أدب الفنون التشكيلية في مصر

لمحة من التاريخ

في تاريخ الثقافة الإنسانية لقاءاتٌ رائعة بين الآداب والفنون … بين فنٍّ قوامُه الكلمة وفنٍّ قوامُه الشكل، لقاءاتٌ في منابع الإلهام وتيارات التفكير، ولقاءاتٌ في حركات التجديد والإبداع أعان عليها وحدة الفنون في المجتمعات الحضارية والصلات الحميمة بين رجال الفن والأدب، تلك الصلات التي أثَّرت في فكر الإنسان ووجدانه، وأمدَّته بشراراتٍ من القبس المقدَّس.

واستطاع فنُّ الكلمة أن يحفظ فنَّ الشكل وأن يفسِّره؛ فقد يعيش الورق أحيانًا عمرًا أطول من الحجر … ألم يطوِ الزمن أعمالَ فيدياس في حين ظلَّ اسمه يحتل قمةً من أعلى قمم الخلود فوق صرحٍ من الكلمات مجَّدت اسمه وفنَّه؟

أوَلم تأتِ سنوات الشدة العظمى والغزوات التي اجتاحت العالَم العربي على كثير من فنون العرب والفنون الإسلامية، في حين حفظ الأدب العربي شعرًا ونثرًا ملامحَ كثير من الروائع الفنية ما زلنا نعايشها ونتمثَّلها من خلال شِعر البحتري والمتنبي وأبي فراس والنابلسي وغيرهم؟

وكان الشعراء والكتَّاب في أوروبا يعيشون في أوساطِ الفنانين التشكيليين ويندمجون في رؤاهم ويساندون الحركات الطليعية … هكذا كان موقف إميل زولا من سيزان ومانيه وكانت الصداقات العميقة التي ربطت بين ماكس جاكوب وأبولينير وكوكتو وإيلوار وأراجون، وبين بيكاسو وماتيس وغيرهما من رواد الحركات الفنية الحديثة، بل كانت كتابات الشعراء والأدباء نوافذَ إلهام للتشكيليين، وضوءًا كاشفًا فسَّر رؤاهم، وأتاح الحوارَ العميق بين الجمهور والعمل الفني.

والأمثلة على ذلك كثيرة تستعصي على الحصر … ولكن هذه الإشارة في مدخل الحديث عن لمحةٍ بين أدب الفنون التشكيلية في مصر إنما هي للدلالة على حقيقة من الحقائق الإنسانية الأصيلة ليس تاريخنا الحديث إلا ظاهرة من ظواهرها في اهتمامه بالكشف عن روائع الفنون، أو الكتابة في تاريخها، أو إبراز أهميتها، أو في توارد الصور الأدبية والصور التشكيلية، وتقابلها الذي نلمحه في أعمال بعض رجال الأدب ورجال الفن.

وفي هذا الحديث تركيزٌ على البدايات منذ مطلع القرن حتى الأربعينيات، وعلى الرواد الذين شاركوا بالكلمة في تقديم الفنون التشكيلية وتقويم روائعها وسرد تاريخها.

لقد سبق التنظيم العام للحياة الفنية والاهتمام بأمرها في العصر الحديث يقظة الفكر لها واحتفاؤه بها والدعوة إليها.

ولعل من الإشارات المشرقة في تاريخ الثقافة المصرية المعاصرة أن تأتي الدعوة إلى الاهتمام بالفنون الجميلة على يد مفكِّر ديني عظيم هو الأستاذ الإمام … ففي سنة ۱۹۰۳م كتب محمد عبده فصلًا عن الفنون الجميلة لمس فيه ببصيرته المستنيرة بعضَ المعاني النقدية العميقة حين قارن بين الرسم والشعر، فأشار إلى أن «الرسم ضربٌ من الشعر الذي يُرى ولا يُسمع، والشِّعر ضربٌ من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى»، فأدرك بذلك ضرورةَ امتلاك العمل الإبداعي — فنًّا أو أدبًا — خاصيةً أساسية هي خاصية الشِّعر.

كذلك جاء سبق الاهتمام بالفنون والدعوة إلى تقدير الجمال في كتابات قاسم أمين التي وصف فيها بعضَ ما رآه في متحف اللوفر، وفي مقالات لطفي السيد بالجريدة عن الفنون الجميلة، وفيما نشره فرح أنطون بمجلة الجامعة عن فلسفة الفنون الجميلة عند رسكن.

وحين أخذ النشاط الفني في مصر بأسباب التنظيم، وبدأت أبرز مؤسساته التعليمية بإنشاء مدرسة الفنون الجميلة سنة ۱۹۰۸م في العام نفسه الذي أُنشئت فيه الجامعة الأهلية، كان الأدب سبَّاقًا في البشارة بهذا الفجر الجديد في حياتنا الثقافية.

ودخلت الفنون التشكيلية ونقدُها ووصف روائعها في مجال التعبير الأدبي في عصر النهضة المصرية الذي أعقب ثورة سنة ۱۹۱۹م، وكان من عوامل ظهور حركة أدب الفن التشكيلي وازدهاره، بعد أن كانت تبدو لمحًا في كتابات المفكِّرين والأدباء، روحٌ امتدَّت من طبيعة العصر، ومن تجمعات رجال الفن والأدب في منتديات وجماعات ثقافية، كان أهمَّها جماعةُ الخيال التي أنشأها المثَّال مختار سنة ۱۹۲۷م، وجمعت مع صفوة رجال الفن جماعةً من كبار رجال الأدب بينهم العقاد والمازني وحسين هيكل ومحمود عزمي ومي.

وفي هذا الجو أتيح لرجال الأدب والفن حوارٌ حول روائع الفنون، وانعكس ذلك على كتابات تلك الحِقبة.

وقبل ذلك كان تمثال نهضة مصر، واكتشاف آثار توت عنخ آمون، من الأحداث الثقافية التي أحدثت أثرًا كبيرًا في المناخ الأدبي … حدَث من العصر الحديث، وحدَث من العصور القديمة ربطا خيالَ الشعراء وفكر الكتَّاب بالفنون المعاصرة وبالفنون القديمة … نلمح ذلك في كتابات العقاد والمازني ومي وحسين هيكل وأمين الرافعي، وفي كتابات منصور فهمي وشيخ العروبة أحمد زكي، وفيما كتبه الأديب العربي مصطفى صادق الرافعي.

كما نراه متألقًا في شعر شوقي عن الآثار، وفي شعر مطران، وفي أشعارٍ كثيرة لأحمد زكي أبي شادي.

كان هذا هو عصر «النزعة القومية» في الأدب والفن والفكر، أكَّدتها الملامح القومية في فنون العصر والكشوف الأثرية الباهرة.

ولعل فما كتبه الدكتور محمد حسين هيكل سنة ١٩٢٧م بمناسبة معرض جماعة الخيال الأول من دعوة إلى استلهام الفن المصري القديم صورةً لفكر تلك الحِقبة … وهو يردُّ في دعواه على معارضي الدعوة فيقول: «نلمح الآن اعتراضًا يوجَّه إلينا: أين نحن من الفن المصري القديم، وبيننا وبينه عشرات المئات من السنين؟ … إنما يجب أن يستقي رجال الفن إلهامَهم من الحاضر ومن الحياة المحيطة بهم، ليكونَ الفن المصري جديرًا بهذا العصر الذي نعيش فيه … نلمح هذا الاعتراض ونبتسم له؛ فعشرات المئات من السنين هذه ليست شيئًا في تاريخ النفس الإنسانية وتطوُّرها … وإذا كان بين مظاهر عيشنا ومظاهر عيش الأقدمين خلافٌ أكبر خلافٍ فإن روحنا وروح الأقدمين متقاربتان، بل متفقتان في الانقباض والانبساط والحسرة والألم، والمظاهر التصويرية لهذه المشاعر أكبرُ دليل على هذا …»

وينتقل هيكل — بعد أن يعرض امتدادات مظاهر حياة الأقدمين في حياتنا الحديثة — إلى لوحةٍ للفنان محمود سعيد عرَضها في هذا المعرض تمثِّل «القديس يوحنا والتنين»، فيقول:

«لقد كانت الفكرة الأولى التي أدَّت إلى اغتباطي لأول ما شاهدت صورة «القديس يوحنا»، أن أثارت عندي ذكرى قديمة عزيزة على المصريين جميعًا، هي صورة الزير سالم وأبو زيد الهلالي. وقصص الزير والهلالي وأساطيرهما متصلة في النفس المصرية بتاريخ مصر القديم إلى حدٍّ كبير. لذلك سرَّني أن أرى الفن الحديث يتناول هذه الصور القديمة فيخلع عليها من جِدة الشباب ما يردُّ إليها الحياة بعد أن كادت تندثر وتتلاشى وتترك عصرنا هذا. سررتُ ورجوتُ أن يتناول البعث الجديد هذه الصور القديمة كما تناول رفاييل وميكل أنجلو ودافنشي وغيرهم تاريخَ المسيحية وتاريخ اليونان، فلما ألفيتُ الصورة بعد التحقق والرجوع إلى برامج الجماعة تمثِّل القديس يوحنا والغول الذي يحاربه، ورأيت هذا الغول في صورةٍ غير أغوالنا الشرقية الكثيرة الصور لم ينقص إعجابي بمقدرة محمود سعيد وقوَّته، ولكن قصر الآمال الذي بنيته عاد خاليًا من رجاءٍ حسبتُه تحقق … ولكن بحسب هذه الصورة أن يكون لها من الفضل أن تبعث في نفوسنا رجاءً جديدًا يحقِّقه معرض جماعة الخيال في العام القادم.»

وينتقل في المقال نفسه إلى تصويرِ ما كان يجيش في نفس رجل الفن والأدب في هذا العصر فيقول:

«أفضيت بهذا الذي دار في نفسي إلى صديقي مختار المثَّال … ومختار من متقدمي الدعاة إلى استلهام الفن المصري القديم؛ لأنه يراه أدنى إلى الكمال من كلِّ ما عرف العالم إلى يومنا الحاضر من فنٍّ، ولأنه يشعر في جو مصر بروح عميقة عجيبة خفية قومية تمسكها فتفر منك كلما أمسكت بها، ويرى وجوبَ تدوين ما يستطاع من مظاهر هذه الروح على الحجر وعلى اللوحات وعلى الورق، فلما ذكرت الميثولوجيا القديمة وأساطير العصور المختلفة قال: ولكن أنَّى يجد رجل الفن اليوم هذه الميثولوجيا وتلك الأساطير وأكثرها مبعثرٌ أو مكتوب بلغة أصبحت لا تُفهم … إنا نستلهم ما نعرف من ذلك، ونستلهم الآثار الباقية أمامنا، لكنَّ على رجال التاريخ والأدب واجبًا فنيًّا وإنسانيًّا عظيمًا … ذلك أن يقرِّبوا تفاصيلَ هذا التاريخ لنا ويجعلوه في متناولنا، فيقرئونا إياه بلغة مفهومة، ونحن متأثرون بعد ذلك أردنا نحن أو لم نُرِد، متأثرون أكبر التأثُّر، لأنا نؤمن بالفن المصري إيمانًا صحيحًا.»

وكانت المعارض التي بدأت تُقام في القاهرة منذ أواخر القرن التاسع عشر سببًا من أسباب بدء الكتابة قبل ذلك عن الأعمال الفنية في المقتطف والهلال … ثم كانت الحركة الثقافية منذ ثورة ۱۹۱۹م محركًا آخرَ لخواطر الكتَّاب وأفكارهم، وقد رأينا الكاتبة مي تفرِد لمعارض الصور فصولًا من كتاباتها، وهي في هذه الفصول تومئ إلى أهمية النقد وخصائصه.

ومن آرائها المتقدمة بالقياس إلى هذه الحِقبة ما كتبته في سنة ١٩٢٤م عن معارض الفن كموضوع: «يمرِّن عليه كتابنا مقدرتهم في النقد التصويري، ومنهم مَن يبدي في ذلك إدراكًا دقيقًا وإحساسًا نافذًا، وإخلاصًا مشكورًا، فلا يُسئم المواهب الصالحة بالكلام الفاتر في الموضوع الحار، ولا يملق الغرور والغطرسة بالثناء الوفير على ما هو عادي قد لا يستحق أكثر من النظرة السريعة.»

وهي تسترشد بأقوال شارل بودلير فيما ينبغي أن يكون عليه النقد، وتنقل عنه آراءه في أنَّ «خير نقدٍ هو النقد المنوع الشعري المبهج، لا ذلك النقد البارد الذي يسلك طريقة علم الجبر في حل المسائل الرياضية.» وفي أن «الناقد يتحتَّم أن يكون واسعَ المعرفة والإدراك، رقيق الإحساس، صادق الإخلاص … ومقياسه هو الطبيعة بأسرها، بإنسانها ومجتمعها، ثم عليه أن يتأثَّر لينقد بانفعال … وعلى الناقد البصير أن ينظر إلى الأثر الفني والتعبير الفني، ومن ورائه الطبيعة وما وراءها لا يغيب عن بصره فيشرح ما في البيان الفني من معلوم ومجهول، أو من نقص في العلاقات أو من علاقات مختلفة. الناقد العليم القادر أستاذ الحياة بما فيها من العلانية والأسرار والمتحركات والسواكن … يعرفها للفنان الذي عالجها صامتًا، ويعرفها للجمهور الذي يحدِّق فيها جاهلًا.»

وهي بعد هذا ترى أن النقد العام الناظر إلى الأمورِ من جميع جهاتها قليل جدًّا في اللغة العربية التي عني أئمتها في الغالب بالنقد اللغوي وما إليه … ولكنها تشير إلى أن «من دواعي الابتهاج أن تبدو مع النزعة الجديدة إلى الحرية السياسية النزعة إلى العمل الفني يحاذيها النقد الصادق الذكي.»

لقد غرست مي زهورًا متألقة في حياتنا الفنية … من كلماتها النابضة بشعرها الخاص تتمثَّل بها معارض الفنون في تلك الحِقبة وحياة العباقرة الذين كتبت عنهم … ميكل أنجلو وغيره من عمالقة الفن … ومن عباراتها تشكَّلت ملامح من أدب الفنون في مصر.

على أن هذه الحياة الفنية النشيطة وجدت كتَّابًا صحفيين أعطوها الكثير … لعل الصحافي العجوز توفيق حبيب كان من روادهم منذ بدأ الكتابة عن معارض الفن الأولى، وظلَّت كتاباته مصاحبة لتطورها، وشاركه في ذلك كاتب صحفي آخر — الأستاذ أحمد الصاوي محمد — بلمحاته الذكية في الأهرام التي كان يتابع بها معارض القاهرة الفنية.

وإن كانت هذه الحِقبة تحفظ أيضًا للكتَّاب وللنقَّاد الأجانب أمثال إتيين مرييل وروبرت بلوم وموسكاتيلي وبوجلان وموريك بران والكونت دارسكوت وغيرهم فضْلَ ما قدَّموه من كتاباتٍ نقدية عن الفن المصري الحديث؛ فقد شاركهم فيها ناقدٌ مصري كان يكتب باللغة الفرنسية هو الأستاذ جبرائيل بقطر الذي أسهم بجهود كبيرة من خلال الجماعات الفنية منذ جماعة الإيسايست في الثلاثينيات في تشجيع الفنانين المصريين وتقديم أعمالهم.

على أن الفنانين المصريين بدءوا يطرقون مجال التعبير بالكلمة عن معارض الفنون، وكان منهم في الثلاثينيات صدقي الجباخنجي وإبراهيم جابر وشعبان زكي وأحمد موسى ومحمد محمود عبد الرحمن.

وفي الحِقبة نفسها بدأ الاهتمام بكتابة تاريخ الفنون باللغة العربية.

كان المرحوم محمود فؤاد مرابط من رواد هذا المجال … أعطى الفن كثيرًا من نفسه … وكان يطبع كتابه الأول ملزمتين أو ثلاثًا كلَّ عام حتى يقسط نفقة طباعته على مرِّ الأعوام.

وإلى فؤاد مرابط يرجع فضْل تدريس تاريخ الفن في معاهد الفنون، كما أنه كان من أوائل مَن خاضوا تجربة معاناة وضْع المصطلحات الفنية باللغة العربية … وهو من أوائل مَن استخدموا تعبير «الفنون التشكيلية» عن فنون العمارة والنحت والتصوير والفنون الزخرفية حين كان اصطلاح الفنون الجميلة سائدًا بيننا.

وإلى جانب مؤلفات فؤاد مرابط عن الفنون والموسيقى والعمارة كانت مؤلفات الأستاذ محمد يوسف همام وأحمد أحمد يوسف وابن شقيقه أحمد يوسف الذي أصدر في العشرينيات كتابه عن الفنون الجميلة قديمًا وحديثًا، وكذلك مؤلفات الأستاذ محمد عزت مصطفى … وقد شاركت هذه المؤلفات في تقديم الكتابات الأولى عن تاريخ الفنون باللغة العربية، كما بدأ الأستاذ حامد سعيد في أواخر هذه الحِقبة التي تنتهي في أوائل الأربعينيات دعوته وتأملاته في الفنون والتراث.

على أن بعض الكتَّاب والشعراء تركوا في النقد الفني آثارًا ظاهرة في تلك الفترة، أوضحها كتابات العقاد وكتابات المازني وكتابات الشاعر عبد الرحمن صدقي، وسلامة موسى.

وبدأ يظهر الكاتب الناقد الذي يعطي الفنَّ أكبر طاقاته عندما أخذ الشاعر أحمد راسم ينشر «ظلاله»، ويقدِّم صفحة من الفن في مصر من خلال دراساتٍ اتسمت بأناقة عباراته وشاعريته التي أمدَّت الأدب الفرنسي والأدب العربي بآثارٍ لم تأخذ حقَّها من الدراسة ولا مكانها في تيار الحياة الفكرية.

طرق أحمد راسم في البدء التأليف الفلسفي، فنشر في سنة ١٩٢١م كتابه الدين والإنسان، تناول فيه نظرية التقييد والقضاء والقدَر، ثم أتبعه بكتاب من الشعر المنثور باللغة العربية عنوانه «الحديقة المهجورة»، واشترك مع الأستاذ سليم عبد الأحد في وضع رواية تمثيلية مقتبَسة «السكرتير الفني».

واتَّجه راسم بعد ذلك إلى التأليف باللغة الفرنسية، فنشر «أحاديث جَدتي» سنة ۱۹۲۳م، و«قصائد العذارى» شعرًا منثورًا سنة ١٩٢٥م، و«آخر ابتسامة المسيح» شعرًا منثورًا سنة ۱۹۲۷م، و«عقد العجوز زنبل» أمثالًا عامية سنة ۱۹۳۲م، «وعند بائع المسك».

وشغل أحمد راسم مناصبَ رسمية مرموقة، غير أن هواه كان دائمًا مع الفن والأدب … وأخذ يتوفَّر على النقد الفني، فكان كتابه الأول «الظلال» أوَّل دراسة عن مجموعة من رواد الفن المصري، وعن الفنانين والشعراء الأجانب في مصر، وظلَّت مؤلفاته تحمل وعودًا بأجزاءٍ أخرى من «الظلال»، ولكنَّ راسمًا كان كاتبًا «من الهواة … الفن عنده ليس وسيلةً للكسب، بل إنَّ معظم كتبه كان يطبعها على نفقته ويوزِّعها على الراغبين، فقصرت وسائله عن الاستمرار، وإن كان قد قدَّم مؤلَّفات أخرى عن محمود سعيد وآمي نمر ونحو فنٍّ مصري، كما أصدر كتابًا عن المصوِّر جورج صباغ. ولقد استطاع راسم أن يثري لغة النقد الفني بالمصطلحات، وأن يعرب ويعرِّف بالكثير من المذاهب والاتجاهات الفنية من خلال دراساته، وأن يقدِّم لمصر ناقدها الفني الأول الذي طوَّع لغتها العربية لأغراضِ الفنون ولنشر الثقافة الفنية … وكثير من تعبيرات راسم أصبحت من لغةِ أدب النقد في مصر … هو صائغها الأنيق عرضها على صفحاتِ كتبه فتأثَّرنا بها وإن لم يعرف الكثيرون فضْله.

وصاحبَ أحمد راسم ناقدٌ فني آخر كان له حظٌّ أكبر من الشهرة عن طريق الأدب هو بشر فارس … لم تمنعه تأملاته في «جبهة الغيب»١ عن أن يقدِّم نقدًا فنيًّا هو من روائع الأدب، ولكن تأنقه في الصياغة لم يحجب نظراتٍ نافذة لهذا الناقد الذي كان يرى في «مناهل» الفن «مسرة العين أو القلب حينًا … وحينًا مشْغلة العقل أو الوجدان» … وبهذين الغرضين كما يقول «يتم للفن شأنه في حلبة الثقافة، وما أحوج الشرق العربي إليها»!

ومن هنا كان بشر فارس يقدِّم روائع الفنون بنظرة عين ثاقبة ذكية، وبرؤية يمتزج فيها الفكر والوجدان.

وقد كان بشر فارس بامتلاكه ناصية اللغة وثقافة الفنون من أقدرِ مَن تحملوا جهد تعريب اصطلاحات الفن إلى اللغة العربية، وابتدع في هذا المجال تعبيراتٍ خاصة به … كما أنه اتَّجه بعد ذلك إلى مناهل التصوير العربي، فدرسها دراسةَ العالم الباحث المدقِّق والفنان العارف.

وظلَّ بشر فارس مشرفًا على الشعبة القومية للجمعية الدولية لنقاد الفن حتى تشتت شملها برحيله المفاجئ الذي انطفأت معه مَلَكات متوقدة كانت لهذا الكاتب الباحث الفنان.

ينفتح أدب الفنون التشكيلية بعد بداية الأربعينيات على آفاق فسيحة … ويُحدِث التحوُّل الهائل الذي جاء في أعقاب الحرب أثرَه في اتصالات تيارات الفكر وفي متابعة حركات الفن المعاصر وتياراته من خلال حضارة «الصورة»، ومن خلال الكلمة، ومن خلال اللقاء المباشر بالاتجاهات العالمية في معارض الفن … ويتَّسع نطاق ممارسة النقد الفني.

ولكن هذه مرحلة أخرى ما زالت سماتها تتشكَّل … ولها مجال آخر من البحث … أمَّا هذه الكلمات فهي تصور ملامح من تاريخ اللقاء بين فنون الشكل وفنون الكلمة، وهي ترسل تحيةً للرواد الذين خاضوا هذا المجال بجسارة ومحبَّة وصدق، وأسدَوا لأدب الفنون التشكيلية فضلًا سيظل باقيًا.

١  «جبهة الغيب» من مؤلَّفات بشر فارس الأدبية التي لم تشغله على تعدُّدها عن المشاركة بقدْر ملحوظ في النقد الفني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥