مكانة الفنان في المجتمع المعاصر

كان الفنَّان قديمًا يعيش تحت قِباب الكنائس، أو في ظلِّ القصور مرسلًا من قِلاعها بريقَه الذهبي … فلما ضعُف سلطان الكنيسة، وانهارت قِلاع القصور، بدأ يواجه الحياة، ويُعيد النظر في صِلاته بالمجتمع … وتحوَّل برسالته إلى أغراض أخرى تمثَّلت في رفاهية الرجل المتوسط في الفن الهولندي والفن الإنجليزي، وتزيين المباهج الأرستقراطية في الفن الفرنسي، وخدمة النظام السياسي في البلاد النازية والشيوعية.

غير أنَّ تقلبات الحياة السياسية والاجتماعية أخذَت تلاحق الفنان وتهزُّ مكانه في المجتمع؛ فقد توارت البورجوازية، وظهرت الجماهير في الأفق كقوة أساسية على الفنان أن يُدخِلها في حسابه … كما أن تسخير الفن الخدمة النظام السياسي يهدِّده بالضَّعف والانحدار، وأوضح دليل على ذلك الفنُّ في ألمانيا على عهد هتلر، والفنُّ في بعض الدول الشيوعية.

كيف يستطيع الفنان إذن أن يرتبط بعصره ويؤثِّر فيه بدون أن يخضع لسخرة النُّظم السياسية؟ وكيف له أن يُقنع الجماهير بعقيدته الفنية ويستأثر باهتمامها بدون أن يخرج عن التزامه الفني أو ينزل بمستواه؟

تلك هي المشكلة التي تواجه فنانَ العصر الحديث والأزمة التي تحيط بموقفه، وهي في جوهرها ترجع إلى أمرين أساسيَّين؛ أحدهما يتصل بالفنان، والآخر يتصل بالمجتمع.

أمَّا الفنان فقد بات في مجتمعنا كائنًا غريبًا يعبِّر عن نفسه بلغة غامضة؛ فمنذ أول القرن والفن يغلي بأفكار حطَّمت الواقعية والذوق والجمال، وقد كانت أعمدته في المجتمع، وأقامت مكانها النزعات الحديثة المختلفة التي سادت السياسةَ والفنَّ منذ نشرَ جوُّ الحرب خطره في زمامنا، والفنان يحاول بهذه النزعات أن يكشف مأساة الحياة الحديثة، غير أنَّ الجمهور لا يستطيع أن يلاحقه … فلقد ألقى عصر الآلة على رجل هذا العصر أعباءً ذهبت بتوازنه الروحي وبالقِيم الثقافية التي كان يحفل بها فيما مضى، والحياة الجديدة حين حرَّرتنا من شيء ألقت علينا القيودَ في أشياء؛ فكلنا رقيق لها، نقع تحت نِيرها وتلهبنا بسياطها … وهذه اللحظات الفاصلة المتهالكة التي تبقى لرجل عصر الآلة بعد أن يفرغ من جهاده تضيع في المُتع السهلة العابرة، وقلما تنصرف للإشباع الروحي والفني … وهو حين تسوقه المصادفة إلى معارض الفن يواجه عالَمًا غير مفهوم يزيد الهُوة بينه وبين الفنان.

ولعل هذا هو ما دعا البحوث التشكيلية إلى أن تتَّجه وجهاتٍ أخرى، وأن تبحث عن أساليبَ وعقائدَ جديدةٍ تربطها بالمجتمع.

وما من شكٍّ في أن حاجة مجتمعنا الحديث إلى الفن تزداد كلَّ يوم تأكيدًا؛ فالمعامل والمصانع تعمل في حماسة، وتلقي كل يوم اكتشافاتٍ وأدوات كبيرة الخطر … وما لم تصحب هذا التقدُّم العلمي يقظةٌ في الحياة الروحية وإيمان بالقيم الفنية فستحل بالعالم كارثةٌ محققة.

ورسالة الفن في هذا العصر القلِق جليلةُ الشأن … إنه يستطيع أن ينشر بين الناس الإيمانَ بالذوق والجمال والقِيم المطلقة … غير أن هذا يتوقَّف على مدى الرابطة بينه وبين الجماهير … والتَّبِعة في هذا لا تقع عليه وحدَه، وإنما هي تبِعة الدولة وتبِعة الجمهور أيضًا.

ولقد أخذتِ المؤتمرات الفنية تستقصي أسبابَ الأزمة الراهنة، وترسم لها وسائل العلاج … ولنا عودة إلى هذه الوسائل لنرى طريقةَ الأخذ بها في مجتمعنا المصري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥