديد، حيث المجتمع راكد خامد خامل، منكفئ على ذاته، قانع بالموروث، مغلق، فإنه ينزع إلى البقاء داخل تراثه، كأيديولوجية جامدة في هذا الاتجاه، ويرى الإبداع ضلالة، ويمضي الواقع في حركته وهو معزول عنه، ولا جديد.

الانفصام وحياة التناقض

والعزلة هنا عزلة نفسية وعقلية، وتبقى الصِّلة بالواقع أو بالجديد صلة استهلاكية، يلعن الجديد ويمارسه، ويشتد وقع الأزمة نفسيًّا، حسب طبيعة ميكانيزم التكيف أو قدر المرونة الذي يوفِّره أو يجيزه التراث، وتتربَّى عليه الأجيال، ذلك أن التراث الثقافي الذي يغرس في أذهان الناشئة عقيدة المحورية الذاتية، أي إنه المحور والمركز، وهو الحقيقة المطلقة، وأنه الغاية والمنتهى، فإنه يصنع من نفسه أيديولوجية مغلقة، تُحرم الخروج عن النص، ومن ثم فإن هذا التراث يسلب من المؤمنين به كلَّ مظاهر المرونة والدينامية، ويتَّصفون بعدم القدرة على تغيير فكرهم وفق المقتضيات الموضوعية للواقع في مراحِل تحوُّله.

ولا يكون أمام هؤلاء من ملاذٍ غير الإطار الموروث، يحاولون عبثًا فرضَه على الواقع قسرًا، ويتهمونه بالمروق، وينسبون إليه الخطأ دون أنفسهم، وإذا كان التراث الثقافي للمجتمع محصورًا داخل أيديولوجيا تكتسب طابع التقديس، وتَحُول دون التفاعل، وتُحرِّمه، فإنه يغلب على أصحابها التزمت والجمود، ولكنَّهم — وبحكم واقع الحياة — تهب عليهم رياح الجديد فكرًا وسلعًا، وهنا يعاني المجتمع من حالة ازدواجية وانفصام؛ إذ يجمع الأمرين في تجاور دون تفاعل — فضلًا عن حالة الخوف والقلق — مقترنة بالشعور بالدونية، ولكنَّه يظل بالنسبة للوافد، فكرًا وسلعًا، مجرد مستورد مستهلك، غير مُشارك ولا مُبدع.

حين نقتل التراث حبًّا

والمفروض أن التراث قوة دافعة لحركة التطور الاجتماعي، وليس عائقًا؛ لأنه ينطوي على عناصر اتصال الهوية القومية، ولكن يحدث أن تكون النظرة إليه، أو تأويله على نحوٍ معين، عائقًا للحركة، ومن هنا فإن بعض دعاة التغيير قد يعمِّمون، ويدعون إلى رفض التراث جملة وتفصيلًا، وهو ما يعني، على الرغم من استحالته، دعوةً إلى استئصال الجذور، وهي نظرة فَوْضوية، أو قد تفضي إلى قصر عمر الحركة الجديدة.

ذلك أن طبيعة الإنسان كمجتمعٍ تاريخيٍّ لا يمكن أن تبدأ من فَراغ، والحركة اتصال وانقطاع، تجديد واختزال في آنٍ واحد، وغنيٌّ عن البيان أن القوى التي سعَتْ إلى فرض ثقافة على أمة أخرى بفعل الغزو أخفقت دائمًا وأبدًا، حتى إن العقائد الدينية لم تستقرَّ إلا في بلدان ذات حضارات وثقافات تنطوي على عناصر ترجِّح التماثل مع صبغ مظاهر الاختلاف المحدودة بصبغة القومية؛ ذلك أن الواقع المحلي يتمثل من عناصر الثقافة الوافدة ما يتفق مع أصوله وحاجاته، ويقدِّم صياغة جديدة، أو توليفة جديدة يحتفظ فيها بذاته ويُثريها. وكلما زادت عناصر التشابه بين المحلي والوافد، أو الملاءمة لحاجة محلية، زادت فرص نجاح التمثل والامتصاص. هذا فضلًا عن أن المعارف والخبرات المتراكمة أو التراث الذي يتسم بالدينامية والحياة؛ فإنه يفيد الحاضر ويدعم مهام المستقبل ويمثل أساسًا للإبداع؛ لأن أبناءه بحكم ديناميتهم التي هي جزء من ثقافتهم، تمرَّسوا على الإبداع أو الإنتاج الإبداعي، وها هنا يغدو التراث أشبه بالمياه الجوفية التي تُغذي جذور نباتٍ يانع يملك كل إمكانات الازدهار.

التراث، ذلك المجهول

ولكن من أسفٍ أننا قد نكون أكثرَ الناس حديثًا عن التراث، وهذه كلمة شأن كلمات كثيرة، نردِّدها دون التزام بتدقيق المعنى، وتحديد المضمون، وبيان الإطار، ودون اعتراف بما يطرَأ على هذا كله، من تغير في حركة الزمان وصراع المجتمعات، أو ما تضيفه العلوم من معطيات جديدة، أو ما تيسره لنا من مناهج بحث، وهكذا تبدو معركتنا عند التحديد والتدقيق هي صراع بغير موضوعٍ متعارف عليه، ونزاع على ساحة مُبهَمة المعالم.

فالتراث عندنا هو الماضي، حتى وإن أضَفْنا إلى الكلمة سيلًا من الصفات. والحديث عن الماضي حديثٌ انتقائي، رؤيتنا تحكمها المصالح ولن نقول الهوى. لنسأل كل من يُفرط في الحديث إلينا عن التراث واعتزازه به وتقديسه له عمَّا يعنيه، سنجد إجاباتٍ شتَّى ورؤًى متباينة وحدودًا متباعدة، وأطرًا مختلفة وربما متناقضة، وعموميات لفظية، كلٌّ يُشير إلى ما يبرِّر نظرته إلى الحياة، ويتَّسق مع نطاق معرفته ويُلبي مصالحه، ويتجانس مع أسلوب تنشئته فكريًّا واجتماعيًّا، بمعنى أننا نمضي في الحياة وليس لنا إطار فكري مشترك، ولا نملك معايير متفقًا عليها للحكم على أي ظاهرة أو موضوع بحث.

وهكذا تتردد كلمة التراث على لسان العامة والخاصة في كل وقت، وفي كل مكان دون تحديدٍ لمعنًى دقيق متفق عليه بين الجميع، على الرغم من أن الاتفاق على المدلول ضمان لوحدة لغة الحوار. وتحديد المعنى لا يكون اعتسافًا، أو اجتهادًا قائمًا على فِطنة فردية، أو براعة لفظية، ولا يكون بالعودة إلى قواميس اللغة التي وضع أصحابها تعريفاتِ مصطلحاتها منذ قرون؛ إذ إن هذا يصلح عند البحث في تاريخ دلالة الكلمة. والأخذ بهذه القواميس وحدها يعني إغفالًا لحياة المصطلح وتطوره مع التاريخ، وإقرارًا بأن الفكر بات جامدًا، بل تحديد المعنى رَهْن ببحث جاد ناقد ركيزتُه منجزات العلوم، علوم عديدة في ضوء مناهج المباحث المتداخلة الذي يربط في تكاملٍ بين منجزات عديدة من العلوم المتعلقة بالظاهرة موضوع البحث، مثل إنجازات علم اجتماع المعرفة، وعلم النفس الاجتماعي والفردي، والمنطق والفلسفة بعامة، وعلم الاجتماع، وعلوم اللغة الحديثة والتاريخ … إلخ، مما يُتيح لنا تناول الظاهرة من زوايا مختلفة ومتكاملة؛ فهذه كلها في تكاملها جهودٌ بحثية، وإنجازات علمية لازمة، ليكون حكمنا ليس مطلقًا، بل أقرب إلى الصواب وأهدى سبيلًا، بدلًا من الإغراق في معمَّيات، ونكون أشبه بأسطورة أهل بابل، كلٌّ منَّا يتحدَّث بلسانٍ، نهيم مكبِّين على وُجوهنا، والحقيقة ضائعة مهما تعالت الأصوات.

وليس معنى هذا، كما قد يذهب ظنُّ البعض، أن كل أمة عليها أن تتفرغ للتفكير النظري، والإجابة على مثل هذه الأسئلة، في محاولةٍ لبحثٍ عن مشكلات التراث أو غيرها، فليس أبعد عن الحقيقة من مثل هذا الظن. والثرثرة الثقافية المجردة لا تستهوي إلَّا أهل الفراغ، ومهما جاهدنا، ونحن نعيش عاطِلين، فلن نصل إلى إجابة ولا اتفاق، وإنما الإجابات تطرح نفسها سهلةً ميسورة بل ذلولة، من خلال العمل المنتج؛ إذ من خلال العمل والفكر المتداخل في نسيج العمل، تتحدد الإجابات، وفي الأمرين معًا، العمل لا يعني مجردَ جهدٍ بدني أو فكري محض، بل تفاعل الإنسان مع واقعه، وصولًا لحسم التحدِّيات المفروضة عليه، أو مشكلات تطوره وتنميته وإزالة العقَبات في طريقه، دون أن يتخلَّى عن ذاتيته، بل إنه من خلال هذا يُثري ذاته ويكتشفها أكثر فأكثر.

العمل الإبداعي طريق الأصالة

هكذا شاء لنا تراثنا الثقافي أن نفكر: الكلمة هي الأولى، وجاء الفعل تاليًا لها؛ الفكرة، أو الكلمة، أو القول؛ أيهما هو المبتدأ والغاية والمنتهى؟ أمَّا الفعل أو العمل، فقد يكون أو لا يكون، وهو في جميع الأحوال وليد الفكرة، تالٍ لها، إذا ما قُدِّر له أن يجيء؛ ولذلك لا ندرك صلة الرحم بين الفكر والفعل، ولا ندرك حقيقة أن هذه صلة في اتجاهين؛ صلة تفاعل دون الإغراق في البحث عن أيهما كان الأول، وأيهما جاء تاليًا.

ومن ثَمَّ لا غرابة أن يكون نهجنا دائمًا الإغراق في التأمل والنظر، وعشق الحوار الكلامي الذي يصل إلى حدِّ الثرثرة، ولا نخرج من هذا النطاق إلى حيز الفعل والعمل، إلى الإرادة والعقل وتغيير الواقع، بل ولا غرابة في أن نجد العمل هو الأدنى مرتبةً في سلم القيم الاجتماعية، على نقيض الفكرة أو الكلمة.

وبسبب هذه البِنية الذهنية، التي صاغها تراثنا من خلال عملية التنشئة الاجتماعية أجيالًا وقرونًا متعاقِبة، ننظر إلى التراث وكأنه وجود فكري خالدٌ له الامتياز، وكينونة غيبية خارج إطار الزمان والمكان قدسية الطابع، أو نرى أنه نوع من المحارم و«التابوه» الذي يُحظَر المساس به، وإن كنَّا لا ندري ما هو تحديدًا؛ ولهذا أيضًا سقطت عنه علاقة الحياة بينه كفكر وبين الفعل كمبتدأ، وسقط بالتالي دور الإنسان الفاعل، ودور المحيط الذي يُشكل مسرح الفعل في التاريخ، ويُمثل قوة فاعلة مؤثرة، تصوغ خصوصية التراث، وبسبب هذه النظرة المثالية نرى أن الفكرة هي الإبداع دون الفعل.

وليس غريبًا، وهذا هو منطلقنا، أن نغرق في البحثِ عن ذاتنا في نص التراث؛ لأن الفكرة هي المرجع والأساس، وتكون معركة حياتنا هي إحياء التراث لا تجديده إبداعيًّا، إحياء فكرة غامضة مُبهَمة غير متَّفق عليها، ولكن لها وجودها القدسي المُهيمن على وجداننا، ويكون إحياء التراث إحياء كلمة بإعادة طبعها لنقرأها ولا نفعل، ونقنع بالقراءة؛ فإن ذكر الكلمة هو الغاية والمنتهى، أمَّا الفعل كخاصية إنسانية، وقوة حافزة فقد طَرحناه جانبًا، وإن لم نقُل ذلك صراحة. وأمَّا العمل كإبداع له قدرة على صياغة الإنسان والحياة والمجتمع، ومن ثم صياغة الفكر والرقابة عليه تصحيحًا، ومتابعته تجديدًا؛ فهذا خارج نطاق الاهتمام، ورسخت مع التاريخ تلك النظرة الانفصامية، التي قطعت صلة الرحم بين الفكر والفعل، وهو عين الخطأ الذي وقع فيه من جعل الفعل أو الممارسة البداية والنهاية كقوَّة مؤثرة دون الفكر، أو جعل البنية الثقافية أدنى مستوى وتأثيرًا.

إرادة التغيير

وليس غريبًا أن نشهد انفصامًا في حياتنا بين الفكر والسلوك؛ فكر موروث، وسلوك مقطوع الصلة بهذا الفكر، نلعن المادية بمعنى المال وزينة الحياة، وسلوكنا مرصود للشراهة والنهم، ونلعن الغرب فكرًا وعقائد، وهمُّنا في الحياة التسابق على استهلاك سلعة رغبة في التفاخر والاستعلاء، ونجمع بين النقيضين طمعًا في استمرار الحياة، ولكنها هنا ليست حياة تجديد وإبداع، بل حياة استهلاك، لا تتجاوز المستوى البيولوجي.

وأصحاب هذا النمَط الحياتي يُلائمهم دائمًا العيش في إطار فكري أيديولوجي مغلق، طبيعته الثبات والجمود، ولا بأس من تبريرات نظرية تُرضي وتُلهي؛ ترضي الذات عن نفسها وبنفسها، وإلَّا فقدت مبرِّر وجودها، وتلهي الذات أو المجتمع عن دفق الحياة الصخَّاب المتجدد، أي يعيش المرء، ومن ثم المجتمع أسير فكر مقطوع الصلة بالواقع الحي، عقيم غير ولود، وتغدو حياة المجتمع كتابًا من صفحة واحدة مكرَّرة. اليوم مثل الأمس، والأمل في غدٍ يُحاكي الماضي، ولا يأتي التغيير إلَّا من خارج، في حدود ما يُشبع الاستهلاك.

ومثل هذا المجتمع يلتمس التراث، بمعناه الغامض المبهَم، وباعتباره حدثًا ماضيًا، يلتمسه إطارًا فكريًّا، أو أيديولوجيًّا وبنية عقيدية يعيش في داخلها، ويسعى جاهدًا ليضع ظواهر الحياة قسرًا داخلها، يقيس عليها الجديد. وإذا استعصى عليه ذلك فإن ظواهر الحياة هي الملومة. وهذا في رأيه، عين الفسوق والمروق؛ ففي داخل إطاره الفكري أو أيديولوجيَّته، يجد السكينة مع الفكرة التي لها الأولوية واحتوت في ظنه الكون، وإذا خرج عن الفكرة إلى الفعل سيكتشف المسافة الفاصلة الكبيرة بين تكوينه الفكري وبين العمل المرتبط بالحياة، النابع من الواقع، فن العمل تجدد، تغير وإبداع. إنه الوجود النابض، فيه دفء الحياة ودفقها الحيوي، أمَّا الفكرة الموروثة، الفكرة المعزولة، فهي باردة برودة الموت ما انقطعت صلتها بالفعل والحياة.

الخوف من التجديد

ومن اعتادوا حياة الكسل والقطيعة مع العمل حاربوا الجديد والتجديد دائمًا، لأن العمل صراع في إطار التفاعل الهادف مع الواقع، وهو منهل الفهم واستقراء قواعد وقوانين حياة النفس والمجتمع والطبيعة، والعمل هو الحافز إلى الخلق في عشقٍ للجديد ومعاناة التجديد. إنه تمرد، وإرادة الرفض بناءً على هذا الفهم أو الاكتشاف. وهذا نمط سلوكي خارج عن مألوف حياة من استَمْرءُوا الدعة، والتمسوا أسباب الحياة من خارج الحياة ذاتها؛ لذلك نرى هؤلاء دأبوا على الزعم بأن فضيلة الفضائل عندهم الطاعة والاتساق مع الواقع، وشر الرذائل التمرد والخروج عن المأثور والموروث والمألوف، فهذا شذوذ عمَّا وجدنا عليه آباءنا والسلف.

ونجد من أرَّقته الأزمة الناجمة عن الانفصال بين الفكرة الموروثة، وبين الواقع المتجدد، فنراه يسعى إلى المصالحة متخذًا الفكرة منطلقه، أعني الانطلاق من الموروث، ويتخذه إطاره الفكري المرجعي، ومن ثم ينتهج نهجًا نظريًّا خالصًا. يبحث عن الفكرة أولًا، أو يدعو إلى مراجعة الفكر الموروث كمعيار التماسًا للصواب دون الخطأ، ومثل هذا النهج يؤكد نظرة خاطئة يظن أصحابها أن التراث وجود صوفي خارج الذات المتفاعلة مع الواقع؛ لذا يخشى هؤلاء الخروج عن النص أو إسقاطه. وهذا وهمٌ وليد تلك النظرة الانفصامية، ناسين أن التراث إنما يتجدَّد نبع حياته ويمتد وجوده عبر الفعل ذاته وليس في انفصال عنه، فهكذا كانت عصور الازدهار الحضاري دائمًا، ميزتها أن منطلقها عمل إبداعي تتجلى فيه طوعًا أو تلقائيًّا عناصر التراث الداعمة للخلق، وبهذا يحيا أو يتجدد الإنسان والتراث معًا في نسيج واحد.

ولكن لا بأس عند مَن يخشون الفعل أنه جذر التغيير والتجديد، وهم راضون قانعون بواقعهم، ولا يريدون عنه بديلًا. أقول لا بأس عند هؤلاء من أن يرصدوا جهدهم لترسيخ وهم الانفصال بين التراث والفعل أو العمل الإبداعي، ويعمدون إلى تقديس الفكرة الموروثة، أو إن شئت فقل التأويل الموروث الذي يؤمِّن لهم حياتهم وامتيازاتهم وبقاء كل شيء على ما هو عليه؛ ولهذا نجد مشكلة التراث والحفاظ عليه وإحيائه بالمعنى التقليدي السالف الذكر، وليس تجديده مشكلة حادة تؤرق أصحاب هذه النظرة، ويغوص هؤلاء مع جوانب المشكلة، ولكن في إطار الفكر النظري الخالص، ولا يجدون حلًّا.

مشروع قومي يُحقق الانتماء للعصر والتاريخ

هذا على عكس من يعيشون حياة العمل، أو قل حياتُهم العمل، والتراث بعض كيانهم ولكن بنظرة أرحب، وبتأويل عقلاني؛ إذ هذا هو مقتضى العمل الإبداعي دائمًا. مثل هؤلاء لا يعانون أزمة، ولا تؤرِّقهم مشكلة الحفاظ على التراث، لأنه قائم فيهم، إنهم يجدونه ماثلًا متجليًا في عملهم. إن ذاتهم، أو الخصوصية الذاتية، التي هي محور التراث، تتحقق في العمل، ويُجسدها الفعل الخالق دائمًا وأبدًا.

لذا نقول إن المطلوب لحل أزمة الانفصام، وللحفاظ على خُصوصيتها الذاتية الإيجابية، والتي هي التراث في أجلى معانيه وأكثرها إيجابية، هو أن نتَّجه بكل ثقلنا إلى العمل، العمل الإبداعي المنتج الذي هو منبت الأصالة وركيزتها. إنه التجسيد الحي للإنسان من حيث هو وجود له امتداد تاريخي وواقعي، أي من حيث هو وجود في الزمان وفي المكان معًا، وأعني بالعمل هنا ابتداءً استراتيجية تنمية قومية أو مشروعًا قوميًّا للنهضة، يُحدد الهدف اجتماعيًّا، وتلتقي حوله إرادة الأمة، وتحتشد طاقاتها، تلتمس فيه تحقيق وجودها وآمالها ومصلحتها، وبذا يتأكد الانتماء للعصر والتاريخ في آنٍ معًا.

إن إنسانًا أو مجتمعًا يعيش على الريع أو يعيش حياة اقتصادية طفيلية، حياة استهلاك، عاطل عن كل جهد يعبر عن التفاعل الخلَّاق بينه وبين الطبيعة، للتحكم فيها وتسخيرها وفق رؤية يرسمها هو بإرادته ووعيه، ويرتقي من خلالها بنفسه في ضوء المزيد من الفهم لقوانين واقعة، وبفضل حصاد خبرته المستفادة من عمله الإنتاجي، مثل هذا الإنسان أو المجتمع، يؤثر أن يعيش أسير أيديولوجية الماضي، وإن طوَّعها لصالحه، وتكون مشكلة حياته الأولى ومعركته المصيرية، وإن تباينت الأسماء، هي الحفاظ على هذه الأيديولوجية كما هي، دون مساس أو تغيير، وفق تأويل موروث؛ ففي ذلك حياته، حياته هو، والدعوة إلى التجديد جحود وضلال. ومثل هذا الإنسان أو المجتمع يظل التراث عنده قضية نظرية. إنه وجود مستقل عن التاريخ وعن الواقع، الذي هو عمل وفاعلية نشطة في وحدة متكاملة مع الإنسان. ويستعصي عليه حل مشكلة التراث أو التقليد في علاقته بالواقع المتغير؛ ذلك لأنه لا يعمل، بينما العمل فكر متجسِّد. حين تعمل اليد يعمل الذهن في تفاعُل، وتتجدد المشكلات التي يفرضها الواقع المتغير، تلتمس حلولًا، وتلقَى الحلول ترحابًا وتقديرًا، ويطَّرد عمل اليد والذهن، ويطَّرد ارتقاء التراث أو الحصاد الفكري التاريخي والإنسان.

ويبين لنا الموقف من التراث واضحًا من مثال آخر، أن الفلاح المصري الذي يعيش كادحًا في حقله، متحدًا في انتماء عميق مع أرضه وسمائه وزرعه، إذا ما جاءه من يقول له، مثلًا، دع عنك شهور السنة المصرية؛ لأنها «ليست تراثًا»، أو هي ثقافة يتعين التخلي عنها؛ إذ لم يشتمل عليها «التراث»، فبماذا عساه أن يُجيب؟ وهذه الشهور هي عمليًّا بعض عدة الفلاح وثقافته التي أبدعها تاريخيًّا للتعامل الناجح مع الحياة الواقع. وحقيقة الأمر أن الفلاح البسيط أجاب عمليًّا منذ قرون على جميع الأسئلة التي طرحها واقعه دون ثرثرة نظرية، عارفًا في صدق دينه وثقافته. هو الذي أبدع ثقافته بفضل خبرته العملية، ولكن غابت هذه الإجابة عمَّن قطع صلته بالعمل ترفُّعًا أو كسلًا، وآثر عملًا غير منتج، أو عاش حياة هامشية.

وإذا حدث وانتقل الفلاح نقلةً أخرى، من خلال التعليم والتطوير وميكنة عملية الإنتاج، فإنه يقبل الجديد النافع لجهده وهدفه، ويقدم تلقائيًّا صيغة جديدة، وحلولًا متميزة لمشكلات عصره، أو لحالة التطور الطارئة، ونجد حلوله انطوت على الجديد والتراث معًا، أي كانت متصلًا تاريخيًّا لهويته الحضارية، خاصة إذا كان الجديد ليس دخيلًا وافدًا، وإلَّا بات غريبًا، ولكنَّه إبداع بفعل تطور حقيقي شامل للمجتمع، بحيث ينعكس مدلوله في ثراء العمل والنظر معًا.

وحين نقول العلم أو الإنتاج، فإننا لا نقصد إضافة كمية لسلع مستهلكة، وإلَّا كنَّا كما كان السلف في عصور الانحطاط؛ إذ كان العلم عندهم نص تضاف إليه هوامش وحواشي، ثم حاشية على الحاشية، ولا جديد، وبات العلم ذاته سلعة مستهلكة. ويدور الزمان، ويدور معه السلف ولكن داخل دائرة مفرغة، عجيج ولا طحين، كلام ولا فعل جديد، علم راكد وفكر خامد.

ولكن المقصود بالإنتاج، عملًا وفكرًا، تفاعل عقلاني واعٍ قائم على تحصيل موثوق به لكل جديد من المعارف، نعالج به ما يطرحه الواقع من تحديات. ولا نفتي بغير علم، أو بعلم قديم، ولا نخطو اعتمادًا واتكالًا على البركة، بل نكد ونجتهد في إعمال العقل غير المكبَّل بالأغلال، وتحصيل العلوم بحرية من كل مصادرها، ومعالجة قضايانا، فتنمو الذات إذ ينمو المجتمع علمًا وعملًا ووجدانًا.

وليس العلم النافع هو فقط ما يراه البعض نافعًا لحياة بعد الموت، بل العلم النافع ما ينفعنا في حياتنا ومعالجة أمور دنيانا، وحريتنا الفردية في تحصيل العلم وفي الإقدام على العمل، هي حرية هادفة. والهدف تُظاهره رؤية اجتماعية مستقبلية. وإذا ما تحقَّق هذا وأضحى المجتمع من إنتاجنا نحن، فكرًا وعملًا، لأحببناه، وأصبح انتماؤنا إليه حقيقةً مؤكدة عزيزة علينا، إنه مشروعنا نحقق من خلاله ذواتنا.

النهضة تتضمن ثورة ثقافية في مجال التراث

وهذه هي سمة النهضة وكل نهضة، أن يدور معها صراع، غير نظري مجرد، لتأكيد الهوية من خلال العمل ومواجهة التحديات. النهضة الأوروبية مثلًا حين اتخذت العلمانية رؤية لها، حسمت موقفها من قضية التراث، لم تكن العلمانية من حيث هي رؤية، وكما ذهب بعضهم، ادعاءً وزيفًا، إنكارًا للتراث، بل على النقيض تمامًا، أكَّدت التراث، وعززت الولاء له من خلال رؤيةٍ أرحب وأكثر شمولًا وصدقًا، بدلًا من النظرة المحدودة المتزمِّتة، التي فرضتها مؤسسة الكنيسة.

وكان ولاؤها الجديد، والذي دعت إليه، ولاءً إبداعيًّا، لا تبعية القطيع، وأكَّدت من بين ما أكَّدت الولاء للتراث كله مسيحيًّا، حسب التأويل الأوروبي وإغريقيًّا وإقليميًّا أو قوميًّا، وأكَّدت حق العقل كقوة ناقدة في أن يفكر في ذلك إبداعًا وتجديدًا بما يسمح لحركة التقدم الاجتماعي بأن تنطلق بقوة الدفع اللازمة، والذي أنكرَتْه العلمانية هو تسلط الإقطاع وتسلط الكنيسة، ليس من حيث هي دين، بل من حيث هي مؤسسة تفرض رؤيتها على شئون الدنيا.

والذي أنكرته أيضًا تسلط الكنيسة كأيديولوجية مغلقة جامدة فاقدة المرونة والدينامية، وتقوم على التحريم والتكفير، تحريم التفاعل المنفتح مع تيارات التراث الإنساني في شموله وتباينه، ومع الفكر الجديد والمجدد، وتكفير كل ما عداها من عقائد وأفكار وإبداعات، مما انعكس على أهلها جمودًا وعجزًا عن الحركة، وتمثلت نتيجة هذا في تخلُّفٍ وجهالة على مدى قرون، استحق وصفها بعصور الظلام. وهذا عين ما تكرَّر في كل الحضارات والثقافات التي اتخذت نهج الكنيسة في العصور الوسطى، وأفضى إلى انهيارها أو أفول نجمها أو إلى معاناة أزمة ممتدة ومزمنة. ومن هنا كانت العلمانية انطلاقة محورها التأكيد على الحرية الفردية، وتحرير العقل العام، أو عقل رجل الشارع، وكانت كذلك ثورة إبداعية، وانتماءً حقيقيًّا للتراث الإنساني والهوية الحضارية على امتدادها التاريخي دون انغلاق.

جاء تجديد التراث من خلال التفاعل الحي، وليس التعامل مع التراث على نحو ما نتعامل مع تميمة أو مزار مقدَّس، ومن خلال التفاعل مع الواقع لتحقيق النهضة تُحدد الإجابات في ضوء الأهداف والممارسة لإنجاز مشروع قومي، وهذا عين ما حدث في كل النهضات التي يحكيها لنا التاريخ، بما في ذلك أزهى عصور الحضارة الإسلامية.

بؤس الحياة حين يكون التراث خارج الزمان

إن من بين قضايا العالم العربي البحث عن الذات بعد اغتراب، وهو في حاجة إلى أن يستجمع ذاته التاريخية، التي انقطع اتصالها بفعل تطوُّرات الأحداث المفروضة عليه قسرًا من خارج، أو بفعل تعطُّل الإبداع، وتعطل التفاعل الحر مع أحداث الواقع في ظل قهر واستبداد امتدَّ قرونًا. وهنا يسعى إلى إعادة الاتصال بالتراث، ولكن في إطار حسٍّ بالتاريخ عميق، شامل لكل العصور، والعمل على إعادة فهم التراث وتأويله على أساسٍ نقدي، وبما يتلاءم مع متطلبات حياته، ويلتمس جادًّا إعادة تنشيط قدراته الإبداعية، وتحديد صورة المستقبل متجسِّدة في مشروع قومي، وهي صورة تحقِّق له في آنٍ واحد الانتماء إلى التاريخ على امتداده العريق، وتجاوز عثَرات الحاضر، وارتقاء إلى مرحلة جديدة بما تُضفيه وتثري النفس والواقع، وتزيد النضج الإنساني الاجتماعي، وتعزز الإقبال على الحياة، وتضيق معها شُقَّة الاغتراب.

عاش التراث غريبًا وخاملًا، غريبًا عن واقع تغير، لا بفعل الذات، بل بفعل قوًى مؤثرة من خارج، وخاملًا بحكم تعطل فاعليته وعزلته بسبب إنسان أو مجتمع كفَّ عن النشاط إلَّا في الحدود الدنيا الموروثة؛ ولهذا لم تتصل مسيرة التجديد والإبداع التراثي التي تصل الحاضر بالماضي وتتجاوزه إلى مستقبل تتحدد عناصر في الحاضر، ويغدو صورة كونية شاملة مواكبة للعصر، زاخرة بالمعاني دافعة للحياة، وهذا ما لا يتحقق في مجتمع يُفرض فيه على الناس محتوى تصورهم وفهمهم للحياة من قبل صفوة حاكمة، على نحو ما يحدث في مجتمعات القهر، أو في مجتمع تجمد وتحجر عند حدود موروثات تظل كما هي دون فرز عقلاني وتمحيص نقدي وتفاعل حر.

إن المجتمع الذي يتحدد محتواه ورؤيته للحياة فرضًا تعسفيًّا من أعلى، مجتمع يفقد خاصية التحدي، التي هي خاصية جبلية في الإنسان، وهي ركيزة البناء والتجديد الحضاري والإبداع وإثراء التراث. وبدون ذلك تكون الحياة أشبه بأفعال وردود أفعال، والأفعال منبعثة من رصيد الماضي غير المتفاعل، وإنما هي مجرد ترسُّبات عصبية في مراكز المخ، وتكون الحياة في هذا الوضع حياة آنية مسطحة فارغة من العمق العقلي والوجداني معًا، وهذا ما لا يكون إلَّا بالنسبة لكائنات تعطلت فعاليتها الإبداعية، وأسيرة تراث عبث به الخيال والتخيل.

مطلوب الارتباط بالتاريخ والتراث، والتفاعل مع تحديات الأحداث تفاعلًا نابعًا من أعماق النفس ورؤيتها المستقبليَّة، لا نفس الفرد بل المجتمع، إذا جاز هذا التعبير، حيث الفرد فرد اجتماعي، وكيانه اختزال للمجتمع وتعبير عنه. هذا التفاعل الذي تتجمَّع فيه خبرات الماضي الإيجابية أو التراث بعناصره الحيَّة الفعَّالة الملائمة مع الفهم العصري؛ إذ إن هذا التفاعل هو ركيزة التقدُّم، وفيه تتحدد المعايير الأخلاقية للحكم على هذا التقدم. وبدون ذلك لا حياة إنسانية، بل حياة آلة أو روبوت تُسمَّى بشرًا، حيث تنتفي الحرية الفردية. ولهذا يُقال إن أخطر العقبات التي تحول دون نمو الفرد، ومن ثم المجتمع، هي عقبات تتعلق بالثقافة الاجتماعية.

كيف نبحث عن ذاتنا؟

لهذا فإن العالم العربي بحاجةٍ ماسَّة وملحَّة إلى حشد كل هذه الطاقات ليكون تقدمه متسقًا مع الحق والخير، ليس باعتبارهما وَهْمًا ميتافيزيقيًّا، بل وجودًا موضوعيًّا، بمعنى الالتزام بمنطق العصر وعلومه، واتساقًا مع قِيَمه ومعاييره الأخلاقية لتطبيق هذا الحقِّ في واقع حياته العملية. وهذا يعني أن ذاتية المجتمع التي يبحث عنها الآن إنما تتحقق بعد اكتشاف إيجابيات الماضي، من خلال تفاعُل الماضي مع الحاضر، في ضوء فهمٍ علميٍّ، وصولًا إلى مستقبل نابع من جهد إبداعي لأبناء هذا المجتمع، ومن خلال هذا الاتصال التاريخي يكون الاتساق الأخلاقي أيضًا.

إن الإنسان إرادة فعل وتوصيل، ومن خلال فعله يصل الحاضر بالماضي، ولكن الماضي يفرض نفسه كما هو، بل وأسوأ عمَّا كان، أي يفرض سلبياته دون إيجابياته، بعد أن يُفاقمها الخيال السَّقيم، إذا ما كان المجتمع خاملًا أسيرًا لهذا الماضي. ويتغير الوضع تمامًا إذا كان الماضي يصل إلى الحاضر بدعوة واعية من المجتمع النشط الفعَّال، وهنا يكون المجتمع قوة التحكم في الماضي أو التراث.

ونحن بحاجة إلى نقلة جديدة، تمثل ثورة ثقافية، أو تحوُّلًا ثقافيًّا جذريًّا، يُهيئ الظروف الموضوعية لمحو السلبيات الموروثة عن عصور الطغيان والاستبداد والتخلف، وتؤكد في ذات الوقت إيجابيات الماضي التي جسدتها عصور الازدهار الحضاري، هذا فضلًا عمَّا تضيفه ظروف أو عملية التحول الاجتماعي الجديدة لخلق علاقات جديدة بين الفرد والمجتمع، ودور جديد متميز للفرد، سواء من حيث المشاركة الإيجابية في إدارة المجتمع من خلال مؤسَّسات دستورية تتسق مع مقتضيات العصر، وتستوعب خبرة الإنسانية في الحضارات المختلفة في هذا المجال، ولسنا بحاجةٍ هنا إلى أن يكون مرجعنا إلى ذلك أجدادنا الأقدمون، ولا نخرج عن عباءة المحاكاة والتقليد، بل ننزع في جرأة إلى التميز والتمايز والتطوير.

التميز عن الماضي وليس الانفصال عنه

لم يعد كافيًا أن نردد شعاراتٍ عامةً كمبادئ أخلاقية، مثل: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، ثم نترك كل حاكم أو كل إنسان لضميره، بل لا بد وأن يتحدد المضمون الاجتماعي لكل شعار، وأن يكون التحديد انعكاسًا لواقع جديد، وعهدًا وميثاقًا مكتوبًا وملزمًا، لا نتركه لضمير صاحب السلطان، ونرجئ مساءلته إلى يوم الحساب، وتضيع منَّا الحياة. ولا أظن أننا إذا فعلنا هذا بفضل جهدٍ واعٍ مشترك من أصحاب المصلحة، وهم جميع الناس على اختلاف معتقداتهم أو من يمثلونهم باختيارهم من قوًى سياسية، نكون أخطأنا في حقِّ التراث أو انتهكناه.

وإذا قلنا إن الشعب مصدر السلطات، فليس في هذا افتئاتٌ على ماضٍ مقدس، بل تحدٍّ لامتيازات صفوة، حيث يغدو الشعب راعيًا لنفسه وحقوقه، وهو المسئول، بفضل ما توافر له من وعيٍ ودور فعَّال. ويتعين أن يتحدد ذلك في الممارسة العملية التزامًا بدستور وقواعد ترسَّخت في الوعي الجمعي الذي أبدعها؛ كيف ننظم العلاقات والمسئوليات؟ ثم لماذا الحاكم وحده، على مدى التاريخ، هو الذي تُرجأ محاسبته إلى يوم الدين، بينما العامة يلقون حسابهم وجزاءهم في الدنيا؟ لماذا لا يحاسبهم أصحاب الحق، وهم الناس الآن لا الصفوة؟ وأصبح الناس أو الكافة الآن بحكم التطور الاجتماعي أهلَ علم وأهلَ رأي وأصحاب حق، قادرين على الحكم، وليسوا مثلما كانوا في الماضي رعية، والأمر بيعة من صفوة لحاكم له الطاعة.

وإذا قيل إن التاريخ يحكي مثالًا عن إنسانٍ توعد حاكمًا بالتقويم إذا أخطأ، فإننا نسوقه كنادرةٍ أو مثال فريد لم يتكرَّر، وإلا فهاتوا برهانكم إن كان وجد سبيله في التطبيق على مدى التاريخ، ونضيف: ولماذا لا يكون هذا وفق نظام ودستور مع توافر الضمانات التزامًا بمنطق العصر؟ كم مِن قُوًى سياسية أيديولوجية شهدها التاريخ، تيسَّر لها السلطان، واقترن أسماء أصحابها بعديدٍ من صفات تُحيطها هالة القداسة، وألقوا بثقلهم في ساحات الصراع السياسي باسم الدين، ولكن وصولًا لأهداف خاصة، وباعوا الأمة والتاريخ بعرض دنيوي أناني، بل منهم من كانوا لُقطاء بغير أمة أو تاريخ مثل المماليك، وإن تزيوا بمسوح الدين زيفًا وبهتانًا، وأغرقوا الناس في قضايا بعيدة عن أمور حياتهم، بل دفعوهم دفعًا إلى الضياع في غياهب وراء الواقع، ولكن نحتفي بهم، ونقول إنهم حراس التراث والعقيدة.

مضمون جديد لقيم قديمة

ثم ما العيب في أن نفيد من خبرات وممارسات الحضارات الأخرى، ونُرسي للأجيال من بعدنا نهجًا جديدًا في التفاعل، يغدو بدوره صفحة من التراث، ونقدم مثالًا عن دينامية التراث والواقع ببُعدَيه المحلي والعالمي في تفاعل جدلي كتراث جديد، افتقده الأقدمون ونحن صنَّاعُه، وإن كان الصحيح أنهم في عصر الازدهار الحضاري تفاعلوا عن ثقة، وأضافوا وأبدعوا وأكَّدوا بذلك أن الحضارات تزدهر بفعل الاحتكاك والتحدي والإخصاب المتبادل، وأن العقيدة ترسَّخت أركانها بفضل هذا التفاعل، وعلى أيدي علماء أبناء حضارات غير عربية.

إننا بحاجة إلى أن نرسي دعائم عادات فكرية وسلوكية جديدة، تتسق مع قوة الدفع اللازمة لحركة مجتمع ناهض، وخلق علاقات جديدة تتيح له تحمل مسئوليته والدفاع عن حقوقه وأداء واجباته والمشاركة في تجديد مصيره، وبذلك نعزز حريته الفردية الاجتماعية، لتكون مضمونًا أو واقعًا متحققًا، وليست شعارًا فحسب، وبهذا يصبح الالتزام وعيًا اجتماعيًّا فاعلًا في تكامل إيجابي بين جميع أبناء المجتمع الواحد.

فإذا قلنا إن من حق الفرد أن يُمارس حريته في الاقتراع والتعليم، واختيار نُوَّابه في المجالس التشريعية، واختيار حُكامه؛ فإن هذا يعني، كواجب اجتماعي، توفير الوعي اللازم لممارسة حريته عن إدراك وفهم يتسق مع وجوده الاجتماعي ومع متطلبات العصر. لم يعد الوعي اللازم في الانتخابات هو حسب ونسب المرشح، بل توجهاته السياسية وبرامجه الاجتماعية. وتطلعات البلد مجسَّدة في آرائه، وهو ما يعني أن تكون المشاركة الواعية ذات مضمونٍ ركيزته معلومات تتوافر بحرية، وبهذا يكون الشعب راعيًا لنفسه ومصيره، ومسئولًا بحق عن هذه الرعاية والولاية.

وكذلك الحال بالنسبة لقيمة أخرى مثل قيمة العدل، وأحلها الإنسان مكانًا رفيعًا في تراثه الماضي وأجلَّتها العقائد، والعدل هنا قيمة عامة أساسية، ذات مضمون اجتماعي، وليست قيمة شكلية مطلقة، ليس العدل، كمثال لغيره من القيم، حكمًا بالقسطاس بشأن خلاف على عنزة أو شاة اغتصَبَها غاصب، أو رأيًا عادلًا منصفًا بشأن خلافٍ على امرأة، أو غير ذلك من أمور كانت تُثير حروبًا وفتنًا في عصور القبيلة قديمًا، وإنما بات العدل الآن يحمل مضمونًا تطوريًّا اجتماعيًّا جديدًا، ويشترط مؤسسات تكفل الحفاظ عليه. وأصبح العدل يعني بناء المدارس تحقيقًا لتكافؤ الفرص بين الجميع، من أبناء الجميع، لينالوا حظهم من التعليم، ويسهموا بدور اجتماعي عن علم وهم قادرون. ويعني تشييد المصانع لتوفير فرص عمل متساوية، وضمان حياة كريمة، ابتغاء رفاهية المجتمع دون تمييز … إلخ.

ومن العدل إقرار الحقوق المدنية المشروعة، التي أصبحت سمة أساسية من سمات الحياة الإنسانية الآن، وأقرتها مواثيق وصكوك دولية، تحت عنوان حقوق الإنسان، الرجل والمرأة والطفل، دون تميز بسبب عرق أو جنس أو دين، وصولًا إلى مجتمع يسوده عدل حقيقي. ومن العدل ألا تغتصب فئةٌ حق الكافة في المشاركة بالرأي الحر، من خلال مؤسسات وتنظيمات اجتماعية وإعلامية وسياسية وغيرها، والتي توصَّلت إليها الإنسانية كإطار للعمل الاجتماعي ونظام الحكم الرشيد. وليس من العدل أن نقهر ثقافة أقلية من الناس في مجتمعٍ ما، أو أن نحجب عن أبنائها حق المواطنة المتساوية، ولا أن نهدر ثقافة لها تاريخ، هي بعض تراث الأمة. وهكذا أضحى للعدل مضمون جديد يتسق مع طبيعة تطور المجتمعات والتحديات.

بات المطلوب حسمًا للأزمة، الانغماس في الفعل الحي لصناعة الوجود الإنساني الذي ينصبُّ فيه كل ما هو ملائم من التاريخ، وملائم من أدوات العقل الحاضرة التي يسرها العقل المعاصر. إننا لا يُمكن أن نُكرر أنفسنا، وواقع الحياة الممتد الصخَّاب يرفض التكرار، والركون إلى التراث الماضي وحده وقوع في الأَسْر، أسر الماضي، الذي فقد حرارة الحياة والتفاعل، ومن ثَمَّ تكون الحياة بليدة خاملة.

إن غزارة الثقافة الوطنية ترجع إلى ذاتية متكاملة تعي الماضي، كما قُلنا على نحو نقدي إبداعي، وتفاعل حي مع الواقع، وارتفاع بمستوى التعليم والتنظيم الاجتماعي والسياسي، طبقًا لمعايير العصر ورسالة الأمة والريادة الشُّجاعة، أو المبادرة الجسور، في مجال الفكر والخلق، دون استسلام لقيود الجمود.

صفوة القول: إننا بحاجة إلى تأكيد إرادة التغيير، فالتغيير ضرورة حتمية للنهضة، وهو تغيير اجتماعي سياسي اقتصادي ثقافي هادف، وليس التغيير مجرد تحوُّل شكلي في إطار اختيار التراث، أو تغيير قاصر على الرؤية الذاتية، بل إنه يستلزم فهمًا لقوانين حركة الواقع تاريخًا وحاضرًا، وصياغة لرؤية مستقبلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤