التراث والحداثة
لم يكن اختيارنا لموضوع اليابان نوعًا من الترَف، ولا رغبةً في ثرثرة ثقافية، بل التماسًا للمعرفة، واستبطانًا لحالنا، واستكشافًا، عن طريق المقارنة، لأسباب قعودنا وتخلفنا. إذا صدقنا مع أنفسنا، فمن مفارقات التاريخ أن اليابان، في الثلث الأخير من القرن الماضي، أوفدَت بعثة إلى مصر، لتقصِّي أسباب النهضة، ومعرفة سر التقدم. وها نحن الآن، وبعد مُضِي أكثر من قرن وربع القرن، ومن موقع التخلُّف، نتطلع بعيون مشدوهة إلى ما اصطُلح على تسميته المعجزة اليابانية، لا نزال نسأل من نحن؟ ولا نجد إجابة، ونقنع بعبارات عامة مجمَلة، تصلح عنوانًا لكتاب، ولكنَّه كتاب غير مسطور، ولن يسطره فكر نظري أقرب إلى التهويمات، بل إنتاج جمعي إبداعي. نعلن شجرة النسب أو الانتساب إلى أجداد، هم أيضًا موضع اختلاف، وننسَى القطيعة التي امتدَّت بيننا وبينهم قرونًا طويلة، نسي خلالها الأجداد الأبناء أو تبرءُوا منهم، فما بالنا بأحفاد الأحفاد؟! يعيشون عالةً على الأجداد وإن تقطعت أواصر الصِّلة الموضوعية الحضارية، ولم تبقَ غير ذكريات، نختلف حتى في مدى صدقها وموضوعيتها وتأويلها، عالة على الأجداد في الزمان وهم منَّا براء، وعالة على الغرباء في العصر الحاضر وهم عنَّا عازفون، ذكريات عن حضارة انتحرت، أو انتحر ورثتها؛ إذ خانوا سُنة الأجداد، يوم أن كان لهم المجد على الأرض، حضارة مزدهرة، وتجسدت الخيانة حين كفَّت أجيال الأبناء عن التجديد والبناء.
ضلَّت أقدامنا معالم الطريق، وافتقدنا المنهج القويم في التفكير، نتحدث لغة الأقدمين، وضاعت منَّا لغة العصر الحديث، فتشتَّت الفكر وتعثَّر الحوار الذي بات أشبه بحوار الطرشان؛ إذ تقطعت سبل الفهم والتفاهم وطُمست الحقيقة، أو غابت عن العقول والأبصار، كلٌّ منَّا على وجهه يَهيم، كأنما نضرب في ظلام وقد توارى العقل الفعَّال، وساد وجدان سقيم، نعيش غيبة كبرى في انتظار مهدي طال انتظاره ولم يجئ، ولن يجيء، وهو في أنفسنا، تدغدغنا أحلام انفصامية ونلعن الزمان.
تدفَّق نهر الحياة أو الحيوات المجتمعية جياشًا متجددًا دائمًا وأبدًا؛ إنجازات علمية باهرة، وتطبيقات عملية مذهلة. وإذا تلفَّتنا حولنا فقطيعة مع الحاضر وأسباب تقدمه، وقطيعة مع الماضي في فترات ازدهاره، وقناعة مَرَضيَّة بحياة الترف الاستهلاكي عند بعضهم، أو المستوى البيولوجي عند بعضهم الآخر.
ثم من واقع الخوف والضياع والتخلُّف تتوالى صرخات، من نحن؟ وفي عجزٍ علمي وعملي عن مواجهة تحديات العصر، نلوذ كما يلوذ طفل أصابه هلع إلى حضن أبيه، قانعًا بما يتمتم من كلمات مبهمة غامضة غائمة، نلوذ بتراث الأقدمين، نتجاوز الزمن، ونهرب من الواقع ومن عبء المواجهة، التراث وثَن لا نعقله، والتحديث نهج يُثير مخاوفنا ونلعنه، غربة في الزمان وغربة في المكان.
(١) التراث وخلفية تاريخية لا بدَّ منها
الاهتمام بمبحث التراث الثقافي جاء وليد ثورة جديدة في نظرية المعرفة؛ إذ اقتضت الإنجازات العلمية في النصف الثاني من القرن ١٩، ومطلع العشرين تحولًا كيفيًّا في إطار المعرفة العلمية الموروث عن عصر النهضة، مما استتبع تغيرًا جذريًّا في نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى المجتمع والكون. كانت نهاية القرن ١٩ ومستهل العشرين، فترة أزمة معرفية في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية، ولخَّص الأزمةَ سؤال احتلَّ بؤرة الاهتمام الفلسفي: ما هي الحقيقة العلمية؟ أو هل هناك حقيقة علمية؟
وتهيأت عناصر وأسس للخروج من الأزمة وصياغة إطار معرفي جديد، هذه العناصر هي: النزعة التطورية وتاريخية الوعي والنسبية، وعلاقة التفاعل بين واقع المجتمع والحياة والطبيعة، مع التفاعل المتبادل بينها جميعًا، أي الحركة في الزمان أو التاريخ، ومن ثم نفي الثبات أو المطلق. وترتَّب على هذا القول أن الفكر أو الوعي الإنساني حدَث تاريخي، يجري في بُعدَي الزمان والمكان، ونقطة انطلاقه ليست خارج الظروف الحافزة والمكيِّفة له، وهو الواقع، وأن الذات العارفة جزء من نسيج الموضوع الذي نعرفه، وأن لا وجود لتراث ثقافي في المطلق خارج شروط تكوُّنِه في التاريخ، أي في الزمان والمكان، والمكان أو المجتمع ليس محايدًا في فعاليته، وليس حدثًا مكتملًا.
وأسهمت تطورات علم تاريخ المجتمعات وتاريخ الفكر في الكشف عن دور الفكر الموروث، وعن تلاحم الفكر والإنسان والمجتمع؟ أو اللغة والفكر والتاريخ، والتفاعل الدينامي بينها، واتجه البحث للإجابة عن تساؤلات يطرحها هذا المنظور، مثل: ما هو دور الفكر الذي اختزَنَته الذاكرة الجمعية في حياة المجتمع؟ وكيف يتكوَّن هذا الرصيد؟ وهل هو رصيد معرفي فعَّال؟ وما هي حركته في التاريخ وفي المجتمع؟ وما هو دوره في تحديد أوجه التمايُز بين المجتمعات أو الخصوصيات المميزة لما يُسمى الشخصية القومية؟ وإذا كان الفكر تاريخًا، فما هي قوانين حركته؟
وعبَّر عن هذا النهج الجديد مبحث سوسيولوجيا المعرفة، وهو مبحث تحددت معالمه مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين.
وتوضح سوسيولوجيا المعرفة أن حركة الفكر الاجتماعي هي حركة شاملة الموضوع المعروف، والذات العارفة في تواكُب، ولا تكون هذه الحركة إلَّا من خلال الاحتكاك والصراع ومواجهة التحديات ليصب هذا كله في صورة منظومة معرفية شاملة وموجزة لقيم انتصارات المجتمع أو هزائمه؛ ولذا فإن فهم فكر المجتمع يتأتَّى لنا في ضوء تاريخ حركة الفكر وقيمه النابعة من تحدياته، والمناخ السياسي والاجتماعي الذي أحاط به على مدى العصور، ثم تجسد كل هذا فيما يُسمى التراث.
وحسب هذا الفهم، يغدو التراث الثقافي بنية تاريخية فاعلة دينامية متغيرة، إمَّا إلى مزيد من الثراء، بفضل الإنتاجية الإبداعية للمجتمع، وإمَّا إلى تدهور وانحطاط، بسبب تعطل هذه الإنتاجية وركود المجتمع. وهذه حقيقة عبَّر عنها بعبقرية ملهمة، العلَّامة ابن خلدون؛ إذ قال: «حيث لا يتقدم العلم ولا تتقدم المعرفة؛ فإنهما يتراجعان حكمًا.»
وأفادت علوم نظرية وتطبيقية عديدة بضرورة التزام النهج التاريخي لفهم الظاهرة. ظاهرة المعرفة الإنسانية، شعورية ولا شعورية، من حيث إنه تاريخ نشوء وتكوين، له فاعلية في تحديد رؤية الإنسان وسلوكه. ويؤكد هذا المنهج أن السبيل إلى فهم أعمق لفكر المجتمع، أي تراثه الثقافي، أن نعرف تاريخه وصراعاته ومواقفه والسياق الذي يجري فيه، أو كما يقول كارل مانهايم: «إن كل معنًى يتعين فهمه في ضوء تاريخ نشأته وتكوينه، وفي السياق الأصلي للخبرة المعيشة التي تُشكل خلفيته، وفي السياق الجمعي.»
في ضوء ما سبق، يرى أصحاب هذا المنهج أن التراث الثقافي متصل اجتماعي زماني متعدد، وأن تاريخ التراث مجموعة متواكبة ومتلاحقة من العصور، ومتراتبة ومتراكبة كطبقات الأرض في تاريخها أحقابًا جيولوجية؛ ولهذا فإن باحث التراث هو أركيولوجي، أو عالم حفريات في فكر وتراث المجتمع، هو ذلك الذي يستطيع التوصل إلى العصور الغابرة، من خلال الحفر والتعرية. إزاحة الركام واكتشاف الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية، دون الأسطورة الشائعة اجتماعيًّا، يعني التفكيك وتعرية آليات الفكر الذي ولَّد النظريات المختلفة، والتشكيلات الأيديولوجية المتنوعة، والتركيبة الخيالية، والأنظمة الإيمانية والمعرفية. إنه بحث نشوء وتطور الفكر المجتمعي وآليات حركة التطور، وما ترتَّب عنها من إسقاط وبروز على السطح، ثم فرز ما خفِيَ ونشرُه على طاولة التحليل لمعرفة كيف يمارس التراث دوره ضمن البنية العامة للفكر.
إذ ليس هناك إِطار أو بِنية عامة للفكر المجتمعي مقطوعة الصلة بالماضي أو بالواقع؛ إذ إن هذه البنية وجود في إطار الزمان والمكان، إنها في إطار الزمان ما فرضه الزمان، أي الأجيال السابقة، وهي على هذا سُنة الآباء الأولين وأخلاقهم وتقاليدهم وقيمهم التي لا بد لنا من وضعها برمتها، حيث إنها وليدة شروط وجودية مختلفة وزمان مغاير، موضع البحث والنقد والتقييم، وأن يأتي بحثنا لها في ضوء الاكتشافات الحديثة لماهية الطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ.
والتراث معنًى شامل لكل ما هو موروث من قيم وتقاليد ورؤًى من طبقات متراكبة. وهذا لا يعني أنه ينتمي إلى الماضي فقط، أي إنه ليس حدثًا ماضيًا، بل إنه متصل ثقافي معرفي، إنه حيٌّ اليوم مَعيش، حال فينا، نفَّاذ بين مسارب حياة العصر المؤثِّرة على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية. ولكن السؤال: أي تراث وعلى أي نحو يحكم السياق التاريخي؟ ولا ينفي هذا أيضًا ازدهار التراث الثقافي بفعل الاحتكاك وعمليات التخصيب المتبادل من خلال التفاعل مع الثقافات الأخرى، ولكن ما موقع قوة الفعالية الإبداعية؟ وحيث إن التراث الثقافي إنتاج إبداعي، لا إرث راكد، وحيث إنه فعالية متبادلة ومطَّردة، بحيث تكون هناك دائمًا إضافة جديدة تُضاف وتدخل دائرة الانتماء إلى التراث، فإن الأزمة هي في جوهرها تلك القطيعة التي يُعاني منها مجتمع ما حين يتوقف أو يكفُّ عن الإنتاج الإبداعي. هنا تحدث القطيعة بين المجتمع وبين تراثه الذي يُعاني من تدهورٍ يزداد تفاقمًا مع امتداد القطيعة التي تتضاعف وتقترن بالضرورة بقطيعة أخرى مع حداثة أي عصر.
إن أزمة التراث، أو ما اصطُلح على تسميته أزمة التراث في العالم الثالث، نابعة من تلك القطيعة المزدوجة وحالة التدهور التراثي وغلبة الشكلية والغربة عن العصر، ومحاولة العيش في عصر «حديث» بمنظومة معرفية أو تراث ثقافي لعصر آخر دون تأويل أو ملاءمة، كأن المنظومة الفكرية أو الإطار المعرفي الحاكم لسلوك وقيم الأجداد صالح لكل زمان ومكان، وننسى أن الماضي شمِل إطاراتٍ متباينةً متوالية على امتداد التاريخ، ومتعدد بتعدد الحضارات؛ فكل عصر له خصوصيته بحكم مستواه من الإنتاج والعلاقات الإبداعية، وإدراكه الفني المميز، ويبدع أفكاره الجديدة من واقع إبداعه الإنتاجي، الذي يُمثل مهامَّ جديدة أو حداثة عصرية لكل حِقبة، وهي مهام تستلزم تأويلًا جديدًا ومجدِّدًا ونقديًّا للتراث الثقافي، وتطويرًا إبداعيًّا لتقاليد راسخة. هناك دائمًا تراث أو تقليد، وإن تباينت الأطر والتأويلات التجديدية للملاءمة مع العصر تعزيزًا لزخم الحركة المجتمعية، وتهيئة للإمكانات الإبداعية الإنتاجية للمجتمع. والعلاقة بين ما هو تقليدي وبين ما هو تجديدي تكتسب قدرًا مميزًا من المعاصرة وقت منعطفات التاريخ الحاسمة، حيث يبرز التباين الصارخ بين عناصر التقدم وعناصر الانتكاس في التراث الثقافي لمجتمعٍ ما. وتدرك المجتمعات أهمية استلهام تراثها الثقافي، وهي تلملم شملها وتحشد طاقاتها صوب هدف قومي يرتقي بها إلى وضع جديد تكون به أمة فاعلة ومشاركة في بناء الحضارات الإنسانية، إنها تراجع نفسها، وتُصحح أو تلائم أوضاعها، لا نكرانًا للماضي أو إنكارًا له، بل اعتزازًا به في ثوب جديد وتأويل ملائم. والتأويل أو الاجتهاد وظيفة اجتماعية لعقد مصالحة، وعمل ملاءمة، وضمان اتصال بين الماضي أو الموروث، وبين مقتضيات حركة المستقبل.
- (١)
فقدان رؤية مستقبلية.
- (٢)
تعطل الإنتاج الإبداعي، الذي يرتكز بالضرورة على استيعاب عملي ونظري لإمكانات وإنجازات العصر العلمية والتكنولوجية.
- (٣)
القطيعة مع الماضي، أو فقدان الصلة الإبداعية بإيجابيات الماضي في عصور ازدهاره الحضاري على هَدْي وعي نقدي.
وبعد ذلك الإنسان كهدف للتنمية الحضارية، وكوسيط فاعل له تكوينه الذي صنعه التراث، على نحو مميز ومؤثر في التوجه وأسلوب التنفيذ، ومدى ملاءمة هذا التكوين للغاية المرسومة ودور الوعي في ذلك.
(٢) الحداثة
حين نذكر الحداثة أو المعاصرة ينصرف الذهن إلى الغرب بكل سلوكياته وقيمه، وليس إلى آلية العصر كمنهج، بمعنى أدوات تفوق الغرب — وليس حضارة الغرب بكل قيمها — وهو ما لخَّصه تساؤل رُواد النهضة العربية: «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟» ولهذا ليس غريبًا، وقد أخطأنا التعبير، أن يظلَّ الإطار الذي ننظر من خلاله هو إطار الصراع الأبدي بين التراث والحداثة.
ولكن إذا أخذنا الحداثة أو المعاصرة على أنها منهج وأدوات تعامل الإنسان على مستوى العصر مع الواقع الذاتي والمجتمعي والبيئي لانْتَفى التناقض النظري والتناقض في حياتنا، حيث نلعن الغرب ونستهلك إنتاجه وقِيمه.
الحداثة تحوُّل نوعي ارتقائي للمجتمع، يتماثل في تصاعد قدرة الإنسان على التحكم في محيطه المادي والنفسي والاجتماعي، ويشتمل على تغييرٍ في القيم والعلاقات الاجتماعية والتطور الحضاري في إطار العقلانية والتفكير العلمي حسب مستوى العصر. ولهذا نقول إن الحداثة، أو حداثة كل عصر، تقترن بثورة ثقافية مطابقة لمتطلبات التحديث ويدعمها ولاء خلَّاق، وتأويل إبداعي للتراث الثقافي؛ من أجل حشد طاقات المجتمع؛ وفاءً لمشروع قومي أو تحديث المجتمع وفق صورة امتلأت بها أذهان أبناء هذا المجتمع وارتضوها هدفًا، يحشدون له طاقاتهم على المستوى القومي، أي المشروع المستقبلي. والحداثة ليست صفة ثابتة، إنها شروط وجودية نسبيَّة، أعني تتغير حسب الزمان والمكان شكلًا ومضمونًا. فالحداثة بالنسبة لعصر التصنيع غيرها بالنسبة لعصر ما قبل أو ما بعد التصنيع، وإن كانت في التصنيع غيرها بالنسبة لعصر ما قبل أو ما بعد التصنيع، وإن كانت في جميع الأحوال حلقات متعاقبة في المسار الحضاري الإنساني، كل حلقة أفضت إلى الحلقة التالية لها.
والحداثة عملية اجتماعية شاملة لكل نشاطات الحياة المجتمعية. إنها تغيير في الإنسان والمجتمع وعلاقاته، وفي القيم وصورة الذات لدى المجتمع، وتغيير في البيئة وعلاقة الإنسان بالبيئة ليشكل هذا كله بنية حضارية ثقافية جديدة، وصفحة أخرى في مسلسل الحضارات الإنسانية في طريقها الصاعد؛ ولهذا فإن كل عصر، هو عصر حديث في ذاته وزمانه، وله شروطه التي تُشكل، مجتمعةً ومتكاملةً، ركائزَ البناء الحديث، وصولًا إلى إنجازات إنسانية موضوعية، تنعكس في كل مجالات حياة المجتمع؛ حداثة في اللغة على سبيل المثال بمعنى استيعاب اللغة، من حيث هي فكر لمجالات الفكر الجديد، فكر العصر الخلَّاق، الذي هو نشاط مجتمعي معبر عن روح العصر، فتقدم اللغة مفرداتها المعبرة عن الفكر النابع من النشاط الإبداعي للمجتمع. وقد يستلزم هذا تطويع قواعد اللغة، وتطويع الفكر الجديد بدوره لقواعد الصياغة اللغوية، وتتحجَّر في عصور الركود الحضاري. وهناك كمثال آخر الحداثة في الفن، بمعنى أن يُعالج الفن قضايا العصر، وقد يبتدع أساليبَ تتوافق مع إنجازات العصر في مجال الفكر أو الخامات أو ما يتعلق بالشكل والمضمون. والحداثة في الشعر أو في المسرح تحوير في معالجة قضايا وأفكار قديمة بما يتفق مع مشروع نهضوي جديد، أو تعديل في شكل الصياغة والدور، بحيث يفي بأغراض جديدة فرَضها الواقع المحلي، أو التفاعل مع ثقافات أخرى على نحوٍ يسهم في تطوير الشكل التقليدي أو ابتكار شكل جديد يمثل إثراءً للتراث وإضافة للقديم. وهناك الحداثة في العلوم (المؤسسات العلمية وتنوعها ونظام إدارتها والمناخ الملائم للعمل والابتكار … إلخ). والحداثة في أسلوب العيش والحياة وإدارة شئون العمل أو الدولة … إلخ، أي أخذ بمبادئ العلم الحديث؛ لأنه إنجاز علمي وعالمي، وابتداع أساليب أو مؤسسات تفي بوظيفة جديدة اقتضاها العصر. وليست الحداثة في جميع الأحوال اصطناعًا مفتعلًا، أو نقلًا تعسفيًّا من ثقافات غريبة، بل تفاعل واعٍ مع هذه الثقافات قرين نشاط محلي – أي أخذ وعطاء.
والحداثة تنطوي على القديم، مهضومًا ومكيفًا من خلال الوعي الإنساني، مثلما تنطوي على نقد القديم لقُصوره، وتحليله لبيان الجوانب الإيجابية واستلهامها، وفهم القديم على نحوٍ أفضل أو أكثر ملاءمة مما يطوره ويضمن اتصاله. ثم إنها استيعاب لجديد يفرضه واقع إبداعي لضرورته، وليس جديدًا مفتعلًا أو مستعارًا، ومن ثم يكون تأويل التراث، الذي هو جزء من ذهنية ونفسية الإنسان وأداته في التعامل، شرطًا لتهيئة المسرح لقبول الجديد والاعتراف به وممارسته.
والقول إن الحداثة هي بالضرورة في أحد أوجهها، موقف تحليل نقدي للتراث، لا يعني أبدًا أنها نفي للقديم أو هدم له، بل ملائمة له مع حاجات العصر التي هي حاجات حيوية للمجتمع ومصلحة البشر، ومن ثم تكون إضافة أو تعديلًا لبنية تقليدية، بما يتفق ومشكلات جديدة. وهي بذلك خُطوة نقدية إيجابية تستهدف تخفيف حدة توتر ناجم عن أزمة تُهدد الدعائم الوجودية لمجال نشاط اجتماعي أو فكري، وتُهدد أُسس الوجود المجتمعي بعامة، وتطرح الحداثة سبيلًا جديدًا للتخلص من هذا التوتر عن طريق حل مشكلات تعذَّر حسمها، وفق سياق أو إطار تقليدي. أو لنقل الحداثة دائمًا وأبدًا هي ميكانيزم مجتمعي مواكب للنشاط الإنساني التجديدي، ويصحح بها المجتمع ذاته تعديلًا وإضافة وفاءً لهدف أو وفاءً للحركة نحو هدف؛ لأن المشكلات أو الأزمة تمثلت في تعذر الحركة أو الشلل، ومن ثم الجمود وما يترتب عليه من تخلُّف، تخلف عن العصر، وتخلف أو تدهور التراث، كلاهما معًا في حالتَي المد أو الانحسار.
وانطلقت حداثة حقبة عصر التصنيع، والتي هي المدخل إلى عصر ما بعد التصنيع، من مجموعة من المواقف الأساسية، هي تعبير عن متطلبات مجتمعية؛ ذلك أن الحداثة في كل عصر من عصورها ليست رؤية نظرية تُفرض فرضًا على الواقع، بل هي استجابة لمقتضيات التحوُّل، شاملة جميع الجوانب الاجتماعية اللازمة لتحقيق البنية الحضارية الجديدة. وكانت منطلقات حقبة عصر التصنيع:
-
(١)
إيمان بالعقل أنه مصدر المعرفة، ولا سلطان على العقل إلَّا العقل نفسه، والعقل هنا هو أدوات البحث العلمي التزامًا بمنهج معتمد طريقًا إلى الصواب.
-
(٢)
إيمان بأن الحقيقة ذات طبيعة عملية نقدية، إنها ليست موروثة أو منقولة.
-
(٣)
إيمان بالإنسان وحقوق الإنسان العام Mass Man النزعة الفردية، وأن الإنسان صاحب دور إيجابي، ومسئول عن بناء المجتمع واختيار الطريق، وإدارة شئون الدولة، من خلال مؤسسات يُقِرُّ نظامَها دستور، وتحدد السلطات المرجعية، مثال نظرية العقد الاجتماعي، وأن المجتمع من صنع الإنسان. وعبَّرت عن ذلك باسم الديمقراطية وتعددية الآراء، وحق التعبير عنها على نحو فردي، أو في تجمعات وحق تداول السلطة بينها.
-
(٤)
إيمان بأن المجتمع بِنية متعددة الطبقات وفقًا لنظام تقسيم أدوار العمل، ولا يعتمد على الطائفة أو العائلة أو القبيلة، أي الأساس هو العمل، لا علاقة دم أو نسب.
-
(٥)
التعليم إلزامي بوصفه حقًّا للإنسان وشرطًا للتطور، ويرتقي مستواه بارتقاء مستوى التطور الحضاري والثقافي للمجتمع.
-
(٦)
اللغة لغة عقل تحليلي نقدي، وليست لغة خطابية إنشائية، بمعنى أن اللغة هي الفكر المعبر عن إنتاج مجتمعي موضوعي، وإبداع حقيقي يخضع لمعايير نحتكم إليها.
-
(٧)
إيمان بالتغير.
-
(٨)
كان حصاد هذا كله ما عُرف باسم الثورة العلمية والتقنية (مناهج البحث العلمي قاعدة لنشاط العقل في التماسه لمعرفة الواقع مع الالتزام بإنجازاته في التطبيق العملي في حياة الإنسان والمجتمع والطبيعة).
والحداثة على هذا النحو تحوُّل شامل لكل هذه الركائز مجتمعةً وفي تكامل، وليس لبعضها دون الآخر، وإن اختلفت درجات تطبيقها وأشكالها من مجتمعٍ إلى آخر.
وإذا كانت هذه العناصر متكاملة تمثِّل ركائز حداثة عصر التصنيع، فإن هذا لا يعني أنها قالب جامد لا يقبل إضافة أو تعديلًا وفق مقتضيات الظروف والشروط الوجودية لكل مجتمع، ومن ثم يكون لكل مجتمع نهجه المميز في إنجاز الحداثة. ولهذا نجد هناك من يحاول أن يُعطي تصورًا أكثر تفصيلًا، ويتناول الحداثة في السياسة، والحداثة في التعليم، والحداثة في العلاقات الاجتماعية، والحداثة في الاقتصاد.
ونجد الآن شروطًا وركائز جديدة للحداثة، هي إضافة تُعبِّر عن طبيعة التطور الذي لحِق مجتمعات العالم الأول أو المجتمعات المتقدمة، والتي أنجزت الثورة الصناعية، أو حقبة الحضارة الصناعية، ووقفت منذ عقدين على أعتاب حقبة جديدة، هي حقبة حضارة عصر ما بعد التصنيع، أو كما تُسمى أحيانًا الموجة الثالثة بعد الزراعة والصناعة. ويتطلب إنجاز هذه الحقبة خصائص جديدة، سواء فيما يتعلق بطبيعة تنظيم وإدارة المجتمع أو الإنسان، حقوقه وواجباته وإمكاناته وتطلعاته، ويعيش العالم الأول آلام أزمة التحول، ومخاض ولادة هذا الجديد.
وأهم خصائص العصر الجديد وإنسان الحضارة الجديدة تطور فائق السرعة لإنجازات العلم، وتلاشي الهوة الفاصلة بين العلم والتكنولوجيا، ومن ثم السرعة في التغيير، وما يترتب على هذا من تسارُع اتِّساع الهُوَّة الفاصلة بين التقدم والتخلف. تغير الأطر الاجتماعية، وتغير نظرة الإنسان إلى الوجود الذي يفضي إلى تغير جذري في الإنسان؛ إذ لم يعد المطلوب الآن، كما كان الحال في عصر التصنيع، استحداث وتطوير آلة، وتنمية قدرات تنفيذية للإنسان، بل توافر فرص وشروط النمو الحر من خلال نشاط إنتاجي إبداعي، وزيادة في المرونة الدينامية، وانفتاح التفكير، ورؤية عالمية تتخطَّى الحدود القومية، وأن يتصف الإنسان والمجتمع معًا بقدرة على مواكبة واستيعاب الجديد بنفس سرعة التغير. إنسان له هذه الصفقات لا بد وأن يتحلى بأكبر قدر من الثقة بالنفس على اتخاذ القرار والتفاعل الحر، والمبادأة الجريئة والتحول عن التقليد، ومستوًى تعليمي راقٍ. وإذا كان العصر الجديد، أو حداثة عصر ما بعد التصنيع، ركيزتها العلم وتكنولوجيا المعلومات؛ فإن هذا يستتبع شروطًا اجتماعية وسياسية وسيكولوجية جديدة، ناهيك عن الشروط الاقتصادية. ويتبدَّى هذا في أسلوب الإدارة ونظام العمل، ومعايير الحياة الاجتماعية، والتحلِّي بأعلى قدر من المسئولية على المستوى الفردي وليس الجماعي فقط. ولهذا بات مؤكَّدًا الآن أن الشروط الاجتماعية تُشكل عقبة دون الحداثة أخطر من الأمية. وطبيعيٌّ ينبغي أن يكون نظام الحكم أو شكل الديمقراطية على نحو يُكلل ازدهار النمو الفردي الحر المبدع.
وإذا كان العالم الجديد، أو الحضارة الجديدة، من أهم خصائصها سرعة التغير، فإنه لن ينفع الإنسان فيها معلومات جاهزة يتضمنها تراث أو كتاب، بل سيكون الإنسان بحاجة إلى أن يغدو، من خلال تنشئة جديدة ونظام اجتماعي مغاير، ذاتًا قادرة على التفاعل الناضج الواثق بذاته مع الواقع، فالحضارة الجديدة حضارة معلومات، وفهم لهذه المعلومات ومجابهة فكرية متبادلة. ليس مناط الأمر تجميع المعلومات، بل القدرة على الإفادة بها وتأويلها وفق رؤية عقلانية، وتوظيفها في التطبيق. والانتصار في هذه الحضارة للأقدر، مجتمعًا وفردًا، على الإبداع الأكثر جديةً، الذي يعيش في شروط اجتماعية تهيئ وتحفز القوى المحركة للتطوير السريع في صورة المؤسسات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية التي تُتيح أكبر قدر من الدينامية، نظام اجتماعي يكفل سيرورة الحضارة ونمو الإنسان وازدهار ملكاته، في إطار ضمانات وإمكانات ملائمة.
(٣) التراث الياباني والتحديث
يقول مفكر ياباني في تعليقٍ له بصدد تفسير عملية الحداثة، وكيف بدأت: «إن اليد التي طرقت الباب لم تكن أقل أهمية من اليد التي فتحت الباب.» ويعني بذلك أن المؤثرات الحافزة إلى التغيير الاجتماعي، أو إلى الحداثة، لم يكن مرجعها فقط صدمة الغرب، بل ثمة عوامل محلية وأخرى خارجية اصطلحت معًا على دفع عجلة التغيير الاجتماعي، وحدَّدت توجه الإنسان الياباني وأسلوب تناوله لهذا التغيير. وأول هذه العوامل التراث، ولكي نفهم المقصود، سوف نورد عرضنا في إطار من المقارنة بين مثالَين؛ الصين واليابان.
اليابان — شأن كل أمة — حصاد تفاعل الإنسان والمجتمع والبيئة في الزمان، إنها حصاد النشاط الإبداعي لهذا الإنسان في سبيل انتزاع وجوده وصراعه داخل بنية المجتمع، في إطار الجغرافيا والتاريخ، مثلما هي حصاد جوانب أخرى سلبية «العزلة والاستبداد مثلًا»، وانعكس هذا كله في صورة التراث.
الإنسان الياباني مهاجر أصلًا من شرق آسيا، والمهاجر متمرِّد رافض لمجتمعه، ساعٍ إلى مغامرة مع المجهول في إصرارٍ وعناد؛ لكي ينتزع وجوده الذي يراه حقًّا لا يأتيه هبة، بل نتاج عمل وجهد وحسن تدبير وتحايُل وحِرص. ويملك المغامر إرادة صنع الحياة، ويتَّصف باستقلالية الرأي والطموح الشخصي والنزعة العلمية، والدينامية وكفاءة الاستجابة والفضول المعرفي، وقابلية الاحتمالات والروح الفردية أو الجماعية في العمل حسب ظروف البيئة وما تقتضيه من أسلوبٍ لتوفير المَعاش، وأن ما يعني المهاجر كل ما هو عملي ومباشر ومفيد والآن، لا وقت للتأمُّل النظري، وخطابه مع الواقع قائم على المصلحة العاجلة، تُظاهره قوة الحيلة ودهاء الفكر. خبرته هو وليدة نشاطه، بينما عينه على خبرة الآخرين. ويُعبِّر المجتمع عن هذا كله في صورة قِيمٍ يوجزها التراث، ويؤكد دورها الجماعي عن طريق ما يُسبغه عليها من صفاتِ التقديس.
ليس معنى هذا أن الموروث أو الزاد الثقافي للمهاجر هو وحدَه العامل الحاسم والمؤثِّر الذي فرَضَ نفسه على البيئة الاجتماعية الجديدة، بل نعني أن هذه صفاته وخصائصه، وهي في حالة دينامية قابلة للملاءمة والتأقلم حسب نوع النشاط في المجتمع الجديد؛ فإن مثل هذه الصفات كانت هي صفات المهاجر الأمريكي إلى العالم الجديد، ولكنَّها أخذت منحًى مغايرًا بحكم ثراء أرض الميعاد، وسهولة الحياة فيها واتساعها. وإنما تصادف أن كان المهجر الياباني ذا طبيعة دعَمت أكثر هذه الصفات، واقتضتها واصطلحت خصائص المهاجر وخصوصية المهجر، وأسلوب النشاط على صَوْغ قيم وعقائد المجتمع الياباني الوليد، وامتدت مع الزمان.
ويشعر اليابانيون بأنهم شعب فائق التمايز والتميز ثقافيًّا؛ وذلك بسبب اللغة والعزلة الجغرافية، ثم الأوضاع السياسة التي كانت تعزز نهج العزلة بين الحين والآخر. وتولَّد لديهم لهذا السبب إحساس قوي بالذاتية؛ فالشعوب في نظرهم تنقسم إلى «نحن وهم» أو الآخرون؛ ولهذا لديهم حساسية شديدة إزاء كل ما هو أجنبي ومستورد، نقول حساسية لا صدودًا، وجعلوا من واقع النقل الثقافي موردًا لخبرتهم في ضوء حاجتهم. وساد انطباع بأن الشعب الياباني شعب ناقل مستورد للثقافة، ماهر في التعلم والمواءمة دون إخلال بمبدأ المحافظة على الذاتية الثقافية، ويتميز اليابانيون بشدة الوعي بالتاريخ؛ إذ ينظرون إلى أنفسهم من منظور تاريخي. وهذا امتداد لمشاعر الاعتزاز بالنفس وحضور دائم للذاتية الثقافية. ولعل هذا يؤكد لنا أهمية دور الوعي التاريخي بامتداده في تسامح دون حواجز تفكير للسلف، وأثر ذلك على تماسك وتجانس البناء النفسي للشخصية الفردية والاجتماعية على السواء. ولعلَّ تقديس السلف على مدى العمق التاريخي ودون تحيز له أثره ودلالته. هذا على عكس ما يحدث في بعض المجتمعات التي بدأ التاريخ عندها مع اللحظة التي فرَضَها السيف أو الدولة أو العقيدة، وما قبل ذلك صفحة سوداء مسطورة خطايا. ويؤدي هذا إلى ترسُّب وعيٍ زائف من شأنه أن يصدع الشخصية الفردية والقومية، ويصيبها بالعجز عن مواجهة التحدي. وهل هناك أعجز من شخصية مبتسرة، مطعون في مصداقية تاريخها، لا تكفُّ عن أن تلعن ماضيها، وتجهل مشاعر الامتداد والعمق التاريخي؟
وهكذا اصطلحت خصائص البنية النفسية والثقافية للمهاجرين، مع الشروط الوجودية لنشاطهم وحياتهم في جُزر اليابان، على تعزيز تلك الصفات. وصاغ التراث الثقافي الإنسان الياباني على صورة متجانسة ومحدَّدة الطابع، لها سماتها الواضحة المميزة. ومن أهم هذه الصفات: الدأب والمثابرة في إطار جمعي؛ ولذا يجري تقييم الفرد من خلال عمله مع مجموعة العمل التي ينتمي إليها، ومن خلال مشاركته بحماس وبسعادة. ولا ريب في أن مجتمع الفريق الواحد المتمتع بضبط النفس والإرادة القوية لا بد وأن تتولد عنه تأثيرات تُفسر حماس اليابانيين وطموحهم. وليس غريبًا إن كان شعار النجاح في الحياة هو شعار عصر «الميجي» أو عصر الإصلاح والتحديث. وهناك الدينامية مع الاحتفاظ بشخصية ذاتية بالغة المنعة والقوة، ويوضح تاريخ اليابان كيف تغير اليابانيون مع الزمن أكثر من أي شعبٍ آخر، وأن استجابتهم للأوضاع الخارجية المتغيرة على درجة عالية للغاية مع استمرارية خصائصهم الثقافية.
يتصف اليابانيون بسيادة روح الجماعة مجسَّدة في الأسرة، فالمجتمع أسرة كبيرة، وتهيأت لهم هذه الخاصية بحكم طبيعة النشاط الإنتاجي في مجال زراعة الأرز، حيث يعملون في مجموعات. ومن مظاهر الجماعية؛ التماثُل في المأكل والملبس والسلوك وأسلوب الحياة، بل والتفكير بمعايير الجماعة. وكذلك الحرص على السمعة «وصون ماء الوجه»، والجماعية تعني الالتزام المشترك أو التماثل بشأن النظام الاجتماعي. ولكنَّها في اليابان لا تعني تماثلًا أو التزامًا استاتيكيًّا، ولا تعني إحجامًا عن التغيير وإنما تماثل جماعي مع الوضع المتغير، على عكس الحال من الصين؛ إذ تغلب النظرة الاستاتيكية أو تقل الدينامية وقابلية التغير المرن.
وهذا الوجدان التعاون الجمعي مقترن بالشعائر والطقوس، يقتضي سيطرة صارمة على النفس، يكون مبعثها باطن الذات، مما يجعل الياباني قادرًا على التحكم في غرائزه ورغباته؛ ولهذا فإن التماثل أو التجانس والجماعية ليست جميعها وليدة ضعف إرادي، بل هي نتاج نظام ذاتي قاسٍ، وقدرة على ضبط النفس. ومن هنا يلتمس الياباني الإحساس بذاته من خلال كِيان اجتماعي، ويكون سبب شعور بالزهو والفخار، سواء هذا الكيان هو الأسرة أو الشركة أو المجتمع، وتسود هنا غريزة القطيع؛ إذ ترسخت فيهم طبيعة الحركة الجمعية.
وترتبط بالوجدان الجماعي قِيَم التناغم والتناسق، من خلال التفاهم الذكي، القرار الجماعي هدف في ذاته مما يؤدِّي إلى تجنُّب المواجهة الصريحة الحادة، وعدم التركيز على مظاهر الاختلاف، والتزام الوسطية في أغلب الأحيان، ويسرت هذه الخاصية عملية التحديث، نظرًا لتفضيل مصلحة الجماعة والولاء لها، إيثار الإجماع، والتفاني والإخلاص للجماعة.
وتتسق مشاعر الجماعية مع العقائد اليابانية الثلاث، التي تؤكد جميعها على التناغم والتناسق مع الوجود؛ فالبوذية مثلًا تركز على أهمية تحقيق سلام العقل بعيدًا عن أطماع الدنيا الأنانية؛ وذلك بتحرير الذات من كل رغبة مادية. كما تدعو هي والكونفوشية إلى إنكار رغبات وشهوات النفس المتمثلة في نزعات التملك الأنانية. ويقترن هذا برفض الفردية أو قيمة المبادرة الفردية، وهي قيمة أساسية بالنسبة لبِنية الحضارة الغربية، وكان لها تأثيرها الإيجابي في الغرب، كما أن إنكارها في اليابان له تأثير سلبي، وطموح الياباني يأتي دائمًا في إطار الجماعية، وعندهم قول مأثور «المسمار البارز يلزم طرقه» وأفادت روح الجماعية في تعزيز دور التخطيط الاجتماعي، وإعلاء قيمة العمل والإنتاج، والحذر من المستقبل، ويجد الفرد مجال التعبير عن ذاتيته في الإبداع الفني.
والفضول أو النهَم المعرفي من أهم خصائص الإنسان الياباني، والمأثور عن الشعب الياباني نهم الاقتباس، والتماس الوسائل العملية وأسباب المعرفة التي تُساعده على البقاء، وانتزاع وجوده من طبيعةٍ ضنينة قاسية على عكس من يعيشون في بيئة معطاءة في يسر؛ إذ نراهم قانعين بما أوتوا، غير طامعين فيما يملكه الآخرون، والنهَم المعرفي عند الشعب الياباني مرهون بحاجاته العملية، دون الاهتمام بالفكر النظري إلا في أضيق الحدود.
وتتسم العقائد اليابانية باليُسر والبساطة والفطرة، لا تغرق أصحابها في تفسيرات كونية معقَّدة، أو نظرات فقهية ولاهوتية متباينة، ولا ترهقهم بطقوس وشعائر مفرطة، بل متطلباتها محدودة. وتقوم على التسامح مع العقائد الأخرى ومع المعارف العلمية؛ إذ يُمكن للياباني أن يجمع بين ممارسة شعائر أكثر من عقيدة، كما تتسع عقيدته أو عقائده لممارسة شعائر الدين وممارسة العلم في آنٍ؛ ولهذا لم يدرِ صراع تطاحن بين الطرفَين، وهي عقائد معنية بالوقائع دون الحقائق الكونية الكلية، إنها ديانة الآن والحاضر، وعقيدة ترتكز على تفحُّص وجداني مع الكون، وهذا ما نجده في عقيدة الشنتو «الطريق إلى الآلهة» أقدم عقائد اليابان، وفي البوذية والكنفوشية، اللتَين وفدَتَا إلى الصين، واصطبغتا بصبغة يابانية، أهمها عقلية الياباني ذي التوجه الأرضي.
وخضعت هذه العقائد لتأويلاتٍ متباينة باختلاف العصور ومصالح أهل السلطان؛ فالبوذية تدعمت أركانها بناءً على ما وضعه الأمير شوتوكو، ٥٩٣ﻫ/٦٢٢م، من شروح وتفاسير لها، لتصبح تعاليمها في صورة ما أسماه «الدستورَ» أي عقيدة وشريعة، ولكن في صيغة يابانية تحتفظ بشخصيتها اليابانية.
ويحكي التاريخ شواهد كثيرة للتأويلات المتباينة للعقائد وفقًا لرؤية السلطة في كل عصر، أو رؤية المناهضين لها. مثال ذلك أن اليابان في ظل عصر طوكوجاوا، في أواخر القرن ١٨ والنصف الأول من القرن ١٩، كان النظام الحاكم ينشد تعزيز النظرة الأوتوقراطية للحكم، والتمسوا تأويلًا للعقيدة يُحقق هدفهم؛ لذلك لجئُوا إلى تشجيع فلسفة، أو لنقُل عقيدة تشوهسي، وهي وجه أو تأويل للكونفوشية، يقول إن معرفة الطبيعة ضرورية لتحديد القانون الأخلاقي، وإن الحكم هو من يُعلم الناس السلوك الحسن، ويهديهم صراطًا أخلاقيًّا قويمًا. والحكومة الصالحة هي التي تعتمد على حكمة الحاكم وطاعة الرعية. ومحصلة هذا الرأي تعزيز لنظام الحكم الأوتوقراطي، ومساندة السلطات الإقطاعية.
(٤) خصائص التراث الصيني
وقد يكون من المفيد أن نعرض صورة مقارنة مع الصين التي تربطها باليابان وحدة العقيدة اسمًا، وكان لتراث الصين وتأويلاته أثر حاسم على نهج الصين في التعامل مع متطلبات تحديث المجتمع وفهم هذا التحديث.
عاشت الصين حياتها قرونًا طويلة في ظلِّ حُكم متسلِّط قاهر، فضلًا عن غوائل الطبيعة المروعة، ولنا أن نتخيل طبيعة التراث المتولِّد عن مثل هذه الظروف، وتباين التراث ما بين دعم للتسلُّط أو دعوةٍ للاعتدال، ولكن على استحياءٍ لا يستفز أصحاب السلطان؛ لذلك نجد عند كونفوشيوس أُسسًا للعدالة والاعتدال في الحكم، وحب الخير للناس وإكبار المعرفة، وأن علاج أدواء المجتمع في حكمة الحاكم والتماس المثل الأعلى في مجتمعٍ أحسن تنظيمه، وهو مجتمع السلف. ونجد عند موتسو أسسًا للتسلط، وكذلك عند التشريعيين. وبرزت على السطح تعاليم هؤلاء مع تأويلات للكونفوشية تدعم حكم ابن السماء على الأرض، ودفعت الناس إلى التماسِ الخلاص من خلال طقوس وشعائر تحقق مبدأ التأمل والتناغم مع الوجود، والزهد في متع الحياة، وأن الحياة ابتلاء ومعاناة، وفضيلة المحكومين طاعة الحكام.
وجاءت البوذية إلى الصين مهاجرة من الهند، لتجد بيئة صالحة مع ملاءمتها والتراث الصيني السائد، وانتشرت تعاليمها خلال فترات الاضطراب وشيوع العدمية. وخلاصة نظرة البوذية أن الوجود ألم، والحياة ابتلاء والنفس شهوة، وأن من يتحرَّر من رغباته هو البراهمي الحق، وأن سبب المعاناة هو الحياة المادية ورغبات النفس، وخلاص الإنسان في التحرر من هذه الرغبات، وأولاها رغبة الامتلاك.
وتمثل الطاوية، أو مذهب لاوتسي، جوهر التراث العقيدي لدى العامة من أبناء الشعب الصيني. وينظر هذا المذهب إلى جميع مشكلات البشرية، في ضوء المصالحة والتوفيق بين السماء والأرض، وأن الهدف دائمًا ه و تحقيق التناغم بين الإنسان والكون المضطرب وصولًا إلى سكينة النفس، وأن سبب الآلام هو افتقاد هذا التناغم. والإنسان المثالي في نظر الطاوية هو الإنسان الجبل الذي تملؤه السكينة في باطنه، ويحف به السلام من خارجه، على الرغم من الأنواء والأعاصير، يتواصل مع الطبيعة ويتحد بها ويعيش في فردوس ذاتي، التناغم مع الكل الأعظم، مع الطاو. إنها فلسفة الهرب إلى أعماق النفس، باطن الإنسان هو الملاذ، حيث جوهر الحياة، وأن التأمل يفضي إلى متصل باطني وروحي، تلاحم مع الوجود الكل المتناغم، والإمبراطور وظيفته تحقيق التوافق والتناغم بين السماء والأرض. وخير الفضائل طاعته لأنه بحكم هذا المنصب هو ابن السماء، والطاوي الحكيم والحاكم يأخذ على عاتقه أن يحكم العالم عن طريق سلطاته الواسعة، مثل سلطات «الطاو» الوجود الأعظم، وأخذ أصحاب النزعة التشريعية هذا الرأي سندًا لمقولتهم عن الدولة الحازمة والمذهب التسلطي في الحكم، وتأكيدًا أن على الناس الطاعة، والالتزام برغبة الحاكم في العمل وفي التفكير وفي الحياة، والبوذية متحدة مع الطاوية في أذهان العامة من الصينيين.
وتنطوي النظرة على نزوع تصوفي وهروبي إلى باطن النفس مع أحلام بعالم موعود يسُوده الرخاء، ويأتي على يد بوذا المنتظر، أو الأمل في الخلاص بعد الوفاة عند دخول ملكوت السماوات، وليس غريبًا أن يحرص كل بيت على اقتناء تمثال لإله الرحمة.
-
اكتفاء ذاتي يفضي إلى قناعةٍ وثقة مُفرِطة بالنفس وانغلاق.
-
الأخلاق نوايا مضمرة تجاه الآخرين والطبيعة.
-
التماس المثل الأعلى في عصر ذهبي مضى، عصر السلف.
-
تأكيد الحكم المطلق للإمبراطور، الحاكم هو محور صلاح المجتمع، ولا سلطان عليه غير ضميره.
-
خير الفضائل الطاعة، طاعة الحاكم والآباء.
-
الهدف سكينة النفس عن طريق العيش في سلامٍ وتناغم مع الطبيعة.
-
الحكمة هي تعلم كتب السلف، والتقدم استعادة عصر ذهبي ولى.
-
قضية الإنسان في المجتمع ليس قهر الطبيعة والسيطرة عليها، بل العيش في وفاق معها.
قناعة والتماس السكينة؛ ولهذا لا نجد الصيني ما نجده عند الياباني من نهَمٍ للمعرفة، واهتمام بالقضايا العلمية لانتزاع وجوده. وهكذا نستطيع، في ضوء التراث الثقافي لكل منهما، أن نفسِّر طبيعة توجُّه كل من الشعب الصيني والشعب الياباني، في الاستجابة لمقتضيات التغيير والموقف من حضارات الآخرين، أعني إزاء قضية الحداثة.
(٥) عصر الإصلاح في اليابان
أزمة ثقافية وصدمة الغرب
بهذا الزاد من التراث الثقافي بدأت اليابان — مثلما بدأت الصين — المواجهة المصيرية والتحدِّي الذي فرضه الغرب، وما كشف عنه من أزمة ثقافية. ونحن لا نستطيع القول إن الإصلاح مرحلة واحدة لها تاريخ بداية محدَّد، وإنما هو عملية مطردة امتدت زمنًا إلى أن أخذت زخَمها كاملًا في عصر الميجي ١٨٦٨م. وتاريخ اليابان الحديث هو سجل صدام وتفاعل بين ثقافتَين، ونشوء وتطور حضارة آسيوية تحت تأثير فكر الغرب وعاداته الحياتية، واستجابة نظام زراعي إقطاعي منهار إزاء متطلبات مجتمع صناعي. وجرى الصدام والتفاعل في إطار تراث ثقافي حدد طبيعة الاستجابة للمؤثرات الخارجية.
«سئم القراء الروايات الصينية واليابانية للمدرسة القديمة التي تضع شخصياتها في مشكلات عويصة، وتحيطهم بالمخاطر المهلكة التي لا ينقذهم منها إلا الجان أو قوًى خارقة. وهذا حل غير ملائم للمشكلات الإنسانية في عصر الاعتماد على النفس؛ ولهذا يفضل اليابانيون النمط الغربي الراهن، الذي يخرج الناس من مأزقهم بفضل ما يمتلكونه من مال.»
وعرفت اليابان الغرب، أو عانت صدمته على مراحل متعاقبة، أول موجة تأثير أوروبية جاءت في القرن ١٦ من خلال البحارة البرتغاليين الذين وصلوا إلى شاطئ اليابان عام ١٥٤٢م يحملون البنادق، فكانوا مصدر إثارة شديدة، ورحب بهم اليابانيون، واستطلعوا في فضول أسلحتهم الغريبة. هذا على عكس الصينيين الذين لم يعبئُوا بأسلحة البرتغاليين أو غيرهم من «البرابرة». وتلت ذلك بعثات التبشير من الجيزويت، الذين أقاموا علاقات ودِّية في يسر وسهولة مع اليابانيين. جاء هؤلاء القساوسة يحملون التعاليم الكلاسيكية للإغريق والرومان، وعبارات عن الأخوة والمساواة بين البشر. وتحدثت بعثات التبشير عن انطباعها عن اليابانيين، وما يتصفون به من إحساس بالواجب والمسئولية، وعن شجاعتهم وشغفهم بالمعرفة، ومهاراتهم الحاذقة، وأنهم يتحلون بالحكمة والروح المرحة والنشاط والحيوية.
أعقبت ذلك فترة من العزلة امتدَّت قرنين من الزمان، حتى جاءت الموجة الثانية للتأثير الغربي، مقترنة بتهديد واستعراض قوة سفن القائد البحري الأمريكي بيري، عام ١٨٥٣م، ليفرض عقد معاهدة تجارية غير متكافئة مع اليابان. وكان ظهورهم صدمة كبيرة لليابانيين، أحسَّت معها اليابان بمهانة العَجْز.
وعندما انتصر الإنجليز على الصين، ذهب بعض اليابانيين إلى هناك لمراقبة الأحداث في بداية النصف الثاني من القرن ١٩، وعادوا ليؤكدوا أو لينذروا، بالخطر الذي ينتظر اليابان إن ظلَّت على ما هي عليه، وأن عليها أن تبذل قصارى جهدها لتطبق التكنولوجيا الغربية، وإلا كان مصيرها الهلاك. وخاف المحافظون أن يؤدي ذلك إلى دمار التراث والتقاليد اليابانية، وارتفع شعار «الروح اليابانية والتعليم الغربي» وهو تعديل أو صياغة جديدة لشعار قديم «روح اليابان وتعاليم الصين»، ثم أصبح الشعار «أخلاق الشرق وتكنولوجيا الغرب».
(٦) عصر التنوير
العقل والواقع
ليس التحديث تغييرًا إراديًّا للبِنية التحتية فحسب، بل يمهد له ويقترن به، تأويل للتراث الثقافي، وتغيير في ذهنية الإنسان صاحب الدور والمصلحة. وإذا كان الإصلاح، بمعنى تغيير بنية مؤسسات المجتمع، بدأ مع عصر الميجي ١٨٦٨م، فإن القرن ١٨ هو بحق القرن الذي غُرست فيه بذرة الإصلاح والحداثة في اليابان؛ ذلك أنه كان بداية حقبة التجريبية والتنوير التي امتدَّت حتى النصف الثاني من القرن ١٩، وأثمرت عصر الميجي.
شهدت هذه الفترة صراعًا فكريًّا، وازدهارًا تنويريًّا يبشر بالتحول المرتقب، ويمهد له، من خلال العمل والممارسة التطبيقية وليس الإغراق في مناقشات وتهويمات نظرية خالصة عقيم؛ إذ إن هذا هو ما حدث في الصين، حيث قنع المثقفون ودعاة الإصلاح بالاستغراق في حواراتٍ ومساجلات نظرية وقِتال فكري خالص استنفد الجهد والطاقة، فكان جعجعة ولا طحين.
دخل الفكر العلمي التِّقني والنظري إلى اليابان تدريجيًّا، وأفسحت له العقائد اليابانية مكانًا دون قتال، حيث لا وجه للتطاحن؛ إذ لم يأتِ هذا الفكر بديلًا عن العقيدة ليحل محلها، وسبق التحوُّل فترة أرسى خلالها عدد من الإصلاحيين نزعة احترام العقل والواقع أساسًا للنظر والتفسير والعمل، وظهر نوع من النزعة التجريبية الوطنية، وتم غرسها ثقافيًّا في حرصٍ وعناية، وبمعزلٍ عن التداخل مع مجالات العقيدة.
- (١)
ظهور نزعة قومية قوية تمثَّلت في البحث عن الهوية القومية في استقلال عن الصين، ودون الذوَبان في ثقافات أخرى.
- (٢)
دعوة إلى إصلاح النظام الملكي.
- (٣)
دعوة إلى تطبيق الديمقراطية النيابية.
- (٤)
رغبة قوية في التعرف على ثقافة الغرب والإحاطة بأُسسها، باعتبارها ركائز النهضة.
وبلغت الحركة ذروتها؛ إذ أثمرت حركة الإصلاح المعروفة باسم عصر «الميجي».
تيارات مناهضة
ولكن استيعاب حضارة الغرب في الطريق إلى الإصلاح لم يمضِ سلسًا هادئًا دون صراعات، وإنما أخذت الحركة مجراها عبر تياراتٍ متناقضة ومناهضة، بيدَ أنَّ التناقض أو الصراع الذي أظلَّه مبدأ التسامح كان محكومًا في جميع الأحوال بمقتضيات عملية التفاعل بين أضلاع المثلث:
«التراث الثقافي لليابان + المشروع القومي للتحديث + الإنتاج الإبداعي.»
ظهرت تيارات سلفية محافظة ومتطرفة في تشبثها بالماضي، وظهرت تيارات تغريبية متطرِّفة في موقفها السلبي من التراث، وناهضتْ جميعُها تيارَ العقل والتنوير الذي نجح في التوفيق بين أضلاع المثلث من حيث تهيئة العقل الياباني للفكر العلمي والتعامل العقلاني مع الواقع، وحركة المعارضة السلفية، والحركة التغريبية لهما تاريخهما ابتداءً من القرن ١٨، بمعنى أن صدمة الغرب وأزمة الواقع المحلي أثارتا كل التيارات، وكان النجاح هنا للإصلاح، وأفاد دور التراث في تحديد نهج التعامل.
مثال ذلك أنه ظهر في مطلع حقبة طوكوجاوا في أوائل القرن ١٨ مفكِّرون مثل أوجيوس سواري (١٦٦٠–١٧٢٨م) الذي سمَّى مذهبه «المدرسة الفلسفية»؛ لأنه رفض التأويلات الحديثة — بالقياس إلى عصره — للعقيدة الصينية في اليابان، وطالب بالعودة إلى الأصول في فكر كلٍّ من كونفوشيوس ومنشيوس، واتَّهم معاصريه بعدم فهم تعاليم الحكماء من السلف، ورفض التأويلات التي تقول إن الإنسان فاضل بطبيعته، وقال: الأخلاق ضرورة لضبط النفس وتفرضها السلطة على الناس. وهكذا وقف إلى جانب المستبد العادل.
واشتدَّت حركة المعارضة عنفًا في أواخر القرن ١٩، وأعرب أنصارها عن احتجاجهم ضد «الغزو الفكري» أو ضد غزو أفكار جديدة، وجرت محاولات لإحياء عقيدة الشنتو خلال السنوات الأولى من عصر الميجي، واتسع نطاق حركات الإحياء الفكري أو العقيدة للسلف، وكانت بطبيعتها صورًا من المقاومة للنفوذ الثقافي الأجنبي.
وشهدت هذه الحقبة أيضًا محاولات لإحياء النشاط الطائفي بين البوذيين الذين استطاعوا أن يستعيدوا قوَّتهم بعد ضَعْف في صورة صحوة بوذية جديدة، وصدرت لهم صحيفة كان لها دور مهم في الحوار السياسي باسم البوذيين، وبرز البوذيون في اتجاه الإثارة والتحريض ضد كل ما هو أجنبي، وضد الأفكار الحديثة بوجهٍ عام، بل إن منهم من عارض استخدام مصابيح الغاز باعتبارها ثقافة غربية، وفضَّلوا الشموع أو الزيت النباتي في الإضاءة، أي استخدام السراج، وهاجموا فكر كوبرنيكس، وأطلقوا شعار «الأحمق من يأكل خبزًا مثل الأجنبي بدلًا من الأرز.»
وشكَّل المحافظون مؤسسة عام ١٨٨٨م، أصدرت مجلة رسالتها الحفاظ على جوهر الثقافة القومية اليابانية، وأكَّدوا أن المفكرين الكونفوشيين والبوذيين قادرون على سد الثغرات الفلسفية على نحو أعمق مما تفعل الفلسفات الغربية، وعلى اليابان أن تكتفي باستيعاب المعارف العلمية.
«إن ما يجري الآن في اليابان ثورة ثقافية ضخمة، وفي الثورة الثقافية ينبذ الناس كل شيء في ثقافتهم التقليدية القديمة، ويحاولون إبداله بثقافة ثورية جديدة مغايرة تمامًا.» ويستطرد قائلًا: «أصرَّ اليابانيون على أنهم لا يريدون أن يعرفوا شيئًا عن ماضيهم، وأعلنوا أن المثقَّف الحق يخجل من هذا الماضي. إنه يرى أن كل ما انطوى عليه الماضي بربري خالص، ليس لنا تاريخ، وتاريخنا سوف يبدأ الآن، وسعى اليابانيون إلى تغيير كل شيء في حياتهم، بما في ذلك لباسهم وطعامهم.»
وفي إطار هذا الصراع واطراد حركة التحديث والإصلاح خفَتت صيحة «إكردوا البرابرة»، وعلتْ صيحة: «أسقطوا تلك الحجَّة الحمقاء التي تصف الأجانب بأنهم كلاب وبرابرة.» بيد أن هذا لم يطمس مشاعر الحذَر من أن يتعارض هذا مع عادات وتقاليد اليابان، وعبَّر عن ذلك عديد من المثقفين، وتبلورت دعوتهم في قولهم: إذا كان الهدف «أمة غنية وجيشًا قويًّا» إذن كل شيء نُضحي به من أجل هذه الغاية، وكان يجب ألَّا تستسلم اليابان في سلبية للتأثير الأجنبي، وإنما يتعين أن تزن وتقدِّر وتقيِّم، أن تقبل وترفض، وذلك حسب متطلباتها هي العملية. والملاحظ أنه بعد عشر أو عشرين سنة من الاقتباس دون تمييز من الغرب؛ بدأ تقييم واختيار الأعمال الفكرية المنقولة عن الغرب، وبدأ الروائيون المتأثرون بالغرب يكتبون أعمالًا أصيلة، وهكذا شجَّع الانفتاح الأصالة في ضوء النظرة النقدية والإبداع.
وسارت عملية التحديث وفقًا للخطوات التالية، مع الاستفادة في ذلك بالغرب:
-
(١)
تشكلت حكومة من وزارات على النمَط الأوروبي.
-
(٢)
نظام تعليم طموح للتعليم العالي.
-
(٣)
نظام قضائي كان في البداية على النمط الفرنسي، ولكن بعد المواءمة مع الأوضاع الاجتماعية اليابانية.
-
(٤)
نظام مالي ونقدي وضرائبي.
-
(٥)
تحديث الاقتصاد، وإقامة نظام مصرفي حديث وإصلاح النظام النقدي.
-
(٦)
التوسع في البنية الأساسية اللازمة للتطوير الاقتصادي (بناء خطوط السكك الحديدية والمواصلات).
-
(٧)
إقامة صناعة الأسلحة والصناعات الاستراتيجية.
إصلاح التعليم
لعل الإصلاح التعليمي كان أهم عوامل الإصلاح في عصر ميجي، نظرًا لدور التعليم في تغيير بنية المجتمع جذريًّا، وذهنية الإنسان، وتهيئة إمكانات المجتمع، لمواجهة التحديات وفق مشروع قومي.
وكان هذا الطراز التعليمي عائقًا في سبيل التقدم، وهي حقيقة تكشَّفت قبل عصر الإصلاح «الميجي»، وبدأت الخطوات الممهدة للإصلاح في عصر طوكوجاوا.
ويكشف تاريخ التعليم في السنوات الأولى من عصر الميجي عن صراع بين التقاليد اليابانية وبين متطلبات التعليم الحديث على الطراز الغربي، لم يكن لدى اليابانيين أي خبرة بشأن تنظيم التعليم الأولي أو الثانوي على المستوى القومي، ولم تكن لهم دراية بالموضوعات التي تحظَى بالأهمية في مناهج ومقررات الدراسة الأجنبية. ومن ثَم لم يكونوا مهيَّئين لوضع نظام تعليمي، واضطُروا إلى محاكاة المثال الغربي في المرحلة الأولى وبدون نظرة نقدية، كما اعتَمدوا على مستشارين ومعلمين أجانب، وتردَّدوا في نفس الوقت عن التراجع عن مبادئ ترسبت في وجدانهم؛ ولهذا بدا التعليم مشوشًا أول الأمر، يجمع بين العرف وبين الضرورة، أو بين التقليد وبين متطلبات الحداثة على ما بينهما من تناقض، دون ملاءمة ناجحة.
لهذا احتلَّ التعليم مكان الصَّدارة في سياسة الحكومة الإصلاحية، وتعثرت الخطوات في البداية؛ نظرًا لأن السياسة التعليمية وقعت بين أيدي رجال عقيدة الشنتو وغيرهم من دعاة العودة إلى القديم، وقرر المسئولون بحكم توجههم هذا أن يكون محورُ التعليم اللغةَ القومية والتاريخ والدين. أمَّا الدراسات الصينية والغربية؛ فهما أشبه بجناحَين أو فرعَين للجسم الأساسي، أي لهما دور ثانوي.
وأخفقت هذه السياسة؛ لأنها لم تضع في الاعتبار مطلب الدراسات المتقدمة في علوم الغرب وفي القانون واللغات التي يعتمد عليها تقدم اليابان، فضلًا عن أنها استفزت الكونفوشيين.
«هدف التعليم الوحيد أن يُبين أن الإنسان خلقته السماء لتحصيل المعارف اللازمة لإشباع حاجاته من أجل الطعام والمأوى والملبس؛ ولكي يعيش في اتساق مع رفاقه. نعم، أن يكون المرء قادرًا على قراءة الكلاسيكيات هذا شيء جيد، ولكنَّه لا يستحق الثناء الذي نُضفيه على أئمة الفكر الصينيين واليابانيين من رجال السلف.
كم من الباحثين والمفكرين الصينيين يجيدون إدارة شئونهم الخاصة؟ كم من المجتهدين في الدراسة أبدعوا شعرًا متميزًا؟ ومن ثَم لا عجب أن نرى الأب ينزعج إذا أبدى ابنه رغبة في الدراسة. إن المطلوب حقًّا تعلم وثيق الصلة بحاجات الإنسان التي تفرضها الحياة اليومية.
إن من يستظهر حوليات السلف، ولا يعرف ثمن الطعام، أو ذلك الذي تعمق في الكلاسيكيات والتاريخ، ويعجز عن إنجاز صفقة بسيطة؛ هؤلاء ليسوا سوى معاجم تستهلك الأرز، ولا فائدة منهم لبلدهم، بل هم عقبة في طريق الاقتصاد. إدارة شئون البيت تَعَلُّم، وفهم اتجاه العصر تَعَلُّم، فلماذا تُسمى قراءة الكتب القديمة تَعَلُّمًا؟»
وهكذا أصبح التعليم في عصر التحديث مشروعًا قوميًّا لإعداد الشباب للحياة، شاملًا جميع المواطنين دون تمييزٍ مستجيبًا لاحتياجات النهضة من أجل تحوُّلات فكرية واجتماعية واقتصادية، وتحددت معالم السياسة بعد تلك الأزمة الجانحة التي هددت أسس المجتمع، وغلب الطابع العملي حيث تركز التعليم على كل ما يتعلق بالعالم الخارجي بما لديه من تكنولوجيا والعمل على ملاءمة ما يتعلَّمه الطلاب مع ما تمتلكه البلاد من إمكانات، وقدمت برامج التعليم تعليمًا عالميًّا، شاملًا رؤية عن حضارة اليابان وتاريخها الطويل، ورؤية عالمية عن حضارات العالم الكبرى، ومعارف غنية عن الغرب وتاريخه وثقافته علاوةً على تاريخ وحضارة الصين؛ أي لم يكنْ تعليمًا منغلقًا، ولم يغفل أخلاقيات التراث الياباني الحافز للتقدم وتماسك المجتمع.
وحقَّقت اليابان في مجال التعليم إنجازات مهمة سبقت غيرها من الدول الغربية؛ إذ كانت نسبة المتعلِّمين في عهد طوكوجاوا، أي قبل عصر الإصلاح، ٤٣٪ بين الذكور، وهي نسبة كبيرة بالقياس إلى عصرها. وابتداءً من عام ١٨٧٢م بدأ تطبيق نظام التعليم الإلزامي الأولي، بينما بدأ هذا النظام في إنجلترا عام ١٨٧٠م، وفي فرنسا عام ١٨٨١م، وفي الولايات المتحدة عام ١٩١٨م، وفي ألمانيا ١٩١٩م. وأُنشئت جامعة طوكيو ١٨٧٧م، ثم جامعة كيوتو سنة ١٨٩٧م، وجامعة توهوكو سنة ١٩٠٧م، وجامعة كيوشو سنة ١٩١٠م، وجامعة هوكايدو سنة ١٩١٨م، وغيرها، هذا عدا المعاهد العليا. وفي عام ١٩١٠م بلغت نسبة من أتموا تعليمهم الابتدائي ١٠٠٪.
ويقترن بهذا النهَم المعرفي لتحصيل الثقافات العامة لدى المثقفين والقراء من اليابانيين؛ إذ تفيد إحصائية تاريخها عام ١٧٨٠م إلى ظهور ٣٠٠٠ مطبوع سنويًّا بأعداد تصل إلى مائة ألف نسخة للكتاب الواحد في بعض الأحيان.
وحقق التعليم المساواة؛ لأنه فتح مجال العمل والترقي بين الجميع، واختيار القيادات الوطنية. وعزز الاتجاه إلى تحصيل المعارف والإيمان بتطور الفرد وارتقائه بفضل العلم والتعليم لا الحسب والنسب، وأصبح التعليم هو أداة اكتساب المهارات، ومعيار الحكمة والخبرة وركيزة إنتاج الموهوبين.
وأسهم القطاع الخاص بدور بارز في سبيل نشر التعليم وفاءً للمشروع القومي، وتأكيدًا للاستقلال والذاتية القومية، وساعد الحكومة فيما عجزت عنه الميزانية الرسمية؛ إذ أنشأ القطاع الخاص عديدًا من المدارس الثانوية في مختلف التخصصات. كما اعتادت الشركات اليابانية، ولا تزال، أن تخصص جزءًا من ميزانياتها لإرسال بعوثٍ خارجية لمزيد من الدراسة، أو إلى معاهد عليا يابانية للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه.
الديمقراطية والإصلاح الدستوري
المجتمع الحديث في عصر الحضارة الصناعية هو المجتمع الديمقراطي، حيث تتوافر شروط حريات وحقوق الإنسان الفرد، وشروط المشاركة في صُنع القرار وإدارة شئون الدولة، من خلال مؤسسات يجري انتخابها انتخابًا حرًّا مع فصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ودخول مرحلة الحداثة يستلزم شكلًا من أشكال تحقُّق هذه الشروط، وطبيعي أن يؤدي هذا إلى صراعات وتناقضات بين التراث أو التقليد وبين مقتضيات الحداثة، وتجري محاولات التوفيق والتأويل والتوليف. ولم تكن اليابان استثناءً من ذلك، غير أنها عقدت عزمها، وأتاح لها تراثها سرعةَ المواءمة.
بدت بعض هذه الشروط غريبة، بل ومنافية تمامًا للتقليد الياباني، وأكثر من هذا أن بعض المصطلحات الجديدة الدالة على نظم العمل لم يكن لها مقابل على الإطلاق في اللغة، ومن ثم الفكر الياباني، أي لا يعرفها التراث حسب المعنى المحدد لها في المجتمع الحديث. من ذلك مثلًا عبارة «حقوق الشعب» أو «جمعية عامة» لممثلي الشعب أو مشاركة نواب الشعب في صنع القرار ناهيك عن التشريع، أو حقوق تكوين الروابط أو الأحزاب السياسية وحق تداوُل السلطة بينها. وهذه جميعها مصطلحات لغة مجتمع الحداثة في عصر الصناعة ولها مدلولاتها العملية المحدَّدة غير المسبوقة.
كذلك مفهوم «الحقوق» في القانون المدني بدا غريبًا وشاذًّا، وأنه نوع من التغريب أو الانقياد لحضارة الغرب؛ ذلك لأن فكرة الحقوق غريبة عن التشريع الياباني الذي أخذته عن الصين في القرن السابع، والذي ارتكزت عليه تشريعات اليابان بعد ذلك؛ إذ السائد هو مفهوم الواجب فقط، وهو المفهوم الذي تُسنُّ من أجله القوانين، بمعنى أن التشريع هدفه أن يُحدد للمواطن واجباته لا حقوقه التي لا ذِكْر لها ولا كلمة مقابلة لها في اللغة.
وأيضًا لم يكن مألوفًا على الإطلاق مفهوم حقوق الفرد من الرعية. إذ إن هذا المفهوم منافٍ للتراث، فنحن لا نجد في الكتابات القانونية اليابانية الخالصة مصطلحًا قريبًا من كلمة «الحقوق» يُعبِّر عن شيء خاص بالشخص، وله أن يدعي به لنفسه وعلى الآخرين، بل إن الكلام العادي لا يتضمَّن في المفردات أو القاموس كلمة بهذا المعنى؛ لذلك كان لزامًا سك وابتداع مصطلح جديد للدلالة على مفهوم الحقوق؛ لذا بدا غريبًا أن يتضمن القانون المدني الجديد بابًا تحت عنوان «الحقوق»، والأشد غرابة في نظر التقليديين في هذا الباب أن ينص الدستور على حق إعلام الناس بأي قانون يصدر؛ إذ كانت القوانين التي يصدرها الإمبراطور قديمًا يجري إخطار العاملين الرسميين بها فقط، أي المنوط بهم تنفيذها دون سواهم. وهذا هو الحال في الصين، حيث يظل الناس جاهلِين بالقوانين التي صدرت، ويُعاملون على أساسها؛ ولهذا اشترط الدستور الجديد أن تتضمن ديباجة أي قانون عبارة نصها «لعلم الناس أو لعلم الشعب». وهي عبارة بدت غريبة لا نظير لها في التراث، وخاضت الحكومة اليابانية في بداية الإصلاح صراعًا حادًّا ضد قوى المعارضة وحركة حقوق الشعب، وأعلنت، استنادًا إلى التراث، أن دعاة الحرية ليسوا يابانيين أصلًا، بل عملاء.
ويتحدث التراث عن دور الحاكم وصفاته كحاكم حكيم، عاقل نزيه، عليم مسئول عن رعيته، يهديها سواء السبيل. إنه يحكم وله الطاعة على الشعب، ولكن التراث لا يذكر شيئًا عن الحقوق الطبيعية، أو حكم الشعب، أو إدانة الحاكم إذا أخطأ أو محاسبته. وأعلن السلفيون أن الدعوة إلى تطبيق النظام الدستوري الغربي دعوة خاطئة منافية للتراث؛ لأنها تعني أن الشعب يعرف أفضل من الحاكم الفيلسوف.
وفي إطار الصراع بين توجهات الحكومة إزاء الإصلاح الدستوري وبين توجهات المعارضة، نجد قوى المعارضة الداعية إلى التحديث تضغط بشدة على الحكومة اليابانية في عصر «الميجي»؛ لاتخاذ الأشكال والصيغ السياسية المماثلة للأشكال المطبقة في إنجلترا وأمريكا عند وضع الدستور وتشكيل البرلمان. وتألفت في عام ١٨٧٧م حركة تطالب الإمبراطور بتشكيل مجلس نيابي، ورفضها الإمبراطور أول الأمر. واعتقلت السلطات بعض أعضائها، واحتدم الصراع من أجل حقوق الشعب، واعتمد دعاة الحركة على أفكار ودراسات غربية لمفكرين من أمثال روسو وبنتام وجون ستوارت مل وسبنسر، وبدأت حملة اعتقالات ضد رجال الصحافة، وأصدرت الحكومة قانونًا يحظر التجمهر، وظهرت بوادر للعنف الشعبي والاغتيالات، واضطرت الحكومة إلى تقديم تنازلات تدريجية وغيَّرت من اتجاهها.
ولم تحاول الحكومة الاستعانة بالنظريات، بل تعاملت مع مشكلاتها على أساسٍ تجريبي من خلال دراسة التطبيق العملي لنظم الحكم المطبقة في البلدان الغربية الكبرى للتأكد من أنها أكثر ملاءمة لليابان.
وعندما سافر الأمير إتو Ito إلى أوروبا لدراسة النظم البرلمانية لم يكن يبحث عن شكل حكومة تماثُل النظم البرلمانية الليبرالية التي تُطالب بها المعارضة، بل كان هذا هو ما يرفضه ويقاومه إتو. إنما استهوته المبادئ الملكية القومية المعادية للبرلمانات، وهي مبادئ بسمارك. ورأى تشابهًا بين ألمانيا واليابان كلاهما بحاجة إلى دعم الوحدة القومية، وكلاهما متخلفان عن الدولة الرائدة في الغرب. وهكذا جاء الدستور الجديد ١٨٨٩م متضمنًا الكثير من أصول ألمانية ونمساوية، وقليلًا من الفلسفات السياسية الفرنسية والإنجليزية. وعقد إتو حوارات مع بسمارك لاستطلاع آرائه وخبراته، وصدر الدستور عام ١٨٩٨م، وتضمن مواد تكفل للشعب حقوقًا واسعة غير مسبوقة، وإن اقترنت بعبارة «في حدود القانون» على نحوٍ يُقلل الضمانات، ونصَّ الدستور على نظام قضائي له درجة كبيرة من الاستقلالية كانت موضع إعجاب شديد، وأدار هذا النظام القضائي العدالة بالفعل من خلال التزام دقيق بالقانون. ولعل أكثر جوانب الدستور الياباني إبداعًا هو النص على تشكيل جمعية وطنية تُنتخب انتخابًا جزئيًّا، وتتألف من مجلسين؛ مجلس شيوخ على غرار مجلس اللوردات البريطاني، ومجلس نواب وينتخبه دافعو الضرائب الذكور. وفي عام ١٩٢٥م أصبح الانتخاب من حق كل الشباب الذكور الراشدين.
(٧) الصين والتراث وصدمة الغرب
المواجهة بين العالم الأوروبي والأمريكي وبين الصين أثارت ردود أفعال شديدة العنف بين المفكرين الصينيين في نهاية القرن ١٩ ومطلع العشرين، واصطلحت جهود كثيرين من زعماء الإصلاح وكبار الفلاسفة والمفكرين ورجال العقيدة الكونفوشية من أجل التصدي لهذه الغزوات الشرسة، أدركوا الخطر الذي يتهددهم، وتبددت أوهام عاشوا عليها قرونًا: الصين خير الأمم، حضارتها أعظم الحضارات، وهي منهل الحِكمة والخير، وأن الحكمة الصينية تُغني عن علوم الدنيا.
تكشف لهم مدى الزيف الذي عاشوه؛ ذلك أن الكونفوشية من حيث هي نسق من آراء سياسية وتشريعية وأخلاقية وجمالية، ومن حيث هي رؤية للإنسان الصيني عن الحياة والكون، وقفت عاجزة في نطاقها الخاص عن حسم المشكلات النابعة عن هذه المواجهة المصيرية.
ودارت معارك فكرية حامية بين دعاة التحديث كضرورة، وبين دعاة الالتزام بالعقيدة الكونفوشية القائلين بأن علة المجتمع أنه تخلَّى عن حكمة السلف، وإذا ما التزم بها يكون مثلما كانوا في الماضي؛ قوة ومنعة وحضارة مزدهرة. وامتدَّ الحوار والمساجلات، وظلَّت قضايا تحديث الحياة بعامة، وعلاقة الصين بالأحداث العالمية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة معلقة غير محسومة، وعجز أصحاب التوجه السلفي عن أن يخرجوا عن جمودهم وتقديم تأويل جديد يدفع بدم الحياة حارًّا في التراث لعقد مصالحة بين مقتضيات التحديث وإيجابيات التراث ابتغاءَ تغيير المجتمع، بدت الكونفوشية محافظة تسعى إلى الإبقاء على الوضع القائم، وإزاء هذا العجز أضحت القضية الفلسفية المصيرية المثارة في نهاية القرن بين أوساط المثقفين:
ماذا عسانا أن نفعل بالكونفوشية؟ وما الموقف من كونفوشيوس؟ كونفوشيوس الأسطورة أم كونفوشيوس الواقع والحقيقة، أيهما نفضِّل؟
ووصولًا إلى هذا الهدف، أكَّد كانج يو وي أن كونفوشيوس دعا إلى الأخوة بين الناس، وإلى العدالة الاجتماعية والمساواة، وأنْ لا فضل لأحدٍ على غيره إلَّا بفضيلة العلم، واستند ووي على هذا الفهم لأصول الكونفوشية للتوفيق بينها وبين متطلبات العصر وتبرير التغيير، ووضع صورة طوباوية عن مجتمع جديد تقرة الكونفوشية الأصلية، ولكنَّها كانت كونفوشية اللحم والدم والتراث، بمعنى أنها تقتدي بمثال الماضي، حيث الماضي هو المثل الأعلى.
والملاحظ هنا أن ووي، وأقرانه من دعاة الإصلاح والاجتهاد، ظلَّوا محصورين داخل إطار مرجعي تقليدي، على الرغم من القدرة التبريرية أو التأويلية استنادًا إلى حكمة السلف، وقنعوا بتحديد مبادئ عامة في إطار التقليد دون محاولة الخروج عن هذا الإطار، بمعنى أنهم استندوا إلى التراث لإضفاء مشروعية على مبدأ ما، مثل العدالة، وتوقفوا عند هذا الحد من العموميات، دون أن يتجاوزوا هذا إلى فهم مقتضيات العصر أو حداثة عصرهم شكلًا ومضمونًا؛ ذلك أن شعار العدالة وحده لا يكفي، وإنما يبقى سؤال: كيف تطبق العدالة؟ عناصرها، مَداها، ضماناتها، دورها الاجتماعي، مؤسساتها، حقوق الإنسان ومعناها، وأنها ليست فضيلة بل شرط وجود لحركة المجتمع، إنها حق وواجب ومسئولية، وما هي ضماناتها؟ ما هي المؤسسات الديمقراطية للدولة، وسلطاتها وعلاقتها ببعضها؟ الشورى وحدود مسئوليتها ولمن؟ وإنما تركوا الأمر رهنًا بالضمير الفردي مثلما كان حال السلف، وأغفلوا قواعد العصر في أسلوب تحقيق العدالة والنظم الاجتماعية من دستور وقوانين منظمة لذلك ورقابة الجماهير؛ أي أغفلوا منجزات ومعايير العصر، وتركوا الأمر مثلما كان قديمًا للذات وتقديراتها وللصفوة.
غرقت الصين في حوارات نظرية شكلية عن الأصالة والمعاصرة، أو الحفاظ على الهوية الصينية، والتي تعني الكونفوشية وتعبيراتها كما تجلَّت في المخيال الاجتماعي الموروث دون تأويل أو نقد أو انتقاء مع الإفادة بمكاسب وإنجازات العلوم والتكنولوجيا الأوروبية الأمريكية من أجل التطبيق العملي، أي إنهم حاولوا الجمع بين التراث كما ورثوه تقليديًّا وبين تطبيقات العلم، بحيث يبقى كلٌّ في خانة مستقلة. ولهذا ظلَّ الحوار نظريًّا صرفًا واستعراضًا للفكر بين المثقفين في حدود النظرية، بدا وكأنه طراز من الممارسة الصينية التقليدية للاستغراق في التأمل بعيدًا عن مجرى الحياة والعمل التطبيقي والتنظيم الاجتماعي، وهو ما يتسق مع طبيعة الصين وتراثه في الانسحاب إلى داخل الذات والتأمل الخالص دون خطوة إلى الخارج. هذا على عكس الياباني إنسان عملي يتقبَّل الوقائع محتكمًا إلى حاجاته ومصلحته؛ ولهذا بدا على السطح في الصين أن كلًّا من التراث والحداثة على طرفي نقيض، وليس غريبًا أن يفضي هذا التناقض إلى ظهور من طالبوا بالبحث عن هوية أخرى أكثر فاعلية وأجدى فلسفيًّا، وأقدر على التلاؤم مع جهود التحديث. ونشط تيار التغريب بسبب القصور في تطويع التراث وتأويله، ونقص مشروع قومي لتغيير المجتمع. والملاحظ أن هذا التيار ظلَّ محصورًا في إطار المثقفين وحوارهم النظري الخالص، وليس له امتداد بين العامة في صورة تأويل جديد للتراث ملتحمًا في نسيج مشروع قومي ورؤية مستقبلية تغير من البنية الذهنية للإنسان الصيني، في ضوء مصلحته، ومن خلال الممارسة التطبيقية والإبداعية. ولم يقترن هذا بتغيير شامل لبنية المجتمع والعلاقات بين أبنائه ومؤسساته، فالنظام التعليمي على سبيل المثال لم يطرأ عليه تغيير جذري وفقًا لمعايير الحداثة التي أوردناها، ففي الوقت الذي بلغت نسبة من أتمُّوا التعليم الإلزامي في اليابان سنة ١٩١٠م مائة بالمائة، لا تزال الصين حتى اليوم تُعاني من نسبة أمية عالية.
وبينما انفتحت اليابان على علوم الغرب، وأجادت لغاته لتكون أداتها في تحصيل معارف الغرب، نجد الصين فرضت عزلة على نفسها ولم تنشئ المؤسسات التي تشبه مركز الدراسات الهولندية، والتي أسهمت في تخريج عديد من الباحثين ودارسي اللغات.
وكذلك الحال في إصلاح القضاء والقوانين، أي الإصلاح الدستور وضمانات الحريات. وهكذا لم يتجاوز مشروع الإصلاح حدود الصراع النظري، ثم بعد ثورة ١٩٤٩م، ظلَّ في الإطار الاقتصادي فحسب، وظلَّ الحاكم على شاكلة الإمبراطور ابن السماء.
ثم أخيرًا لم تشهد الصين حقبة تنوير تمهد للإصلاح مثلما حدث في اليابان، التي عاشت وعانت وعاينت على مدى قرن أو أكثر حقبة «العقل والواقع»، التي غرست قيمة العقل ومجَّدت دوره، وكان عامل الترجيح مقترنًا بالاهتمام بالواقع العملي. ومثل هذه الحقبة كانت كفيلة بأن تخرج الصين من طريقها المسدود، وتُسهم بدور فعال في تغيير ذهنية الإنسان الصيني.
ماذا نريد أن نقول؟
القضية ليست أصالة أم معاصرة، ولا تراثًا أم حداثة؛ إذ لا تطاحن بين الاثنين إلَّا داخل عقل يرفض الحداثة ويؤثر الالتزام بالتقليد لمصلحة في نفسه، أو عاطل من رؤية مستقبلية، وإن ما نراه تناقضًا ظاهريًّا هو حافز للحركة المحكومة بالوعي الإنساني. ومن ثم فإن التراث والحداثة وجهان لحركة التغيير الاجتماعي، والمعاصرة أصالة في ذات الوقت. وإنما القضية هي: نتطور أم نجمد؟ حداثة ومعايشة للعصر، أم التزام بالصورة التقليدية لتأويلٍ قديم التراث؟ وإذا قلنا تطورًا، يكون السؤال: وكيف يمتد التطور والتغيير إلى نطاق التراث لتكون الحركة هادفة متكاملة ومثمرة، وتعبيرًا عن اتصال تاريخي وثقافي ونفسي؛ إذ حيث لا هدف يسقط مبرر الحركة والتغيير. وتصدق مقولة ابن خلدون: «حيث لا يتقدم العلم ولا تتقدم المعرفة فإنهما يتراجعان حكمًا.»
والحركة الاجتماعية تجري دائمًا في ضوء خلفية من التأويل الإبداعي للتراث. ومن ثم التأويل وظيفة اجتماعية لازمة لتصحيح مسار المجتمع وملاءمته في إطار التغيير الهادف، والتأويل يعني ديناميةً ومرونةً تحولُ دون الشيخوخة وتصلب الشرايين وتؤهل لاستمرار نبض الحياة والنمو، هذا أو الاندثار الحضاري. والحضارات يطرد نموها من خلال معترك الحياة والاحتكام العملي، والإنتاج والخلق، والتلاقح الثقافي أخذًا وعطاءً. وهذا التلاقح أو التفاعل الثقافي الذي يجري في مناخٍ من الحرية هو أحد الشروط اللازمة للتجديد والاستزادة مع عملية هضم وتمثل مستمرة.
تجربة اليابان تؤكد أن اكتشاف الخصوصية القومية إنما يكون من خلال العمل، الفاعلية الاجتماعية أو الإنتاج التزامًا بمشروع قومي يُعبئ طاقات الجميع لصالح الجميع. لم يُغرق اليابانيون أنفسهم في ثرثرة ثقافية حول ما هو تراثنا، وما عناصر خصوصيتنا، بل عملوا وأنتجوا وأبدعوا، وبذلك تكشف، ولا أقول اكتشفوا، جوهر تراثهم وتجلَّت خصوصيتهم القومية من خلال ذلك؛ أعني من خلال النجاح.
والتراث السياسي حمَّال أوجه، وهو غير مقطوع الصلة بالتوجهات السياسية المعبرة عن مصالح لتيارات اجتماعية. ومن يملك السلطة أو السيف أقدر على أن يفرض رؤيته؛ وهو ما يُسقط عن التأويلات زَعْم البراءة. واستطاعت القوى السياسية المهيمنة على مدى التاريخ أن تفرض تأويلها، وأن تصوغ وتغرس صورة التراث كما تراها في أذهان العامة، ومن ثم تصوغ ذهنية الناس وسلوكهم، وساعدت على شيوع ما يُسمى «حقائق» تاريخية وكأنها الواقع وحقيقة التراث، وليس التصور الذي يحمي رؤيتها هي. ومن ثم يصبح دور الوعي النقدي لازمًا لإعادة التأويل، الوعي بآلية التطور التراثي في احتكاك بالواقع المتغير، والوعي بإيجابيات التراث في إطار مقتضيات حركة اجتماعية هادفة. مثال ذلك أن الكونفوشية في الصين؛ شاع تاريخيًّا تأويل لها صاغ المخيال الاجتماعي وكأنه التراث الأصيل، ويدعم هذا المخيال مصالح الأباطرة، الولاء والطاعة والتماس الخلاص في سكينة النفس. وساعد هذا التأويل على التلاحم بين الكونفوشية والبوذية والطاوية، وأصبح النهج التراثي نهجًا فرديًّا يلتمس المرء من خلاله سكينة النفس وسلام العقل، ثم الابتعاد عن معترك الحياة الاجتماعية ومشكلاتها، فهذه جميعها أمور تخص الإمبراطور، ويعني أيضًا الخلاص من بطش الحكام. هذا بينما أغفل التأويل الشائع نصوصًا أخرى للكونفوشية، ونصوصًا لبعض أئمة الفكر والفلسفة الكونفوشية ممن أرادوا تغيير المجتمع، ولكن ضاع صوتهم أو أسكتته السلطات، أعني أغفل التأويل إيجابيات التراث التي تدعم العلم والانفتاح والعمل … إلخ.
مثال ذلك ما قاله كونفوشيوس: «اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تكون معلمًا.» أو «لا يسوءُني أن الناس لا تعرفني، ولكن يسوءُني أنني لا أعرفهم.» أو حين سُئل: «ما الذي يجعل الإنسان متفوقًا؟» أجاب: «أن يثقف ذاته.» وماذا أكثر؟ أجاب: «أن يثقف ذاته لمساعدة الآخرين.» ثم ماذا؟ قال: «أن يُثقف ذاته بهدف مساعدة الناس أجمعين.»
أو قوله حين سُئل عن أُسس الحكم، فقال: «طعام وافٍ، وسلاح كافٍ، وثقة الشعب؛ فإن لم يكن الثلاثة فلنتخلَّ عن السلاح، فإن لم يكن فالطعام؛ إذ بدون ثقة الشعب يغدو كل شيء هباء.»
إن التراث الثقافي لأي مجتمع رصيد أو إرث شديد التنوع والتباين، ويبقى السؤال: ماذا نختار؟ ثم الأهم: لماذا نختار؟ أعني الهدف المعبر عن المستقبل في تلاحم مع الحركة الاجتماعية للتغيير.
ولكي يكون التأويل موضوعيًّا، بمعنى «مرتبطًا بهدف بمستقبلي»، يتعين أن يجري في ظل مناخ من حرية الفكر، والتسامح الأصيل، والإيمان بالتعددية الثقافية محليًّا، وتمجيد دور الواقع، ولا يتحقق هذا، كما تشهد تجربتا اليابان والصين، ناهيك عن أوروبا النهضة، إلا بفضل حركة تنويرية؛ إذ وضح من تجربة اليابان أن حقبة الفعل والواقع كان لها دور حاسم وأساسي في ترجيح مسار التغيير الاجتماعي في اتجاه النهضة، وهو ما أخفقت فيه الصين، ونفتقر له نحن في العالم العربي، ويُفسر سبب ما نُعانيه من إخفاق. وبات هذا الشرط ضروريًّا الآن في عصر العلم والتكنولوجيا الذي يرتكز على الفرد الخلَّاق والوعي الحر، وأن يجري هذا كله ضمن عملية إصلاح متكاملة لأضلاع مثلث الأزمة، ضمانًا لاطراد حركة النهضة.
وأضلاع مثلث الأزمة كما قلنا:
-
(١)
غياب رؤية مستقبلية تكون وعاءً لطاقات الأمة، وهدفًا لها، وحصادًا لفهم تحليلي نقدي للواقع وإمكاناته وما ينطوي عليه من إيجابيات وسلبيات، وفق مقتضيات العصر. ومن ذلك الإنسان وعلاقاته وإطاره الفكري المرجعي ودوره، وغرسُ قيم تمجيد العقل والواقع، وإعادة بناء ذهنية الإنسان في ضوء ما سبق، من خلال مؤسسات الأمة الإعلامية والتعليمية والسياسية، وكل مظان التنشئة الاجتماعية؛ ليكون ذاتًا واعية خلَّاقة فاعلة، وصولًا إلى تلك الرؤية التي هي إسهام حضاري جديد.
-
(٢)
تعطل الإنتاج الإبداعي الذي يرتكز على استيعاب عملي ونظري لإمكانات وإنجازات العلم والتكنولوجيا.
-
(٣)
القطيعة مع الماضي، أو فقدان الصلة الإبداعية بإيجابيات الماضي في عصور ازدهاره الحضاري، وفهم هذا الماضي على ضوء دراسة تحليلية نقدية تهتدي بأحدث ما يسَّرَه البحث العلمي من مناهج ونظريات.
ليست الحداثة بناء مصانع أو تشييد عمائر، ولا استيراد أجهزة معقدة نستهلكها، ولا شكليات توصف أحيانًا بأنها ديمقراطية، وإنما هي الإنسان المبدع الفعَّال، في مناخ يدعم هذا النمو الخلَّاق، وله شروطه المتكاملة. والذي يعنينا في بلدان العالم الثالث أن أسباب التأخر أو التخلف إنما ترجع بشكل أعمق إلى ظروف التنشئة التي تصوِّر الإنسان وتصوغ إطاره الفكري وتُحدد توجهاته، أي إلى جوهر الحياة الاجتماعية وأشكالها وتراثها الثقافي بصيغته التقليدية وما اعتراه من تدهور، وآلية المجتمع التي تمكنه من تصحيح ذاته. وبات واضحًا أن العقَبات الناجمة عن ذلك أشد خطرًا من الأمية.
إن تراثًا ثقافيًّا أو نظامًا سياسيًّا يُعطل القدرات الإبداعية للإنسان، ينطوي على عوامل الدمار أو الهلاك الحضاري للمجتمع، ويغرس شعورًا بالدونية، بل والعدمية، وتفاهة الحياة لدى العامة والخاصة على السواء، الأمر الذي يتنافى تمامًا مع مقتضيات التحوُّل الجذري إلى نهضة حضارية جديدة، خاصة الحضارة العلمية، حضارة العصر الحديث. إن مثل هذا التراث الثقافي، على الرغم من وصفه بالتفرد والتميز، على نحو ما فعَلَت الصين، وعلى نحو ما نفعل نحن، فإنه بحالته هذه وليد عصور الانحطاط والركود والقهر، ومن ثم يُشكل أرضية للتبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية، وإن زعم أصحابه في ظاهر القول غير ذلك.
وهذا هو ما عانت منه شعوب العالم الثالث على مدى القرون، وهذا هو ما يتهددها في ظل ما تُعانيه من تضاؤُل وقزمية. وعلى العكس من ذلك؛ المجتمع الذي تتهيأ فيه لكل فرد إمكاناتُ تطوير قواه الخاصة، وفرص الاختيار الحر لأهداف حياته، وأن يُجدد نفسه بنفسه بشكلٍ واعٍ دون أن يصطدم بحواجز اجتماعية، تئِدُ كل تطلعاته وتسحق إمكاناته الذاتية؛ فالحياة الخالية من الأهداف ومن فرص ازدهار الطاقات الذاتية، تتسم بعدم النفع والتفاهة والفراغ، وإنَّ تعطُّلَ القدرات الإبداعية للإنسان هو بذرة الدمار الحضاري.
وازدهار الطاقات الإبداعية يُفضي إلى ثراء وتنوع ثقافي أو خصوبة، وثمة علاقة وثيقة بين التنوع الثقافي وبين التقدم الاجتماعي؛ ذلك لأن التقدم الفكري والعمل رهن بحرية الفكر والبحث، وأيضًا رهن بحرية الأفراد في اختيار أساليب الحياة والنشاط.
- (أ)
جمود وتحجُّر وغربة في الزمان، وسطوة مخيال جماعي قائم على الأسطورة.
- (ب)
النموذج الغربي والياباني الذي يفرض ذاته.
- (١)
حضارة حقَّقت نقلة كيفية في سبيل سيطرة الإنسان على نفسه وعلى البيئة، في إطار إنجازات علمية وتقنية، وهي حضارة ينبغي استيعاب أدواتها ومناهجها، إنها تراث إنساني.
- (٢)
ثقافة قومية تنزع إلى الهيمنة العالمية الطابع، وأن لا حياة للعاطلين والضعفاء في ظلها، ولا عاصم لهم حتى وإن احتموا بالتراث.
ويتعيَّن الفصل بين قيم حضارة جديدة وبين متطلبات قومية أنانية تجاوزت الحدود الآن مع التقدم العلمي والشركات المتعدية القوميات، وليست العزلة هي السبيل، بل الإنتاج الإبداعي.
ولهذا أصبحت معادلة الحداثة الجديدة:
قديمًا كانت تُحكى خرافة عربية أن صراعًا دار بين ملائكة الجان، وانتصر أحدهم وقهر الجميع، واجتمعت عصبة منهم تبحث سر النصر المبين، واكتشفوا أنه صارعهم؛ رأسه في السماء متوسلًا بالعقل، وقدماه على أرض الواقع، وهكذا من يركن إلى العقل والواقع ينتصر دائمًا، والسؤال: أين نحن من هذا كله؟!