بعض قضايا النقد في الفنون التشكيلية

يثير الإبداع الفني المعاصر في مصر، وعلى الأخص بعد الخمسينيات، كثيرًا القضايا يطرحها على النقد، ويتطلَّب استظهار موقفه منها.

وإذا كان الناقد الفني يكشف للمشاهد عن قيم العمل الفني فإنه قبل ذلك يضيء للفنان الطريق … وهو في اضطلاعه برسالته يستطيع أن يكون موجِّهًا صائبًا للعمل الفني، كما يستطيع أن يدفع به إلى الحيرة والضلال.

لذلك كان من مسئوليات النقد أن يدلي بوجهة نظره في القضايا التي تبرز من خلال اتجاهات الحركة الفنية.

وما أجدرنا في هذه الحِقبة أن نستجلي — من خلال النشاط الفني — وجهَ بعض هذه القضايا، وأن نلقي عليها الأضواء.

ثلاث قضايا رئيسية نناقش في إطارها العام مسئولية النقد إزاءها، وما ينبغي أن نتزوَّد به لمناقشتها، بوضوحٍ في الرؤية، وصواب في الحكم، وبُعد عن الافتعال. هذه القضايا هي:
  • قضية الفن بين التراث والمعاصرة.

  • قضية الفن بين التشخيص والتجريد.

  • قضية الفن ومطالب المجتمع.

أما قضية التراث والمعاصرة، فلها في مصر مشاكل وأبعاد.

فمشكلة إحياء التراث الفني لماضي مصر، وامتداد هذا التراث في التجربة المعاصرة، مشكلةٌ تشد الفنان المصري المعاصر في أكثر من اتجاه، وعلى الناقد أن يدلي برأيه عن النهج الصحيح لتحقيق هذه الشخصية المميزة لمصر في فنونها.

وليس على الفن من خطرٍ أكثرَ من النظرة المحدودة الضيقة المجال، كما أن الفن الأصيل لا يمكن أن يكون نتيجةً لمداولة أو قرار أو استفتاء … إنه ليس «تركيبة معملية» يخرج من تفاعلها فنٌّ قومي، وإلا كان افتعالًا.

من أجل هذا فإن مطلبًا ملحًّا يتصدَّر مشكلة الإبداع الفني، ويتعلَّق بوجوب تعمُّق روائع الفنون التي ازدهرت في مصر وفلسفاتها، واستظهار خصائصها المميزة، والكشف عما سنَّته هذه الفنون من قوانين هي من وحي هذه الطبيعة، وهي عنصر ثابت خالد أبدى، يحقِّق لها في كثير من مقوماتها عنصر المعاصرة الذي يجعلها مصدرًا لإثراء التجربة الحديثة، كما أنَّ تعمُّق مقومات الوجدان المصري والروح المصرية، وما حقَّقت في الفن عبر العصر من قيم، مطلبٌ أساسي … فكثير من الأعمال الفنية تأخذ من التراث أشكاله الخارجية، وتقحِم بعض عناصره على سطح العمل الفني بدون التوغل في أعماق التراث وتفهمه، ومن ثَم يقف حدُّ الاتصال بالتراث أحيانًا عند القوالب والأشكال الخارجية بدون النبض العميق الذي يكمن في هذا التراث.

كذلك كان الوعي الكامل بالتيارات العالمية المعاصرة، وإدراك بواعثها وأهدافها، وتقويم أثرها، مطلبًا هامًّا في هذه المرحلة … فلدفعة التجديد إغراء … والعالم المعاصر أوغل في الإغراب من أجل الجديد … وليس كل الوافد عن طريق البحر جديرًا بتسليمنا، بل يجب أن يكون لدى الناقد شجاعة الكلمة إزاء كثير مما تدفع به التيارات لنا، ليميز بين اللآلئ والأصداف، فإن خطرًا ما يتهدَّد تجارب كثير من جيل الشباب الذي يندفع قبل أن تكتمل له أدوات التجربة وراء تقليد كل غريب جديد … وبدون أن يرتكز الفنان على أصالةٍ نراه يتحوَّل فجأة وبلا مقدمات نحو هذه النماذج الجديدة … وهذا هو عنصر من عناصر الخطر على تكوين الفنان المصري الحديث.

وليس حتمًا أن تستوعب تجربتنا المعاصرة كلَّ الجديد، وإنما المطلب هو أن تتَّسم هذه التجربة بالأصالة والصدق، وباستجماع عناصر المعاصرة في فنٍّ ينبع من وجداننا وبيئتنا … وفنون الحضارات القديمة — كفنون الهند واليابان والصين — ما زالت تقدِّم في مجال التعبير المعاصر أمثلةً تجمع بين المحلية والعالمية، وفيها تلك الصفة الخاصة التي تسم الأثر الفني بالصدق والأصالة.

تلك مهمة أخرى لناقد الفن في مجتمعنا المعاصر، ورسالة تتطلَّب شجاعة الرأي ونفاذ البصيرة وصدق الكلمة.

وقضية الفن بين التشخيص والتجريد من قضايا عصرنا ومجتمعنا … يهجر البعض الفنَّ المشخص من أجل الجِدة التي تبدو لهم في الفن المجرد.

وليس التجريد على الفن بجديد؛ فكل فن إعادة صياغة، وكل فن ينطوي على قدْر من التجريد، والفنون الإسلامية قدَّمت أروع تجريد نابع من وجدان الفنان الإسلامي.

ما لم يجد الفنان في لغة التجريد البحتة شيئًا يقوله بصدق وعمق أكثر مما يقوله الفن المشخص فلا عليه أن يخوض تجربة غريبة على نفسه لمجرد مظهر الحداثة والجِدة.

والفن الحديث قدَّم لنا — وما زال يقدم — روائعَ من الفن المشخص في رؤًى أصيلة جديدة، كما قدَّم لنا فنونًا مجردة، في بعضها الأصالة والابتكار، وفيها أيضًا التجريد السطحي الرخيص.

بل إن الفن المشخص والفن التجريدي يعيشان معًا في إنتاج فنان واحد حسبما تهديه بصيرته التشكيلية في التعبير.

قضية أخرى تتطلَّب وقفة متأنية هي قضية الفن في المجتمع الاشتراكي، وما يثار أحيانًا حول الفن الملتزم: مواصفاته ومدلوله.

ففي كثير من المجتمعات الاشتراكية فُسر الالتزام في الفن بأنه وضْعُ مواصفات معينة لمضمون العمل الفني وتقنين خاص لأشكاله، وتحت وطأة التقنين والمواصفات خبَت شرارة الإبداع من كثير من الأعمال الفنية، فاختلط العمل الفني بلافتات الدعاية والتوجيه.

والاشتراكية في جوهرها الإنساني تقيم وزنًا للفردية وجمال الحياة، وتفتح آفاقًا لا نهاية لها من منافذ التعبير عن النفس.

وكل نشاط خلاق يتطلَّب لازدهاره احترام كرامة الإنسان واحترام حرية التعبير … والفن بطبيعته نشاط يستعصي على المواصفات والتقنين وقيمته في حريته وصدقه، ولكن وظيفة الفن الكبرى هي تعميق الحياة وصدْق التعبير عنها … ومن أجل ذلك كان المطلب الأساسي من الفنان المصري المعاصر في مجتمعه الجديد هو مطلب الصدق لهذا المجتمع ومعايشة حياته والاندماج في تياراتها، وحين يتوافر للفنان الصدق لموضوعه يتحقَّق تعمُّقه للمعاني الكامنة وراء الأحداث واستنباط الرموز الوجدانية التي تربطنا بها.

figure
القُبلة، نحت بريطاني معاصر، ١٩٦٢م «ويتكن» Witkin.

تلك أيضًا قضية من قضايا النقد في مصر المعاصرة تتطلَّب شجاعة الرأي حتى يبقى الفن بمنأًى عن كل دعوة إلى الإلزام.

وفرقٌ بين الالتزام والإلزام … الالتزام ينبع من وجدان الفنان وصدقه لمجتمعه، أما الإلزام فتقنين تفرضه السلطة على إبداعٍ يستعصي على التقنين.

وتقويم الناقد لنماذج الأعمال المعاصرة، ودراساته المقارنة لتطور الفن في الدول الاشتراكية يستطيعان أن يلقيا ضوءًا هاديًا لتجربة الفنان التشكيلي في مجتمعنا المعاصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥