الفصل الخامس

الشباب

بين الموروث والواقع المتغير

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يولد غير مكتمل النمو كإنسان اجتماعي، وإنما يكون بحاجة إلى حاضنة هي امتداد لرحم الأم حيث يكمُل أو يبدأ من خلالها، عملية النمو مع الآخر وبه؛ أي النمو الاجتماعي. وهذه الحاضنة الجديدة هي البيئة الطبيعية الاجتماعية الثقافية التي تورثه أداة التعامل مع النفس والمجتمع والطبيعة وما يراه وراء الطبيعة، ظنًّا بأنها الأداة الأمثل لكي تحقق له الاستقرار نفسًا ومجتمعًا.

وهذه الأداة أو العُدَّة ليست فكرًا خالصًا، ولا شيئًا ماديًّا بحتًا، بل هي قل إن شئت فكرًا مجسَّدًا، أو واقعًا ماديًّا ضمينيًّا، أي ينطوي ضمنه على معانٍ وأفكار ورؤًى، أي ثقافة مميزة لمجتمع محدد الزمان والمكان.

وقد يكون هذا الشيء رمزًا ماديًّا مشحونًا بمدلولات ثقافية، مثل التميمة أو التعويذة، يستعين بها المرء على طلاسم حياته ومشكلاته؛ وقد يكون لغة، وقد يكون أداة مثل مسكن يأوي إليه متميز الطراز … إلخ. ومثلما يرث اللغة والشعائر والطقوس وكل مظاهر الحضارة المادية، يرث أيضًا أنماط الأفعال أو ردود الأفعال، حتى إنه ذهب بعضهم إلى القول بأن المرء يرى الوجود مجسدًا في أفكاره، مصبوغًا برؤاه وثقافته، كأن الوجود ثوب كففناه بثقافة المجتمع، وأن «الواقع» أو ما نُسميه «الواقع» هو نتاج تفاعل بين العالم وبين البشر، اللذين هما وجهان لواقع واحد، أي إن هناك، بمعنى آخر، وحدة بين الذات وبين المجتمع والبيئة الثقافية في جديلة واحدة، بحيث تشكل جميعها إنية المرء، وأن أي اهتزاز يؤثر بالسلب على الشعور بوحدة الذات ما لم يواكب هذا تغير يلائم بين التكوين الفكري النفسي الوجداني وبين التغيرات الجديدة في البيئة الاجتماعية الطبيعية.

(١) إبداع العقل وجمود الآلة

وتؤكد علوم حديثة كثيرة دور الغذاء الثقافي والفكري كمحدد أساسي للسلوك، وليس المقصود هنا بالغذاء الثقافي ذلك العنصر الموروث وحده، وإن كان جماع عملية تفاعل تاريخي طويل المدى، نُسميها إجمالًا: التراث، بل المقصود كذلك الواقع المادي بكل ما ينطوي عليه من مؤثرات إيجابية وسلبية، وكيف يترسَّب كل هذا في النفس والذهن؛ ليتحوَّل إلى قوى دافعة محركة أو قوى خاذلة مثبِّطة.

يبدأ الإنسان حياته في الحاضنة التكميلية الثانية وسط مؤثرات عديدة تصوغ فكره وتحدد نهجه، وتُشكل نمط أفعاله وردود أفعاله، وترسم له معالم التلاؤم الاجتماعي أو معالم التمرد. وقد يعنينا أن نسأل بدايةً: على أي شيء يقتات الإنسان؟ ويشاء بعضهم أن يفيد هنا بإنجازات بعض العلوم الطبيعية والهندسية على نحوِ ما نجد في علم التحكم الآلي أو السيبرنية والعقول الإلكترونية، ويماثل بين الإنسان وبين الكمبيوتر من حيث التغذية أو التقليم والتغذية المرتدَّة «أو المدخلات والمخرجات» وعملية التصحيح الذاتي، ولكن الفارق بين الإنسان وبين الآلة «الكمبيوتر على سبيل المثال» أن الآلة إذا تغذَّت على عناصر موسيقى تشايكوفسكي مثلًا، سوف تقدم لنا مقطوعات أو توليفات جديدة شكلًا مؤلفة من هذه العناصر وعلاقاتها دون سواها؛ أي لن تبدع أو تبتكر. وإذا اغتذت على قواعد جدول الضرب فقط، سوف تُجري عمليات حسابية في حدودِ ما اغتذت عليه دون سواه.

ولكن الإنسان يكون أحد أمرين؛ إمَّا أن يظل أسير ما اغتذى عليه دون أن تُتاح له فرصة لغذاء جديد، بسبب عوامل اجتماعية أو سياسية أو أيديولوجية … إلخ، وهنا سيكون صنو الآلة، ويصدق عليه المثل القائل «كل إناء ينضح بما فيه.» ولن يقدم إلَّا ما في داخله ويكون الخارج تكرارًا للداخل، وكل ما يصدر عنه لن يعدو كونه ردود أفعال وارتكاسات وليس فعلًا؛ لأن الفعل إرادة ذاتية مستقلة، وفهم واعٍ، وعمل محدد الهدف مرسوم الغاية والأسلوب، فضلًا عن التمايز والتجديد، بل لعل الإنسان في تلك الحالة يكون في وضع أسوأ من الآلة؛ إذ إن الآلة لا تُعاني أزمة إذا ما تباينت المخرجات عن الواقع المحيط ولم تتلاءم معه، أي لم تكن الإجابة المطروحة أو المفروزة مطابقة لما يقتضيه الواقع نظرًا لاختلاف أحداث الواقع؛ إذ لو أن الآلة طرحت نتيجة عملية حسابية مغايرة للواقع، فإنها لن تتأزم وتتوتر على عكس الإنسان؛ فإنه لو لم يجد تطابقًا فإنه سيواجه أزمة قد تعصِف بوجوده كله. وله هنا ميكانيزمات مميزة لمواجهة هذه الأزمة منها الأمراض العصبية والنفسية؛ الانفصام والتحليق في عالم بعيد عن الواقع، أي محاولة لتطويع الواقع قسرًا، وهي محاولة وَهْمية مرضية، مع رصيده الثقافي المختَزَن في وجدانه، أو حالة الهوس، أو النكوص الثقافي الاجتماعي والعودة إلى عالم الماضي، أو اللجوء إلى العنف أو الاستعانة بالقوى الخارقة التي تمليها عليه ثقافته … إلخ. هذا إذ أعوزته الحيلة السوية ممثَّلة في حرية التعبير والفعل والتفاعل والتغيير على الصعيدَيْن الفردي والاجتماعي.

فارق آخر بين الإنسان والآلة، أن الآلة لا تتفاعل مع الوسط المحيط بها، فضلًا عن أن تَوَقُّفها عن العمل زمنًا طويلًا لا يؤثر سلبًا على مخزونها، وإنما يظل مخزونها أو رصيدها، أو إن شئت عبارة بشرية فقل: تراثها، مع ما في ذلك من التشبيه من تجاوز، كما هو. أمَّا الإنسان فعلى العكس من ذلك؛ إذ إن تفاعله مع الوسط المحيط به شرط بقائه ونموه، وإذا ما أصابه الجمود زمنًا وتوقف عن التفاعل، فإن رصيده أو تراثه يصيبه التدهور والتحلل، ويزخر بتخييلات وأوهام من صنع أو وحي أزمته مع الواقع، قد تكون تعويضًا عمَّا ينقصه أو حلًّا لمشكلاته في الخيال على نحو ما نجده واضحًا في بعض صور القصص الفولكلوري، خاصة عند الشعوب المهزومة، وهكذا تتفاقم مأساته، ويصبح تراثه معوقًا له، ويلزم تنقيته من الشوائب في ضوء احتياجات الواقع.

وميزة أخرى للإنسان تميزه عن الآلة، وهي القدرة على التمرد والتجديد والإضافة الإبداعية التي تحقق التلاؤم النشط بين النفس والمجتمع والبيئة، وأن الآلة قادرة على تصحيح ذاتها، ولكن وفق البرنامج المحدد لها، والإنسان قادر على أن يُصحح ويضيف ويجدد، ولكن هذا كله رهن التفاعل الإيجابي مع الواقع، وإلَّا فلا جديد. والتفاعل المخصب المبدع هو ما يُمكن أن نُسميه التفاعل العلمي، بمعنى توافر منهج لنظرة نقدية فاحصة للواقع المحيط بالإنسان، وتفسيره وصولًا إلى قواعد هادية للسلوك، ومن ثم قدرته على التصحيح وكشف الجديد.

(٢) النظرة النقدية

معنى هذا بعبارة أخرى أن الإنسان إمَّا أن ينظر إلى الواقع من خلال ما اغتذى عليه في الماضي، وأضحى أسيرًا له وانقطعت صلته بالواقع والحاضر، أو أن ينظر إلى العالم من خلال عملية دينامية مجتمعية تجمع بين ما ترسَّب في الأذهان لإيجابيته وجَدْواه، تعبيرًا عن المتصل الوجودي التاريخي «للنفس والمجتمع والبيئة»، وبين استقبال الجديد وتفسيره واستكشاف قوانينه، وتعديل ما يلزم تعديله من موروث.

في الحالة الأولى يكون الإنسان أسير فكر أيديولوجي، بمعنى: فكر مقطوع الصلة بالواقع، وإن ظل حاكمًا بأمره. وطبيعة الأيديولوجيا أو العقيدة هنا أنها ملاذ آمن يدغدغ الوجدان، وتطمئن إليه النفس، وقوامها الإيمان، وأي جديد ما لم يطوِّع نفسه لها، ويدخل في نسيجها يصيبها بشروخ تصدعها فتؤزِّم صاحبها. لذلك يؤْثِر صاحب الأيديولوجيا العزلة عن الواقع أو تكذيب الواقع، بل والرغبة في تدميره لفسوقه وخروجه عن قالب الأيديولوجيا. ومثل هذا النوع من الإيمان الأيديولوجي ينطوي أو يرتكز على تعطيل ملكة العقل النقدي الذي هو ركيزة العلم بمعنى البحث، وإعمال العقل لفهم الظواهر وتفسيرها وكشف قوانينها والتحكم فيها. صفوة القول: إن ثمة حوارًا متصلًا بين الذات والمجتمع وبين الواقع، سواء كان واقعًا اجتماعيًّا أم طبيعيًّا. وعدة المرء في هذا الحوار إطار فكري ثقافي موروث وعلوم مكتسبة. ولكن الناس صنفان، صنف هدفه أن يطوع الواقع ويلبسه رداءه الثقافي المبتور قسرًا، وهو صنف أصابه الركود وانقطعت صلته بالواقع، وصنف يُبقي على حوار دينامي متجدد ومتصل مع الواقع، حيث يُجري إضافة وحذفًا في سبيل تطابق الفكر مع الواقع المتجدد. ومن خلال هذا الحوار الجدلي تترسَّب في داخل الوجدان مشاعر التلاؤم، ويجد المرء هويته في المجتمع من خلال التنشئة الاجتماعية والمناخ المحيط به.

(٣) أزمة شاملة

يعيش الشباب أزمة مجتمع شاملة متعددة الأبعاد، وإن صبَّت الروافد جميعها في الإطار الثقافي الذي يُحدد رؤيته وأسلوب تعامله مع الواقع ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، أو تصوغ إجمالًا ما اصطُلح على تسميته الوعي النفسي الاجتماعي، وعيه لذاته وبذاته، ووعيه بالبيئة الاجتماعية والطبيعية، والوعي الجمعي لعديد من أبناء المجتمع. وأول عناصر هذه الأزمة أزمة العلاقة بين هذا الإطار الفكري أو الوعي، وبين واقع التغير الاجتماعي بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية.

(٤) الرفض والتغيير

إن الاتجاه العام لدى الشباب الآن هو الرفض، رفض الواقع والمطالبة بالتغيير، والعلاقة وثيقة بين الرفض من ناحية وبين اتجاه التغيير المطلوب؛ إذ إنها علاقة تفسير وفهم للأسباب، أو أن تحديد اتجاه التغيير رهن بطبيعة الإطار الفكري الذي يرى من خلاله الشباب واقعهم ومهامهم المستقبلية، وهو الإطار الذي يتحدد بالتالي في ضوء عوامل موضوعية عديدة أسلفنا الإشارة إليها؛ فالشباب يعيش واقعًا تسارع إيقاع التحوُّل فيه محليًّا وعالميًّا، ويفرض رؤًى عديدة وأنماطًا وقيمًا سلوكية واجتماعية متباينة فيما بينها، ومناقضة للموروث مما يُثير خللًا أو اختلالًا وتوترًا وصراعًا. والواقع المعيش لا يُلبي حاجات الشباب وطموحاته، بل يدعم لديه الشعور بالعجز والقصور والإحباط. والواقع العالمي يصدمه أو يلطمه كل لحظة وأخرى بما يفرضه من جديد! تيارات فكرية اجتماعية وسياسية واكتشافات علمية، وانتصارات على تحديات كثيرة، فضلًا عن برامج إعلامية تهز أركان قيمه.

(٥) حقبة الأزمات والتناقضات

مُني الشباب بحقبة يُمكن وصفها بأنها حقبة القهر المتصل والهزائم المتتالية، والغذاء على الأوهام. تتسم هذه الحقبة بعجز النظم الحاكمة عن اتخاذ موقف إيجابي عربي موحَّد إزاء أي مشكلة، بدءًا من قضية فلسطين وحتى انتهاك إسرائيل لأبعد بقعة في الأراضي العربية، مؤكدةً أنها صاحبة الذراع الطولى التي تصل إلى أي مكان عربي دون رادع أو عقاب، سوى عبارات طنَّانة جوفاء، لا تشفي غليلًا ولا تُرضي غرورًا. النُّظم كلها عاجزة إلَّا عن الكلام، ويقف الشباب مذهولًا بسبب هذا العجز، نظم عاجزة أمام إسرائيل، مفكَّكة فيها بينها باطشة ببَنيها، ولكن البطش الداخلي لا يُخفي انهيار الدولة كأداةٍ للسلطة؛ إذ لم تعُد ذات فعالية في الداخل والخارج. وساد التشرذم في الصفوف العربية، وغاب الحوار بين فصائل العمل السياسي، وسادت البلبلة في الرأي إزاء تحديد من هو العدو الرئيسي للبلاد، وما سبيل الخلاص؟

وعلى المستوى السياسي المحلي قهر سياسي متصل، وله تاريخ يمتد قرونًا. استبداد بالرأي وسلطة فردية مطلقة، وتصفية جسدية قد تكون باسم «القانون» لكل معارضة، السجن والتعذيب والقتل والاغتيال، المحاكم العسكرية والاستثنائية، والتدخل الفاضح في شئون القضاء، وجهود متعمدة من السلطات لتحطيم كل إجماع، مجتمع قهر اقتصادي وسياسي واجتماعي يدعم شعور الدونية، ويفاقم مشاعر الإحباط، ويفجر طاقات العدوان.

ويشعر الشباب بالعجز عن المشاركة في اتخاذ القرارات أو إبداء رأي في طبيعة نظام الحكم السائد، أو أسلوب مواجهة عدو في الخارج، أو منهج للبناء والتنمية في الداخل. الكلمة الحرة في الضمير مخنوقة، والأمل يولد موءودًا، والغث يطفو على السطح، والولاء سراب خادع، وأهل النفاق على العرش يتربعون. ومكمن الخطر في النظام الديكتاتوري أنه يمركز التحكم في إرادة الأفراد مما يُشكل تهديدًا للمبادئ الدينامية لمقرطة المجتمع.

(٦) برمجة الأفكار

ويصبح المجال الاجتماعي المؤثر على العملية الثقافية الاجتماعية مؤلفًا من مؤسسات خاضعة لهيمنة الدولة بكل ما تقدِّمه من غذاء دعائي، وبرمجة لأفكار الناس في اتجاه أحادي يخدم مصالح أصحاب السلطان. وطبيعي حين تنتفي التعدُّدية، وتخضع الأمة أو المجتمع لسيطرة ديكتاتورية تحجب الرأي الآخر قهرًا وتعسفًا، وتفرض سلطانها ورقابتها على الفكر، حينئذٍ تفقد المؤسسات، وإن وجدت حريتها، وتلزم جانب مهادنة السلطان والدعاية له وخدمته والسير في القالب المطلوب أو المفروض، وتكون السيادة للجانب العشوائي الطليق غير المنظم، وهو جانب فردي غير عقلاني. ومن هنا تكون ردَّة الناس أيسر وأسرع إلى التقليد والأفكار اللاعقلانية ثم الانحسار والجمود، أي توقف حركة المجتمع فكريًّا واقتصاديًّا … إلخ. عن التقدم إلى الأمام، وأخطر ما يبين هذا العَرَض المرَضِيَّ لدى الشباب؛ ذلك لأن الشباب بحكم فعاليته وطموحه لا بد وأن يسأل نفسه: هل يبني حياته، وهو صاحب المستقبل، وفقًا لاقتناعاته ومثله العليا التي تخصه؟ وما هي الجهود العملية الموضوعية التي يبذلها لترجمة مثله العليا إلى واقع؟ وهل تتوافر له سُبل تحصيل خبرة صادقة عن العالم، لتكون له شخصية كاملة وإبداعية مستقلة؟

وإذا كانت إجابات الشباب على هذه الأسئلة بالسَّلب؛ فإنه سيفقد إحساسه برؤية أو بمنظور متكامل، ويكف عن التطلع إلى حياة أفضل للجميع، ويفقد في باطنه ما يدعم وجوده، وتصبح الفكرة التي يصوغها عن نفسه وعن مبرر وجوده أكثر فأكثر غموضًا، ويتحول الموقف الاجتماعي النشط داخل المجتمع إلى حالة خمول ولا مبالاة، وخداع للنفس وسلبية، واهتمام باللحظة الآنية وهو جوهر الأنانية. وتقترن الأهداف المنشودة في هذه الحالة بأفعال هي أقرب إلى الوظائف الطبيعية منها إلى أهداف متصورة، ويتأكد بعد المسافة، بل لنقل القطيعة، بينه وبين مؤسسات الدولة والقائمين عليها.

(٧) كيف انهارت القيم؟

واقترنت حقبة الهزائم المتتالية والقهر المتصل بثروة نفطية غذَّت نوازع الفردية وإشباع نهَم الإنسان إلى تكديس ثروات يرى فيها حلًّا لمشكلات فرديَّة أنانية تدعم انصرافه أو عزوفه عن قضايا المجتمع. وانساقت حكومات وجماهير لإغراء وغواية أصحاب البترو-دولار على حساب الحس الوطني باسم الدين خداعًا، وعلى حساب مصالح الشعوب رغبة في الخلاص من الأزمة والنجاة من آثار أزمة اقتصادية خانقة، تُهدد وجود الإنسان ذاته بحيث بات المرء عاجزًا بإمكاناته.

واقترن الثراء النفطي بموجة ثراء الانفتاح الاقتصادي، وهو ثراء سفيه مجنون لحساب عدد محدود يظهر فجأة لأسباب غير مفهومة اجتماعيًّا، أمَّا القطاعات الواسعة من الجيل الجديد الباحث عن عمل، أو عن دور أو نصيب؛ فإنه فريسة تلك الأزمة الاقتصادية المدمرة. ووجد المرء نفسه عاجزًا بإمكاناته وقدراته الفنية والعلمية والبدنية عن ملاحقة الأسعار، بل باتت عبارة العيش الشريف مثارَ استهجانٍ وسخرية. وأصابت الأزمة الإنسان بحالة من الهلَع والاختلال، وقتلت عنده الإحساس بالمجموع أو اﻟ «نحن»، وغذَّت الفردية، وحفَّزته إلى البحث عن سبيل إلى الخلاص أيًّا كانت هذه السُّبل … ولكن الشباب يرى أحد سبيلين: إما أن ينغمس ويتردَّى إلى هذه السبل المدانة، وإمَّا أن يرفضها، ولكن إلى أين؟ ضياع وفقر وفقدان لاعتبار الذات، وتحول الآمال إلى أوهام، وكل الفرص المتاحة للخلاص شرطها سقوط مشاعر الروح الجمعية والانتماء، والتخلي عن قِيَم أساسية ذاتية واجتماعية، والتحلي بسمات جديدة أبسطها اللامبالاة والاستسلام للسلطة وعدم المعارضة التماسًا للأمان، وهذا أضعف الإيمان.

(٨) القفز في الفراغ

وهكذا سادت الريبة في الولاء الوطني وجَدْواه، وفي الموقف من أنظمة الحكم القائمة، بحيث فقد السلوك السياسي مراجعه وقيمه الأصيلة. وبات الشباب لا يعرف عن يقين ماذا يُدَبَّر له، مصيره ليس بين يديه، لا يصنعه، ولا يُشارك حتَّى بالرأي الفعَّال في صنعه، ولا يعلم عمَّا ينتويه زعماؤه، بل ربما كان يقينه الوحيد أنه وحُكَّامه لا يعلمون شيئًا، ولا يصنعون قرارًا يحدِّد معالم المستقبل ينهجونه عن التزام وعن علم وبينة. المصير مجهول، مجهول، كل شئون حياته تفرضها قُوًى خارجية عن ذاته. تتحوَّل حياته فجأةً من النقيض إلى النقيض دون أن يدري لماذا؟ ترتفع الأسعار، وتُنهب الأموال وهو عاجز. محاولاته نوع من القفز في الفراغ ومن الفراغ، أهداف تستنفد طاقة الشباب لغير ما جدوى، حتى وإن اصطبغت بصبغة قومية أو دينية، قفز في الفراغ ضد الحضارات الأخرى أشبه بصراع طواحين الهواء. وفي ظل فقدان العدالة الاجتماعية، وغلبة سياسة النهب والقهر والهزائم المتتالية وغياب العقل أو تعطله، وانهيار القيم الأخلاقية والفكرية. يبدو الكفر بالدنيا هو الملاذ الوحيد للعاجز، ومرة أخرى إلى أين؟ الجواب يحدده له إطاره الفكري الموروث الذي غرسته تنشئته الاجتماعية بعد تعطُّل كل جديد وكل تعامل حر مع الواقع، الهجرة إلى الغيب. وقد «يهاجر» عن طريق العقاقير المخدرة، وقد يهاجر بالوسيلة التي يرسمها له إطاره الفكري. وهو في كلتا الحالتين رافض للواقع، غائب عنه. إذن ما هي عُدَّته أو أداته أو ثقافته التي يواجه بها هذه الأزمة، بحيث تفسرها له وتُحدد الوسيلة للمواجهة؟ وما هي مشروعاته الجمعية أو المجتمعية التي تستوعب طاقته، فتثري فكره وتعزز انتماءه وتُلبي حاجاته؟

(٩) الغذاء العلمي والتعليمي

ما هو الغذاء العلمي والتعليمي والإعلامي الذي يقتات عليه الشباب، فيكون أداته في التعامل مع الواقع وركيزة نظرته الوطنية؟

إن التنشئة التعليمية عاطلة عن المنهج العلمي، سواء في مجال تعليم المواد القومية التي تُعزز الانتماء الوطني؛ لأنها مصنوعة على هوى أصحاب السلطان، أحادية النظرة، تؤكد نزوع الامتثال والتماثل، وتسدل حجبًا كثيفة على كل ما من شأنه أن يؤكِّد أن حركة الفكر على مدى التاريخ حركة صراع أو حركة من خلال تناقضات فكرية. أو قل إن شئت: إن التعليم ينفي أن الفكر عملية حية شريطة الحرية والتعدد. والخروج على قاعدة التماثل الفكري من الكبائر والموبقات. يعرف الطالب مبادئ حرية الفكر وأسس النهضة الاجتماعية الإنسانية، أو التيارات الفكرية المعارضة من كتب خارجية يسعى إليها بجهده وحده، وكأنه بصدد ارتكاب جريمة أو عمل خارج عن حدود الآداب العامة.

(١٠) قواعد التماثل والامتثال

وهكذا يُربي النظام التعليمي الأبناء على قواعد التماثل والامتثال، وتأكيد سلطة الموروث، والخضوع للنظام العام الذي حدَّده أصحاب السلطان. الفكرة الصحيحة هي فكرة المتربع على العرش الآن، ولتكن سواها مرةً أخرى إذا ما تغير صاحب السلطان؛ أي إن الفكرة ليست نابعة من جهد الفرد والمجتمع مع الواقع. وليست قابلة للنقد، بل نابعة من أعلى أو من خارج الذات والمجتمع والطبيعة ومطلقة الصدق. ومثل هذا النظام التعليمي التربوي يقتل ويدمر أُسس التنشئة العلمية التي تُربي النشءَ على الالتزام بالمنهج العلمي في التفكير والدراسة، وهو أساس النهضة الحقة والتفاؤل بالمستقبل، حب الاستطلاع والتساؤل والتفسير لنفهم كيف تعمل الأشياء وتعدد الآراء، وحق المعارضة ونقد ما نصل إليه من نتائج بناءً على أسس مُحدَّدة، وأن الفكر والنظريات حياة متجددة، وأن الآراء تتباين من خلال دراسة منهجية في تفسير المجتمع.

ولكننا نقنع في مدارسنا وجامعاتنا بأن نقدم مناهج دراسية تعتمد على نزعة انتقائية، انطلاقًا من فكر أيديولوجي محدد ومقصور. وإذا قدَّمنا بعض العلوم فهي نتائج ونظريات فردية، وليس المنهج العلمي ولا التباين النظري ولا المعرفة العلمية في صورتها المتكاملة، أي تدعم الانعزالية وأحادية النظرة. وهو ما لا يخلق فكرًا علميًّا بل فكرًا شائهًا. وليس غريبًا أن يبدو صاحبه أو من يتلقَّاه ضعيف الفكر، واهن العود، عاجزًا عن التصدي لفكرة مقابلة أو معارضة، مقصورًا عن النظر نظرة ناقدة أو مقارنة إلى الموروث. المنهج العلمي يؤكِّد ترابط العلوم ببعضها لتُعطي نظرة واحدة إلى العالم في إطار شامل، ونحن نشرذم العلم ونمزِّق أوصاله ويفتقر أبناؤنا إلى النظرة الكلية، فماذا يبقى لهم بعد ذلك؟ لن يبقى لهم غير نثارٍ وشتات من أفكار «علمية» لا تُهيئ لهم القدرة على المواجهة والتصدي والفهم والتفسير، ولن تبقى لهم من رؤية شاملة إلى العالم إلا ما تضمنه الموروث.

وهكذا نجد التنشئة التعليمية ترتكز على نهجٍ لا يعلم الإنسان كيف يُعمل عقله، أو أن ينظر إلى الواقع نظرة نقدية باحثًا عن الأسباب والنتائج والعلاقات، بل يأخذ الأمور والأحداث على عِلَّاتها. ليس عقل الإنسان هو العقل الفعَّال، وليس الإنسان الاجتماعي هو الصانع لمصيره على الأرض، بل العقل أو الإنسان عاجز مقصور. ويتأكد ذلك بفضل النهج التعليمي المبتور الشائه. ويتسق هذا النهج مع ما تمليه الثقافة التقليدية التي يدعمها أصحاب السلطان، وتنكر على الإنسان حق الفعل وحق التمرد وحق إعمال العقل. إن سلطة الاستبداد (استبداد سياسي أو ثقافي) على نقيض جوهر السلطة الديموقراطية، تئِد العقل وتقتل فاعليته، وتعطل حق العقل في التعبير الحر عن نفسه وكشف حقائق جديدة تُخالف المألوف، ومن ثم يظل المرء فردًا، وليس مجتمعًا فاقد الحيلة، وتظل التربية قائمة على النصِّية والاستظهار، أو الالتزام بالحرفية والكلمة المملاة، وهو ما يتسق تمامًا مع مجتمع ملتزم بأيديولوجية موروثة خاضعًا لسلطان استبدادي.

(١١) دور الإعلام

وتكمل السياسة التعليمية السياسة الإعلامية، بحيث تخدم السياستان هدفًا واحدًا؛ تعمل السياسة الإعلامية على تأكيد مبادئ أساسية: الخضوع والتماثل والامتثال، تعطيل العقل، وكل شيء في خدمة السلطان. ويعيش الشباب هنا محنة يُمكن أن نُسميها محنة غسيل المخ الإعلامي. كل ما تقدمه له أجهزة الإعلام من برامج سياسية وترفيهية وعلمية وأيديولوجية وأفلام ومحاضرات … إلخ تستهدف خصاء كل قدرة على التمرد، وتحريم أي اتجاه للمعارضة أو التباين الفكري، وتفضي إلى حالة من فقدان الذاكرة ينسى الشباب معها نفسه وتاريخه وقضاياه المصيرية، ليغرق فيما يلهيه عن ذلك، يغرق مع مباريات الكرة وينسى أمور بناء أمته، تمتصه نعرات جوفاء طنانة.

ما أقسى التناقض الذي يمزِّق النفس؛ إذ يعيش الشباب في عصرٍ شعوبُه المتحضرة تؤمن بحق الإنسان الفرد، وبحق المجتمع كأفراد منظمين في جماعات وأحزاب في أن يكونوا أصحاب رأي ودور في بناء الأمة. ولكن الشباب يقف غريبًا أو مغتربًا عن كل هذه الثقافات، السلطة كل السلطة للحاكم ولا سلطة للإنسان، والويل كل الويل لمن شذَّ عن هذا النهج المرسوم. وقد يلتمس الشباب الخلاص من خلال الارتماء في أحضان الماضي وفي تخييلات مرضية، وإن كان الارتماء في أحضان الماضي يعمق الأزمة في وجدان الشباب؛ إذ يفاقم التناقض الواضح بين مُثل العصر وبين القيم التي سادت في عصور غابرة.

ومأساة هذا الجيل أنه أصبح بذلك يجسد انقطاعًا ويشكل قطيعة مع عالمه المعاصر فكرًا وحضارة، ويزيد الطين بلَّة إذ يجسد انقطاعًا ويشكل قطيعة تامة ومطلقة مع الأجيال القومية السابقة، على الرغم من كل ما يُقال وتردده الألسن؛ وذلك بسبب ضياع مشاعر الانتماء الوطني، نتيجة التنشئة الاجتماعية المقصورة المبلورة. إنه يختلف نفسيًّا وعقليًّا ورؤية وسلوكًا عن الآباء والأجداد في عصور ازدهارهم، ويا لها من مأساة طاحنة مدمِّرة.

(١٢) هزيمة ١٩٦٧م

لم يكن الخطر الداهم المرير هو وقوع الهزيمة في ذاتها، بل الأدهى والأخطر ذلك الموقف التجهيلي غير العقلاني الذي وقفته السلطات أساسًا من الأزمة، لم تشأ تقديم تفسير لها. كل الشعوب عانت مرارة الهزيمة مهما كانت درجاتها، وكانت دافعًا لحشد القوى في عزم وإصرار من جديد! ولكن الهزيمة الأخطر والأمَرَّ أن يقف الإنسان حائرًا جاهلًا للأسباب، ومن ثم فلا بد له من ميكانيزم أو حيلة نفسية يواجه بها هذا اللغز الحياتي القاتل. أخطر ما فعلته السلطات، والجريمة الأشد هولًا من الهزيمة ذاتها أن حالت السلطة دون الشباب والناس وبين استكشاف الأسباب. لم تقدم السلطة أسبابًا للهزيمة معقولة أو غير معقولة، بل تركت الناس في عَمَاء فوقه عَمَاء وتحته عَمَاء، حيرة تعصف بكل ذرَّة عقل باقية، ظلمات فوق ظلمات. موقف يعذب الناس كمن وجد نفسه في غرفة مظلمة، وتأتيه أصوات ونخسات أليمة من هنا ومن هناك، لا يدري مصدرها ولا يعرف أسبابها، ولكنَّها تهصره، وتطحن نفسه قبل جسده دون تفسير، والتفسير هو جوهر الإنسان العاقل. إنه ميزة الإنسان وسر تقدمه على طريق الحياة، أن يملك عقلًا فعَّالًا حرًّا يُفسر به الأحداث. ولكن ماذا عن إنسان تعطل عقله، ولم يبقَ له غير حسه البدني وسط ظلام التجهيل الحالك؟ قد يكون الجنون أهون مصير.

لنتأمل معًا؛ ماذا يمكن أن يحدث، لو أن السلطات واجهت الأزمة بمحاكمات علنية جريئة تكشف عن أسباب الهزيمة بموضوعية وواقعية مع عزم أكيد على التصحيح والتغيير؟ وهي محاكمات للنفس وللنظام يقينًا ولكنَّها تكون بحق، لو أنها حدثت، مخاض ولادة جديدة للمخلص الذي ينقذ أمة ويصلح حالها، هذا المخلص سيكون زعيمًا وشعبًا معًا في آنٍ واحد، زعيمًا تجسد في شعبه، وشعبًا آمن بصدق عزيمته وكله قوة فوَّارة دافعة معه. وبان الطريق وتضافرت الجهود والعزائم من أجل الفداء والبناء الجديد. وكان هذا أبسط وأضعف مطالب الشباب، ولكنَّهم لاقوا إزاء ذلك أَمَرَّ العذاب والتعذيب. أقول لنتأمل ماذا عسى أن تكون النتيجة، لو أن هذا هو ما حدث؟ ولنتأمل ماذا كانت النتيجة بالفعل مع الشباب ومع أي شباب في العالم، يرى الحياة مصيدة خبيثة، بلا هدف، بلا تاريخ، بلا تفسير معقول لما يُعانيه من آلام.

(١٣) الردة أو التمرد

أمام الإنسان أحد السبيلين إذا أظلمت الدنيا حوله، وأمسكت بخناقه مثل هذه الأزمة! ردة ونكوص أو تمرد عشوائي عنيف. الردة والنكوص حنين إلى الماضي على نحو ما يفعل طفل أو فتًى واجه أزمة، فنراه يحِنُّ إلى الطفولة، حيث حياة بغير أعباء أو مسئوليات يخالها عصرًا ذهبيًّا كما يراها أو يتوهمها. ولكن بالنسبة للمجتمع، سوف يفتش أبناؤه في جعبتهم، بحثًا عن تفسير لتلك المأساة الدامية واللغز المحير. وجدَّ شبابنا في بحثه فماذا وجد؟ لنسأل أنفسنا عمَّا كانت تحتويه جَعبة المجتمع الثقافية التي لجأ إليها، بحثًا عن الأسباب بعد أن وجد نفسه صفر اليدين من أي تفسيرٍ آخر علمي، أو جهود جادة لبيان الأسباب.

عاش المجتمع زمن الزعيم الملهم، القادر على الفعل، ماضي الإرادة صادق الرؤية نافذ البصيرة، حمل عن الناس عبء التفكير والبحث فأسلموه قيادهم طوعًا أو كرهًا، ثم انهار المعبد، وأنقذ الناس إلههم إنقاذًا لأنفسهم، وكان يُمكن للمعبد أن يُقام، ولكن هذه المرة، كما يجب أن يكون في كل مرة، بعزم الناس وجهدهم وفكرهم وعقلهم، لا بعزم القائد وحده. واستبدت بالناس آفة الإنسان، ألا وهي التعقل والتفسير والبحث عن الأسباب، فلم يجدوا غير معميات وغيبيات. ولهم العذر في ذلك، وفاقد العقل الحر الواعي لا يعطيه؛ إذ أنى له هذا؟!

وسبيله الثاني هو التمرد، ولكن مع الافتقار إلى العقل والأسباب، ومن ثم سيكون حتمًا تمردًا غير واعٍ وهو ما يُسمى أحيانًا التطرُّف، ويُسمى أحيانًا نوعًا من الانتحار، ولكنَّه في صورة قتل الآخر بدلًا من قتل النفس، أو الرغبة في انتحار جماعي وقتل المجتمع كله، وهو ما يجد تعبيرًا له في العديد من المظاهر السلوكية والرمزية. ومن أنواع هذا التمرد الانتحاري القاتل للمجتمع ذلك السلوك الفردي الذي يُدمر كل روابط التضامن الاجتماعي وينكره، والجشع الأناني، والبحث عن المكاسب الذاتية، وكأنما يتهيأ كل امرئ للاختطاف والهرب نجاة بنفسه. بل والهرب الحقيقي بعد أن يكون المرء أعمل سكينه الأناني مرات ومرات في جسد المجتمع. شفى غليله وملأ جيوبه بما يفيض عن حاجاته الخاصة، ثم هرب لا لشيء. يفر بالمال المنهوب إلى خارج البلاد لا لهدف، ولا يسهم بالمال في عمل مثمرٍ، ولا يدري لنفسه خطة في الحياة، أليس هذا جنونًا وانتحارًا أو اغتيالًا للمجتمع؟!

عاش الشباب أكثر من ثلاثة عقود، ناهيك عن تراث الأجيال السابقة على مدى قرون الانحطاط والركود، العقل معطل والزاد الثقافي هزيل، والكلمات عقيمة لا تنجب، والأفعال جهيضة. بينما الشباب إرادة تغير، وعقل وثَّاب في جوهره؛ ولكن ماذا وتعطلت كل مقوماته؟ لم يبقَ له غير قوة غضب دافعة كظيم، وإرادة تغيير لا يهديها عقل، ولا فكر مستنير. إذن لتكن إرادةَ غشومٍ وفعلَ أهوجَ متطرفٍ، هذا أو الانتحار.

(١٤) تحلل البنية الاجتماعية

وهكذا تجمعت أسباب عديدة عميقة الجذور، بعضها قديم امتدَّ إلى قرون، وبعضها معاصر حديث، ولكنَّها جميعًا اصطلحت على صنع الأزمة الخانقة التي سمَّمت مناخ التنشئة الاجتماعية للشباب؛ قهر استعماري تباينت أسبابه وأسماؤه، عمد إلى طمس الهوية القومية وتقويض عناصر الانتماء، وقهر سياسي واستبداد سلطوي قومي أو وطني أو سمه ما شئت، يمارسه حكام من أبناء البلد الأصليِّين، وسفه اقتصادي أو فوضى اقتصادية وعبث بمصائر الناس وأقدارهم، وإحباط للهمم، وركود ثقافي، وفقدان لأي رؤًى مستقبلية، وتعطل للعقل، وقتل لكل فكر حر.

وحين يُمنى شعب من الشعوب بكل هذه الأمراض الفتَّاكة، فإنه يفقد بالتالي كل مكونات الإرادة الجماعية، وأسسَ قيام رأي عام أو وعي جماهيري شامل هادف، ناهيك عن وصفه بالاستنارة. وإذا كان البناء الاجتماعي لا يسمح للدوافع النفسية الكامنة والرؤى والطموحات بالتعبير عن نفسها في صورة عمل جماعي، يأخذ صورة مشروع قومي حضاري وفق رؤية مستقبلية أساسها الاقتناع الطوعي لفكر حر؛ فإن هذه الدوافع والطموحات تفرض نفسها في صورة أخرى قد تكون عدوانًا أو تدميرًا، أو تكون انتحارًا حضاريًّا يتمثل في ردة ثقافية، وفرارًا من الواقع وهربًا إلى الماضي، أو بمعنًى آخر: غلبة مظاهر التحلل الاجتماعي وتحلل الشخصية القومية. ويُصاب المجتمع في مثل هذه الحالة بنوعٍ من القلق العصابي؛ إذ لا يجد منفذًا يفرغ فيه طاقته. وقد يحدث أن تُقدم بعض النظم الحاكمة أهدافًا بديلة مبتورة، ومن ثم تنشأ مظاهر سلوكية بديلة تُحقق إشباعًا زائفًا قائمًا على تخييلات لشعارات رنَّانة خاوية، قد تقترن بالقومية أو العقيدة. وما أكثر الشعارات التي تملأ الساحة، وملأتها على مدى سنوات، وهي شعارات بغير رصيد. وكم هو يسير على أمة، مُنيت بهذه الظروف، أن تُداوي نفسها بمزاعم زائفة، أو أن تشوه معنى الأحداث لتتلاءم مع إطار مرجعي لا تبرِّره الوقائع ذاتها، بل يبرره المزاج السائد. وهكذا ينزع المرء في حالة اليأس والأزمات إلى الانسحاب النفسي، والدخول في كهف وجداني أو مزاجي قديم يعيش الواقع وينسج خياله «واقعه».

(١٥) حيلة خادعة للخلاص

في مثل هذه الظروف، وهي ظروف محنة طاحنة، تُبدد الآمال وتسحق كيان الشخصية، ويشيع معها شعور بفقدان الأمن والافتقار إلى فهم عقلاني، وغياب علاقة نشطة جماعية إبداعية مع الواقع، وغلبة الإحباط، لا يجد المجتمع بعامة، والشباب بخاصة، من ملاذٍ غير اللجوء إلى رصيده المتخلف التقليدي الذي ركد قرونًا، وأفسدته تهويمات وتخييلات، وغرست تلك الظروف في النفس «فوبيا»، أو خوفًا مرضيًّا من التغيير؛ أي ألا سبيل والحال كذلك أمام الشباب إلَّا الردة والنكوص.

وحين يسود المجتمعَ شعورٌ بفقدان الأمن الجمعي مع حالة الردة والنكوص تشيع حالة من التحلل المفاجئ تصيب القيم والاتجاهات المستقرة اجتماعيًّا. وحريٌّ بنا أن نشير هنا إلى تشبيه ذكي وتصوير صادق قدَّمه عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم في كتابه «المجتمع».

يقول مانهايم: «الشعور الجمعي بالخوف وفقدان الأمان يُفضي إلى تحلل اجتماعي، مثال ذلك في عالم الحيوان: ما نراه بين النحل في لحظات تشبه الأزمات؛ إذ نلحظ تحولات مفاجئة في سلوك النحل عندما تموت الملكة ويضطرب نظام الخليَّة، وهي تحولات جذرية، حتى إنه بالإمكان تسميتها نكوصًا أو ردة إلى سلوك غريزي للأسلاف، ونلحظ هذا النكوص واضحًا عند الشغالات التي تتحول طاقاتها الجنسية إلى طاقات عمل. وعندما يحدث هذا الاضطراب ترتد هذه الشغالات إلى طور بيولوجي سابق لسلوكها الغريزي، وتبدأ فجأة في التصرف كإناث وتضع بيضًا غير مخصب.»

وهكذا يبدو أن بين الحيوانات «الاجتماعية» يوجد معامل ارتباط وثيق بين الغرائز وبين التنظيم الاجتماعي، إذا ما أصاب هذا التنظيم الاجتماعي اضطراب، أو إذا ما اختفى جزئيًّا أو كليًّا تختفي معه الإرجاعات المكتسبة، ويُمكن أن يصاحب ذلك إرجاع نكوصي إلى أنماط غريزية لطور سابق أو سلفي. فبالنسبة للنحلة التي تجهل طبيعة هذه العملية الاجتماعية، قد تظهر هذه الكارثة كحالة تتمثل في الحرمان المفاجئ من الدوافع الغريزية لأهدافها الطبيعية، ونشاطاتها البديلة مثل وضع البيض.

(١٦) القلق والنكوص

ويُمكن عقد مقارنة بين مجتمع النحل وبين الإنسان، حيث إن المجتمع الإنساني يصيبه تحلل كلي أو جزئي، وردة إلى طور سلوكي سابق، ولكنَّها ليست ردة بيولوجية وإنما هي ردة اجتماعية تُساعد عليها ذاكرته الاجتماعية وطقوسه ورموزه ولغته وعاداته. فالإنسان غير النحل، لا ينقلب فجأة إلى الأطوار البيولوجية السابقة في تاريخ غرائزه؛ إذ نظرًا لمرونة طبيعته نراه ينقلب من صورة من صور اتجاهاته الاجتماعية التاريخية إلى اتجاهات اجتماعية تاريخية سابقة، لا تزال ترتكز على ذات الغريزة، أو اتجاهات ترسَّخت بفعل الاستمرار زمنًا طويلًا، مثل الاستسلام والاستكانة والتواكل، التي يرتد إليها المرء الذي عزم على أن يشارك بنشاط في عمل سياسي، ولكنه بعد الاعتقال والتعذيب يرتد تلقائيًّا إلى سلوك تعلمه مجتمعه على مدى قرون من القهر والاستبداد؛ ولذلك يبدو سلوكه هذا مقبولًا أو «معقولًا» اجتماعيًّا وليس معيبًا. وتقرن هذه الردة بتحلل جزئي سلوكي وقيمي مع تحلل الأهداف المجتمعية، ويبدأ القلق والنكوص مع تحلل النظام الاجتماعي، ويفتقر المجتمع إلى الدافع الحيوي على الرغم من عدم إشباع رغباته.

(١٧) القوة الدافعة للتاريخ

إن إحباط رغبة النهوض داخل المجتمع يعني اهتزاز القيم الاجتماعية وتحلل قيمة الانتماء إلى المجتمع واعتبار الذات، وفقدان شعور الأمن في ظل نظم حكم أجنبية غازية أو محلية مستبدة أو نظم حكم غير متلائمة ثقافيًّا، يُفضي إلى إحباط وردة ونكوص وتعطل للقيم والمعايير الأخلاقية، كما يفقد الناس الهدف الجمعي ويتحولون إلى أفراد ذوي اتجاهات فردية لا تعبر عن تاريخ حضاري عريق. ويصبح الإنسان فردًا لقيطًا لا تجديه المؤسسات ولا التقاليد ولا العادات والتراث، ويصبح إيمانه بها لغوًا غير ذي نفع وغير ذي موضوع؛ إذ فقدت شرطها الجمعي والاجتماعي.

ومرحلة فقدان الأمن، التي تتمثل عناصرها في كل الجوانب السلبية التي تحدثنا عنها، هي مرحلة حُبلى باحتمالات وإمكانات لا حصر لها، إنها مرحلة انهيار الإيمان بالمؤسسات والتقاليد والعادات والأخلاقيات الاجتماعية. إنها لحظة الشك، الشك الذي قد يكون دافعًا إلى تلمُّس سبيل واقعي، أو الشك الذي قد يكون قاتلًا انتحاريًّا عند غياب الواقعية.

وما لم يستطع المرء، ومن ثم المجتمع، إعادة تنظيم نفسه فإنه هالك لا محالة، وتعني هذه المرحلة بالنسبة للهيئة الاجتماعية إمكانية انتقاء نماذج جديدة للسلوك. ولكن الانتقاء السوي شرطه، كما ذكرنا، تفاعل اجتماعي حر موضوعي مع الواقع، وإلَّا فالردة إلى نماذج وأنماط تقليدية بالية؛ لأنها هي كل رصيد المجتمع. ولهذا يُمكن وصف هذه الحالة بأنها حالة فقدان توازن أو اختلال البنية الاجتماعية. وحين يُحرم الإنسان من أهدافه الأصيلة فإنه يجد عزاء في خلق أهداف رمزية ونشاطات رمزية؛ لأن الإنسان كائن يعيش في مجتمع لا يرتكز، شأن الحيوان، على إرجاعات غريزية، بل على رموز من خلقه مثل الكلمات والصور والطقوس والشعائر التي تُعدُّ وسيلة اتصال بين أبناء المجتمع وبينهم وبين العالم، ومصدر إشباع يقتاتون عليه.

(١٨) تجسيد الوهم

وقد يخدع الإنسان نفسه في مثل هذه الحالة، ويظن ردته إلى الماضي بصورتها المبتورة عن الواقع «صحوة» وما هي بصحوة، بل اتصال غفوة، ولكن برزت أعراضها على السطح لأسباب عديدة؛ إذ يرى كثيرون في غلبة وشيوع مظاهر شكلية شاهدًا ودليلًا على ما توهموه صحوة، وهو في حقيقته أعراض مرضية لأزمة ثقافية اجتماعية أول ضحاياها الشباب؛ ذلك لأن المجتمع أصابته حالة نكوص بسبب تلك الأزمات المتعاقبة الطاحنة، فارتدَّ إلى تراثٍ أو ثقافة عاشت قرونًا مهزومة راكدة تغتذي على الأوهام والتخييلات، بحكم انفصالها عن الواقع وعزلة أصحابها. وامتدَّ هذا الخواء الثقافي حتى في ظل الحكم الوطني؛ إذ لم تقدم هذه النظم غذاءً ثقافيًّا ثوريًّا يواكب التغيرات المادية الاجتماعية والاقتصادية، فكان التحوُّل أعرج. ذلك أن التحوُّل الثوري الشامل الأبعاد جناحاه ثورتان: ثورة ثقافية وثورة اجتماعية اقتصادية سياسية، وفقدت مجتمعاتنا الجناح الأول على أحسن الفروض، ولا أقول إن هذا النقص أفضى إلى إفراغ التغيير الاقتصادي الاجتماعي من مضمونه، بل فاقَمَ من جوهر الأزمة الثقافية، فالمعروف أن التحوُّل الاجتماعي السريع يقتضي تغييرًا في القيم الاجتماعية والأنماط السلوكية ورؤية الإنسان إلى العالم، بل وكذلك التحوُّل التكنولوجي والعلمي يستلزم مواكبة تحقق موازاة بين هذا التحوُّل، وتحول مساوق له متمثل في الثقافة، وإن ظلَّت الثقافة متخلفة عنه بمسافةٍ ما، إلَّا أن القوى الدافعة إلى التغيير المواكبة تظل لها فعاليتها في مناخ حر ضمانًا لتجديد الذات وعدم تمزُّقها.

(١٩) رياح جديدة عاصفة

بعبارة أخرى؛ إن التحوُّل الاجتماعي السريع يُسبب قدرًا من اختلال البنية ما لم يتوافر معه عمل سياسي واعٍ يوفر قدرًا من الضمانات متمثلًا في أفكار ورؤى وقيم بديلة، يتم الاعداد لها مسبقًا وملازمًا بعملية التغيير. ونرى هذا واضحًا خير وضوح في الثورة الفكرية الثقافية السابقة على الثورة الرئيسية السياسية ومهدت لها.

وهناك أيضًا التغير السريع في الواقع الاجتماعي على الصعيد العالمي وأثره على مجتمعاتنا عن طريق وسائل الإعلام، ونقل التكنولوجيا وما تحمله من مضامين ثقافية. والشيء الخطير حقًّا أن مجتمعاتنا تواجه هذه الرياح الجديدة العاصفة، وهي عاطلة من أي دِثار ثقافي أصيل نابض بالحياة يحميها؛ ذلك لأنها عاشت قرونًا في ظل استعمار انتهك ثقافتها، وعمدت ثقافات الغرب الموجَّهة إليها إلى تعميق وتضخيم الهوة الفاصلة بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على نحو يُحبط أي حافز إلى العمل والتغيير وتفهم الواقع ومواكبة التطوُّر، ومن ثم أدَّى إلى غرس شعور بالدونية ونزوع إلى الانسلاخ عن الواقع مع تخييلات عن الماضي، والحفاظ على البنيات التقليدية الذهنية للمجتمع فضلًا عمَّا أصابها من تشوهات وران عليها من تهويمات. فتدعم أو تفاقم تخييلات حالة الإحباط، وتحرم المجتمع من القدرة على التفاعل الصحِّي والتعامل مع تحديات واقعه وعصره التي هي شرارة الانطلاق. وورث الشباب جيلًا بعد جيل هذا التراث المريض المهزوم مما يدفعه، حين تتعطَّل القوى الدافعة الصحية، إلى الانسلاخ عن واقعه بأحد سبيلين: إمَّا أن ينزع إلى تقمُّص شخصية الغازي وثقافته، أو إلى التقوقع داخل ماضيه في إطار من الرمز والشكليات، دون أن يتمكن من صوغ نموذج مجتمعي بديل يسعى إلى تحقيقه. وفي ظل الاحتكاك بالثقافات العالمية التي تيسرها وسائل الإعلام الحديثة يتضخم الشعور بالدونية ويرسخ إحساس الرفض للواقع والتعالي عليه في عالمٍ من نسيج أوهامه، خيوط منتقاة من تراث الماضي المترسب في الأذهان.

(٢٠) ثقافة الريف

واقترن بالتغيير الاجتماعي تحول آخر أساسي ومهم، ألا وهو التغير الحضاري أو الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة. وفي ظني أن هذه الهجرة الواسعة هي في جوهرها علة اتساع وشيوع ظاهرة الشكليات الدينية التي يظنها كثيرون ظاهرة صحوة دينية، وهي أيضًا أحد الأسباب الرئيسية التي حدَّدت اتجاه مسار الردَّة أو النُّكوص الاجتماعي.

واجهت مجتمعاتنا خلال عملية التحوُّل الاجتماعي الاقتصادي على مدى العقود الثلاثة الأخيرة تحولًا آخر واسع النطاق، وملازمًا له وهو التحوُّل الديموجرافي المتمثل في الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة، وغني عن البيان أن هذه الهجرة ليست حركة مادية فحسب، أعني ليست حركة أجساد بشرية صمَّاء تنتقل من مكان إلى آخر، بل إنهم بشر اجتماعيون أصحاب ثقافة، ومن ثمَّ فإن هذه الهجرة تعني من بين ما تعني هجرة ثقافية، أي هجرة واسعة لثقافة الريف إلى المدينة. وهذه لها مدلولاتها وآثارها التي تنعكس على السلوك من حيث شيوع مظاهر سلوكية متميِّزة، ومن حيث طبيعة وشكل استجابات أصحاب هذه الثقافة إزاء المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجديدة التي تواجههم في المدن أو البيئة المغايرة.

وفي ضوء ما أسلفناه من حيث إن استجابة الناس إلى المتغيرات والمثيرات الاجتماعية تتحدد، اتجاهًا ومضمونًا، في ضوء الرصيد الثقافي أو التراث والثقافة الجديدة المواكبة للتغيرات الاجتماعية الاقتصادية السياسية؛ أقول في ضوء ذلك: لنا أن نسأل ما هي طبيعة هذه الثقافة المهاجرة؟ وما هي مظاهر استجاباتها على المؤثرات الجديدة؟ حتى يتسنى لنا تفسير مدى عمق، وأصالة ما نراه من مظاهر «صحوة» أو أزمة الشباب مع الواقع المحيط؟ أولًا: أشرنا إلى حدوث تحوُّلات اقتصادية سياسية، ولكنَّها عاطلة من الثقافة الجديدة اللازمة. معنى هذا أن المجتمع لم يتبقَّ لديه غير ثقافة موروثة، ورياح ثقافية أجنبية تهب عليه من خارج، صيغت برامج بعضها خصوصًا له، وكل هذا في إطار مناخ اقتصادي سياسي مخيِّب للآمال. فما هي طبيعة تلك الثقافة الريفية المنوط بها مواجهة هذا كله؟

إن مجتمع الريف، في كل بلدان العالم، مجتمع متدين آمنَ بالدين إيمان البسطاء. هذا فضلًا عن أن ثقافة الريف بعامةٍ أقل تنويعًا من ثقافة المدن، أو هي ثقافة أحادية، ومن ثم فإن مجتمع الريف محدود في خياله وملَكاته الذهنية والعقلانية، يقف أبناؤه موقف الحذَر، وربما العداء، لكل ما في التراث الإنساني من حضارات وفنون وثقافات، أو يقف لامباليًا بها، ويسهل تحويل حذَره ولا مبالاته إلى عداء باسم الدين. ومجتمع الريف أكثر تعلقًا بالغيب، وأكثر بعدًا عن فهم حقائق الحياة، وعن المغامرة في سبيل تجاوز المألوف وسبر أغوار الوافد والجديد من المعارف، وهو قليل الحِيلة في مواجهة مشكلات المجتمعات المعاصرة؛ ولهذا فإن هذه الكتل الأمية البسيطة يسهل تسْييس مشاعرها وعواطفها الدينية المتطرِّفة؛ لتعبئتها في معركة سلفية ضد أي أنظمة قائمة حتى وإن كانت أنظمةً دينية؛ وذلك بسبب ضعف ملكة النقد فضلًا عن عادة إلقاء عبء التفكير على آخرين، هم في نظر سكان الريف أهل الذكر. وإذا عرفنا أن أحد الدوافع الأساسية للهجرة من الريف إلى المدينة هو الدافع الاقتصادي، فإن لنا أن نتصور نوعية هؤلاء المهاجرين. إنهم الشرائح الدنيا أو المعدمون، ومن ضاقت بهم سُبل الحياة في الريف، وهم الأقل تعليمًا، والأكثر إغراقًا في حضيض الفكر المتخلف. ويسكن هؤلاء أطراف المدن عادة فيشكلون جماعات هامشية، ويعملون في حِرَف تجارية أو مهن دنيا، ويشكلون قوة ضاغطة. وتشدهم آمال، بل وطموحات غريزية نهمة لتجاوز واقعهم بكل السُّبل الممكنة، حتى ولو كان السبيل هو البحث عن ثراءٍ غير شريف، في ظل انعدام سياسة للتوجيه الثقافي البناء. ويُشكل هؤلاء قوة أساسية للفكر السلفي أو الديني المتطرف بحكم البنية الثقافية الموروثة.

(٢١) التلقائية والعفوية

وليس غريبًا والحال كذلك، أن تصبح مجتمعات الريف، أو أبناء الريف بعامة، قوى تخلف تشد الأمة إلى الوراء أو أنهم على الأقل يُبقون على جمودها ويعزفون عن تغيير الواقع في صورته العامة الموحدة، ناهيك عن دفعه إلى الحركة في عالم يتقدم. ومجتمع الريف، وعناصره الزاحفة إلى أطراف المدن، أكثر تعرضًا للاستغلال والتضليل السياسي، وأكثر قابلية للخضوع للقهر الاجتماعي، بل وقبوله قبولًا قدريًّا. ويُمكن صرف انتباه جماهير الفلاحين؛ لكي توجه طاقاتها إلى عالم الغيب، بدلًا من النضال من أجل تحسين مَعاشها، وتغدو هجرتها إلى عالم الغيب أملًا منشودًا. وإذا كان لا بد من نضال، إذا ما ساءت الحال، فليكن نضالًا في إطار الأيديولوجية السائدة.

وفي غياب المعرفة الواعية بمشكلات العصر، وغياب المنهج السليم للمعرفة، وفي ظل انعدام الخبرة والقدرة على تقديم الحلول لهذه المشكلات، يُمكن للقيادات أن تشغل جماهيرها بقضايا بعيدة عن قضاياها الحياتية الحقيقية.

ويعتمد وعي الجماهير في الريف على التِّلقائية أو العَفْوية الخالصة، مع الحفاظ على موروثات ثقافية فقدت مضمونها الدينامي الفعَّال بحكم الجمود أو الركود قرونًا طويلة. وأضحت الثقافة أو التراث رموزًا وطقوسًا شكلية. وهكذا يفقد الوعي القومي أسباب تطوره الارتقائي الذي هو محصلة الجهد الجمعي للأمة في إدارة العملية الاجتماعية وتأكيد ذاتها، وتعاملها الفعَّال مع الحياة. وإذا كان الدين بصورته العفوية التلقائية يمثل ظاهرة جماهيرية أو جماعية في الريف، فإن السياسة ليست كذلك ما لم تكُن السياسة مقترنة بالأيديولوجية الدينية؛ ذلك لأن السياسة بمعنى تدبير مَعاش الناس وأمور دنياهم وحياتهم وإعمال العقل في نقد الوسائل المختلفة لذلك، وهو ما ينطوي على إيمان ضمني بقدرة الإنسان على تغيير ظروف معيشته على نحوٍ يتنافى مع القدرية والتواكلية. هذه السياسة لا تمثل ظاهرة جماعية في الريف، وأسلوبها ليس جزءًا من نسيج هذه الثقافة، بل هي مرحلة أرقى. ومن هنا نلاحظ في المجتمعات الانتقالية أن الدين يفيد كأداةٍ لتسييس الجماهير من خلاله، وأن تَقَبُّل جماهير الريف لأمور السياسة، خاصةً في ظل التخلف والتجهيل والقهر والجمود، رهن بارتباطها بالأيديولوجية الدينية بصورة أو بأخرى، حتى وإن تعارضت هذه الصور. وليس أدلَّ على ذلك من شيوع النزعات الصوفية أو الجماعات الصوفية في الريف دون المدن، وهي نزعات لا عقلانية على الرغم من دورها السياسي، ووفدت بأنماط استجاباتها مع الوافدين من الريف. وكانت جماعات الصوفية بالفعل في ظل الحكم العثماني هي أداة السلطات للتحكم في عقول وسلوك الرعايا باسم الدين، ويشيع الآن في المدن ضرورة أن تكون السياسة منطلقة من الدين وباسمه، ومعاداة كلِّ ما يناقض ذلك.

(٢٢) صدمة الواقع في المدن

وإذا كان حامل التراث الثقافي الريفي يتعامل بحذَرٍ مع كل جديد، فإنه حين يهاجر إلى المدينة يشتد عندَه هذا الحذر على نحو يدفعه إلى الاستعاذة بالشيطان من كل وافد جديد وما ينذر به من تغييرات، ومن ثم ينزع المرء إلى التشبُّث بالتقليد حمايةً لذاته وضمانًا لاتساق إنيته. فما بالنا إذا عرفنا أن التحوُّلات الاجتماعية الحضرية أفضت إلى هجرات واسعة من الريف إلى المدن، وجاءت هذه الهجرات في غيبة ثقافية جديدة وفي ظل تحولات اجتماعية واقتصادية سريعة صادقة، ثم مرة أخرى في ظل قهر سياسي وهزائم متتالية، ورياح ثقافية أجنبية عاصفة تدوِّي في آذان الناس من خلال أجهزة الإعلام، وتهز أركانهم، نزَح أبناء الريف وعائلاتهم في موجات متتالية إلى المدن من أجل غايات يُمكن وصفها بأنها دنيوية، تتمثل في العمل في المصانع وفي أجهزة الدولة ومؤسساتها، وإلى المدارس والجامعات حيث يتلقَّى الأبناء علومًا جديدة مناقضة تمامًا لكل ما هو موروث. وها هنا صدمة الانتقال إلى المدن، والحاجة إلى أعراف وتقاليد وثقافات جديدة غير ميسورة جميعها، ولم يبقَ إلَّا أن تشيع في المدن ثقافة أهل الريف لباسًا وسلوكًا وعادات وتقاليد وفكرًا وأسلوبًا في الاستجابة إلى تحديات الحياة.

(٢٣) التناقض بين الجمود والعلم

وها هنا أيضًا صدمة العلم، أو ما يُمكن أن نُسميه كذلك؛ أي الانفتاح على علوم العصر التي تصدم الموروث، فيثير في النفس المخاوف. إن العلم نقيض الخرافة، والسحر منافسٌ لهما، ذلك أن الثلاثة هي وسائل البشرية إلى المعرفة، أو قل هي ثلاثة أنواع من النشاط الإنساني في تفاعله مع البيئة المحيطة به لمعرفتها والتحكُّم فيها وتلبية احتياجاته. والسحر والخرافة لا يزالان هما الوسيلتين المهيمنتين في ثقافة الريف، والعلم وسيلة وافدة منافسة ومناقضة، وتطور العلم رهن بمناخ آخر مغاير تمامًا؛ أول شروطه حرية البحث والفكر والتعبير وحق إعمال العقل والقدرة على ذلك، ونسقية الفكر.

والسحر والخرافة يقومان على التجانس الوجداني، وهو سمة ثقافة الريف في عصور التخلف، على عكس العلم الذي يقوم على النقد والبرهان. ويؤمن العلم بأن التقدم وسيلة الخلاص وأمره منوط بالإنسان، وثقافة الريف تعتمد على أن الخلاص رهن بإمام منتظر يُعيد الناس إلى الاتساق مع الأيديولوجيا السائدة. والعلم شرطه الموضوعية، أي استبعاد الوجدان والعواطف والعقيدة، ولا يعترف بحجة تستند إلى سلطة خارجة عن العقل، على عكس ثقافة الريف، التي تعتمد على السلطة والوجدان والعقيدة، أي إن العلم في جوهره نفي للأُسس التي ترتكز عليها ثقافة الريف. وهكذا ينطوي التراث في أعماقه على عنصر مقاومة حقيقة لنقيضه الزاحف من أجل إزاحته، وهذه المقاومة ساحتها بداية عقل الإنسان وارث التراث الذي أقبل لتلقِّي العلم.

ويعني هذا أيضًا أن ثمة تعارضًا حقيقيًّا بين رؤية موروثة بالية عن العالم وبين واقع تجاوز هذه الرؤية بقرون، وأن هذا التعارض يُشكل مصدرًا لأزمة وتوترًا وصراعًا على الصعيدين النفسي والاجتماعي.

(٢٤) التفكير العلمي فريضة غائبة

وبناءً على ذلك لن ندهش إذ نجد أكثر الجماعات الدينية المتطرفة تنشأ ويقوى عودها داخل الكليات التي توصف بأنها كليات علمية، أي تعتمد على العلوم الطبيعية، مثل كليات الطب والهندسة والعلوم. وهذه ظاهرة نلحظها في عديد من بلدان العالم الثالث. ونضيف إلى ما أسلفنا من أسباب؛ الافتقار إلى ثورة ثقافية تواكب التغيير الاجتماعي والاقتصادي، فضلًا عن أن مناهج التعليم لا تغرس في العقول قواعد المنهج العلمي والنظَر النَّقدي في ظواهر الحياة والإيمان بدور العقل والسعي من أجل نظرة كلية شاملة إلى العالم، والحياة ركيزتها البحث العلمي. ويكفي أن طلَّاب هذه الكليات العلمية يتخرجون وهم لا يعرفون معنى «علم» أو «قواعد المنهج العلمي». ويتلقون العلم في صورة شذرات مقطَّعة الأوصال، ونتائج لإنجازات تُغْفِل المنهج، فتبدو الإنجازات وكأنها معجزات مجهولة الأسباب تتحدَّى المألوف في التراث وتهز أركان الاعتقاد. وينظر أبناؤنا إلى العلم من خلال ثقافتهم الموروثة وممارساتهم التعليمية الشَّوهاء المبتورة نظرةَ رِيبة وتوجس. ويبدو الوضع أقل حدة وتناقضًا بالنسبة لمن يدرسون المحاسبة أو التاريخ مثلًا. ومن ثم يرى الشباب في العلوم الوافدة تهديدًا لما استقر في الأذهان من معارف، ويكون رد الفعل التلقائي الرفض لا التفاعل؛ لهذا فإن الاحتكاك بالمدينة وتقاليدها وقيمها المغايرة، والتغير الاجتماعي وتضخُّم مشاعر الريبة والتوجس، كل هذا يعطي إحساسًا بالخطر الذي يتهدد العقيدة وما يقتضيه من تغير فيها وملاءمة مع الواقع الجديد؛ ولذلك ينزع هؤلاء، وهم أسرى الموروث المتخلف، والفقراء إلى ثقافة ثورية، إلى التشبُّث بالشعائر والطقوس إلى حين الاستقرار.

(٢٥) شهادة التاريخ

وتؤكد شواهد التاريخ أن الهجرة من الرِّيف إلى المدينة تقترن دائمًا بزيادة الممارسة الدينية، والتي يُمكن عندما تكون الظروف مواتية، أن تدعم حركات الإحياء الديني. فهذا هو ما حدَث على سبيل المثال في إنجلترا؛ إذ إن المذهب المنهجي، وهو مذهب سلفي، انتشر مع نمو المدن الصناعية وهجرة أبناء الريف إليها، واقترنت كل مقاطعة صناعية جديدة بظهور ما سُمي يقظة دينية، في بداية الأمر. وهذا عين ما حدث مع المهاجرين إلى العالم الجديد أو الأمريكتين؛ إذ أمعنوا في ممارسة الشعائر الدينية والعمل على إحياء الدين في أرض الميعاد، وممارسة الدين والشعائر بطريقة محفلية. ولكن الأمر عندما ينطوي على عنصر آخر يمثل خطرًا حقيقيًّا لأسباب واضحة تُمايز بين هذه الهجرات وتلك؛ إذ إن الهجرات عندنا لا تجري في إطار تغير اجتماعي شامل للاقتصاد والمجتمع والثقافة، ولا تجري في ظل تفاعل إنتاجي وحضاري قومي مع الواقع، مما يُسهل المواءمة بين الطرَفين بعد حين، ثم إنها تحمل بين طياتها راسبَ ثقافات عصور الانحطاط.

ويؤكد هذا أيضًا ما أثبتته بعض الدراسات الميدانية من أن المتعاطفين مع الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر، وكلها جماعات شبابية، كان توزيعهم على النحو التالي:

٢٥ بالمائة من الطلاب في الكليات النظرية، بينما من ٦٠ إلى ٨٠ بالمائة طلاب في الطب والعلم. ولوحظ أن ثلثَي عينة أعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين جرت مناقشتهم في عام ١٩٨٠م وفدوا من الريف، ونصفهم عاش في المدينة بدون أبويه، فضلًا عن أن غالبيتهم العظمى تربطهم روابط وثيقة بأهلهم في الريف، ونجد ذات النسبة فيما يختص بالفتيات اللاتي ارتبطن بالجماعات الإسلامية المتطرفة.١

لهذا يذهب بعضهم في وصفه لعضو الجماعات الإسلامية المتطرفة النموذجي بأنه فتًى من بيئة ريفية، ومن أبناء الطبقة الوسطى أو الشرائح الدنيا منها، وحقق قدرًا تحصيليًّا عاليًا وله طموح حافز من أجل تجاوز وضعه وإنكار ماضيه، والصعود إلى مراتب تنفي هذا الماضي. وأغلب هؤلاء من الشباب الذين تلقَّوا تعليمًا علميًّا طبيعيًّا ومن أُسر متماسكة تقليدية، ويتميزون اجتماعيًّا ونفسيًّا بأنهم بحكم صدمة الواقع، ينزعون إلى الالتزام الدقيق لما يرونه مبادئ أساسية للعقيدة، والذين تربوا خلال تنشئتهم الاجتماعية، على أنها السبيل الأمثل للخلاص من كل شرور الدنيا والترقي في الدنيا أيضًا. وها هنا تقترن العقيدة بالسياسة في ظل الأزمة الخانقة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، ذلك أن هذا المشروع الفردي الذي يخلق صورة للذات «إيجابية» حسب التربية التقليدية، يكون مصحوبًا أيضًا بمشروع اجتماعي: تحقيق ما يؤمنون به بأنه دولة «إسلامية»؛ أي إن صورة الذات لا بد من ملاءمتها ومطابقتها مع صورة الدولة ضمانًا للتوازن النفسي، حتى لا تنهار صورة الذات، إنهم يدعون إلى دولة، إلى مجتمع يرعى شكليات دون أن يملكوا استراتيجية أو مشروعًا حضاريًّا يتناول قضايا المجتمع الواقعية، مع رؤية مستقبلية هادفة؛ ولهذا نجد الموقف في جوهره موقفًا هروبيًّا لا ينطوي على فاعلية مستقبلية تواجه التحديات، بل يلوذون بالسلف على نحو ما يلوذ الطفل بأمه وأبيه.

وهكذا يعيش الشباب ممزقًا بين دعوة إلى الانغلاق والهجرة إلى الماضي والغيب، وبين دعوة إلى الانفتاح على العالم ولكن إلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وفي جميع الحالات حائر عاجز لأنه لا يملك الهدف وما يُمكن أن نُسميه المشروع القومي الحضاري المعتمد على حوار فكري خصب مع واقع الحياة، وعلى وعي عقلاني بهذا الواقع واتصال إبداعي بالتاريخ والتراث.

١  James A. Beckford, ed., New Religious Movements and Rapid Social Change, UNESCO, 1986.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤