الفنون وأزمة العصر
العصر الحديث بمشاكله وتحوُّلاته أحدثَ للفن أزمةً استشعر الفنانون خطرها، فراحوا يتلمَّسون لها العلاج، ويتجمعون لمواجهتها. استشعرها «جورج ديهاميل» حين أعلن «محنة الكتاب» في العصر الحديث، واستشعرها «هيربرت ريد» حين تحدَّث عن الفن والمجتمع، والتقى من أجلها رجال الفن في جنيف سنة ١٩٤٨م، ثم جمعهم اليونسكو في مؤتمر فينيسيا سنة ١٩٥٢م؛ حيث تكلَّم هنري مور، وجورج روو، وجاك فيون، وتوالت بعد ذلك الاجتماعات.
وقد تناول فيون الجانبَ العملي للمشكلة؛ إذ صوَّر المتاعب المادية التي أخذ الفنان يعانيها منذ تضاءل الطلب على الأعمال الفنية كسلعة من سلع المجتمع … فحتى القرن الثامن عشر كان الفن تجارة ناجحة، تستجيب لرغبات الناس، وتقدِّم لهم حاجاتهم من الصور الشخصية حتى تماثيل المقابر … ثم اختُرعت الكاميرا، وظهرت الوسائل الصناعية، وانتزع المصوِّر الفوتوغرافي والصانع الفني عمل الفنان في المجتمع القديم.
وتحرَّر الفنان فترةً من قيود التعهدات، ومضى يترنم بنشيد «سيرانو»: «أريد أن أغني وأضحك وأحلُم وحيدًا حرًّا.»
وعرف العصر فناني المقاهي الذين كانوا يؤثِرون الخبز مع الحرية على كل ترف الحياة.
ولكن الزحف المادي الذي أحاط بمجتمعنا أيقظ الفنانَ من أحلامه، فهبط بأجنحته إلى الأرض … وبرغمِ ما أخذ به نفسه من ضروب «الالتزام» في فنه، فإن مشاكله المادية أخذت تستفحل مع تعقُّد سبل الحياة … وعرف هذا الطائر المحلِّق أبوابَ وزارة العمل والتشكيلات النقابية والتأمينات الاجتماعية.
ومن أجلِ هذا، كان لمقترحات جاك فيون العملية صداها في قاعات مؤتمر فينسيا وفي أواسط الفنانين، فأخذوا يطالبون بتنفيذها، وهذه المقترحات ترمي إلى تنظيم علاقة الفنان بالسلطات العامة، وعلاقته بنقَّاد الفن وتجَّاره، وعلاقته بالجمهور.
ففي علاقة الفنان بالدولة يقترح فيون ضرورةَ التوسع في شراء المقتنيات الفنية تشجيعًا للفنانين، كما يرى تعميم التعهدات الفنية بحيث تُخصَّص نسبة معينة من تكاليف المباني العامة لتجميلها بأعمال النحت والتصوير والزخرفة … وهو ينوِّه بأهمية البعوث الفنية وبضرورة إنشاء جائزة قومية باسم الدولة لنهضة الفنون … غير أنه يرى أنْ تُحاط حماية الدولة في صورها كافة بإطارٍ من الحياد المطلق إزاء الفنانين؛ إذ لا يجوز أن تتدخل الدولة لتوجيه الفن وجهةً معينة، أو تقتضي من الفنان حريته ثمنًا لحمايتها إياه.
وهذه الأزمة التي يُحسُّون خطرها هناك، ويرسمون لها سبل العلاج، هي في واقع الأمر محنةٌ قاسية عندنا، ينوء بها الفنان المصري؛ فشئون الفن تمضي في ارتجال مُضيع للجهود، وحاجة الفنان عندنا إلى حماية الدولة أوجبُ منها في أي بلد آخر، ومع هذا فإننا ندَع المواهب الفنية تنمو وحدَها كالأزهار البرِّية، وتضرب في الأرض لتعيش … ولن يستطيع الفنان المصري أن يؤدي رسالته في المجتمع ما لم نرسم للفن سياسةً عامة بعيدة عن الأهواء والمجاملات.
والمتحف في مصر لا يحقق رسالته الثقافية، ولا ينهض بها، وإذا ما قارنَّا بين صمت متاحفنا ونشاط متاحف العالم هالتنا المقارنة.
والمكتبة الفنية في مصر من أفقر المكتبات، وستظل كذلك ما دامت الدولة تكفُّ يدها عن نشر الثقافة الفنية عن طريق الكتاب، وهو دعامة أساسية لا بد أن تنهض بها الحكومة في البدء إلى أن يتكوَّن للكتاب الفني جمهوره، ويستطيع أن يمضي وحدَه.
أمَّا رسالة الناقد الفني في مصر، فمن العسير أن يضطلع بها على الوجه الأكمل والمجال مُضيَّق عليه، وليست أمامه الظروف المواتية لمخاطبة الجمهور، وتبصيره بالقيم الفنية وحمايته من الزيف.
والجمهور ما زال من الناحية الفنية في مرحلة التكوين … قد يُحس الرجل المتوسط بالحاجة إلى اللوحة في بيته، ولكنه لا يُحس بها كقيمة روحية تنشر عبيرًا من الذوق، وإنما يراها شيئًا مكمِّلًا لقِطع الأثاث … ولكي تنقل الناس من هذه المرحلة إلى مرحلة التذوق والاختيار لا بد من تعاون مشترك بين الدولة بكل وسائلها، والفنان والناقد الفني، حتى يأخذ الفن مكانه من المجتمع، وينتصر على أزمته الراهنة.