الآثار الفرعونية في شعر شوقي

كان جلال التاريخ وعظمة الآثار من مصادر وحي شوقي … أطال الوقوف بتاريخ روما، وتأسَّى على عِبَر الدهر في ثرى الأندلس، وفاض شعره بأمجاد العرب، وما إن وقف برحاب الماضي الفرعوني حتى ارتفع نشيده بالغناء ونطق بالحكمة … ترنَّم بروعة الآثار، وهزة جلالها على أرض الوادي.

أليس هو القائل: «الشعر ابن أبوين؛ التاريخ والطبيعة»؟!

وهو المزهو ببعث أمجاد بلاده:

وأنا المحتفي بتاريخ مصر
مَن يصُن مجدَ قومه صان عرضا

وقد أوتي شوقي في شعره هبة الموسيقى وملَكة التصوير … في كل وقفة له نشيد يرقى إلى أعلى مصادر السحر، وإزاء ما طاف به من آثار حكمة وتأمُّل وصياغة لصور تشكيلية في الشعر نابضة بالحركة تضفي على الأثر الجليل حياة الكلمة … أحيانًا ترتفع النغمة ضخمة جهيرة، وأحيانًا تفيض بسحر عجيب … وهو في كل هذا يستحضر رؤًى متباعدة ويجمعها في نسيج شعري يبلغ في بعض صوره مراتب الإعجاز.

في ديوان شوقي نلمح حركة التاريخ في مرآة شاعر عظيم، على أن من تاريخيات شوقي وقفات خالدة اختص بها آثار مصر، فكانت وجهًا من أوجه تفرُّده بين شعراء عصره.

وقفته الكبرى في قصيدته عن حضارة مصر «كبار الحوادث في وادي النيل»، وفيها يتناول عصر بناة الأهرام، وعصر رمسيس وسيزوستريس حتى يصل إلى العصر الحديث وفيها يخاطب رمسيس:

جلَّ رمسيس فطرةً وتعالى
شيعةً أن يقوده السفهاءُ
وَسَما للعلا فنال مكانًا
لم ينَلْه الأمثالُ والنظراءُ

•••

ووجودٌ يُساس والقول فيه
ما يقول القُضاةُ والحكماءُ
وبناءٌ إلى بناءٍ يودُّ اﻟﺨﻠ
ﺪ لو نال عُمرَه والبقاءُ

ثم يقول:

مَن كَرمسيسَ في الملوك حديثًا
ولرمسيسَ الملوكُ فداءُ

ولقد كان رمسيس من أكبر الملوك البنائين، شاد المعابد، ونثر تماثيله في أرض الوادي من النوبة إلى تانيس.

على أن وقفات شوقي المباشرة أمام الآثار تمثِّل في تأملاته لأبي الهول، وشجنه الحزين أمام القصر الغريق — أنس الوجود — وانبهاره بكنوز الملك الشاب توت عنخ آمون التي أطلقَت من وجدانه أروعَ الشعر، وقد ظل سِحر الملك الذهبي يعاوده فيختصه بقصائده … قصيدته الرائعة:

درجَت على الكنز القرون
وأتت على الدنِّ السنون

ويأتي افتتاح أول برلمان مصري في أعقاب الكشف الأثري العظيم لتوت عنخ آمون فيرسل شوقي قصيدته «توت عنخ آمون والبرلمان».

قُم سابقِ الساعةَ واسبِق وَعدَها
والأرضُ ضاقت عنك فاصدَع غِمدَها

إلى أن يقول:

لَحْدُكَ ودَّته النجومُ لَحْدَها
أريتَنا الدنيا به وجِدَّها
سلطانَها وعزَّها ورغدَها
وكيف يُعطى المتَّقنون خُلدَها
آثارُكم يُخطي الحسابُ عدَّها
انهدَم الدهرُ ولم يَهُدَّها

ونعود إلى تأملات شوقي ومناجاته عند أبي الهول في الجيزة فنرى صورًا من خيال الشعر انطلقت، وسيَّالًا من الحكمة انساب في تأملاته حين يقول:

أبا الهولِ ويحَك لا يُستقلُّ
مع الدهر شيءٌ ولا يُحتقَر
تهزَّأتَ دهرًا بديكِ الصباح
فنقَّر عينيك فيما نقَر
أسالَ البياضَ وسلَّ السواد
وأوغل منقارُه في الحُفَر
فعُدْت كأنك ذو المَحبِسَين
قطيعَ القيامِ سليبَ البصَر
كأنَّ الرمال على جانبَيك
وبين يديكَ ذُنوبُ البشَر
كأنَّك فيها لواءُ القضا
ء على الأرض أو دَيدَبان القَدَر

فالأسطورة الخالدة الجاثمة على رمال الأهرام تستحيل في رؤى شوقي كائنًا حيًّا أزليًّا يتَّخذ منه العبرة ويأسى لحاله … والعيون الحجرية الشاخصة الذاهبة في أعماق الأزل تستحضر للشاعر رؤيةً غريبة لا تخطر ببالٍ حين تتمثَّل له وكأن ديك الصباح قد نقرها فأسالَ منها البياض، وسلَّ السواد، وأوغل منقارُه في الحُفَر.

وفي الرحلة إلى الأندلس، وهي مقابلة لقصيدة البحتري الرائعة في الإيوان، يستعيد شوقي آثار بلاده فيذكر بطليطلة وغرناطة وقرطبة الكرنك والهرم، ويستكمل صورة أبي الهول تلك التي جلاها في قصيدته الأولى إذ يقول:

و «رهينُ الرمال» أفطسُ إلا
أنه من صُنْع جنَّةٍ غيرِ فُطْسِ
تتجلَّى حقيقة الناس فيه
سَبُع الخَلْق في أساريرِ أنسي
لعِبَ الدهرُ في ثراه صبيًّا
والليالي كواعبًا غيرَ عُنْسِ
ركبتْ صُيَّدُ المقاديرِ ﻋﻴﻨﻳ
ﻪ لنقدٍ ومِخلَبيه لفَرْسِ

ويضيف إلى هذه القصيدة صورة الأهرام:

وكأنَّ الأهرامَ ميزانُ فرعو
نَ بيومٍ على الجبابرِ نَحسِ
أو قناطيرُه تأنَّقَ فيها
ألفُ جابٍ وألفُ صاحبِ مَكسِ
روعةٌ في الضحى مَلاعبُ جنٍّ
حين يغشى الدُّجى حِماها ويُغسي

على أن شوقي يكتب قصيدته في عصر النهضة؛ فهو بعد أن يقف طويلًا عند جثوم التمثال وصمتُه الدائم يعود فيطلق في قصيدة نغمًا عالي النبرة:

تحرَّكْ أبا الهولِ هذا الزما
نُ تحرَّكَ ما فيه حتى الحَجَر

ويبدو أن هذا المعنى الرمزي في حركة أبي الهول اقترن في رؤى الفنانين والشعراء بفكرة النهضة والبعث.

في سنة ۱۹۲۰م أقام مختار تمثاله نهضةَ مصر، فرمز إليه بتوثُّب أبي الهول وانبعاث وثبته في مصر الحديثة التي رفعت عن نفسها الستر ووقفت ترنو إلى المنور.

وقد هزَّ هذا المعنى خيالَ الشعراء فتمثَّله شوقي في قصيدته «نهضة مصر»:

لقد بعث الله عهدَ الفنون
وأخرجتِ الأرضُ مَثَّالها
تعالَوا نرى كيف سوَّى الصَّفا
ةَ فتاةٌ تُلملم سِربالها
دنَت من أبي الهول مشيَ الرَّءو
م إلى مُقْعَدٍ هاج بَلْبالها
وقد جاب في سكراتِ الكرى
عُروضَ الليالي وأطوالها
وألقى على الرَّمل أرواقَه
وأرسى على الأرض أثقالَها
فقالت: تحرَّكْ فهم الجمادُ
كأن الجماد وعَى قالَها
فهل سكبَتْ في تجاليده
شعاعَ الحياة وسيالها

وقال مطران في قصيدة نهضة مصر:

يا حبذا مصرُ الفتاة وقد بدَت
غيداءَ ذات حصافة وجَمال
في جانب الرِّئبال قد ألقَت يدًا
أدماءَ ناعمة على الرِّئبال
بتلطُّف ورشاقة بتعفُّف
وطلاقة بتصوُّن ودلال
فإذا أبو الهول الذي أخنَت به
حِقبُ العثارِ أُقيل خيرَ مقال

ولمس مصطفى صادق الرافعي نهوضَ أبي الهول في نشيده القومي الذي وضعه سنة ۱۹۲۰م وفيه يقول:

رسا أبو الهول ركينًا وربض
ربضةَ جبار على الأرض قبض
فالفزع الأكبر يومًا لو نبض

فلما تحرَّك أبو الهول في تمثال مختار كتب الرافعي في نجوى التمثال:

«إنما كنتَ يا أبا الهول لغزَ الصمت فلما أضيفت المرأة إليك أصبحتَ لغز النطق!»

على أن وقفة شوقي أمام أبي الهول بين الحكمة والتصور والرجاء يقابلها وقفة شجن حزين عند قصر أنس الوجود:

قِف بتلك القصورِ في اليم غرقى
ممسكًا بعضُها من الذعر بعضا
كعذارى أخفينَ في الماء بضًّا
سابحاتٍ به وأبدينَ بضا
مشرفاتٍ على الزوال وكانت
مشرفاتٍ على الكواكبِ نهضا
شابَ من حولها الزمانُ وشابَت
وشبابُ الفنون ما زال غضا
وخطوطٍ كأنها هُدبُ ريم
حسُنَت صنعةً وطولًا وعرضا
صنعةٌ تُدهِش العقولَ وفنٌّ
كان إتقانُه على القوم فرضا
يا قصورًا نظَرتُها وهي تَقضي
فسكبتُ الدموعَ والحقُّ يُقضي
أنتِ سطرٌ ومجدُ مصرَ كتابٌ
كيف سامَ البِلى كتابَك فضا

وهنا نتمثَّل قدرةَ الشاعر على إضفاء الحياة على معالم الأثر الغارق، ووجده الحزين الذي أحال معابد فيلة إلى مخلوقات حية، وجعل من تلك اللآلئ البطلمية عذارى دهمَ الذعرُ جمالها فتهاوت.

وكأن الأثر التشكيلي يفرض على الشاعر نغمته، فلقصيده أمام أبي الهول فخامة الجهر وجهامة الصمت، أمَّا عند أنس الوجود فإن موتها البطيء يحرك فيه رومانسيةَ الشجن الحزين، فيرسل بكائيته الفريدة.

ولكن النشيد يرتفع بانبهار النغم في قصيدة «توت عنخ آمون وحضارة عصره»، فالشاعر كما قال «يزن الجلال ويستبين»:

وهو يستحضر الصورة الشعرية المقابِلة للآثار الباهرة التي طاف بها:

ذهب ببطن الأرض لم
تذهب بلمحته القرون
استحدثت لك جندلًا
وصفائحًا منه القيون
ونواوسًا وهَّاجة
لم يتخذها الهامدون
لو يفطُن الموتى لها
سرحوا الأنامل ينبشون
وتنازعوا الذهب الذي
كانوا له يتفاتنون
أكفانُ وشي فُصِّلت
برقائقِ الذهب الفتين

•••

وبكل ركنٍ صورة
وبكل زاويةٍ رقين
وترى الدُّمى فتخالها اﻧ
ﺘﺜﺮت على جنبات زون
صورٌ تُريك تحركًا
والأصلُ في الصور السكون
ويمرُّ رائعُ صمتها
بالحسِّ كالنطق المبين
صحبَ الزمانَ دِهانُها
حينًا عهيدًا بعد حين
غضٌّ على طول البِلى
حيٌّ على طول المَنون
خدعَ العيونَ ولم يزل
حتى تحدَّى اللامسين
غلمانُ قصرِك في الرِّكا
بِ يناولون ويَطردون
والبوقُ يهتف والسِّها
مُ ترنُّ والقوسُ الحنون
وكلابُ صيدِك لُهَّث
والخيلُ جُنَّ لها جنون
والوحشُ تنفِر في السهو
لِ وتارةً تثب الحزون
والطيرُ ترسُف في الجرا
حِ وفي مناقرِها أنين
وكأنَّ آباء البرﻳ
ﺔ في المدائن مُحضَرون
وكأن دولة «آل ﺷﻤ
ﺲ» عن شِمالك واليمين

والشاعر في هذه القصيدة تتجلى فيه ملَكة المصوِّر وهو يصنع من الكلمات صورةً مرئية فيها عبقرية التشكيل.

ولقد كان شوقي شديدَ الإعجاب بقدرة البحتري كشاعر فريد في صياغة الصورة الشعرية، وهو في رحلته إلى الأندلس يبدي في تقديمه للقصيدة إعجابَه بسينية البحتري في الإيوان ويشير إلى أنها «تريك حُسن قيام الشعر على الآثار وكيف تتجدَّد الديار في بيوته بعد الاندثار»؛ فسينية البحتري كما قال صاحب «الفتح القسي» قد بقي بها كسرى في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في «إيوانه».

ومن هنا جرى شوقي على نهج البحتري في إبداع المقابل الشعري للصورة التشكيلية وفي إيداعها نبض الحركة والحياة.

ولكن البحتري بلغ حدَّ الإعجاز في استحضار الصورة التشكيلية ورفاهة الحس الفني حين قال:

وإذا ما رأيتَ صورةَ أنطا
كية ارتعتَ بين رومٍ وفُرس
والمنايا مواثِلٌ وأنوشر
وان يُزجي الصفوفَ تحتَ الدِّرَفس
في اخضرارٍ من اللباسِ على أﺻ
ﻔﺮ يختال في صَبيغةِ وَرس
وعِراك الرجال بين يديه
في خفوت منهم وإغماضِ جَرس
مِن مُشيحٍ يهوي بعاملِ رُمحٍ
ومليحٍ من السِّنان بِتُرس
تصِف العينُ أنهم جِدُّ أحيا
ءٍ لهم بينهم إشارةُ خُرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقرَّاهمُ يداي بِلمس

•••

ويقول شوقي في قبر توت عنخ آمون أيضًا:

خليليَّ اهبِطا الوادي وَميلا
إلى غُرفِ الشُّموس الغارِبينا
وسيرا في محاجرهم رُويدًا
وطوفا بالمضاجعِ خاشعينا
وقبرًا كاد من حسنٍ وطيب
يضيء حجارةً ويَضوع طينا
يُخال لروعة التاريخ قُدَّت
جنادلُه العُلا من طور سينا
وقومًا هاتفِين به ولكن
كما كان الأوائل يهتِفونا
فثمَّ جلالةٌ قرَّت ورامت
على مرِّ القرون الأربعينا
جلال المُلك أيامٌ وتمضي
ولا يمضي جلالُ الخالدينا

جمع شوقي في قصائده بين عمق الخيال وصدق الواقع، وعطف بنثره على آثار مصر، فهو يخاطب الأهرام في كتاب «أسواق الذهب»: «ما أنت يا أهرام؟ أشواهد أجرام أم شواهد إجرام، وأوضاح معالم، أم أشباح مظالم، وجلائل أبنية وآثار، أم دلائل أنانية واستئثار.»

وهو نثر محمَّل بالبديع، متأثِّر بسؤاله الذي تردَّد أحيانًا في شعره: أكان فنُّ الفراعنة وليدَ العسف أم كان من فيض الروح والإيمان؟

وإذا كان شوقي في رثاء كارنا فورن مكتشف آثار توت عنخ آمون قد قال في أبياته المعجزة إنه أفضى إلى سرِّ الزمان ففضَّه وسعى إلى التاريخ في محرابه، فإن شعر شوقي كان «سعيًا دائمًا إلى التاريخ وإحياء لصوره وآثاره …» هو حقًّا الذي طوى السنين القهقرى حتى أتى فرعون بين طعامه وشرابه. قلَّ لشاعر أن يزخر شعره كما زخر بهذه الصور … وعلى قدْر هيامه بالماضي وتعلُّقه بالآثار على قدر ندرة التفات حافظ إلها … كلاهما كان مرآة لعصره، ولكن شوقي حلَّق في الماضي البعيد، وجاب آفاق حاضره، أما حافظ فكان عصره ومحيطه شاغله.

كان شعر شوقي كما قال: الغناء في فرح الشرق، وكان العزاء في أحزانه، ولكنه كان أيضًا وجه التاريخ.

في بعض إبداعه الشعري في وصف الآثار الفرعونية ما بلغ القمم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥