الفنون التشكيلية والتحوُّل الاشتراكي

للفنون التشكيلية في هذا البلد دورٌ بالغ الأثر في كيانه؛ فهي قد صحبت الحياةَ على هذا الوادي، وحفظت معالمها، وصدقت التعبير عن روحها في كل العصور، وكانت أساليب التعبير متعدِّدة ومنوَّعة، اتصل حوارها مع الحياة في العصور المختلفة التي توالت على مصر، وكان اللقاء بين الفن والمجتمع وثيقَ الوشائج على توالي العصور المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية.

وعندما بدأت مصر تاريخها الحديث كان الفن منذ ثورة ۱۹۱۹م حتى ثورة ١٩٥٢م يخوض معاركنا، ويرفع أعلامها، بل إن كثيرًا من الأعمال الفنية حملت إرهاصات الثورة قبل انبثاقها، وتشير أعمال الفنان المصري إلى أنه في كثير من أعماله كان معبِّرًا عن روح الشعب ملامسًا لنبضه، ولم يكن منعزلًا عن حياته.

ودور الفن التشكيلي في حياة مصر يضفي أهميةً على السؤال عن دوره في المجتمع الاشتراكي: كيف تستطيع أدوات هذا التعبير التشكيلي أن يكون لها فعاليتها؟ وما هي مهمة الفنان في هذا المجتمع؟ وما مسئولياته إزاءه، والدور الذي عليه أن يضطلع به؟

إن المناخ الاقتصادي والاجتماعي الذي يهيئه العمل الاشتراكي للمجتمع يفتح للفنان آفاقًا، ويتيح لمواهبه منطلقًا حين يطلقه من قيوده؛ فالفنان في المجتمع الاشتراكي لا يعمل من أجل سلطة بذاتها … ملكية أو دينية، كما أن الاشتراكية حين توفِّر له الأمن الاقتصادي تحرِّره من الخضوع لذوق طبقة بذاتها، وتجنِّبه الوقوع نهبًا للمضاربات تحت سطوة تجار الفن وعملائه. والفنان من أكثر أفراد المجتمع قربًا من روح الاشتراكية الإنسانية؛ فعمله قائم على استغلال مواهبه لا استغلال الآخرين، ومكانته وكسبه رهنٌ بجهوده، والاشتراكية في جوهرها الإنساني تقيم وزنًا للفردية وجمال الحياة، وتفتح آفاقًا لا نهاية لها من منافذ التعبير عن النفس، والدولة في المجتمع الاشتراكي الحر تتيح للناس أن يبتدعوا، وهي تشعر بحاجتها إلى الفنان التشكيلي والمعماري والكاتب والشاعر؛ أولئك الذين يمكنهم أن يجعلونا نُحس إحساسًا شديدًا بما للبشر من إمكانيات.

فهل يغيِّر ذلك من موقف الفنان التشكيلي من مجتمعه في ظل الدولة الاشتراكية؟

إن كل نشاط خلَّاق يتطلب لازدهاره احترامَ كرامة الإنسان واحترام حرية التعبير، ومن أجل هذا فإني أستبعد من نطاق البحث وضْعَ قيود على مضمون الفن التشكيلي أو أسلوبه في مجتمع اشتراكي؛ لأن الفن بطبيعته نشاط يستعصي على المواصفات والتقنين، وقيمته في حريته وصدقه.

إن وظيفة الفن الكبرى هي تعميق الحياة وصدق التعبير عنها، ومن أجل ذلك فإن المطلب الأول والأساسي من الفنان المصري المعاصر في مجتمعه الجديد هو مطلب الصدق لهذا المجتمع ومعايشة حياته والاندماج في تياراتها، وحين يتوافر للفنان الصدقُ لموضوعه يتحقَّق تعمُّقه للمعاني الكامنة وراء الأحداث واستنباط الرموز الوجدانية التي تربطنا بها، ونحن نبحث في الفن عن شيء تقصر أدوات الحياة العادية أن تعبِّر عنه، فينبغي أن يكون الفن تعميقًا للإحساس بالحياة لا مجرد تسجيل مباشر لأحداثها.

وإذا كان الفنان في المجتمعات الرأسمالية يُعنى في تعبيره بأهواء طبقة خاصة يخاطب مزاجها وذوقها، فإن مهمة الفنان في المجتمع الاشتراكي هي توفير الثراء الروحي للمجموع، لأفراد مجتمع لا يستخدمونه، ولا يضعونه بأموالهم تحت سطوتهم، وإنما يتطلعون إليه ليوجِّه إليهم من خلال لغته الفنية خِطابه، وهذا بطبيعته يفرض على الفنان عدمَ الاعتزال عن مجتمعه حتى يصدر تعبيره نابضًا بقيم حياته.

ولا يعني ذلك استخدام الفنان التشكيلي أسلوبًا دارجًا في التعبير، وإنما كل ما تلزمه به هو الصدق للأسلوب، للشكل النابع من نفسه الذي يتحقَّق به التوافق بين الطاقة الوجدانية التي استخلصها من الحياة، والصورة المرئية المناسبة للتعبير عن هذه الطاقة.

وإذا كانت الاشتراكية توسِّع قاعدة جمهور العمل الفني فإن ذلك لا يعني النزول بمستواه، وإنما يعني انفساح آفاق الرؤية لأفرادٍ لم تكن تتيح لهم ظروفهم تذوُّق آثار الفن والارتباط بها، وفي عالم الرؤية التشكيلية مجالٌ رحيب لالتقاء الناس حول القيم الفنية العالية، ولو تباينت ثقافتهم، والشواهد تدل على أن أفراد الشعب بطبيعتهم يقدِّرون الجليل والجميل في العمل الفني؛ يقدِّرون جلال الأهرام وجمال المسجد، ورقة النقش الإسلامي، وما بالعسير عليهم إدراك قيم الجمال في العمل الفني الحديث متى كان صادرًا عن صدق ووجدان … وإذا كانت الاشتراكية تهدف إلى رفع مستوى الحياة المادي فإن عليها أيضًا أن تلتزم رفع مستوى الحياة الوجدانية للجماهير.

غير أنه إذا كان المطلب الأساسي من الفنان في المجتمع الاشتراكي هو التزام الصدق للموضوع، والصدق للأسلوب، والاحتفاظ بالقيم العالية للعمل الفني، فإن طبيعة التحوُّل في هذا المجتمع قد تتطلب تحولًا في أداة إخراج العمل الفني مع المحافظة على قيمه؛ فالفنان الذي يخاطب قلَّة خاصة يستطيع أن يَقنع بلوحة «الصالون» وبوسيلة المعارض، أما المجتمع الذي يسعى إلى تنمية قيم الفن في أفراده فجديرٌ به أن يهيِّئ الجو الخاص لهذا النماء.

figure
الأسرة للفنان «حامد عبد الله».

وحتى يتاح للفنان أن يوسِّع أبعاده ينبغي أن يطرق مجالاتٍ جديدة من التعبير الفني، وسبيل ذلك هو تهيئة «الجو المعماري» للعمل الفني بتحقيق اللقاء بين العمارة والفنون الكبرى.

ولقد قدَّمت المكسيك مثلًا يُحتذى في هذا المجال؛ فعندما قامت ثورتها تحوَّل وجه الفن ومصيره على أيدي الفنانين المكسيكيِّين، ونبع من إرادتهم إحساسٌ بأن لوحة «الصالون» لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها في ربط الجماهير بالفن، وانطلقوا إلى اللوحات الحائطية يخاطبون من خلال الرموز العامةِ جموعَ الشعب، ويسجِّلون أحداث الحياة وانتصاراتها.

وإن مصر القديمة التي سجَّلت على الجدران حياتها اليومية وانتصاراتها وأمجادها، ومصر الإسلامية التي أودعت مبانيها أروع الأحاسيس التشكيلية، لجديرةٌ بأن تستعيد أدوات تعبيرها العتيدة، لتتسع لتدفُّق الحياة في أحداثها الكبرى، ولتخاطب بهذه الأدوات قاعدةَ الجماهير، وللدولة في المجتمع الاشتراكي قدرة إتاحة الفرصة للقاء الفنون التشكيلية مع العمارة في المباني العامة، ليكون الفن ذوقًا شائعًا في متناول الجماهير.

وفي المجتمع الاشتراكي يكون الفن ملكًا للمجموع لا لبعض الأفراد، وتحل فكرة الملكية الشائعة للأعمال الفنية محلَّ الملكية الخاصة للمجموعات، وإتاحة الفرصة لتحقيق الثراء الفني لأفراد الشعب، تتطلَّب من الفنان والدولة وضْعَ التنظيمات التي تكفل التوسع في عمل المستنسخات والنماذج من الأعمال الفنية الممتازة، فيظل للعمل الفني فرديته في امتيازه، وجماعيته في شيوعه وجعله في متناول الأفراد.

كذلك يتطلب تحول الجماعة في ظل الاشتراكية وارتفاع مستوى الأفراد تركيزًا على فنون الحياة اليومية … ومن هنا تضطلع الفنون التطبيقية بدورٍ بالغ الأثر في هذا المجتمع؛ إذ هي تتيح إشاعة الذوق والجمال في كثير من أدوات الحياة اليومية، فترتفع بها إلى مقابلة المعاني الوجدانية في الفنون الكبرى. وليس هذا الدور بأقل خطرًا من دور العمارة واللوحة والتمثال في هذا المجتمع، بل هو دورٌ جليل الأثر ينبغي للفنان أن يتوافر عليه وأن يتَّجه إليه بإبداعاته.

وإذ كان من أهداف الاشتراكية توفير مزيد من الفراغ للناس لممارسة إنسانيتهم فإن هذا الفراغ ينبغي — كما يقول لاسكي — أن يُشغل بضروب من الثقافة العالمية. وهذا يتطلَّب في ذاته من الفنان التشكيلي أن ينشط لمواجهة هذا الفراغ إلى جانب الفنون الأخرى كالأدب والموسيقى والمسرح والسينما؛ إذ إن مستقبل الفن في المجتمع الاشتراكي يتيح له أن يتخذ مكانه، وأن يشمل كل البيئات، بيئة القرية وبيئة المصنع وبيئة المدرسة، وأن يزداد توغلًا في حياة المثقفين.

وعلى الدولة أن تفسِح له بكل وسائلها هذه المجالات، ليرسلَ طاقاته من أجل الثراء المعنوي لحياة المجتمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥