بين الفن والنقد

الفن إبداع … وهو إحدى السِّمات الرئيسية في الحضارة، وربما كان أشدَّها تنوعًا وإعجازًا … قد يبدو أنه يكفي أن يفتح الإنسان عينيه و يهيئ بصيرته وحساسيته لاستقبال العمل الفني.

ولكن ذلك ليس باليسير … فكم من مشاهدي العمل الفني لا يدركون منه إلا ما يمثِّله أو يصوِّره … يقفون عند الموضوع بدون مضمون العمل الفني وما يحفل به من قيم وثراء.

هناك إذن أبعادٌ بين العمل الفني والتذوُّق الحق … والناقد هو الذي يختصر هذه الأبعاد، ويقرِّب المسافة بين الفنان والمُشاهد … هو وسيطٌ وجداني يحمل رسالةَ التقويم الجمالي … يخاطب بلغته طرفَين … الفنان ليقوِّم عمله ويحدِّد مكانه في مسار الفنون وبين مذاهبها، والمُشاهد ليضيء له الطريق إلى التذوق واكتشاف السحر الكامن في الأثر الفني.

وحيثما تدفَّق الإبداع الفني ظهرت الحاجة إلى الناقد بصورة أو بأخرى … وفي عصرنا الحديث تتأكَّد هذه الحاجة من ظروف العصر ومن طبيعته.

فقديمًا كان للفن مفهومه المحدَّد، وكان لكل عصر وبلد قيَمه ومُثُله … كان لمصر القديمة أنماطها، وللفن وظيفته ومكانه من العقيدة ومن الحياة، وكان للفن الإغريقي قانونه، ومنه تتحدَّد عناصر الحكم على جمالياته … وكان لعصر النهضة معالمه ومشخصاته … كذلك كان لفنون أوروبا قبل الزحف الحديث سماتٌ تنبع من ظروف كل عصر وخصائصه.

أما العصر الحديث في الفن فله مشكلاته المتعدِّدة … هو عصرٌ يعيد اكتشاف القديم، ويراه بعينٍ جديدة، ويعود فيجمع في حضور مشترك تماثيلَ الحضارة الفرعونية وحضارة الرافدين مع تماثيل ميكل أنجلو ورودان وبرانكوزي وجياكومتي وكالدر … ويقرأ ما في لوحات الكهوف من سرٍّ بالقدر الذي يمجِّد فيه لوحات سيزان، ويتعاطف مع لوحات فان جوخ، وينبهر بعالَم مارك شاجال، ويأخذه سِحر بول كلي، وهو عصرٌ ما زالت تعيش فيه الفنون التشخيصية إلى جانب الفنون المجرَّدة … الواقعية الجديدة مع أحدثِ صيحات الفن البصري والفن الحركي واللافن.

في عصرٍ كهذا يندفع طموح الإنسان وتأجُّجه وقلقه إلى أن يقطع أبعادًا موغلة في القِدم … ذاهبة في ظلام الكهوف، وهو يحلِّق ببصره في فضاء رهيب مثير بمذهلاته وكشوفه العلمية … في مثل عصرنا كم تبدو الحاجة إلى الناقد الفني ليقوِّم آثارَ الفن في وقتٍ يختلط فيه الزائف بالأصيل، وتضل الرؤيا في غياهب التخبُّط.

لقد ألقى العصر على النقد تبعاتٍ، وأحاطه بمشكلاتٍ جعلت إعداد الناقد الفني أمرًا ليس باليسير، لما يتطلَّبه الإعداد من امتلاكِ الناقد لضروب من الثقافات، ومن معاناة في سبيل التهيؤ لمهمته واستكمال أدواتها. ومن هنا يبدو أن مهمة الناقد لا تقل خطرًا عن مهمة الفنان.

على أنَّ للنقد الفني بعامة قبل ذلك كله مشكلةً أخرى … فالناقد أداته الكلمة يفسِّر بها عملًا قوامه الشكل، وقد يستعصي تفسيره على الكلمات … وإذا كان الفن — كما قال فرومانتان — هو نقلَ غير المرئي إلى المرئي، فإن النقد الفني هو تحويل هذه الرؤية التشكيلية عن طريق الكلمة إلى رؤيةٍ مكتوبة تفسِّر وتضيء الفن العمل الفني.

وبعد هذا تبرز مشكلة تتصَّل بهذا العصر … هي مشكلة صعوبة المفاضلة بين عمل فني وعمل آخر؛ حيث تتباعد المدارس وتختلف التقاليد.

ثَم مشكلة القدرة على الإحساس بالقيم الفنية وسط عصر تتدافع اتجاهاته وتقذف كلَّ يوم بالجديد.

لقد أخطأ النقاد، وأخطأ الفنانون، تقديرَ القيم الفنية في الأعمال المبدعة … ويرجع هذا الخطأ إلى قرونٍ مضت، فكيف يكون الحال في العصر الحديث، عصر الرؤى الجامحة والأساليب الغريبة؟

ألم يرفض بروسبر ميرميه فنَّ كوربيه الواقعي؟

أوَلَم يعلن فلاسيكيز رفضه بعضَ أعمال رافاييل؟

وقد أنكر الجريكو على ميكل أنجلو صفةَ المصوِّر، وأهدر ويسلر أعمال سيزان.

وليس رفض التأثريِّين في مطلع حياتهم، وصراع رودان مع تقاليد عصره، وعذابات فان جوخ، ومرارة النكران التي قصفت حياةَ موديلياني إلا أمثلة لرفض الجديد والتردُّد في قبوله، وتعذر وضع مقاييس للحكم على إبداعٍ كثيرًا ما يستعصي على القياس.

ومع ذلك سعى النقد على أن يقيِّم مناهجه، وأن يضع أصولًا يفسِّر على أساسها العمل الفني، وتعدَّدت نظرات التناول، من نظرة فلسفية تحاول تأصيلَ العمل الفني على أساسٍ من فلسفة الجمال … ولكن مدلول الجمال نفسه وخصائصه كان مثارَ جدل وخلاف، أهو التعبير عن التناسق؟ أم هو التعبير عن الصدق؟ أم هو قوامه الحرية أو الأخلاق؟

ومن هنا رأى البعض أن التقويم المبني على مجرد النظر والتحديد الفلسفي إنما هو خسارة للفنان والمُشاهد، وهو يقيِّد رؤية العمل الفني وهزَّته الشعورية بقيود نظرية يتمرَّد عليها الإبداع الفني.

على أنه مهما يكن من أمرِ النظريات فإنَّ الأثر الفني نفسه هو محور النقد، واندماج الناقد في الأثر، وتحليله إياه، واكتشاف سرِّ جماله، هو المطلب الأساسي أيًّا كان منهج الناقد وأسلوبه … وإلى جانب الأثر الفني هناك الفنان منتِج الأثر، والظروف المحيطة به، تلقي أضواءً على تقويم الأثر وتحديد مكانه من عالَم الإبداع، وهناك أيضًا التناول التاريخي للعمل الفني … الحكم على الأثرِ بوصفه نتاجًا لفترة معينة … فكل عمل فني ليس إلا نتاجًا لنقطة معينة في الزمان والمكان … ومن ثَم لا نستطيع أن نستبعد العصرَ والبيئة في حكمنا.

من خلال ثقافة الناقد، وممارسته الارتباطَ بالعمل الفني، وتفهُّمه لثقافة عصره والحضارات السابقة، يتشكَّل منهجه في إدراك أعماق العمل الفني وامتلاكه امتلاكًا شعريًّا وفكريًّا … ومتى تحقَّق له هذا الامتلاك استطاع أن ينقل إلى المشاهد رؤياه.

إذا كان المجال لا يتَّسع لاستعراض أساليب النقد المختلفة فهو على الأقل يتيح لنا وقفةً عند بعض أعلام النقد نتبيَّن من خلال مناهجهم كيف تكون معايشة الأثر الفني واكتشاف أسراره واتصال الوجدان به، هؤلاء الأعلام هم هيربرت ريد، أندري مالرو، رينيه ويج، كينيث كلارك.

أما هيربرت ريد فنظرته الجمالية مستمدَّة من إدراكه للكون ونظرته له، وإيمانه بالنمو العضوي للحياة وقوانينها الداخلية يدفعه إلى البحث عن مُعادل لها في الفن؛ فهو حين يتأمَّل العمل الفني يبحث عن قوانين بنائه الداخلية وأسباب حياته.

figure
القُبلة — المحبوب الخالد — «أوجست رودان» ۱۸۸۹م August Rodin.

وهو يرى أن الفن يمكنه اجتياز مسافة معينة بمساعدة عناصر قياسية تتمثَّل في الإيقاع والتوازن والتناسب، ولكن هذه العناصر وحدَها لا تكفي، وإنما يبقى العمل الفني في انتظار لحظة تقفز فيها الروح الخلَّاقة إلى داخل المجهول … والعمل الفني عند ريد إما أن يكون المدخل إليه هو الإحساس بدون فهم عقلي، وإما أن يتطلَّب فهمًا إلى جانب الحس … فهمًا يتطلَّب تعليلًا كاملًا لظروف نشأة العمل الفني، ويجمع في كتاباته بين النظرتين؛ نظرة النقد الجمالي، ونظرة النقد التحليلي … هو لا يكتفي بالشكل والإيقاع والاتساق والتكوين ونسيج العمل الفني كعناصر لتقويمه، وإنما يضيف إليها دوافعَ إبداع العمل الفني وأهميته في محيط مجتمعه وعصره، وهو يستعين أحيانًا بالتحليل النفسي بقدْر، ويستخدم مصطلحات علم النفس في لغته النقدية.

على أن للوقوف عند التحليل النفسي وحدَه خطره على الحكم على العمل الفني، وإلا وقف الناقد الفني كما وقف العالِم النفساني يونج أمام أعمال بيكاسو، ففسَّرها على أساس مرض انفصام الشخصية، ففسَّر مرحلته الزرقاء على أنها رمزٌ إلى النزول إلى الجحيم، وفسَّر كلَّ أعماله على أساس تناقُض في الأحاسيس، فانتهى الأمر إلى تشخيص نفسية بيكاسو.

غير أنَّ ريد يركِّز أيضًا على أهمية دور الفنون في التعليم، وهو يرى أن تاريخ الفن يجب أن يكون موضوعًا متميزًا يحتل في التعليم أهميةً خاصة، وإنه من الضروري ربط الفنون ربطًا عضويًّا عن طريق نظام تعليمي يتَّسم بالحيوية.

وبينما تنبعث نظريات ريد النقدية من إيمانه بالحياة وقوانين النماء فيها، فإن ناقدًا، أو حكيمًا من حكماء الفن في هذا العصر — أندري مالرو — ينظر إلى الفن خلال فكرة الموت … فكل فن عنده هو ثورة ضد قدَر الإنسان، والفن — كما قال — غريمُ القدَر … وروائع الفن هي انتصار الفنان الفرد على كل ما يستعبده.

عن هذا المعنى يبحث مالرو في حواره الدائم مع فنون الحضارات المختلفة، وعليه قام كتابه «المتحف الخيالي»، ثم كتاب «تشكُّل الأرباب».

ومالرو يرى أن الهدف الأول للفن ليس الجمال أو الإيقاع، بل إن هدف الفنان الصادق هو رسم العالَم غير المرئي … ومن أجل هذا يبحث عن شيء آخر خلف المظهر، هو عالَم ما وراء المظهر، يقيس به الفن ويقوِّمه ويظل في إصرار يحاور الأثرَ الفني، قديمًا كان هذا الأثر أو حديثًا … وهو في حواره المتأجِّج يلمس تفصيلات العمل ووقائعه وجزئياته حتى يفضي إليه بأسراره.

ونترك مالرو إلى رينيه ويج … مهمَّة الفن الرئيسية عنده هي خلق وسيط بين الكون والإنسان … لقاء بين الواقع المادي الملموس والواقع الروحي المحسوس. وهو يؤمن بأن الإنسان يقوم خلال الفن بحوار مع العالم المرئي، وأنه يمكن بتحليل هذا الحوار التوصُّل إلى فلسفة للفن.

نظرة ويج إلى العمل الفني نظرةٌ تكاملية تطوف الزمان والمكان، وتحدِّد الدوافع النفسية التي أدَّت بالفنان إلى أن يبدع فنه … وتستقصي حالته الوجدانية، كما أنها تجمع الفنان والأثر الفني في إطار العصر الذي ظهر فيه، وتربط بين سِمات العصر وسِمات العمل إلى أن تستكشف الجوهر الإنساني في العمل الفني بأسلوب أداته لغة الفن التشكيلي ومقاييسه، وقد أضفى عليها فكر الناقد ووجدانه المتقد جوًّا من القيم الروحية العالية واستخلص من اللون والنور والشكل والنسيج دلالاتٍ رمزية.

مالرو ورينيه ويج وريد هم نماذجُ لقممٍ عليا في تقويم العمل الفني وربطه بالتيار الحضاري، غير أنهم قممٌ نادرة يمثِّلون الحكمة الكبرى في النقد، وتحمل كتاباتهم وجهةَ نظر متكاملة للفن والحياة. ولكن النقد الحديث مشغول بملاحقة تيارات الإبداع المتلاحقة الغامضة … وفي عالمنا يقف الناقد التطبيقي كلَّ يوم محددًا القيَم التشكيلية لكل عمل فني جديد، محاولًا أن يربط المُشاهد به … أداته في ذلك رصيدٌ ثقافي عميق، ووعي بالتراث العالمي، وتفهُّم لأزمة العصر، ووجدان الفنان المعاصر … وهو يستدعي رصيد خبراته وفطنته وحسه في الإشارة إلى العمل الفني الفذ خلال زحام الأعمال.

ولقد أخذ نقَّاد العصر يستعينون بأدوات التوصيل الجماهيري لإشاعة تقدير الفنون وتذوُّقها … ويمثِّل كينيث كلارك نموذج الناقد الكبير في العصر الحديث الذي يتذرَّع بوسائله بدون أن يهبط بقيمة النقد ومستواه … هو الآن مؤرِّخ الفنون وناقدها الذي بلغ ذروةَ الشهرة في بلده إنجلترا، وامتدَّ نفوذه الأدبي إلى العالم … كانت دراساته عن ليوناردو ورمبراندت من عُمَد الدراسات التي صدرت عن هذين العبقريَّين، وينتسب كينيث كلارك إلى جيل الموسوعيِّين العظام أمثال رينيه ويج في فرنسا، هؤلاء الذين يرون أن الفن ليس شاغل المتخصصين وحدهم، وإنما ينبغي أن يكون من اهتمامات الفرد العادي.

وهو من أجل ذلك يمثِّل نموذج الناقد المعاصر الذي أراد أن يمدَّ تذوُّق الفنون إلى أوسع محيط في المجتمع متذرعًا في ذلك بأدوات العصر الحديث ومعطياته؛ فهو لم يقف عند المقال والكتاب، وإنما سعى إلى الشاشة الصغيرة يخاطب عن طريقها الجموعَ من خلال سلسلة دراساته الفنية التي قدَّمها تحت عنوات «الحضارة»، وبذلك حقَّق الوصل الرائع بين الفن والحياة.

وحلقات كلارك عن الحضارة هي محاولة لتقديمها كإرادة خلق وإبداع ونماء للقدرات الإنسانية، ولكن ذلك لا يعني أنَّ كلارك ينظر إلى تاريخ الحضارة وتاريخ الفن كنظام واحد متَّسق، فهو يدرك أن الأعمال الكبرى في الفنون يمكن أن تكون من نتاج جماعاتٍ متأخرة أو بدائية.

ما أقربه في فكره إلى مواطنه وأستاذه رسكن الذي كان يرى أن الأمم الكبرى تسجِّل حياتها في مخطوطات ثلاثة: الأعمال، والفنون، والكلمات … ولا يمكن فهم أحدها بمعزل عن الآخر.

ويرى كلارك أن مهمَّة مؤرِّخ الفن هي تحقيق مزيد من الفهم، ومن ثَم مزيد من الحب للفنون … وكذلك تفسير العمل الفني كتجربة إنسانية أساسية.

ويتابع كلارك تاريخ الفن عبر العصر بدون أن يطغى التاريخ في تفسيره على الفن؛ فهو يرى أن الأعمال الفنية نفسها هي الوثائق الكبرى … وإذا كان تفسيرها تتنازعه معايير شخصية، فإن القيمة الجمالية للعمل الفني هي العنصر الثابت الذي يتيح للمُشاهد عن طريق المقابلات والدراسات وعن طريق إرشاده إلى عناصر الكمال، أن يقيم مقياسًا للحكم مبنيًّا على الحب والفهم والمعرفة للأثر الفني وتاريخه وموقعه وظروف إبداعه، ليهدي المُشاهد إلى ضوءٍ يرشد الرؤية ويقودها.

وإذا كان كلارك لا يُشغل كثيرًا بالنظريات التي تنكر على العمل الفني قيمته المتفردة، فإنه يرى أن الفن كتجربة إنسانية ينبغي أن يُستعان في إدراكه وسبْر أغواره ببحوث أخرى بيولوجية وأنثروبولوجية وتيولوجية للوقوف على التفاصيل، فالتعميم لا يعطي ضوءًا كافيًا، والحقيقة تكمن في التفاصيل. وهو ليس ميتافيزيقيًّا كما يقول، ولكنه في حاجة إلى أن يسبغ النظام على الشيء المرئي، وأن يستخلص منه عناصره الأساسية.

وقد أفسحت له إمكانيات الشاشة الصغيرة مجالًا كبيرًا … أعطته إمكانيات ضخمة بقدرِ ما أعطاها عن طريق التوفيق بين هذه الإمكانيات متمثلة في الكلمة والموسيقى والحركة والألوان … وبذلك أتاح للتجربة الإنسانية أن تنفتح في ثراء على آفاقٍ لا يبلغها الكتاب.

وبهذا أقام الدليل على أن الفن ليس ساحة مغلقة، ولكنه تراث يمكن أن يمتلكه الناس … وبامتلاكه يستطيع كلٌّ أن يجد فيه عزاءه ومرشده … وأن يلقى آفاقًا منفتحة على القدرات الإنسانية.

على أننا — وقد ألقينا أضواءً على مهمة النقد ودوره في العصر الحديث وأزمته، ووقفنا على بعض مناهج تقويم العمل الفني — نتَّجه إلى مصر في لمحة عن مشكلات النقد بها.

لقد كان النقد التشكيلي ثمرةً من ثمار الحياة الفكرية في مصر الحديثة، بدأ على يد بعض كبار الأدباء والكتاب في ممارسة محدودة إلى جانب مشاغلهم الأدبية.

ثم أخذت بعض الكتابات النقدية تظهر على استقلال عن أعمال الأدباء.

ولكن النقد في مصر ظل قائمًا على جهودٍ فردية اتَّسم أغلبها بالأسلوب الانطباعي.

وحداثة عهد النقد بمصر، بل حداثة عهد الحياة الفنية نفسها، والصعوبات التي اكتنفتها، فضلًا عن صعوبة إعداد الناقد الفني، جعل النقد في مصر يفتقد حتى الآن الأعمال الكبرى التي تحمل وجهات نظر محدَّدة في تقويم آثار الفنون، كما أنه جعل التعليق الفني يختلط أحيانًا بالنقد الصحيح، وكلاهما له دوره، ولكن الخلط بينهما يهوِّن من شأن مطالب النقد وصفات الناقد الفني.

النقد يتطلَّب ثقافة عميقة واتصالًا فكريًّا ووجدانيًّا بالحضارات … وهو يقتضي إلمامًا بفلسفة كل عصر وعقائده، كما أنه يتطلب تفتحًا في الحواس وتوقدًا في الفكر لالتقاط نبض العمل الفني، وهو يقتضي بالضرورة ثقافةً فنية شاملة وثقافةً أدبية معادلة لها، والناقد يترجم الإحساس بالعمل التشكيلي إلى لغة مكتوبة، وبأداة هي الكلمة، ومن ثَم فهو يتطلب حسًّا أدبيًّا وموهبة حتى يستطيع بالكلمة أن يصوغ ما يستعصي على الكلمات … إعداد الناقد الفني ليس بالأمر اليسير، فهو مزاج من إعداد المؤرِّخ والأديب والفنان، مع معايشة للعلوم، وتفتُّح على الكون في مظاهره وأعماقه.

وفي مصر بحكم وضعها كملتقى الشرق والغرب، وبحكم نشأة الفن الحديث بها، ومع تعدُّد صور الحياة بها، يطالب الناقد بأن يكون على رباط وثيق بفنون الشرق وحضاراتها المختلفة، وبفنون الغرب حتى أحدث تطوراتها، وأن يكون متصلًا بالفكر الفني في هذه البلاد متتبعًا أيضًا تياراته المختلفة في الغرب، فنحن أمام نهضة فنية متدفقة تتطلَّب تحديد القيم، وعلى النقد أن يلاحقها وأن يضع لها المعالم.

figure
القُبلة «برانكوزي» ۱۹۰۸م Brancusi.

على أنه إلى جانب هذا الرصيد الثقافي الذي يعتبر عُدة الناقد، وإلى جانب مشقة التكوين ينبغي أن تتوافر للناقد هبة التوازن بين العقل والحس والنفس حتى يتاح له الكشف عن القيم المختلفة في العمل الفني بدون شطط في الحكم أو اندفاع … النقد تقويم وبناء، وليس هدمًا وتقويضًا.

كما أن الناقد الفني ينبغي أن يتحرَّى صدق الكلمة، وأن يتأمل ويراجع نفسه قبل أن يصدر حكمه في قضايا الإبداع الفني، وأن يكون رائده شجاعة الرأي.

الناقد يلقي ضوءًا ولا يمسك بصولجان … ليس عليه أن يقيِّد المتذوق بموازين حساب محدَّدة تحول دون استمتاعه الحقيقي بالعمل الفني … لا بد له أن يترك للمتلقي خياله … يرسل إليه الضياء ويفتح له الأفق … ويدعه يقرأ العمل الفني بنفسه، ويضيف إلى ضوء الناقد ضياءً من عنده، لا أن يقرأ للمتذوق العمل نيابةً عنه ويلقي إليه بحكم صارم.

وينبغي أن يكون الناقد على قدْر كبير من التضحية والتجرُّد، فإعداد الناقد الفني أعقد من إعداد الأديب، ونصيبه من الشهرة محدود إلى جانب رجل الأدب، كما أن نصيبه المادي يتطلب التضحية حتى يستطيع أن يتوفَّر على عناء هذه التجربة ويَقنع بدوره بدون أن يخرج عنه إلى مجالات أخرى يستهويه فيها بريق الشهرة أو المال … فيفقد إيقاعه الداخلي وشرف كلمته حين تسخِّره السلطة للدعاية لنوع معين من الإنتاج الفني، أو تستخدمه أسواق الفنون للترويج لاتجاه بذاته أو فنان بعينه، وتلك بعض أوجه أزمة النقد في الخارج.

النهضة الفنية في مصر تتطلب نقدًا يصاحبها، بل نقدًا رائدًا لها يضع علامات على طريقنا بين القديم والحديث، بين الشرق والغرب، بين التقليد والابتكار، بل هي في حاجة إلى الناقد الذي تلتقي عنده قدرة مخاطبة الأحجار القديمة مع اتصاله بعصر نهضتنا، في حاجة إلى نقدٍ يستطيع أن يحدِّد ما قدَّمه كل فن في مضمار الحضارة، وما أبدعته كلُّ لحظة من لحظات التاريخ من روائع الشكل، كما يشير في شجاعة إلى الأصيل وإلى المفتعل، إلى الغث وإلى الثمين في العمل الفني.

لا نهضة فنية بلا نهضة في النقد تواكبها، والفنان الكبير في حاجة إلى الناقد الكبير … كما أن عيون المشاهدين — وهي نوافذ للروح — في حاجة إلى مَن يفتح لها الآفاق ويطلعها على الجوهر الإنساني في آثار الفنون.

ومن هنا أصبح النقد مطلبًا وقضية، وليس بعسير إذا ما هيأت الدولة الظروفَ لنماء النقد وازدهاره من أن يَصدر عن مصر وجهة نظر أصيلة في النقد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥