الفصل السادس

الغزو الثقافي

وتحديات الغربة في الزمان والمكان

كان ذلك في بداية الأربعينيات، مع فجر صحوة إفريقيا السوداء حين هتف إيمي سيزار، الزعيم السياسي والشاعر الرومانسي، ابن السنغال المحتلَّة، يمجد القارة الأم البِكر التي عيَّرها الرجل الأبيض بسوادها وتخلفها. وأعلن سيزار أن وجوده وتاريخه ومجده هو وأهله هنا على هذه القارة التي أنكر عليها الرجل الأبيض كل مظاهر الحضارة، وتنكَّر لها أيضًا بعد أن نهب خيراتها، وداس مقدساتها بجحافل جيوشه وأذلَّ أهلها، وحرمها كل إمكانية للعمل والبناء والتقدم. هتف الزعيم الشاعر مؤكدًا اعتزازه بتاريخه وتفرده:

مرحى لأولئك الذين لم يخترعوا شيئًا قط،
الذين لم يكتشفوا شيئًا قط،
الذين لم يكتشفوا شيئًا قط.
مرحبًا بالفرح،
مرحبًا بالحب،
مرحبًا بآلام الدموع الملتهبة.
ليست زنجيتي بُرْجًا ولا كاتدرائية،
إنما هي ممتدَّة الجذور في أغوار التربة الحمراء.

وبعد إيمي سيزار قصد الطالب والزعيم السنغالي فيما بعد، ليوبولد سنجور باريس، يكمل دراسته، ولقَّنته مدارس المستعمر على أرض السنغال أن بلده جزء من فرنسا، وأنه بذلك مواطن فرنسي، عليه أن يفدي فرنسا بحياته ولا يضن عليها بشيء من خيرات بلده أو جهد عقله ونفسه. ولكن صدمته الحياة في باريس، مدينة العلم والنور، تكشف له زيف ما اقتات عليه من خداع. الكل هناك ينأى عنه ويتحاشى التلاحم به، إنه أسود زنجي غريب الدار، وأحس بأن أرض وطنه حين يطؤها أحن عليه من أرضٍ ساقَتْه إليها الأوهام. حقًّا نهل من علم باريس، وأنار عقله، وشفى غُلَّته، ولكن بلده أحق به وبعلمه، وجدانه وحبه وقلبه هناك. هناك دفء الحياة الحقَّة، هناك يعي نفسه وتاريخه وأهله، هناك تجانس النظرة إلى الحياة، نظرة لها عناصرها المشتركة التي تدعم التقارب والتماسك الاجتماعي، واللغة حديث قلب وإشارة مفهومة، ومدلول باطني قبل أن تكون نطقًا باللسان. التواصل عميق عمق التاريخ، رحب رحابة الأرض وقلوب الأهل، ليكن العلم الآن من باريس، ولكن ليكن أداة لخدمة بلده هو، وخطوة على الطريق ليكون شريكًا فعَّالًا مبدعًا فيما بعد. كشف سنجور زيف مزاعم المستعمر الأوروبي الأبيض، وتغنَّى بالمرأة السوداء أو قل تغنى بحبيبته هنا؛ وطنه أو قارته السوداء البكر بنت الطبيعة:

أنثى عارية، امرأة سوداء،
ثمرة مكتنزة ناضجة، ونشوة سمراء من نبيذ،
أحمر داكن،
وفم يجعل كل ما لي تسابيح غناء.

تلك هي الحقيقة البسيطة والعميقة والخطيرة يعبر عنها زعيم سياسي وشاعر، وعبر عنها قبله ومعه وبعده زعماء وعلماء وساسة آخرون في كل بلدان العالم الثالث؛ ثقافة الأمر سر أسرارها، وعماد وجودها، وركيزة كيانها، بدونها يغدو الشعب أشبه بشجرةٍ اجتُثَّت من جذورها، فذبلت وذوَتْ وماتت وتحوَّلت إلى حطَبٍ أو وقود يفيد بها الآخرون، أو تذروها الرياح. ولهذا لم يكن غريبًا أن تعمد القوى والحضارات الغازية إلى اتخاذ أسلوبِ القهر أو القتل الثقافي للشعوب المغلوبة على أمرها وسيلة لدَعْم انتصارها.

ويمكن القول إنه إذا كان السلاح يصنع النصر في ساحة القتال؛ فإن الغزو الثقافي هو وسيلة القتل المعنوي لضمان استمرار واستقرار «النصر» وخصاء المجتمع المهزوم ليتحوَّل إلى أداة أو إلى رقيق في خدمة الغُزاة. كانت الحرب الثقافية، ولا تزال، أشد خطرًا، وأبقى أثرًا، وأفتك دمارًا من احتلال الجيوش.

إن نظرة واحدة إلى حال بلدان العالم الثالث الآن، وقد تخلصت من جيوش الاحتلال وتزينت بلقب الاستقلال، تكشف لنا عن مدى المعاناة في سبيل اكتشاف الذات وإعادة البناء الاجتماعي، واستحياء واستيحاء تاريخها خطوة على طريق النهضة واحتلال مكان لائق تحت الشمس في ركب الحضارة الصاعد.

وهكذا الْتَمس كل بلد سبيله إلى ذلك ليوحد إنيته بعد اختلال، ويحقق الاتصال بين عراقة الماضي وطموحات الحاضر وإيجابيات إبداعات العقل الإنساني على النطاق العالمي. ولكن الأمر في عالمنا العربي لم يتجاوز بعدُ حدود الشعارات، بل ربما تخلفت بعض البلدان العربية في رؤيتها الثقافية، عما كانت عليه في أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، حين وضعت أقدامها على أول الطريق الصحيح. وعلا الصراخ والضجيج ولا طحين، وفقدت الكلمات معانيها المشتركة على الرغم من ارتفاع نبراتها، وباتت عبارة الغزو الثقافي ملء الأسماع، كأنها استغاثة مذعور، أو صرخة تنبيه وتحذير، وغرست في نفوس الكافة نوعًا من الإرهاب تخالها مرضًا أو وسواسًا استبد بنا فبتنا نخاف ونتحاشى كل فكر أو ثقافة وافدة تخالف ما قاله السلف والأولون، وتعددت الآراء في تفسير الثقافة، وتباينت النظرات في تحديد معاييرها، وأصبحنا في حيرة من أمرنا … الغزو … الغزو، فهناك من قال إن الغزو الثقافي سلعة غربية جاءت مع الغرب دون سواه، ودعا إلى أن نصد عن فكره وعلومه، وإلى أن يكون لنا فكرنا وعلومنا، دون أن نمايز بين ما هو مشترك وما هو خاص.

وقال فريق ثانٍ: بدأ الغزو الثقافي مع ظهور الإسلام، وإنه مؤامرة تستهدف النيل من العقيدة، وطابق هؤلاء بين العقيدة وبين الثقافة القومية، وبدا للناس وكأن العالم كله جمع لنا، وتربص بنا وحدنا، ورصد جهده للتآمر على الدين حربًا صليبية من نوع آخر. ويخال السامع وكأنه أصابنا مرض من البارانويا نزعم اضطهاد العالم لنا وحدنا دون سوانا، ونردد بالكلمات أننا أصحاب مجد عريق تليد، فنحن شعب مختار، وخير أمة أخرجت للناس، والآخرون دوننا منزلة ومكانة، ولكنهم تحالفوا ضدنا، وحشدوا عدَّتهم وعتادهم وإمكاناتهم لإذلالنا، والهدف كله هو «العقيدة أو الدين ولا شيء آخر»، وهو بعض الصدق وليس الصدق كله، ولكن من منظور مغاير.

وهكذا نفرغ العمليات الاجتماعية من مضمونها الحقيقي والتاريخي؛ لكي تتسق مع أوهامنا، ونبدأ من مقدمات زائفة لتصل بنا إلى نتائج مثلها زائفة، ونظنها حجة لنا تدعم أهواءنا أو تخيلاتنا، ونعيش في جميع الأحوال بعيدًا عن أرض الواقع.

ونظرة كهذه هي نظرة تجريدية ممعنة في التجريد، سواء في تحليلها لمعنى الغزو أو لمعنى الثقافة؛ إذ ترى الغزو حدثًا واحدًا مجردًا من سياقه الاجتماعي بعيدًا عن الزمان والمكان لتحديد دوره وأهدافه ومنطلقاته، وإنما يكتفي أصحاب هذه النظرة بتفسير الغزو من منطلق ديني يُرضي الوجدان، وهذا انعكاس لطبيعة منهج التفكير السائدة في بلادنا، ووليد إطار فكري اجتماعي نشأنا عليه ودرجت عليه الأجيال منذ قرون، ونراه مطبقًا في عديد من مجالات البحوث الإنسانية، فالتاريخ كمبحث معرفي تحكمه عندنا نظرة تقليدية تتخذ العقيدة محورًا للدراسة، ويغفل ما عدا ذلك من عوامل أخرى، اجتماعية وإنسانية (أنثروبولوجية) واقتصادية ومعرفية. وغيرها.

وتمتد هذه النظرة أيضًا إلى الثقافة، فالثقافة شيء ثابت مطلق باختلاف الزمان والمكان. إنها ليست مفهومًا اجتماعيًّا نفسيًّا في علاقة تفاعل دينامي مع البيئة والإنسان الاجتماعي، وأي تغير في هذه البيئة يفضي إلى تغير في الهوية.

إن النظرة الميتافيزيقية المطلقة تبني رؤيتها دائمًا على مفاهيم ومقولات تجريدية مطلقة، فالثقافة هي الدين، ثابتة مطلقة مجرَّدة عن المجتمع وعن أحداث الزمان، ولهذا ليس غريبًا أن ترى الغزو عملية خارجية فقط دون اعتبار للصراعات في داخل المجتمع وما تفضي إليه من قهر ثقافي، وترى الغزو أيضًا يستهدف الدين دون سواه، وبالتالي فإن الثقافة في ظل خلافة المماليك أو العثمانيين تُعتبر مزدهرة طالما وأن الخلافة قائمة، والشعوب من مشرق الأرض إلى مغاربها صاحبة ثقافة واحدة ما دامت تؤمن بعقيدة واحدة، ويكون إحياء الثقافة للنهوض بالأمة هو عود إلى الدين فقط، وإلى الدين مجسدًا في السلف الصالح، وهذه نظرة تغفل تمامًا أن الثقافة نتاج نشاط الإنسان وتعبير عن إنجازاته المبدعة وتطوره. إنها تجسيد روحي ومادي للإبداع الإنساني، وثمرة تحقق قدراته الفطرية، وهي كشف عن مدى سيطرته على علاقاته بالعالم الطبيعي وبالمجتمع وتحكُّمه في مصيره.

إن الإنسان، وهو الكائن الاجتماعي، يستحيل عليه أن يمضي قدمًا في حياته دون أن تتوافر لديه، بصورة ما، إجابات على أسئلة يفرضها وجوده، وطبيعته البيولوجية والنفسية والاجتماعية، وطبيعة نشاطه ومعارفه، لتؤلف هذه الإجابات في مجملها تصوره عن هذا كله، وتحدد له في آنٍ أسلوبَ تعامله معها، ونظرته إليها، وحركته في الحياة، وقد تخطئ وقد تصيب، أو قد تفي بحاجاته وتساؤلاته، فيهدأ بالًا ويمضي في طريقه.

إنه، على سبيل المثال، ما كان ليستطيع في قديم الزمان أن يمضي إلى صيده وطراده ويئُوب إلى مسكنه أو كوخه في الليل، دون إجابات محددة عن نفسه وعن قدره ومصيره وإمكاناته وقوى المجهول، وعلة هذا كله ومصدره، وعن علاقته بالصيد، وتفسير النتائج التي ينتهي إليها سلبًا أو إيجابًا. وكل هذا يتم في إطار أفكاره الاجتماعية الموروثة والمشتركة بين أبناء مجتمعه، والتي تهدئ من روعه في الحياة فيطمئن إليها، وتخلق ألفة بينه وبين مجتمعه، وتتأزم نفسه، وتختل إنيته إذا اغترب عنها ولا بد من بديل.

الإنسان دائمًا بحاجة إلى إطار فكري يحدِّد فهمه لنفسه، ويحل مشكلته مع الآخر من حيث علاقته بالآخر ودوره معه. قد يكون هذا الآخر إنسانًا من أبناء مجتمعه الصغير أو الكبير تجمعه به رابطة تعاون وتضافر أو عرق، وقد يكون إنسانًا من أبناء مجتمع مغاير في علاقة صراع وقتال. وقد يكون الآخر عمله أو بيئته أو أحلامه أو الدنيا أو العالم الآخر، وإجاباته هذه تصوغ سلوكه وجهده وانتماءاته، وهي ثقافته الموروثة التي قد يختزلها في رموز لغوية أو سلوكية وتصدر عنه في تلقائية، ولكن ثقافته هذه، وهي زادُه في التعامل من أجل الحياة والبقاء، قد تفي، ولكن لن تكون كذلك إلى الأبد ما دام هو كإنسان اجتماعي حي نشِط، ومن ثم تطرأ المشكلات وتتراكم ويتسع نطاقها وتتزايد من خلال نشاطه الإنتاجي والإبداعي، وهو ما يستلزم إجابات جديدة على المشكلات الطارئة. وهكذا تكون الثقافة في تفاعل مُضمَر أو صامت طويل الأمد ولكنه أكيد، هي ضرورة لا غنى عنها، ولكنها عملية تفاعل حيوية ومطردة، ونظرًا لتعدد مقوماتها وعناصرها، طبيعة الإنسان كفرد، وطبيعة المجتمع، والإرث التاريخي، وطبيعة البيئة، وطبيعة المشكلات الطارئة، التي هي حاجات أو ضرورات للإنسان والمجتمع؛ لكل هذا تتباين من مجتمع إلى آخر ويصهرها امتدادها مع الزمان أو التاريخ. ولهذا أيضًا تكون عناصر الثقافة الوافدة أكثر قابلية للتغير عن أصولها النابعة منها؛ إذ بسبب تغير البيئة اختلفت المحددات كما تتغير كلمات اللغة الوافدة والدخيلة وتأخذ طابع اللغة المحلية، وهكذا مثلًا نجد أن المسيحية في مصر مصرية الطابع والطبيعة وتختلف عن المسيحية في أوروبا، وهكذا يتباين أسلوب تناول العقيدة لا العقيدة ذاتها، في مجال التطبيق الاجتماعي والممارسة العملية لكل مجتمع عن غيره.

والمعروف أن بنية المجتمع وأوضاعه، وعلاقات أبنائه وفئاته بعضهم ببعض تؤثر على هذا الإطار الفكري وتنعكس عليه؛ فالمجتمع الخاضع لسلطة أبوية قاهرة ذات سطوة وتسلط غير مجتمع تسوده روح العائلة، أو مجتمع اعتاد وجود شرائح اجتماعية متمايزة ومميزة فكرًا أو عملًا، ولكل دوره حسب مكانته في السلم … إلخ. وتتولى التنشئة الاجتماعية هذا الدور عن طريق التلقين، والمجتمع الخامل لا تتجدَّد ثقافته، بل تتهرأ وتسود التقليدية ويغلب عليه الحنين إلى الماضي. إن شعبًا متدينًا اسمًا لا ينتج ولا يعمل قانع بالاستيراد والثراء الطفيلي وحياة الاستهلاك الترفي، شعب يحمل ثقافة خاملة فاقدة الحياة والحيوية، بل نقول إنه قاتل لثقافته متخلِّف جامد، أصابه داء التصلب الثقافي؛ ذلك لأن الثقافة عطاء متجدد، وعبقرية كل شعب تتجلَّى في آثار ما لديه من قدرات إبداعية، والمعيار النهائي هو النشاط الإبداعي، وأسباب هذا الخمول ليست عبارة مجرَّدة منطوقها الابتعاد عن الدين، وليست فقط غزوًا خارجيًّا وهو حقيقة، بل تتكشف أسبابه من خلال دراسة تاريخية اجتماعية لبنية المجتمع الثقافية والفكرية والسياسية والتعليمية والاقتصادية، وعلاقة هذا المجتمع بالمجتمعات الأخرى.

ولا نظن أن الإنسان هو الإنسان، وأن المجتمعات البشرية هي ذات المجتمعات منذ قديم الأزَل، ولا ثقافة هذا وذاك هي هي، مهما اختلفت الأزمان، وتباينت الأماكن؛ إذ لا توجد ثقافة جديرة بأن توصف بأنها ثقافة حيَّة، وهي في ذات الوقت ثقافة جامدة لا تتغير إطلاقًا؛ ذلك لأن الإنسان المنتج يبذل جهدًا جماعيًّا، ويكافح في سبيل التحكم في البيئة، وسرعان ما يخلق هذا الكفاح الجماعي بدوره بيئةً اجتماعية ترتقي باطراد، وأي تغيير يطرأ على البيئة الطبيعية، أو بمعنًى أدق على طبيعة هذا الكفاح، قد تؤدي إلى إحداث تعديل في الأنظمة، وبالتالي في أساليب الحياة والفكر.

(١) آليات الغزو

وإذا كانت عبارة الغزو الثقافي تحدد مضمونها في ضوء إنجازات العلوم الإنسانية، ودخلت قاموس السياسة حديثًا، معبِّرة بذلك عن الوعي السياسي للشعوب المتحررة وإيمانها بدور الثقافة دعامة لبناء اجتماعي حيوي أصيل ومتجدد، فإننا نريد أن نوضح أن الغزو آلية من آليات الهَيْمنة، وعملية عدوان اجتماعي، وصراع بين المجتمعات أو بين فئات المجتمع وتحققه شهادة بضعف أحد الطرفين، وهو أسلوب قديم قِدمَ المجتمع البشري ذاته، ولكن أيضًا طرأت عليه تغيرات تتفق مع التطورات العلمية والتكنولوجية على مدى التاريخ حتى عصرنا الحديث.

وكم شهد التاريخ من معارك وصراعات بين المجتمعات أو داخلها، حاول فيها كل طرف أن يفرض ثقافته على الطرف الآخر تأكيدًا لانتصاره العسكري أو لحقه، كما يظن، في الهيمنة.

وقد تتمثل آليات الغزو الثقافي في صورة جحافل لجيوش غازية أو هجرات وافدة، أو موجات إعلام ودعاية، ولكن ما دام الأمر يتعلق بتدمير الثقافة، وحتى لا نعلق أخطاء داخلية على مِشْجب الغزو الخارجي فحسب، نقول إن ما يدمر الثقافة ليس الغزو فحسب ولا تربص الأعداء، وإنما يقتلها ويدمرها القهر أيضًا، قهر السلطة: سياسية أو اجتماعية، وقهر التراث للعقول والنفوس، إذا ما أصابه داء التيبس والتحجر والجمود، فهذا وذاك يشل حرية الحركة ويئِدُ الإبداع، وهما شرطا التجدد والإحياء الثقافي. وعلى أرضية الجمود والتحجر، ومن ثم العجز عن استيعاب الجديد، ورفض التغيير، يكون الرفض المرضي لكل وافد جديد دون تمييز بين ثقافة غازية تستهدف التدمير وبين تفاعل، أخذًا وعطاءً، مع فكر حضاري جديد يمكن تمثله وهضمه لإنتاج جديد. ولهذا شاع بيننا أو لنقُل هناك من يروج بيننا الآن لمصلحة في نفسه، رفض الفكر الغربي بعامة، بل ورفض كل فكر غير إسلامي لا يمس العقيدة، وبالتالي الدعوة إلى طرح، وليس «نقد»، كل إنجازات علوم الغرب جانبًا، وطبيعي بالتالي نبذ مناهج البحث، وإقامة علوم إسلامية بديلة عن علوم المجتمع والجغرافيا والتاريخ، وربما البيولوجيا والفيزياء أيضًا، ورأوا في تحصيل هذه العلوم استغرابًا أو تغريبًا، أي تبعية للغرب.

وحسب النظرة المطلقة التقليدية فإن الثقافات متعدِّدة متباينة، وكل ثقافة ماهية مستقلة متمايزة منعزلة ومكتملة، ويلزم عن هذا إنكار كامل لتفاعل الحضارات والثقافات، أو ليأخذوا هم منَّا إذا شاءوا. وهكذا نُلقي بأنفسنا في مهاوي الانحصار الذاتي، حيث نقنع بما بين أيدينا، ونحلق مع تخيُّلاتنا عن ماضٍ عريق، وأقعدتنا الأوثان والأوهام عن الإنتاج والتجديد، إنها وثنية من نوعٍ جديد معبودنا فيها السلف الصالح، وكان أجدر بنا أن نتشبَّه بهم جرأةً على العمل، واحترامًا لإعمال العقل.

إن التبعية مرفوضة من حيث إنها استسلام لفكر الآخر، أيًّا كانت درجة صوابه، والتحصيل لا ينفي الفهم النقدي الواعي، والتمييز بين ما هو ذاتي خاص بالبيئة والثقافة والأيديولوجيا، وبين ما هو موضوعي مشترك إلى حين الكشف عن منهج أرقى.

لسنا وحدنا من تعرضنا لغزو ثقافي أوروبي، ناهيك عن غزوات ثقافية تاريخية سابقة، بل تعرضتْ شعوب العالم الثالث كله، ولكنها كما قلنا جاهدَتْ واجتهدت؛ لكي تميز الخبيث من الطيب، ولم تضع علوم الغرب ومناهج بحثه وأنساق معارفه جميعها في سلة واحدة وجعلتها من المحرمات، بل أفادت من علوم الغرب، تمامًا كما أفاد الرافضون للغرب من علوم الغرب أيضًا، وعرفوا أن هناك حضارات متعددة، وليست حضارة إنسانية واحدة ممتدة على مدى التاريخ.

لقد كانت مناهج البحث وبعض إنجازات علوم الغرب هي السند الذي اعتمدت عليه شعوب العالم الثالث، ومن بينها الشعوب الإسلامية، في إدراك دور الثقافة القومية وسبل البحث عنها وتحقيقها لتتحدَّى الغرب ذاته، لهذا حري بنا ونحن نتحدث عن الغزو الثقافي ألا نخلط بين آليات متباينة للتفاعل الثقافي بين المجتمعات وفي داخلها أيضًا، مع النظر إليها نظرة تطورية ارتقائية في سياق التقدم العلمي والتكنولوجي، ووضع كل شيء في إطاره الزمني والمكاني.

هناك أولًا عملية التثاقُف، أو ما نؤثر أن نسميه التلاقح الثقافي، للدلالة على أنها عملية إخصاب قائم على التفاعل المتبادل الإيجابي بين طرفين نشطَين، وهو ما يحدث بين حضارتين أو أكثر تتوافر لكل منهما شروط العطاء والتجديد، أو أن تأخذ حضارة صاعدة عن حضارة أخرى آفلة على نحو ما أخذت أوروبا عن العرب، ونهلت من علومهم قبل كبوتهم، وأفادت بها في بناء نهضتها أو على نحو ما أخذ العرب عن اليونان والهند وغيرهما، فها هنا نجد عملية إخصاب بين بذرتين من حضارتين مختلفتين، وأدى الإخصاب إلى نتاج جديد كيفيًّا. ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يصيب البشرية لو أن أوروبا حكَمَتها عقلية مثل تلك العقلية الداعية إلى الصد عن فكر غريب عنها، وأبت أن تتلقى بقلب مفتوح من علوم العرب. وجدير بالذكر أن جهدها هذا في سبيل التحصيل تزامن مع جهدها في سبيل إحياء تراثها القومي القديم، وتجاوز نهج الكنيسة الذي نفى القديم وجعل العقيدة المقوم الثقافي الوحيد لكل العالم المسيحي. بل ولنا أن نتخيل أيضًا بأي شيء كان لنا أن نفاخر، لو أن العرب في عصرهم الذهبي قنعوا بالعقيدة وحدها وأبوا الأخذ عن علوم اليونان ومصر وفارس والهند والعراق والشام؛ هل لو رفضنا أن نرث إنجازات علوم هذه الحضارات كنا سنجد بين أعلام التاريخ من نفاخر به من أمثال البيروني والخوارزمي وسيبويه وابن سينا وابن رشد وغيرهم، وجميعهم ورَثة حضارات متباينة غير حضارة شبه الجزيرة العربية، ومنهم من سطَّر علومه بأكثر من لغة غير العربية وحدها؟ وهكذا كانوا أهل فضل على العقيدة، إذ بهم وحدهم أضحت قوة حضارية قادرة على البقاء والعطاء حينًا، كانوا أصحاب فضل حضاري على أوروبا إبان نهضتها. معنى هذا أننا لا نستطيع أن نضع أحكامنا وكأنها أوامر ونواهٍ قاطعة ونقول مع القائلين: نعم لعلوم الإسلام، وإلى الجحيم بعلوم الحضارات الأخرى، أو أن نقضي بالقطيعة والعزلة بين إنجازات الحضارات الأخرى وبين إنجازات حضارتنا! بل نقول: وأين هي حضارتنا الآن؟ إن ما نملكه تاريخٌ مضى، وأولى بنا أن نبعث الحياة في نهج هؤلاء العلماء الأفذاذ، فهم الأحق بوصفهم أيضًا السلف الصالح الذي نقتدي به، وأن نتمثل مع هذا البعث إنجازات الآخرين حتى نكون أهلًا للعطاء، وهكذا تكون عملية التلاقُح عملية مشروعة وواجبة تمامًا.

وهناك – ثانيًا – عملية الملاءمة الثقافية، وهي أشبه بالاستيراد نتيجة قصور وعجز المنتج المحلي، وتبقى السلعتان معًا دون أن تؤثر إحداهما في الأخرى، إلى أن يتم هضمهما، ثم تكتسب الطابع القومي أو يلفظها البناء الاجتماعي لعدم الصلاحية. وذلك على نحو ما نجد في مجال التشريع مثلًا، حيث تقتبس بعض الشعوب نظم التشريع الإداري أو السياسي من بلد أحرز تقدُّمًا في هذا المجال لتفيد به في مجالها الداخلي، وعرف التاريخ أمثلة كثيرة لذلك بين الحضارات القديمة والحديثة. وخير مثال على هذا في التاريخ القانون الروماني أو نظم الإدارة أو تقسيم السلطات حديثًا، فقد طرح القانون الأوروبي في المستعمرات مفاهيم جديدة، بدت غريبة أول الأمر مثل حقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير وحق الفرد في هذا كمواطن، أو أن الأمة مصدر السلطات والمساواة بين المواطنين … إلخ، أو أن يكون القانون هو أداة التغيير الاجتماعي تعبيرًا عن إرادة الغالبية لا إرادة الفرد، ولعل الدراسات الاجتماعية التاريخية لواقعنا تكشف لنا عن دور عمليتي التلاقح الثقافي والملاءمة الثقافية في تطور المجتمعات، وما أحوجنا إلى مثل هذه الدراسة التي تغطي تاريخ شعوب المنطقة منذ أقدم الحضارات. ألم يكن للتجارة مثلًا باع كبير في التفاعل الثقافي بين مصر وفينيقيا، وبين قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية وقبائل الشمال، ثم بين شبه الجزيرة وبين الشام؟

إن الكاتب والمفكر العظيم الراحل الأستاذ أحمد أمين يكشف لنا عن ثراء عملية التلاقح الثقافي في شبه الجزيرة قبل الإسلام بين قبائل هذه المنطقة وبين الفرس والروم والهند والشام؛ مما يؤكد أن التفاعل الثقافي عملية اجتماعية حيوية وضرورية للتنشيط والتجدد الثقافي. وما أشبه العزلة الثقافية واجترار الثقافة الواحدة لتاريخها وعناصرها بعملية التلاقح البيولوجي بين أبناء سلالة أسرة واحدة، فتعطي نسلًا ضعيفًا لا يقوى على مواجهة تحديات الحياة، ويكون مصيره إلى الانقراض على عكس التلاقح بين أبناء سلالات متباعدة؛ فإنه يعطي نسلًا قويًّا قادرًا على البقاء والعطاء.

ها هنا يتضح الفارق بين التلاقُح الثقافي أو التفاعل بين الثقافات الاجتماعية وبين الغزو؛ فالتلاقح بحكم كونه عملية تفاعل وتخصيب نشطة بين بنيتين اجتماعيتين أو أكثر يستلزم توافر شروط أساسية؛ منها أن تكون الثقافة الاجتماعية ثقافة مواجهة وتحدٍّ من واقع الفعالية النشطة والاتصال التاريخي، لا أن تكون أيقونة ترمز إلى معنًى مقدس قديم، وأن تملك هذه الثقافة تصورًا تاريخيًّا عن نفسها، وتصورًا للعالم من حولها، ورؤية مستقبلية تعبئ جهودها، وأن تؤمن بأن النشاط والثراء الثقافيين لا يتوافران إلا لشعب منتج؛ لأن الثقافة نتاج النشاط الإنساني الاجتماعي وفق سياق العصر وضروراته؛ إذ لا مجال لكي أعيش على مستوى القبيلة فكرًا واجتماعًا وإنتاجًا، وأقول إنني مجتمع نشِط لي ثقافتي المعاصرة، فالبنية الثقافية بنية قادرة على تمثُّل وهضم الوافد والاستمرار في تطورها واعية بذاتيتها في حركة ارتقائية طالما صانت حيويتها وشروط فعاليتها؛ ولهذا فإن تفاعلها مع الثقافات وتمثلها للوافد يثريها ويمنحها قوة على قوة، ولكنها تعاني من ضربة قاتلة إذا أصابها داء الاكتفاء الذاتي، كما أنها هالكة لا محالة إذا أصابها داء عمى الألوان، فلم تفرق بين التفاعل الثقافي وبين الغزو الثقافي.

إن الغزو الثقافي عملية صراع وعدوان، حتى وإن لم يتم الغزو في ظل سلاح وحرب دموية، فالهدف واحد وهو في جوهره إضعاف الوعي التاريخي للشعب الضحية إن لم يكن القضاء عليه ومحو ذاكرته، ويبدأ الغازي بتدمير للشعب الضحية، إن لم يكن القضاء عليه ومحو ذاكرته. ويبدأ الغازي بتدمير الآثار المادية الدالَّة على هذا التاريخ أولًا واعتباره من المحرمات تحت أي اسم من الأسماء، ثم يقحم على ذاكرة الشعب المهزوم قصصًا أو تاريخًا مصطنعًا أو تاريخًا يتفق مع أيديولوجية الشعب الغازي ويغذي بها عقل المجتمع المهزوم. وتقترن هذه العملية بنوعٍ من القهر الثقافي، أي فرض الثقافة بوسائل الترغيب والترهيب بحكم وجود الغازي في السلطة، وتستمر عملية القهر الثقافي وصولًا إلى الهدف الأقصى، الذي قد يتحقق أو لا يتحقق، وهو تحلُّل دعائم الثقافة المحلية ومحو الذاكرة التاريخية، أو محو اللغة الوطنية وتشويه التكوين النفسي، ومن ثم دفع الشعب الضحية إلى حالة من النكوص أو الانحلال التي تتمثَّل في نوع من اللامبالاة الكاملة وفقدان الانتماء، والانحلال هنا يكون بالمعنى الحقيقي للكلمة لا المجازي، حيث تنحل رابطة التضامن الاجتماعي بين البلد، وهو ما يعبر عنه بعبارة الشعور بالنحن أو «الشعور بالانتماء الاجتماعي». هذا هو الهدف الأقصى أو الأمثل، إن جاز لنا استخدام هذا اللفظ، للغزو الثقافي، ولكن تختلف وتتباين الأساليب باختلاف العصور، كما تختلف النتائج باختلاف محصلة القوى بين أطراف النزاع والظروف الداخلية؛ الاجتماعية والسياسية ومقومات المناعة، فكلما ازدادت عراقة شعب من الشعوب ازدادت مناعته، وما أحوجَنا إلى أن تكون مصر — على سبيل المثال حالة للدراسة في تاريخها الطويل — وكانت على مدى تاريخها هدفًا لغزوات مسلحة وهجرات بشرية واسعة تعاقبت على مدى آلاف السنين وفدت للاستيطان وإن زعمت أنها جاءت لتبليغ رسالة.

وتعتبر الهند مثالًا آخر لشعبٍ واجه غزوات ثقافية متعدِّدة بفعل هجرات بشرية أو غزوات عسكرية. تعرضت الهند قديمًا قبل الميلاد بعدة قرون لغزوات ثقافية على أيدي قبائل الآريين الذين زحفوا إلى الهند من جبال الهيمالايا شمالًا حاملِين كتابهم المقدس «الفيدا»، وهو الآن الكتاب المقدس عند غالبية سكَّان الهند أصحاب الديانة الهندوكية. وطبيعي أن هذه القبائل الزاحفة، شأنها شأن حملات تاريخية عديدة، لم تأت بكتابها المقدس فحسب، بل إنهم بشر يحملون فكرهم ومعتقداتهم وسلوكهم ونظرتهم إلى الحياة الدنيا والآخرة وعلاقاتهم، أي يحملون مع كتابهم المقدس ثقافتهم القومية أيضًا. وسوف نجد أمثلة عديدة لمثل هذا الغزو الثقافي القائم على الهجرات في تاريخ شعوب القارات المختلفة والذي حمل طابعًا دينيًّا في جوهره، وأعطى لهذه الشعوب صورة جديدة عن العالم والحياة والوجود والعلاقات بين الناس. وغالبًا ما تحدث بعد ذلك عمليات ملاءمة ثقافية بين الثقافة الجديدة الغازية، حتى في صورتها الدينية، وبين الثقافة القومية التقليدية، ولهذا تتباين الصور التطبيقية، أي صور الممارسة السلوكية، بتباين وتعدد مواطن الثقافات القومية.

وإذا صادفت الثقافة الوافدة ثقافة أخرى محلية تجمع بينهما عناصر مشتركة، بحيث لا تكون غريبة تمامًا تجري عملية ملاءمة وتلاقح، وتظهر صيغة جديدة تتلاءم مع البيئة المحلية التي استوطنت فيها، على نحو ما حدث بالنسبة لكل من العقيدة المسيحية والعقيدة الإسلامية في مصر. أما إذا كانت متعارضة وغريبة تمامًا فقد تظل الثقافتان متجاورتَين حينًا، ثم يحدث أحد أمرين من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي: إما أن تنتصر الثقافة المحلية عليها وتسبغ عليها رموزها وعاداتها السلوكية، أو أن تسعى الثقافة الغازية من خلال أصحابها، وبأساليب متباينة إلى القضاء على الثقافة المحلية، أو عمل تصفية جسدية لأهلها وقهرهم على نحو ما فعل المهاجرون الأوروبيون مع الهنود وسكان الأمريكتين الأصليين.

(٢) الغرب الأوروبي والعالم الثالث

حَرِيٌّ بنا حين نتحدث عن الغزو الثقافي الأوروبي لبلدان العالم الثالث أن نمايز بين أمرين:

  • أولًا: أطماع أوروبا الاستعمارية وتوجهاتها الأيديولوجية، وتوظيفها لهذه التوجهات في العلوم وغير العلوم للحطِّ من حضارات الشعوب المستعمرة، وتذليل استغلالها، وكذا أساليبها في سبيل هذه الغاية وما حققته من نجاح.
  • ثانيًا: جهود أوروبا في حمل مِشعل الحضارة والتقدم بعد الكبوة التي أصابت العالم العربي أو الإسلامي، تلقَّفت أوروبا الناهضة بعد طول سُباتٍ مشعل التقدم العلمي من العرب، وحافظت عليه وغذَّته وأبدعت، فكانت حلقة في سلسلة طويلة لركب التقدم العلمي والارتقاء الحضاري الذي تناقلته شعوب عديدة أسهم كلٌّ بنصيبٍ: مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين واليونان القديمة والفرس والروم والصين والهند والعرب وأوروبا.

حقًّا إنها سلسلة ممتدة متباينة المصادر ثرية المنابع غنية المضمون، تناقلتها الأيادي القادرة على البذل والعطاء، وسقطت من أيادٍ أوهنها القهر السياسي والاجتماعي، وأعماها التحجر والعزلة والانكفاء على الذات، ومشعل الحضارات والتقدم العلمي والتكنولوجي ليس حكرًا على شعب دون سواه، ولكنه السهل الممتنع، يهب نفسه للقادرين على تجديده وإثرائه بقلب وعقل مفتوحين.

أما أوروبا الاستعمارية فدفعت جيوشها الغازية للسيطرة على شعوب إفريقيا وآسيا ثم الأمريكتين، وحتى يستقر لها الأمر دفعت بعد ذلك بحملات الغزو الثقافي، في محاولة لتحقيق ما وصفناه سابقًا بالهدف الأقصى من الغزو الثقافي، وحشدت في سبيل ذلك كل ما توافر لديها من إمكانات يسَّرَها التقدم العلمي والتكنولوجي آنذاك، وتعددت وتباينت الأساليب. سعى الفرنسيون على سبيل المثال إلى استيعاب الإنسان الإفريقي داخل الثقافة الفرنسية، وأوهموه بأنه ووطَّنه جزء من فرنسا بدلًا من أن يقولوا إنهما جزء من ممتلكات فرنسا، وعمدوا إلى تدريب نخبة من الإفريقيين لهذا الغرض، غير أن هذه النخبة، وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة والتدبر، تلقَّى بعضهم العلم في المدارس المحلية التي أنشأها المستعمر، ولكن هذا البعض، شأنه شأن آخرين في الداخل، ارتبطوا بالمستعمر وبقيمه وسلوكه، وتلقى بعضهم الآخر العلم في باريس، وهذه المجموعة الأخيرة هي، أو أكثرها، التي عارضت بقوة فيما بعدُ سياسةَ الاستيعاب، مؤكدة وضعها القومي وطبيعتها الزنجية، وخير مثال على ذلك أحمد سيكوتوري، وليوبولد سنجور، صاحب مذهب الزنوجة.

واتبع البريطانيون أسلوبًا آخر؛ إذ سعوا إلى الحكم والسيطرة بطريقة غير مباشرة، واصطناع قادة محليين أو شراء شيوخ القبائل أو زعماء دينيين؛ ليكونوا هم الحكماء الوسطاء بين المحتل وبين أبناء الوطن؛ ويتولوا هم عن البريطانيين مهمة التصدي للنزعات الوطنية. والغريب أيضًا أن هؤلاء تحولوا إلى دُمًى في يد الاستعمار. ومن هنا أعود لأقول إن الظاهرة الجديرة بالدراسة والتدبر أن كثيرين ممَّن تلقوا علومهم في الغرب أفادوا من علوم الغرب لمهاجمة الغرب والثورة عليه، على عكس الزعماء المحليين الذين اشتراهم الغرب، وكانوا أداة وعونًا له على بني وطنهم.

إن الوطنيين ممن تعلموا في الغرب أفادوا بالجديد الأصيل وفرَّقوا بحِسهم الصادق البِكر بين الغث والثمين، وعاشوا بقلوبهم ووجدانهم مع وطنهم وتاريخهم، وعقدوا الآمال على مستقبلٍ زاهر لبلادهم، وأدركوا زيف أيديولوجية الغرب، ونزعوا عنه القناع، وأيقنوا أن مستقبلهم رهن بمستقبل بلادهم. ألسنا نجد هذا واضحًا في شخصيات مثل رفاعة الطهطاوي وغاندي والشيخ محمد عبده، الذي قال عبارته الشهيرة في أوروبا: «إنني أرى إسلامًا ولا أرى مسلمين.» ولا نستطيع أن نتهمه بالتغريب أو الاستغراب وغيرهم وغيرهم.

وسعت حكومات الاستعمار إلى تدمير الهوية الثقافية للشعوب الخاضعة لسلطانها عن طريق تغيير النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، وتشجيع النخبة المحلية على تقليد الغربيين في أساليب حياتهم.

عمد المستعمر إلى تشويه الفنون المحلية وتجريدها من دورها الاجتماعي، واجتثاثها من نبعها الأصيل وتحويلها إلى مجرد سلعة تجارية، تُرضي ذوق من يدفع مالًا أكثر، وهو السائح الأجنبي أو النخبة المسيطرة على زمام الأمور.

واتخذ المستعمر الدين هدفًا له لهدم ركائزه، واستهدف الدين من حيث هو قوة فعالة محركة ضمن الخصوصيات الروحية في ثقافة المجتمع، والتي تؤكد الانتماء القومي، وليست المشكلة هنا دينًا بذاته، أو الإسلام دون سواه أبدًا، بل كل الأديان التي هي مقوم متكامل مع مقومات الثقافة الاجتماعية الأخرى روحية ومادية، استهدف الإسلام كما استهدف المسيحية وجميع العقائد المحلية في مشارق الأرض ومغاربها.

وقد يبدو غريبًا أن نقول إنه في مصر — على سبيل المثال — شنَّ حربًا جنودها إرساليات التبشير المسيحي ضد الكنيسة المصرية؛ إذ سعت هذه الإرساليات، بكل الوسائل إلى تحويل بعض أقباط مصر من الأرثوذكسية، وهي العقيدة المصرية، إلى البروتستانتية أو الكاثوليكية، وليكونوا أقرب إلى الأوروبيين عادة وسلوكًا. وشجع المستعمر على ظهور فرق دينية إسلامية ومسيحية، لم تكن معروفة من قبل وتأتمر بأمره. وأدرك المسلمون والمسيحيون الخطر الذي يتهدَّدُهم ربما دون أن يدركوا المضمون الثقافي القومي.

ومن أخطر الأساليب أيضًا في هذا الصدد السيطرة على التعليم، من حيث تغيير الأسلوب، وتحديد نطاقه ومَداه ومضمونه، بحيث يخدم كل هذا أهداف الاستعمار، وأفدحها أثرًا إخصاء أو وأد الهوية الثقافية القومية. أنشأ المستعمرون مدارس محدودة في أنحاء متفرقة لتعليم أبناء البلاد لغة المستعمر على حساب لغة الوطن، ويكونون نواة لنخبة متمايزة عن بقية أهل البلاد. وشاع تقليد ثقافي بين الشعوب المستعمرة أن لغة الاستعمار رمز لوضع اجتماعي أرستقراطي متعالٍ. واقترن هذا الشعور بنظرة احتقار لأبناء الشعب من العامة؛ الفلاحين والعمال، فضلًا عن احتقار لغة الوطن. ولم يكن المستعمرون الأوروبيون متفردين في ذلك. كان هذا الأسلوب في الغزو الثقافي عن طريق اللغة ديدن كل الغزاة على مدى التاريخ، وأسلوب التعالي واحتقار العامة أسلوبًا شائعًا. ولعلنا في مصر لا ننسى كيف أن من شاء التقرب زلفى إلى السلطات الحاكمة في ظل الاستعمار تحدَّث لغتهم، وقد تكون الفرنسية أو الإنجليزية أو التركية أو غيرها.

وارتبطت مناهج التعليم ارتباطًا وثيقًا بالمناهج التعليمية في البلدان الغازية.

ادعى الاستعماريون أن خطة التعليم موضوعة لتحقيق التلاؤم بين أبناء البلد وبين مجتمعهم، ولكن كيف يتحقق هذا التلاؤم، بينما لا يتعلم الأطفال غير اللغة الأجنبية كلغة أولى، وهي التي يفكر بها؟ أما اللغة المحلية فهي لغة ثانية وثانوية، ثم يقرأ في كتب الدراسة عادات وأساليب حياة الأجانب ليحاكيها، وصاغ المستعمرون تاريخ هذه البلاد صياغة جديدة تتفق ومصالحهم وتلتقي وأهدافهم، وهذا هو ديدن كل الغزوات الاستعمارية الاستيطانية؛ إذ تسعى إلى استيعاب البلد أرضًا وثقافة، وتشويه تاريخ هذه البلاد.

ومصر خير مثال على ذلك منذ احتلال الفرس لها؛ إذ ما هو التاريخ المصري الذي اعتاد أن يدرسه أو يتلقاه التلميذ المصري؟ بل ما هو التاريخ المصري الذي اعتاد الغزاة على اختلاف هذه الأحقاب أن يحكوه عن مصر؟ ألم يكن في جميع الأحوال مغلَّفًا بقناع أيديولوجي يعبر عن رؤية ومصالح الغزاة أو الحكام؟ ويغرسون في العقول أن التاريخ الحق المضيء يبدأ بهم، ولكن ما قبل ذلك فهو أدخل في باب المحرمات.

ونلاحظ في نظم التعليم التي فرضها الاستعمار على المستعمرات أنها نظم تعمد إلى نقل القيم والأذواق الغربية دون نقل المهارات والتقنيات الغربية، بل وربما استنزاف المهارات المحلية أو قتلها كما كان يحدث قديمًا؛ فالمدارس في ظل الاستعمار الغربي أدوات غزو أو تشويه ثقافي، والجامعات أدوات إنتاج أو تخريج نقلة ينقلون العلم كأنهم حفظة ولا يبدعون، فباتت الجامعات وكأنها امتداد لعصور الانحطاط التي عاشت حياتها العلمية على الشروح والتفسير ووضع الهوامش، ما لم يقترن دورها بحركة وطنية صاعدة متحررة. ونجحت المؤسسات التعليمية الاستعمارية في غرس نزعة الولاء للعلم شكلًا، وليس الروح العلمية كمنهج، مع بيان الخلفية الأيديولوجية والقيمية، وغرست رهبة العلم وتمجيده ظاهريًّا وليس إتقانه، والانبهار بالإنجازات دون القدرة على الإبداع والإنجاز.

وهكذا شاء الاستعمار أن تكون المؤسسات التعليمية عونًا له على فرض سطوته الثقافية.

ووظف الاستعمار بعض الفروض العلمية المقصورة. ونعود لنقول بعض الفروض العلمية المقصورة وليس المنهج، وذلك لترويج أفكار واتجاهات تدعم أيديولوجية الاستعمار، من ذلك مثلًا ما تصوَّره العلماء مع البدايات الأولى لعلم الأنثروبولوجيا وعلم الآثار والجيولوجيا والتطور من أن الحضارة الإنسانية واحدة ترتقي في خط واحد صاعد، وحكموا أهواءهم، وزعموا — بناء على هذه النظرة — أن الحضارة الأوروبية هي أرقى الحضارات، أما شعوب آسيا وإفريقيا والأمريكتين فهم «بدائيون»، أو أصحاب حضارة أدنى، أو هم سقط متاع، ومكانهم على هذه الأرض أن يكونوا رقيقًا في خدمة الحضارة الأرقى.

وهكذا عمد الاستعمار إلى غرس العنصرية، هذا الإرث الكريه الذي يزعم أن الرجل الأبيض جنس أرقى، والشعوب الملونة آكلة للحوم البشر، كسولة خاملة غير منتجة ولا قادرة على الإبداع، وروَّج لهذه الآراء بوسائله المختلفة، حتى تجد الشعوب نفسها وكبلتها أوهام استقرت في وجدانها، وكأنها حقائق «علمية».

(٣) التقليد والاستعمار

وإذا كان الهدف الرئيسي لمختلف أساليب الغزو الثقافي هو الإبقاء على الشعوب المستعمرة رهن التخلف، وأسرى مشاعر الدونية حتى تكون أسلس قيادًا، فليس من الضروري الاعتماد فقط على ثقافة وافدة مفروضة من الخارج، أو غرس أوهام وأفكار مغلوطة، فهناك أسلوب آخر يعزز ذلك الهدف الاستعماري المنشود، ألا وهو ترسيخ التقليد. اقترنت سياسة المستعمر، تمامًا مثلما اقترنت عصور الانحطاط، بجمود التقليد، وتحجُّر التراث، ومن ثم الإبقاء على المجتمع عند حدود التخلف الحضاري.

روَّج المستعمرون، وروَّج معهم التقليديون، وكأنهم رجع الصدَى من حيث لا يدرون، عبارة الشرق شرق والغرب غرب. ولكن بأي معنًى؟ كان من بين المزاعم أو الفروض «العلمية» التي صادفت قبولًا واستحسانًا لدى التقليديين، ودغدغت وجدانهم، واتسقت مع أوهامهم أن الشرق صاحب تقاليد ثابتة وثقافة واحدة لا تتغير، ومن ثم فإن الدعوة إلى التغيير منافيةٌ لطبيعة الأمور، بل هي جحود وكفر ومروق. إن الغرب رغبةً منه في الإبقاء على الوضع القائم، وهو يتفق مع هوى التقليديين، غرس فكرة الشرق شرق ليبقى المجتمع الشرقي الراكد، ولا نزال نسمع من يردد أن حضارة الشرق، أو ثقافة الشرق، جوهر واحد ثابت لا يتغير. هكذا كل الشرق، على اتساع رقعته الجغرافية، وعلى الرغم من إيمان الجميع بأن فكرة ثقافة إنسانية واحدة، أو حضارة إنسانية واحدة هي فكرة خاطئة، بل ثقافات وحضارات متباينة؛ على الرغم من هذا، لا نزال نسمع من يردد ثقافة شرقية واحدة ثابتة لا تتغير. وسبب ذلك المفهوم الواسع لمعنى الثقافة الاجتماعية، الذي هو جماع عوامل عديدة متفاعلة مع بعضها: الإنسان، الذي هو محصِّلة تطورات اجتماعية بيئية ارتقائية، والتاريخ، الذي هو جهد ونشاط ومعاناة، وذكريات على امتداد الزمان المتصل، واللغة والرموز الاجتماعية والأعراف، والتكوين النفسي، ومن بينه الخصائص الدينية. ولو حدث ودان جميع بني البشر لدين واحد، فلن تكون ثقافتهم واحدة في مشارق الأرض ومغاربها، فلن تكون ثقافة أبناء الإسكيمو، المادية والروحية، مطابقة لثقافة ساكن الصحراء أو الغابات الذي يتحد معه في العقيدة الدينية. ويغفل التقليديون أيضًا في نظرتهم هذه أن الثقافة، وهي أسلوب عمل وتعامل بين الإنسان والبيئة، بمعناها الواسع، تتغير بتغير طبيعة النشاط والتحول الكيفي المعرفي، قد يكون التغير بطيئًا، وقد يتخلف خطوات عن التغير المادي في المجتمع، ولكنه حادث بالضرورة، ومن ثم لا محلَّ للقول بأن ثقافة ما هي ثقافة واحدة لشعوب متعددة، وجوهر ثابت لا يتغير بتغير الأزمان؛ ولهذا يبدو التقليد بمعناه الجامد المتحجر ساعدًا أيمن لقوى الغزو الاستعماري، التي تهدف إلى إجهاض جذوة الفعالية الحيَّة في ثقافات الشعوب.

صفوة القول أن التراث النابض بالحياة هو التربة الصالحة للازدهار والتطور، أمَّا التقليد الجامد فهو تابوت يحوي رفاتًا باليًا لا خير فيه، ولا نفع لنفسه ولأصحابه، وأولى بنا أن نتخلى عن موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، مسلَّحين بمقومات الهجوم عُدةً وعلمًا، وأن نتخلى عن موقف الخوف على الذَّات إلى موقف الانطلاق بالذات؛ ذات طموحة تعي نفسها وقوانين عصرها، وأن نتخلى عن أسطورة غرستها عصور الانحطاط وعصور الاستعمار، زاعمةً أن الشرق شرق والغرب غرب، وأن الشرق روحاني والغرب مادي؛ إذ إن هذا غير صحيح، فليس بالروح وحدها، ولا بالمادة وحدها، يعيش الإنسان على الأرض. وكان العصر الذهبي للإسلام عصر روح ومادة على السواء، وإلا ستطيش السهام وتتجه مسيرتنا إلى الغيب، ولن يفيد من ذلك غير المستعمر ذاته، وأصحاب السلطان، وكأننا حققنا لهم مقاصدهم.

اصطلح هنا الاستعمار والتقليديون، وربما دون اتفاق معقود، على رفض فكرة التغيير الاجتماعي ومحوها من الأذهان، وأصبح للشرقيين «الروحيين» بالنزعة والسليقة، كما يزعمون، موقف الرفض من التغيير، وحرص الطرفان على تطبيق مفهوم الثقافة الروحية لتكون مقصورة على ما هو غيبي فقط، فتكون الغلبة لعالم الغيب دون عالم الشهادة، ولهذا أثره في تعويق فعالية المجتمع. وبذلك يتحوَّل الإنسان في ظل هذا المناخ إلى مقولة أخروية أو غيبية عقله معطل، وعيناه وقلبه ووجدانه معلَّقون جميعهم بالغيب والآخرة، ونترك لهم الدنيا ونقنع بصبِّ اللعنات عليهم؛ لأنهم دنيويون ماديون ونغفل التوازن بين الأمرين بمفهومهما الواسع.

إن ثقافات الشعوب لا تختلف عن بعضها من حيث هذه مادية وتلك روحية، بل تختلف من حيث أسلوب تناول كل منها لما هو مادي وما هو روحي، ولنتذكر مرة أخرى أن الثقافة القومية تزدهر في مجتمع منتج، والمجتمع المنتج دائمًا وأبدًا مجتمع مبدع، مبدع ماديًّا وروحيًّا، ولهذا أُطفئت جذوة الإبداع في عهد الاستعمار، مثلما أُطفئت في عصور الانحطاط، على الرغم من شعار الخلافة العثمانية أو المملوكية — مثلًا — الذي وحَّد الأقطار تحت لواء واحد، وقضت الشعوب قرونًا وهم رعايا لم يحقق الناس فيها ذواتهم، وتحول غناؤهم على المدى إلى أنين يجترون الألم المكنون والإحباط الجاثم على الصدور.

(٤) الغزو الثقافي من الداخل

ترددت في الآونة الأخيرة عبارة الاستغزاء الثقافي أو الغزو الثقافي من الداخل، ويختلف مضمون هذه العبارة أو مفادها باختلاف منظور قائلها، فإذا كان القائل صاحب فكر تقليدي ويستخدم مصطلح الثقافة بمفهومه الروحي الضيق الذي يطابق فيه بين الثقافة القومية وبين الدين، فإنه سيرى، بطبيعة الحال، أن كل ثقافة وافدة هي ثقافة غريبة دخيلة، ومن ثم يتعين رفضها ما لم تكن متَّسقة مع تفسيره هو للعقيدة.

وإذا كان القائل يؤمن بالثقافة بمعناها الواسع الروحي والمادي معًا، وبأنها عملية دينامية تاريخية اجتماعية، تنمو وتثري مع نمو وثراء المعرفة الإنسانية والتعامل الناجح بين الإنسان الاجتماعي وبيئته، وبالتالي فهي امتداد وتغير، وليست جوهرًا ثابتًا ظهر إلى الوجود كاملًا مرة وإلى الأبد، مثل هذا القائل سيرى أن التفاعل الثقافي أو التلاقح الثقافي بين الثقافات عنصر مهم من عناصر التطور والارتقاء، شريطة ضمان فعالية ونشاط الأطراف المشتركة في عملية التلاقح، وتوافر عقل ناقد وفكر مفتوح يعي ذاته بتمايزها الثقافي التاريخي، ويعي مستقبله وتصوره للعالم والحياة.

وقد لا يكون الغزو الثقافي لصالح قوة استعمارية خارجية غازية، بل قد يكون لصالح فئة اجتماعية ضد فئة أو فئات أخرى داخل المجتمع، وهو هنا نوع من القهر الثقافي، مثال ذلك الترويج داخل الولايات المتحدة لمعلومات يشاع أنها «عملية» ضد السود والملونين بعامة، والزعم بأنهم أقل ذكاء من البيض، ويقدمون اختبارات نفسية تؤكد هذا الزعم. وحَرِيُّ بنا أن نشير هنا بجهد عالم النفس الكندي أوتو كلاينبرج، الذي دحض، وغيره كثيرون، هذه الفرية في عديد من الدراسات.

أو قد يكون الغزو الثقافي لصالح إقليم أو أقاليم أخرى داخل تجمع جغرافي واحد، لصالح نظام سياسي في ذات المنطقة الجغرافية، يملك من أسباب القوة التي تساعد على ذلك، ويرى مصلحته في تقويض دعائم ثقافة شعب آخر، على نحو ما نرى في دول النفط، وكيف تستخدم أمواله لشن هجمات وخلق تيارات داخل مجتمعات عربية. وخير مثال هنا مصر أيضًا، فإن الهجمات تلو الهجمات يشنها أصحاب رؤية أيديولوجية محدَّدة، خاصة حكام السعودية ضد التاريخ المصري القديم، وهؤلاء هم أنفسهم الذي يشنون الحملات ضد كُتَّاب محدثين حرصوا على تأكيد الهوية المصرية مع إيمانهم الصادق بالعروبة وبالخصائص الثقافية الإسلامية، ولكن المحصلة المستهدفة هي إضعاف نسيج البنية المصرية التاريخية، والتي أمكن صوغ رؤية حضارية جديدة لها فكانت دعامة لمصر الحديثة الناهضة، وكان رائد هذه النهضة رفاعة الطهطاوي. ونرى هؤلاء أيضًا هم أنفسهم الداعين إلى طمس كل ما يتعلق بتاريخ مصر القديم، ومصر على التحديد دون غيرها.

(٥) الغزو الثقافي وثورة المعلومات

الخطر الساحق الذي يتهدَّد الثقافات القومية ليس مصدره هذه المرة أوروبا، بل دارت أحداث الزمان دورتها وأضحت أوروبا في طابور الضحايا، ولكن مع اختلاف في الدرجة؛ لذا شرعت تُكَتِّل قواها في سوق واحدة، لعلها تلاحق الأحداث وتقوى على التصدي، ولكن الخطر آت هذه المرة من أقوى دولة في العالم؛ مالًا واقتصادًا وتكنولوجيا وعلماء ومعلومات، وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

شهد العالم عقب الحرب بداية مرحلة ثورية جديدة في الإنتاج المادي وإنتاج المعلومات وتخزينها وتوظيفها، وهي المرحلة التي اصطلح على تسميتها — أحيانًا — باسم ثورة ما بعد عصر الصناعة. وتحققت خلال هذه العقود القليلة خطوات متلاحقة مذهلة في مجال الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها الفورية ومجال العقول الإلكترونية. واقترن هذا كله بعملية ضخمة في تركيز المال والمعلومات والخبرة ومؤسسات البحث والإنتاج.

وتركزت جميع هذه الإمكانات والطاقات في يد عدد قليل من الشركات المسماة بالشركات متعددة الجنسيات، وهي أساسًا شركات أمريكية ضخمة عملاقة. ومثلما تقبض هذه الشركات على الكم الأساسي من الإنتاج العالمي للسلع الاستراتيجية والتكنولوجيا المتقدمة، تقبض كذلك على العلوم والمعارف والخبرات المتقدمة، بفضل ما تملكه من مؤسسات بحث تضم خِيرة العلماء الذين تستنزفهم من كل بلدان العالم، خاصة بلدان العالم الثالث، وتقبض أيضًا على السوق العالمية توجهها حيث تشاء وفق مصالحها المالية الأنانية، وتقبض بعد هذا على أخطر وأكبر أجهزة الدعاية والإعلام ودور النشر في العالم، وتشتري بمالها ما تشاء من أجهزة. وظهرت بذلك صناعة عالمية جديدة غير مرئية تعرف باسم صناعة العقل أو صناعة الوعي.

ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنها الآن قاب قوسين أو أدنى من تحقيق رسالتها الخالدة! وكم من شعوب روجت لأيديولوجية تعبر عن رسالة خالدة لها! ترى الولايات المتحدة أن إمكاناتها هذه ستمكنها من تحقيق رسالتها الخالدة، وحلمها الأعظم الذي تعبر عنه أسطورة، حكاها أحد زعمائها الفكريين عالم التاريخ الأمريكي جون فيسك: «الولايات المتحدة التي يحدها الشفق القطبي شمالًا، والاعتدالان جنوبًا، والعماء البدائي شرقًا، ويوم القيامة غربًا» وتخال الولايات المتحدة أن العالم بات ملك يمينها؛ بفضل كل هذه الإنجازات العلمية تلعب بعقول بلايين البشر وتصوغ وعيهم وتتحكم في سلوكهم، وتصنع أو تزيف لهم ثقافاتهم.

والذي يعنينا هنا تأثير العلم والتكنولوجيا على الإنسان والمجتمع في ميدان الاتصالات، هناك الآن الأقمار الصناعية للبث المباشر لأجهزة الإذاعة والتليفزيون في جميع أنحاء العالم، وهناك أشرطة الكاسيت والتليفزيون (الكابل) وغيرها وغيرها، مما يتيح لمن يملك صناعتها إمكانات لا حدود لها لخير البشرية أو للإضرار بها. وهناك احتكار الخبرات والمعارف، وهناك نظريات التعليم التي تصدرها لبلدان العالم الثالث.

لم تعد عمليات التفاعل الثقافي تجري بين طرفين من خلال تلاحم مباشر، بل إنها تجري من طرف واحد يبثُّها والآخر سلبي يتلقَّاها، وتصل إليه حتى في مخدعه وتسد الطريق أمام كل وسائل الاتصال المحلية. لم تعد تفاعلًا بل غزوًا وقهرًا، يستطيع كل فرد من أقصى الأرض إلى أقصاها أن يدير قرصًا، أو أن يضغط على زر، فإذا العالم كله شيء آخر، والمعلومات تتدفق عليه بغير حساب، يتلقَّاها وتصوغ فكره كما يشاء لها صاحبها.

وتطالب الولايات المتحدة بعد هذا بتنفيذ شعار «حرية تدفق المعلومات»، ولكن لصالح من يكون هذا التدفق؟ وأي معلومات تلك التي تتدفق سيولًا جارفة وهادفة غير مرئية لها فعل أشد وأقوى من السحر.

تملك الشركات المتعددة الجنسيات أكبر وأعتى وكالات الأنباء وشركات الإعلام والإعلان والأقمار الصناعية المخصصة للبث الإذاعي والتليفزيون، وتملك شركات لأفلام السينما والتليفزيون والفيديو وأشرطة الكاسيت ودور نشر عالمية، ومؤسسات صحفية كبرى، ومؤسسات قياس الرأي العام، ومؤسسات «علمية» لإجراء تجارب لبحث أفضل سُبل للتحكم في سلوك البشر على نحو ما نتحكم في سلوك فئران التجارب، ومؤسسات لدراسة السوق والتحكم في مزاج البشر لاختيار هذه السلعة دون تلك، وغرس قيم سلوكية تتفق مع مصالح هذه الشركات في الترويج لسلعها، وجميعها وسائل تُعوِّد البشر على سلبية التفكير تحت عنوان «نحن نختار لك، نحن نفكر نيابة عنك، هذا هو الأفضل». وتركز جميعها على قيم استهلاك ومتع حسية تعمي عن مصالح المجموع، وتعمل الشركات المتعددة الجنسيات من خلال هذه المؤسسات على تزييف وعي الشعوب، وخلق مطالب واحتياجات وقيم استهلاكية تتجاوز طاقة وإمكانات شعوب العالم الثالث، وتعمق لدى أبنائها من خلال التنافس غير المتكافئ، في مجالات الترفيه، مشاعر الإحباط وعدم الانتماء، وتزعزع مشاعر التعاطف والتضافر الجمعي بين أبناء المجتمع الواحد، وتغرق الناس في تهاويم وتخييلات وطموحات استهلاكية ومُتَع حسِّية غير واقعية.

وطبيعي أن مثل هذا المجتمع يسهل حكمه والسيطرة عليه، وتصدر هذه الشركات برامج تليفزيونية مصنَّعة خصوصًا، وإعلانات تحفز المتلقين على التصارع في لَهْفة، مدفوعين بنزَوات حسِّية، إلى محاكاة القيم المعروضة والإطاحة بكل غالٍ وثمين في مجتمعهم في سبيل إشباع النزوات المقيتة. وتصدر الشركات كل هذه البرامج مصحوبة بالسلع الاستهلاكية أو الاستفزازية لبيعها بالديون، وتتراكم الديون وتتزايد الضغوط لإخضاع الشعوب المدينة الفقيرة، فئة تنعم بأقصى درجات البذَخ السَّفيه على حساب الجموع الغفيرة الفقيرة العاجزة عن سداد الديون.

أضحت صناعة الوعي، أو تصنيع العقل وصياغة ثقافات الشعوب فنًّا دوليًّا تملك زمامه الولايات المتحدة أو الشركات المتعددة الجنسيات. وتطالب هذه الشركات — بإلحاحٍ — بحقوق الإنسان في جميع البلدان، وتدعو إلى عقل حر، ولكن بمعنى عقل متحرِّر من ثقافته القومية، نبتًا بغير جذور، صفحة بيضاء تملؤها هي بما تشاء من معلومات. وتستخدم هذه الشركات أساليب البرمجة، نعني برمجة العقول، وأداتها في ذلك التليفزيون والسينما والكتب والصحف والإعلانات الموجهة والمرسومة خصوصًا لهذا الغرض، والعلاقات العامة و«الموضة»، وكذلك إنشاء جماعات سياسية ودينية واجتماعية، بل وخلق بدعٍ دينية أو اتجاهات تحمل طابعًا دينيًّا، وتصدر قضايا وأفكارًا ومذاهب فكرية تثير الخلاف وتستنزف الجهد، ثم هناك برامجها وسياساتها في مجال التعليم ومؤسسات ثقافة الطفل، وكلها لصوغ عقول الناشئة داخل البيت وفي الطريق وفي المحال العامة، وداخل المدرسة.

وتوظف الشركات المتعددة الجنسيات نشاطها الإعلامي هذا لأغراض سياسية أيضًا تتمثل في شراء ذمم رجال الدولة والنخبة، ولو من خلال العمولات الضخمة لصفقات تجارية حتى تبدو أمرًا مشروعًا، ويمهد لها هؤلاء السبيل لإنجاز مهامها لخلخلة القيم وإشاعة الفساد والرشوة. وليس هذا بجديد، بل إنها قضية واضحة الخطر تنبَّهَت لها وحذَّرَت منها مؤتمرات دول عدم الانحياز والدول الأفرو-آسيوية؛ إذ تحرص هذه الدول في كل مؤتمراتها على الاهتمام بموضوع الخلَل في تدفق المعلومات، خاصة بالنسبة للثقافة، ومحاولات تشويه صورة الدول النامية.

(٦) الاستقلال الثقافي

لنسأل أنفسنا بعد هذا الذي أسلفناه من تحديد لمعنى الثقافة والغزو الثقافي والقهر الثقافي، ودور كل منها والخطر المُحدِق بنا بسبب ثورة المعلومات وصناعة تزييف الوعي في إطار التقدم العلمي والتكنولوجي؛ أقول لنسأل أنفسنا: ماذا فعلنا في سبيل الاستقلال الثقافي ونالت الشعوب العربية استقلالها السياسي منذ عقود؟

نحن بحاجة — أولًا — إلى أن تكون لنا لغة مشتركة للاتفاق على تشخيص الظاهرة وتاريخ الحالة، وأن نبني هذه اللغة على معايير علمية ضمانًا لموضوعية الحكم والابتعاد عن الهوى.

نخطئ إذا تصورنا أن أزمتنا الثقافية يمكن اختزالها فقط في عبارة «العودة إلى الدين». نعم الدين مقوم راسخ أصيل في حياة كل شعوب العالم، ولكن هذه بعض الحقيقة وليست كل الحقيقة عن الأزمة. ما أيسر أن نروج أن أزمتنا أزمة دين وأخلاق، وشواهد الحياة كثيرة تكشف في ظاهرها عن صدق مثل هذه المقولة، ولكننا بهذا القول لا نتجاوز سطح المشكلة، وتتعدد وتتباين مقولات أخرى صادقة في ظاهرِها.

ومثل هذه النظرة السطحية تغرقنا في عبادة الشكل، ويا لها من مفارقة تدعو إلى السخرية أن تتحول الصحوة إلى شيوع الجلباب والحجاب، وإنشاء شركات لتوظيف الأموال، وبناء المدارس الإسلامية للغات تعلِّم أطفالنا لغة أوروبية لغة أولى، ويملؤنا السرور إذ نرى الطفل بدلًا من أن يقول «قط» يقول «كات»، ونغرق حتى الآذان مع سلع وتكنولوجيا مستوردة تغرس فينا مظاهر سلوكية تتجاوز حدود السفَه، وتقوض دعائم المجتمع، ولا يرى أصحاب شعار التغريب والاستغزاء في هذا كله تحللًا قيميًّا ولا غزوًا ثقافيًّا، ويشيدون بصحوة، هي في جوهرها جلباب وحجاب وممارسات سلوكية ترفيه مستوردة، وعقل غافل عن الحاضر يقتله الحنين إلى الماضي، توَّاق إلى التوحد مع السلف الصالح، وننسى تمامًا أننا في كل هذا غرباء عن أنفسنا وعن ثقافتنا، بل إننا بهذا كله لا نزال امتدادًا للغزو الثقافي، ولم نسهم بشيء في سبيل استقلالنا الثقافي. غربة عن الحاضر مع الماضي، وغربة عن النفس مع السلف، وغربة عن الواقع مع الغيب، واستسلام أعزل لموجات ريح الغزو العاصف.

وإذا كانت الثقافة هي أداة المجتمع المتميِّز في التعامل مع النفس والمجتمع والبيئة وتحديات الواقع؛ فما هي أداتنا المتميزة التي اصطنعناها لأنفسنا بعد الاستقلال؟

ما أحوجنا إلى أن نتحلى بقدر من الجرأة يسمح لنا بمواجهة الحقيقة، وندرس أزمتنا الثقافية المتعددة بتعدُّد شعوب البلدان العربية، حتى نستطيع أن نصنع من تلك الخيوط المتباينة نسيجًا متسقًا محكمًا.

نخطئ لو تصورنا أن للمجتمعات العربية نسيجًا ثقافيًّا واحدًا متجانسًا ممتدًّا مع الزمان؛ إذ نحن بذلك نصدر حكمًا قبل دراسة القضية. وحَرِيُّ بنا أن ندرس التناقضات الثقافية وغير الثقافية التي ينطوي عليها تاريخ المجتمعات العربية، وعلى مدى القرون.

عاشت المجتمعات العربية حقبةً أو حقبًا من الزمن طويلة ثقيلة، وهي شعوب تابعة أو مستعمرة، وكانت على مدى هذه القرون، سواء في ظل الهيمنة الأوروبية أم قبلها، ولا تزال، هدفًا لغزو ثقافي خارجي، وفريسة لقهر ثقافي محلي، وضحية في الحالين لموات ثقافي أو جمود في التقليد. ونالت هذه المجتمعات استقلالها دون أن يقترن ذلك بثورة ثقافية تحقق تواصلًا إبداعيًّا مع الماضي، ولا أقول رِدَّة إلى الماضي. وتكشف عن التناقضات الدفينة بين شرائح وفئات وطوائف المجتمعات العربية التي قهرتها السلطات المتعاقبة، فانطوت على نفسها غريبةً في دارها، وأن تطلق هذه الثورة العنان لكل فكر، وتكون جهدًا واعيًا لإبداع عناصر ثقافة جديدة تمثل أداة ملائمة للعصر، وأن تحسم التناقض القائم بين إرثٍ ثقافي متحجِّر، يحكم سلوكنا ويعزلنا عن واقعنا وبين الحاجة الملحة إلى التغيير والملاءمة مع الواقع، وأن نفكر في مشكلاتنا بعقل الحاضر لا بعقل الماضي، ولا نستمد علاج مشكلات واقعنا من كتب الأقدمين، ولا نفكر بنص عبارات مضت عليها قرون.

إن كتاب الحياة، حياة كل مجتمع، متنوع الصفحات التي لا حصر لها، وإن جمعه خيط واحد مميز، هو الخصيصة الثقافية المجتمعية، وليس أبدًا صفحة واحدة سطرها السلف وكانت كلمتهم هي فصل الخطاب. بل صفحات لا نهاية لها متباينة المدلول والقضايا والمشكلات، بدأت صفحاته الأولى مع النقش في الكهوف، أو السعي بين الأدغال لجمع الثمار، وتعاقبت أجيال الأسلاف منذ قديم الزمان كل يسطر بقدر ما أوتي من فاعلية ونشاط، وغاب من ترك صفحاته بيضاء؛ إذ فرغت حياته، كما فرغ فكره، من جديد يسطره، وعاش عالة على ما سطره السلف. إن مقولات السلف كانت حلولًا إبداعية لمشكلات السلف وقضاياه؛ ولكل زمان مقال.

حياتنا تتغير، ولا بد وأن تتغير معها ثقافتنا، ويتباين دورها لتُلائِم العصر والمكان. نريد أن تكون ثقافاتنا من حياتنا بمثابة الدم المتجدِّد أبدًا في العروق يسري فيها ويمنحنا الحياة وإن تفرَّدت فصيلته، وأن تكون ثقافتنا اتصالًا وتغيرًا في آنٍ، والاتصال تاريخ ممتد منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، شامل لكل ما هو مبدع وطريف. ليس حجة علينا أن السلف لم يناقش دور البنوك في الاقتصاد، أو القصة والمسرح في الأدب، أو قواعد رسم البورتريه أو موسيقى الباليه، أو حقوق الفرد والأمة في الفكر والسياسة. ولكن الحجة علينا نحن إذ لم نعِ الدرسَ وندرك سر الازدهار، فلم يكن الازدهار ولا الصحوة دينية فحسب، بل شاملة لكل مناشط الحياة. كانت لهم قضاياهم وكان لهم وعيهم بذاتيتهم الثقافية الشاملة، فحين تعددت المشكلات والقضايا أجابوا عليها إجاباتهم التي تحمل الطابع المميز لثقافتهم وعصرهم ومكانهم. أحكموا قواعد اللغة، ووضعوا قواعد للموسيقى العربية والغناء، وأبدعوا في تخصصات علوم الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات والأدب … إلخ. تغيرت حياتهم فتفاعلوا معها، وأضافوا جديدًا إلى ثقافات مجتمعاتهم، وأبدعوا ما كان بحق درعًا لحضارتهم الجديدة، وكتب لها البقاء ولم يسألوا السلف.

(٧) القضايا القومية والتجدد الثقافي

من نتائج التحليل الثقافي الناجم عن الغزو الثقافي الخارجي أو القهر المحلي، والذي نُعبِّر عنه بعدم الانتماء، افتقار المجتمع لقضايا قومية شاملة. هذه هي ثمرة العُزلة عن التاريخ، والعزلة عن الثقافة، والعزلة عن العصر، وعبثًا أن نحاول إحياء ثقافة قومية، أو تجديد الثقافة، دون الانخراط في قضايا قومية تكون هي مشروع الإحياء وسبيلنا إلى تجديد الثقافة وتطويعها مع مقتضيات العصر.

إننا لكي تكون لنا ذاتنا الثقافية الإبداعية لا بدَّ وأن تكون لنا قضايانا، لا ذات ثقافية مجددة بدون قضايا، هي مشروعنا القومي، يحدد لنا سبيل التجديد، ويحدد لنا أي عناصر في ثقافتنا الماضية تمثل قوة دافعة لنا. لن نبدع، ولن نهتدي إلى الطريق ما لم نهتدِ إلى الأمرين معًا: من نحن على امتداد التاريخ بما يثير فينا الاعتزاز والترابط؟ وما هي قضايانا في عصرنا أو قضايا مجتمع في عصر محدد وعلى ضوئها يكون التجديد الهادف. أما ضلالنا فنابع من أننا نحاول أن نجيب على سؤال الثقافة القومية أو الذاتية القومية من واقع الضياع: ضياع التراث وضياع القضية القومية معًا والتوجه الأخروي الكامل. ولهذا ليس غريبًا أن نتجه، أو يدفعنا البعض، إلى أن نلخص القضية في عبارة «العودة إلى الدين» فقط هو الشفاء من كل داء؛ وليس هذا هو كل الجواب؛ إذ كيف ولماذا؟ وعلى أي نحو؟ بل إن ظاهرة الابتعاد وحدها بحاجة إلى دراسة سوسيولوجية، هل الناس ابتعدت أم الجمود هو الذي باعد بينهم وبين الفهم السليم للدين.

إن أي مجتمع أبدع وكانت له فلسفته وعلومه أي أداته للتعامل مع الواقع وصوغ تصور عن النفس والحياة والعالم، إنما تحقق له ذلك حين وعی ذاته وتحددت قضاياه. وأي مجتمع فقد ذاته فقدَ معها قضاياه ولم يبدع علمًا أو فنًّا أو فلسفة؛ إذ إن الذاتية القومية والقضايا القومية کمشروع قومي هما معًا أساس الانتماء، والمحدد المشترك للسلوك والانتقاء والإبداع ووضع الإجابات على الأسئلة المطروحة؛ لأن الثقافة كما قلنا إجابات أو أداة المجتمع في العمل، والقضايا هي تلك الأسئلة المطروحة المتجددة دومًا. حين توافر هذان الشرطان أبدع المصريون القدماء وأبدعت شعوب ما بين النهرين، وأبدع علماء العرب والإسلام في العصر الذهبي، وأبدع علماء وفنانو أوروبا ابتداء من عصر النهضة، وأبدع الشعب الأمريكي حين وعَى ذاتًا متميزة وقضايا متفردة بعد أن صهرته البيئة الجديدة وكان شتاتًا من المهاجرين. ولهذا أيضًا لم يكن بإمكان الرعايا العثمانلية في مصر — مثلًا — أن يبدعوا شيئًا إذ من هم؟ وما هي قضاياهم القومية التي يحسون فيها بذواتهم متجسدة؟ هذه هي أخطر نتائج الغزو والقهر الثقافي على السواء، والتي تلخص أزمتنا في أنها تخلو من جديد. حياتنا جدباء عقيم. وليس غريبًا في ضوء هذا كله أن يكون رد فعل مجتمع غير واعٍ بذاته وغير واعٍ بقضاياه أن يأخذ موقف الرفض الكامل والأعمى لكل ثقافة مغايرة؛ لأنه عاطل من العقلية الناقدة. وكلمة «ناقدة» هنا تعني استيعابًا واعيًا لعلوم العصر، وتعني من بين ما تعني وعيًا بذاتية الإنسان الاجتماعية الثقافية، وتمييزًا لما يحتاج وما لا يحتاج إليه مما يتفق مع قضاياه. إنه لا يملك الزاد الثقافي والعلمي الذي يوفر له أهلية الحكم والتحكم والاختيار. ولن يتوافر له هذا الزاد إلا من خلال تنشئة اجتماعية مرتكزة على محددين: الثقافة الذاتية في عناصرها الإبداعية، والقضايا القومية التي تتجسد فيها أمانيه وطموحاته وليست مفروضة. وفي ضوء هذا يغير كل مؤسسات المجتمع: المؤسسات التعليمية والاقتصادية والسياسية والعلمية والدينية … إلخ؛ بحيث تكون جميعها في صورتها الجديدة تعبيرًا عن القضايا القومية وأداة لإنجازها.

ويبقى السؤال: وماذا فعلنا نحن حتى الآن؟ لنتأمل نهج رفاعة الطهطاوي في مصر، لم تصدَّه عقد عن تحصيل علوم العصر وهو الشيخ المعمم، ولم يعتوره ضيق أفق ليلقي به في مهاوي التعصب والطائفية، ولم يحجبه إخلاصه للدين عن رؤية العصر وقضاياه، ولم يمنعه إسلامه الصادق عن إحياء ذكرى المصريين الأقدمين وبيان فضلهم، ولم تمنعه مصريته عن الاعتزاز بعروبته وأمجاد علماء العرب والإسلام، ولم يشَأ البحث عن حلول لمشکلات مجتمعه وقضاياه في كتب السلف، بل ها هو الآن نراه سلفًا صالحًا. نهلَ من علوم العصر في أحدث صورها، وأقبل عليها يترجمها، ثم من خلال وعيه بذاته الثقافية وقضاياه القومية طالب بالتغيير والتجديد في التعليم وفي السياسة … إلخ.

هكذا كان باعثًا لنهضة جديدة وهذه هي السبيل إن شئنا خلاصًا من عثرتنا التي طال زمانها، وإلا فباطل الأباطيل، ولن نقبض غير الريح، ومعذرة لدعاة الانكفاء على الذات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤