لقاء بين أدب نجيب محفوظ والفن التشكيلي

«أحياء لها من سِحر القِدم ما يهز الخيال، ويحرك الإلهام، ومآذن تعلو سماء القاهرة، وبيوت قديمة فيها عراقة الذكرى، وملامح وجوه، وصور من التقاليد والعادات تعطي المكانَ نبضه الخاص، تلك هي القاهرة بوجهها الخاص والحياة الشعبية في ملامحها العامة تتبدى خلال أدب نجيب محفوظ في صورٍ نرى مقابلها التشكيلي في ألواح الفنانين. وعندما نقرأ «خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«بين القصرين»، أو نطوف بدنيا الله يستدعي لنا الوصف التشكيلي الذي يتخللها صورًا من الفن المصري المعاصر تتلاقى معه وتذكر به … كلاهما ترديد للآخر صدر عن نفس المنابع وغمس فيها أقلامه ومراقمه فتبدَّت لنا وشائج تربط الأشكال والألوان والظلال، وتجعل الصورة الأدبية معادِلة للصورة التشكيلية.»

كانت روايات نجيب محفوظ تستلهم في البدء التاريخ المصري القديم، وتتجه صوبَ أمجاده؛ فمجرى الأحداث في «رادوبيس» وفي «كفاح طيبة» يحلِّق في آفاقٍ انجذبت إليها فنوننا مع نهضة العشرينيات … ذلك هو عصر البعث الذي تجلى في أناشيد مصر وألحانها، وصدرت عنه قصائد الشعراء ومؤلفات الأدباء … بدت أصداء هذه الروح في قصائد شوقي الفرعونية، وفي ألحان سيد درويش التي كان يصوغها للأناشيد التي يفخر فيها المصري بكرم عنصره وعز جدوده، وتجلَّت في الرموز التي كانت تتخذها مصر عنوانًا لمظاهر حياتها … وعكف هيكل يكتب في هذه الفترة تاريخَ الآلهة المصرية القديمة، ويتحدث عن أمجاد العصر الفرعوني، وصاغ توفيق الحكيم قصة «عودة الروح» في إطار نشيد البعث … حتى مصطفى صادق الرافعي، الأديب العربي الذي كان مشدودًا إلى العصر الإسلامي، صاغ نشيده القومي من وحي هذا المجد الفرعوني:

رسا أبو الهول ركينًا وربض
ربضة جبار على الأرض قبض
فالفزع الأكبر يومًا لو نبض

هذه المعاني هي التي جسَّدها مختار في رمزه المعبِّر العميق: تمثال نهضة مصر، وهي التي جذبت ناجي للرحلة إلى طيبة ليكون في هذه الحقبة مصوِّر الكرنك وطريق الكباش.

وقد امتدَّ هذا الجذب الفرعوني حتى الأربعينيات … ظهر في أدب هذه الحِقبة عند باكثير، كما ظهر عند عبد الحميد جودة السحار، وعادل كامل، واختصه نجيب محفوظ برواياته الأولى.

غير أن ظهور رواية «خان الخليلي» في سنة ١٩٤٥م كان إيذانًا بخطوة حاسمة في الطريق إلى أدبٍ قومي تشرَّب الروح المصرية الخالصة، واستلهم واقع بيئة معاصرة من خلال حياة أسرة وأجواء حي في فترة الحرب العالمية الثانية.

منذ هذه الرواية تتبدَّى الصور الوصفية لأحياء القاهرة، تلك التي ملَكت قلب نجيب محفوظ وأيقظت حسه التصويري، وتراها خلال سطوره تتردَّد بين صور منوعة متنقلة من الوصف وبين إيماءات موحية.

في الصفحات الأولى من خان الخليلي تلوح معالمُ الحي؛ حوانيته ومقاهيه، وجوُّه المتلفِّع بغلالة سمراء، وسماؤه المحجوبة بشرفات توصل بين العمارات. وللحي في صورته الموحية ظلال وألوان، فهو «ما زال يحتفظ لليد البشرية بقديم سُمعتها في المهارة والإبداع، وقد صمد للحضارة الحديثة يلقي سرعتها الجنونية بحكمته الهادئة، وآليتها المعقَّدة بفنه البسيط، وواقعيتها الصارمة بخياله الحالم، ونورها الوهاج بسمرته الناعسة».

وصورة أخرى تلوح من الحي حين يختفي شعاع الشمس المنعكس على زجاج النوافذ العليا من العمارات التي تواجه نافذته، فأدرك بطل روايته «أن الشمس تغيب وراء قِباب القاهرة المعزية بالجهة الخلفية … وصعد بصره إلى مئذنة الحسين السامقة تنطلق بجلال في غلالة من ظلال المغيب، فهزَّت مشاعره وأيقظت قلبه، ثم ارتفق حافة النافذة … رأى نوافذ مغلقة وأخرى شبه مفتوحة، وشرفات تسعى فيها ربات البيوت يجمعن الغسيل أو يملأن القلل».

هي صورٌ وصفية للمَشاهد الخلفية لأشخاصه تستدعي إلينا مقابلها التشكيلي في لوحات هدايت ويوسف كامل الفنان الذي تعلَّق هواه الأكبر بأحياء القاهرة المعزية … وفي لوحات سيد عبد الرسول ومِن قبله سعيد الصدر لنساء الأحياء البلدية وحياة الأسطح في بيوتها.

ويلتقي نجيب محفوظ مع كثير من الفنانين في تعلُّقه بمعالم هذه الأحياء القديمة. «هذا الحي هو القاهرة القديمة، فهو بقايا متداعية، حقيقة بأن تهز الخيال وتوقظ الحنان وتستثير الرثاء، فإذا نظرت إليها بعين العقل لم ترَ إلا قذارة تقتضينا المحافظة عليها التضحيةَ بالبشر. ليس القديم من البقاع مجرد قذارة فهو ذكرى قد تكون أجل من حقائق الواقع، فتبعث في النفوس فضائل شتى! إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هي القاهرة المعزية ذات المجد المؤثَّل … أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبَدة؟!»

وتستمر الصور الوصفية الموحية في الاطراد؛ فهذه صورة الحي في الصباح: «وجد الحي يتمطى مستيقظًا، فالدكاكين ترفع أبوابها، ونوافذ الشقق تفتح على مصاريعها، وباعة اللبن والصحف ينطلقون إلى الطرق المتشابكة منادين بغير انقطاع. وجذب انتباهه قدوم جماعات من «مشايخ» المعاهد الأولية، الغلمان يسيرون زرافاتٍ نحو معهدهم في جُببٍ سوداء وعمم بيضاء، فذكَّروه ﺑ «الفِشار» في المقلى، وأنصت إليهم مستلذًّا وهم يرتلون معًا هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا

ومن بين الصور التي عرضها صورة مقاهي خان الخليلي و«غرزة» أيضًا بما فيها من أشخاص وأشكال نرى نظائرها تبدو في الملامح السريعة التي التقطها راغب عياد من مثل هذه الأماكن التي كانت تملأ أحياء القاهرة القديمة.

ويمر أدب نجيب محفوظ بتحوُّل ملحوظ في «زقاق المدق»؛ فهي علامة هامة من علامات التطور في أسلوبه الأدبي … الصور هنا أكثر واقعية وصدقًا، وهي تخرج محمَّلة بما يثقل روح الشعب من خرافات، وبالأجواء الداخلية الباطنة من حياة الناس وحياة الأماكن، فللأشياء أيضًا حياتها.

هو يستهلها بلفتة نحو قاهرته فيقول:

«تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق، كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يومًا في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري. أي قاهرة أعني؟ الفاطمية؟ المماليك؟ السلاطين؟ علم ذلك عند الله، وعند علماء الآثار، لكنه على أي حال أثرٌ، وأثرٌ نفيس، كيف لا وطريقه المبلَّط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرةً إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك. هذا إلى قِدَم بادٍ، وتهدُّم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارةَ اليوم والغد.»

على أن الوصف التشكيلي لا يقف عند أماكن الزقاق ومبانيه وإنما هو يتعداه إلى سكانه؛ فالخط النفسي الداخلي للشخصية تكمله الصورة الخارجية التي تجلَّت عناية نجيب محفوظ برسم ملامحها التشكيلية، فحميدة «تلفُّ الملاءة لفةً تشي بحسن قوامها الرشيق، وتصوِّر عجيزتها الملمومة أحسنَ تصوير، وتبرِز ثدييها الكاعبين، وتكشف عن نصف ساقيها المدملجتين، ثم تنحسر في أعلاها عن مفرق شعرها الأسود ووجهها البرنزي الفاتن القسمات، وكانت تتعمد ألا تلوي على شيء فتنحدر من الصنادقية إلى الغورية ثم إلى السكة الجديدة فالموسكي، حتى إذا غابت عن الأعين الثاقبة علَت شفتها ابتسامة وراحت تنهب الطريق الزاخر العامر بعينيها الجميلتين.»

إنَّ حميدة بملامحها ولون بشرتها وسحر عيونها تكاد تُطل من لوحات محمود سعيد، تلقاها عنده بكل أوصافها.

ولكن نجيب محفوظ لا يلبث أن يضيف صورًا أخرى كصورة زيطة صانع العاهات وصورة حميدة، هنا نُحس ملامحَ جديدة من باطن الحياة الشعبية وخفاياها وأحاجيها … وأكاد أعثر لزيطة على نظائرَ في لوحات عبد الهادي الجزار وحامد ندا وغيرهما من فناني جماعة الفن المعاصر الذين أخذوا في الحِقبة نفسها يرسمون الوجه الخفي للحياة الشعبية المثقَل بالأسرار والغموض … وتضاف هذه الملامح إلى الفن التشكيلي المعاصر حينما كانت الصور الجديدة الجريئة لزقاق المدق بأشخاصه وأحداثه ومعالمه تستقر في الأدب المصري.

ويقودنا زقاق المدق إلى «بين القصرين» فنرى الوصف الداخلي لبيت أحمد عبد الجواد … وحجرة أمينة وقد بدت «بِرقعتها المربعة الواسعة وجدرانها العالية وسقفها بعُمُده الأفقية المتوازية، إلا أنها لاحت كريمة الأثاث ببساطها الشيرازي وفراشها الكبير ذي العُمُد النحاسية الأربعة والصوان الضخم والكنبة الطويلة المغطاة بسجاد صغير المقطع مختلف النقوش والألوان.»

هنا تتبدَّى ملَكة التكوين التشكيلي … الإحساس بالمنظور، وقدرة توزيع الظلال والألوان، ويستقيم الوصف الأدبي لوحةً متكاملة الأركان من اللوحات التي تصوِّر مداخل البيوت القديمة الأليفة، وتجمع عناصرها وألوانها.

غير أن نظرته التصويرية تعود فتتجه إلى الخارج حين تُطل الست أمينة من السطح فتتراءى لها مساجد القاهرة «كم تروعها المآذن التي تنطلق انطلاقًا ذا إيحاء عميق تارةً عن قريب، حتى لترى مصابيحها وهلالها في وضوح كمآذن قلاوون وبرقوق، وتارةً عن بُعد غير بعيد فتبدو لها جملة بلا تفاصيل كمآذن الحسين والغوري والأزهر، وثالثة من أفقٍ سحيق فتتراءى أطيافًا كمآذن القلعة والرفاعي، وتقلِّب وجهها فيها بولاء وافتتان، وحب وإيمان، وشكر ورجاء، وتحلِّق روحها فوق ذراها أقرب ما تكون إلى السماء، ثم تستقر منها العينان على مئذنة الحسين، أحبِّها — لحبِّ صاحبها — إلى نفسها، فتنفض نظرتها حنانًا وأشواقًا، مشوبة بحزن يطوف بها كلما ذكرت حرمانها من زيارة ابن بنت رسول الله، وهي على مسيرة دقائق من مثواه.»

هذه هي قاهرة المساجد والمآذن أوحت إلى نجيب محفوظ هذه الصور التي تتبدى في رواياته، وكان لإيحاءاتها صداها في الفن التشكيلي.

وإذا كانت القاهرة هي المسرح الرئيسي لأحداث روايات نجيب محفوظ وقصصه، فإن رؤاه لم تعلق بمشاهدها الخارجية وحدها، ولكنه يغوص في خباياها يصوِّر حياة الشعب في عباداته وفي مباذله، تلتقي عنده كل المتناقضات التي تمنح الحياةَ إيقاعها الغريب.

الجامع رابض على باب حيِّ الفساد (الجامع في الدرب – دنيا الله) واللوحات النفسية تتوالى تصوِّر ملامح غريبة متناقضة كما تصور الأجواء الداخلية لبيوت العاهرات، وتتراءى في قصصه صور العادات الشعبية: الزار والذِّكر والعوالم، وكلها محاور خاضها الفن التشكيلي باقتدار.

ويخفت نبض القاهرة القديمة، وتتوارى صورها من أدب نجيب محفوظ، بل هو يهجرها إلى الإسكندرية مع «السمان والخريف»، فتستحيل القاهرة إلى ذكرى مغلَّفة بالحزن، وتلوح الإسكندرية من خلال حي يحبُّه — حي الإبراهيمية — هنا نلقى لوحة «للبحر يترامى في عظمة كونية حتى يغوص في الأفق، ولكنه يستمد من حُلم أكتوبر حكمة ودماثة. وفي الطريق إلى الحي «مقهًى مرصَّع طِواره بالأشجار وسوق الخضار بألوانه النضرة، والحوانيت الأنيقة تحفل بالوجوه اليونانية وتتردَّد في جنباتها — بعد زوال الموسم — لغتهم الأجنبية فيخيَّل إليك أنك هاجرت حقًّا وتنهل من الغربة حتى تسكر».

وفي «ميرامار» تبدو الإسكندرية أيضًا بما يبهره فيها من ألوان السُّحب وصورة البحر … هذا البحر الذي صوَّره في كل حالاته، وعكس عليه عواطفَ أبطاله، وقدَّم له صورًا غنية الظلال والألوان، تستدعي إلينا صور البحر عند فنان الإسكندرية العظيم محمود سعيد.

وعندما عاد نجيب محفوظ إلى القاهرة في «ثرثرة فوق النيل» كان للقاهرة صورة أخرى … مشاهد من عوامة يرى عندها لون ماء النيل الرصاصي وأسراب الحمام البيضاء … ولكن ملامح الدنيا تتغير عندما «يسري سِحر الفص المذاب في القهوة السادة» فتحل «الأشكال المجردة والتكعيبية والسريالية والوحشية مكان الجازورينا والكافور والأكاسيا وعرائس العوامات».

وتلوح مشاهد لضواحي القاهرة في الطريق إلى سقارة، طريق «محفوف من الجانبين بأشجار الجازورينا الضخمة تتلاقى أغصانها في الأعالي، ويكتنفه من الناحيتين فضاءٌ ريفي المنظر والنسمة والوحشة يجلله الصمت، ويشق جناحه الأيسر بطول الطريق ترعة قاتمة الوجه بعض سطوحها بلون رصاصي غامق مميز عما حولها تحت ضوء النجوم الخافت».

وتنبئ كتابات نجيب محفوظ عن نظرة تشكيلية وحس متفتح يَلمح الأجزاء ويلتقط معالمها بالقدرة نفسها على إدراك الكليات، «فجذع الشجرة يستوقفه فيرفع عينيه إلى الغصون المنتشرة في الهواء كقبَّة هائلة مغروسة الهامة في سحابات الصباح الشفافة الدانية» … ثم يرجع إلى «الجذع المعمَّر هابطًا إلى جذور كالحة متفرعة عن أصله وضاربة في أرض الطوار كأنما تنشب فيه أظافرها في اندفاعة متوترة غاصة بالتحدي والألم … وهناك رقعة من الماء الخارجي قد تآكلت كاشفة عن طبقة من اللحاء الداخلي ذات لون أصفر باهت على هيئة بوابة قوطية استوت أمامه بطول قامته داعية إياه إلى الدخول» (ثرثرة فوق النيل). على أن حاسة اللون من أكثر حواس نجيب محفوظ التشكيلية تفتحًا … ولديه ملَكة غمس المشاهد والأشياء في ألوانه الخاصة المميزة، وقدرة الإيحاء باللون عن المعاني باللون عن المعاني … وللأشياء وللناس أيضًا ألوانها التي يضفيها عليها، بل إن للطبيعة في أدبه ألوانها المعبِّرة البعيدة عن مألوف الألوان التقليدية المتعارفة … فلخان الخليلي سمرة ناعسة، وقرص الشمس ماسي هادئ، والسُّحب حبالى بماء الورد الأبيض، والأمواج سمراء ضاربة للاخضرار، ولون الوجود أحمر أو أصفر.

وكثير من صور نجيب محفوظ الأدبية تبدو وكأنها لوحات، أداتها التشكيلية هي القلم الذي استطاع أن يضفي من مفردات اللغة ظلالًا وألوانًا جعلت الصورة الأدبية عنده تتلاقى مع كثير من الصور التشكيلية في فننا المعاصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥