التاريخ والمستقبل
يتصدر التاريخ أولويات الأمة حين تهم بالنهوض عاقدة العزم على الحركة نحو المستقبل. فالمستقبل هو علة التاريخ، بمعنى أن نظرة الإنسان إلى التاريخ، وصورة وعيه به، رهن بالسعي نحو بناء مستقبل محدد المعالم تحفز إليه حاجة عملية؛ إذ بدون ذلك لا مكان للتاريخ بل لماضٍ متوهم. وبدون سعي الإنسان إلى مستقبل تحفزه وترسمه ضرورات عملية، وتستثيره تحديات إمَّا البناء أو الفناء الحضاري يكون الحديث عن التاريخ ضربًا من التحليق في الفراغ، بل لن يكون الحديث هنا عن تاريخ بل عن ماضٍ، أو عن التاريخ الأسطورة.
- (١)
وعي عملي عقلاني نقدي بالذات، أي بالتاريخ في وحدته وحركته.
- (٢)
استراتيجية تنمية شاملة.
والوعي العقلاني النقدي يستلزم بداية إسقاط جميع التحيزات السائدة أو أوهام السوق التي تحكم نظرتنا، ونبدأ النظر إلى التاريخ تأسيسًا على منهج علمي في اتساق مع متطلبات النهضة. وحري بنا أن نعترف بأننا لا نملك هذا الوعي بالتاريخ في وحدته وشموله؛ لأننا لا نملك الحافز إليه، ولا نوظف المنهج العلمي في البحث وصولًا إليه.
والهدف من إسقاط الانحيازات والأهواء هو الابتعاد عن الانتقائية، وتأكيد وحدة التاريخ في عراقته المطردة عميقة الجذور، وفي حركته بين المتناقضات، وبفعلها، وذلك التماسًا لوحدة الأنا أو الذاتية القومية، ووصولًا إلى حس تاريخي صادق يدعم روح الانتماء. ولن تكون صورة الأنا هنا وعاء نثار من معارف وأحداث متراكمة، بل أنا نسقية فاعلة ومنفعلة، ومتطورة ومتغيرة سلبًا وإيجابًا في وحدة جدلية تاريخية.
والتاريخ ليس هو الماضي، وليس شتاتًا من وقائع نرويها، بل هو البعد الزماني لوعي المجتمع في إطار وظيفي هادف. إنه الصياغة النظرية لهذه الوقائع في نسق يكشف عن طبيعة العلاقة بينها داخل تجمع دينامي لقوی تُعبِّر عن ذاتها وتتجلى في صيرورة مطردة. وبدون هذا النسق النظري الذي يضع الإنسان، ومن ثم المجتمع، بوصفه وجودًا ممتدًّا بامتداد الأحقاب والعصور نفقد القدرة على فهم الذات وتأكيد وحدتها ضمانًا لفاعليتها الإيجابية في حركتها نحو المستقبل. بل أقول نفقد دعامة أُولى وشرطًا مسبقًا، من بين شروط أخرى، للقدرة على تصور المستقبل كهدف نابع من ذاتنا وننتمي إليه. وصورة المستقبل هي الإطار الذي نصوغ فيه معارفنا عن الماضي.
ولهذا أصبح علم التاريخ هو البعد الزماني للعلوم الاجتماعية. وارتبط في تقدمه بتقدم العلوم الإنسانية والعلوم بعامة حتى إن هناك من يرى أن التاريخ والعلوم الأخرى أجزاء من متصل واحد، وصولًا إلى نظرة شاملة إلى الإنسان. ودفع هذا بعضهم إلى القول إن التاريخ القومي، والنظرية التاريخية القومية، جزء من نسق أشمل هو نظرية تاريخ الإنسان؛ لأن النوع الإنساني بعض هذا الكون الطبيعي على اتساعه.
إذ هل يستغني عالم البيولوجيا عن التاريخ؟ وهل لا توجد صلة بين الزمن التاريخي والزمن البيولوجي؟ أو بين التاريخ من حيث هو البعد الزماني للإنسان وبين الجيولوجيا وتأثير عناصر الجيولوجيا في تطور الكائنات الحية وتطور الحضارات؟ وهل هناك قطيعة في التاريخ بين الحضارات والشعوب؟ وأليس التاريخ المروي أو المكتوب يُمثل رؤية ورأيًا في صياغة لغوية داخل سياق اجتماعي له شروطه؟ ومن ثَم يلزم فهم الرواية وفحصها في ضوء التحليل اللغوي والاجتماعي؟ بل إن هناك من يرى أن الأنثروبولوجيا هي لاشعور المجتمع الذي يمثل شاهد صدق ومحكَّ اختبار لصواب الرواية التاريخية التي هي التعبير الواعي القادر على التحوير والتزييف أو تزيين الكلام.
لهذا لم يَعُد ممكنًا دراسة التاريخ أو دراسة الإنسان في بعده الزماني بوصفه حدثًا أو أحداثًا مفردة. بل إن التاريخ منتج اجتماعي جامع لعناصر كثيرة تتكامل في دراستها وتحليلها وفهمها علوم متباينة. وأضحت القاعدة أن يضم أي مؤتمر لعلم التاريخ علماء من تخصصات مختلفة توفروا على بحث ظاهرة مشتركة، ويأتي هذا اتساقًا مع منهج البحث الجامع أو المتداخل.
وأفضى هذا إلى أن تحول الاهتمام من الخاص إلى العام، ومن الحدث المفرد إلى الإطار البنيوي الأساسي الذي تعمل فيه الأحداث والشخصيات، أعني رؤية الحدث التاريخي، وهو المنتج الاجتماعي، في سياقه الاجتماعي الكامل.
ومن هنا لم يَعُد بالإمكان وجود عالم تاريخ ولا علم تاريخ في بيئة «علمية» منعزلة عن العلوم الأخرى وإنجازاتها وما طرأ على مناهج البحث من تحولات، ومن هنا أيضًا لا يمكن أن ينهض علم التاريخ إلا في إطار نهضة علمية متكاملة تشكل ركيزة لحركة مستقبلية شاملة المجتمع كله. والعكس صحيح أيضًا؛ إذ لا يمكن أن ينهض مجتمع، ويمضي قدمًا نحو المستقبل بدون نهضة علمية متكاملة شاملةً علمَ التاريخ منهجًا ونظرية.
وإذا كان البعد العلمي شرطًا للنهضة فإنه بالأَولى شرط لفهم الذات في بعدها الزماني ووحدتها التاريخية. ففي هذا حصانة ووقاء ضد الشعور بالدونية عند التعامل مع الغير، وتأكيد للذاتية عند التصدي للحركة المستقبلية، وضد التحليق في الفراغ أسرى أهواء وأساطير تقتلعنا من واقع الحياة وتحدياتها كان لها دورها في الماضي وانتهى. ومن مقتضيات التحديث الإجابة عن سؤال: ماذا أفعل بالتاريخ أو بما هو تاريخي؟ تمامًا مثلما أسأل: وماذا أفعل بما هو غير عقلاني في المجتمع والتاريخ؟ وأيضًا کيف أفهم المعلومة التاريخية لتوظيفها في إطار حركة المجتمع المستقبلية؟
ذلك أننا لا نزال في رؤيتنا التاريخية تحت سطوة منهج السلف المعتمد على الرواية. والرواية رؤية تحكمها أيديولوجية وسياق اجتماعي (اقتصاد وسياسة ولغة … إلخ) وننزع في اتجاهنا التاريخي نحو التجميع دون التحليل. وتعامل الرواة والمؤرخون، ولا يزالون، مع الماضي على نحو ما يتعاملون مع الواقع؛ أعني التعامل في ضوء حاجة تمليها السلطة وسطوة السلطان. ويشهد التاريخ المكتوب أن السلطة لها دور مرکزي انعكس على النهج السائد في كتابة التاريخ وانحياز الرواية، وتعذَّر التحقق من صدق الواقعة نظرًا لغياب الوثائق. وجاءت الرواية للتبرير وليس للتسجيل، مصداقًا لقول الشاعر:
(١) التاريخ الممنوع أو المنفى الفعال!
وأفضى هذا إلى إغفال کل قوى المعارضة في التاريخ مما يجعلنا نسأل: ما الذي أهمله التاريخ؟ ومن الذين أهملهم التاريخ المروي أو زيَّف تاريخهم من قادة فكر أو حرکات سياسية أو قبائل أو معتقدات أو حضارات؟ اشتمل تاريخنا على مساحات متواترة صماء مظلمة ولكنها ليست خرساء. بمعنى أن الرواية التاريخية لا تلغي الواقع؛ فالتاريخ الممنوع أو غير المعلن، موجود تحت السطح منفيًّا، إلا أنه المنفى الفعال، وله دلالته التاريخية بل ودوره الاجتماعي الذي يتعين الكشف عنه.
وأفضی نهج التبرير الأيديولوجي في رواية التاريخ إلى إنكار واستنكار مراحل کاملة من تاريخنا، وبات من أخطر أمراضنا عرض اختلال الأنا، وافتقاد الحس التاريخي بوحدة الذاتية القومية في بعدها الزماني، وتفشت ظاهرة غريبة هي أننا أمة تلعن تاريخها وماضيها، أو تسدل ستارًا كثيفًا يحجب مراحل تاريخية. واعتدنا أن نعيش أسرى الحدث المرحلي الأخير والتاريخ هنا تعبير عن منطق البنية الثقافية الحاكمة لسلوكنا، والمتمثلة في التراث السياسي الاجتماعي الذي تحالفت فيه السلطة من موقع السيادة والقوة، مع المثقف من موقع التبعية والخضوع، سواء كان هذا المثقف رجل فكر أم رجل دين. ومن عارض ذلك فهو خارج التاريخ المسجل رسميًّا، وبات منفيًّا وإن لم يكن عاطلًا عن الفعل من وراء الحجب والأستار. والحدث التاريخي «الراهن» هو السلطة وهو رأي ورؤية صاحب السلطان. ومن ثم التاريخ رواية تأويلية دائمًا حسب المشيئة السلطانية.
وجانب آخر في بنيتنا الثقافية يتمثل في إيماننا بأن الحدث التاريخي خارج الزمان، مقطوع الصلات والأسباب؛ فالزمان عندنا ليس ذلك المفترض الذهني المكمل لأبعاد المكان الثلاثة، والذي يمثل إيقاع الأحداث في تعاقب سببي شاملًا البيئة والإنسان، بل إنه فضاء مستقل له وجوده الذاتي المتعالي على واقع ووقائع الوجود الإنساني. والحدث أو الأحداث التاريخية أسبابها خارجة عن ذاتها؛ لأنها في التحليل النهائي لا تقع بفعل إرادة الإنسان من حيث هي قدرة وعلة نهائية حرة مختارة في إطار شروط إنسانية وبيئية. والأحداث التاريخية حسب منظور بنيتنا الثقافية الموروثة ليست مرهونة بالظروف الاجتماعية ولا تربطها علاقة سببية بما قبلها وما بعدها من أحداث. وإنما يمكن للحدث «أ» الذي وقع في التاريخ قبل «ب، ج» أن يأتي بعدهما أو بينهما بفعل إرادة مفارقة، أو يمكن أن يقود البشرية إلى «أ» مرة ثانية أو ترجو لها الدوام إذا كانت من منطلق الأيديولوجية هي المبتدأ القدسي أو هي تجسيد لإرادة سلف صالح، وكان بالإمكان نظريًّا أن يدوم الحدث «أ» ويمتد ساكنًا: وثابتًا إلى الأبد ويكون نهاية التاريخ. فالحدث التاريخي يؤلف بذلك وحدة أو کينونة مستقلة، علته خارج ذاته وخارج الوجود، هي إرادة متعالية، وتدخل الإنسان في الحدث هو تدخل المناسبة لوقوعه لا تدخل الفاعل الصانع للتاريخ.
(٢) الأيديولوجيا والوعي التاريخي الزائف
وحيث إن بنيتنا الثقافية بنية أيديولوجية لا تحتمل ولا تقبل التعددية وإنما هي رؤية حدية تلتزم منطق «إمَّا … أو …»؛ لذا فإن كل حدث تاريخي يختلف مع رؤيتي محكوم عليه بالنفي والإعدام. فهو غير موجود. أو نسبغ عليه قيمًا أخلاقية سلبية تصل إلى حد وصفه بالدنس؛ لأن وجوده نفي لوجودي، وأرى فيه نفيًا لأصالتي. وطالما سقطت الرابطة السببية أو سقط معها الامتداد التاريخي لإيقاع الأحداث؛ إذَن فإن الوحدة التاريخية أو الحدث هو وجود مطلق يعيش بذاته، وكذلك الإنسان وجوده ليس امتدادًا تاريخيًّا. وليس للماضي فضل أو أثر على الحاضر إلا أن يكون عبرة أخلاقية تحكم سلوكنا على نحو يتسق ورؤية صاحب السلطان القائم الآن. وليس الماضي موضوعًا للدراسة لاستكشاف منطق حركة التاريخ واتصاله تأكيدًا لوحدة الأنا المجتمعية.
ولهذا ليس غريبًا أن تصطلح إرادات بعض المؤرخين، أو جميعهم، مع كل عهد جديد لكي يهيلوا التراب على القديم، ويستلقطوا سلبيات الماضي، أو أن يسدل كل عهد جديد ستارًا من الصمت على ما مضى زاعمًا أن ليس له وجود فاعل يتصل بالحاضر. وتبدأ الذاكرة الجمعية للناس صفحة جديدة هي في واقعها وعي زائف. وهذا هو ما حدث بالنسبة للتاريخ المصري القديم باسم الإسلام أو بالنسبة لتاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. … إلخ.
إننا على المستوى الثقافي الاجتماعي، بل وعلى المستوى التعليمي والعلمي، نعيش تاريخًا ممزق الأوصال، يدعم اختلال الأنا ويشوه الحس التاريخي، وهذا من شأنه أن يطمس عوامل التضافر الاجتماعي، ويثير عوامل الفرقة على أساس عرقي أو طائفي أو عقيدي على نحو ما نرى كمثال كتب أهل السنة تصادر على الشيعة والعكس بالعكس، ونرى الاثنين معًا يصادران على كتابات الخوارج. وبين هذا وذاك نملك روايات مقطوعة الصلة بواقعها الاجتماعي، ومساحات مهملة أو مغفلة عن عمد. لذا بات مشروعًا السؤال: ما هي حقيقة التاريخ وسط هذا الركام المتنافر؟
إذا كنا ننشد تغييرًا جذريًّا للمجتمع؛ فإن أول شروط ذلك فهم التاريخ علميًّا فهمًا نقديًّا في وحدته وحركته الدينامية ليكون ولاؤنا إبداعيًّا، وليكن حِسُّنا التاريخي صادقًا؛ فتقوَى لُحمة المجتمع وتتماسك عناصره. إننا نريد تاريخًا حقيقيًّا لا التاريخ الأسطورة. وسبيلنا إليه التزام بمنهج بحث علمي لدراسة واقع التاريخ والعوامل الاجتماعية المحركة له بكل ما في هذه الحركة من تناقض، وواقع العوامل المؤثرة سلبًا وإيجابًا على هذا التاريخ إلى أن وصل إلينا؛ وتحليل هذا الواقع في إطاره الثقافي للمجتمع الذي نشأ فيه، والواقع مفهوم واسع يشمل الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية … إلخ، حتى تتوافر لنا — من خلال تعاون علم التاريخ مع علوم الإنسان الأخرى — رؤية شاملة مقننة عن المجتمع والفرد، ونهج استجاباته وفعالياته، ومن ثم تتيسر آلية تعبئة طاقة المجتمع في حركته نحو المستقبل.
ويدعم هذا النهج اتباع أو ابتداع منهج بحث جديد لأركيولوجيا التاريخ يكشف عن حقيقة البِنى المفهومية القائمة وراء شتى مراحل التاريخ. ليغدو التاريخ خريطة معرفية جيولوجية للأمة. ونفهم أنفسنا، ونستكشف على هديه الطبقات التاريخية للمجتمع على مدى الزمان في ضوء دراسات اجتماعية ولغوية واقتصادية وسياسية؛ بحيث تمهد لنا هذه الدراسة الطريق إلى صياغة نظرية عن الإنسان في تطوره على هذه الأصعدة مما يخلق أرضًا صلبة تدعم حركة المجتمع المستقبلية.