الفنون التشكيلية في عهد الثورة
هناك ظواهر جديرة بالتنويه حين نعرض لنشاط الفنون التشكيلية في عهد الثورة؛ إذ إن تطوُّر الفن خلال هذه السنوات إنما يستمد بعضَ أسباب تفسيره من بواكير نشأته في العصر الحديث، والظروف التي صاحبت هذه النشأة، وخط المسار الذي مضى فيه هذا النشاط إلى أن حقَّق إنجازاته التي ظهرت في السنوات الأخيرة.
أولى هذه الظواهر أنَّ خط الإبداع الفني قد انقطع، أو توارت معالمه مع نهاية تاريخ مصر المستقلة، ومع آخرِ روائع الفن في عهد قايتباي والسلطان الغوري … وكاد هذا الخط أن ينقطع مسيره زُهاء أربعة قرون، وظلَّت الفنون الشعبية والحِرف التقليدية تعطي روائعها. فلما بدأت مصر تفكِّر في رسم مناهج تعبيرها الفني كان نهج الدراسة أوروبيًّا أكاديميًّا منقطعَ الصلات بماضيها الفني، ومع ذلك، وبرغم اختفاء معالم حضارة الفن التشكيلي عن الوعي العام، فإن عصر النهضة الذي بدأ مع ثورة ۱۹۱۹م وجد أفرادًا اتَّجهوا ببصيرتهم وإحساسهم إلى فنون التراث المصري، ومزجوها بما تلقَّنوه من فنونٍ عاشت على شواطئ البحر المتوسط.
وعلى عكس فنون التصوير والنحت فإن العمارة وجدَت أمامها أمثلةً باهرة وحلولًا عريقة من روائع الفن القديم والفن الإسلامي، ومع ذلك حادت عن طريقها باستثناء محاولات قليلة لربط العمارة بالبيئة — طبيعتها واحتياجاتها — ولم يصادف الأدب هذه الهوة السحيقة بين ماضيه وحاضره، وإنما وجد تراثًا زاخرًا من آثار العرب امتزج بالتيار الأوروبي، فأخذ عنه كثيرًا من أسلوب التفكير وبعض أساليب الصياغة … أما الفنون التعبيرية الأخرى، كالمسرح والموسيقى والسينما، فعاشت في الأعم الأغلب على الترجمة والاقتباس باستثناء بضعة أعمال.
وظاهرة أخرى تتميز بها الفنون التشكيلية هي سبْقُها الأدب والمسرح والسينما والموسيقى في التأثُّر بالموجات الأوروبية الحديثة؛ فقبل ختام الثلاثينيات كان نداء أندري بريتون نحو فنٍّ ثوري مستقل يجد صداه في أعمال جيل طليعي من التشكيليين، وكانت أعمال بول دلفو وسلفادور دالي وماكس إرنست تلقى صداها في إنتاج الفن التشكيلي قبل أن يتأثَّر جيل الأدباء برمبو وكافكا وسارتر وكامي. وفي الأربعينيات تأكدَت معالم الثورة التشكيلية في إنتاجٍ خرج عن الأساليب الأكاديمية وبريق الانطباعية باحثًا عن الفطرة أو الطابع المصري منقِّبًا في أغوار الحياة الشعبية حينًا ومقتبِسًا من موجات التعبير الحديث في أغلب الأحيان.
وظلَّ الفن التشكيلي وثيقَ الصلات بالموجات الحديثة في حين لم يتفتح لها المسرح إلا أخيرًا، وما زالت السينما في كثير من إنتاجها متخلِّفة عنها، في حين انبثق الشعر الحر بعد الفن الحر بسنوات.
أما ثالثة الظواهر الهامة فهي تتابُع مسار الحركة الفنية منذ بدايتها في مطالع القرن برغم أن جمهورها ظلَّ محدود النطاق ليس له اتساع جمهور الأدب ولا شمول جمهور السينما، ومع هذا فإن الفنان التشكيلي لم يتخلَّ عن أدواتِ تعبيره برغم ظروف عصيبة كانت كفيلة بأن تعوقه عن الإنتاج، وبرغم عزلةٍ كانت الصحافة في الأربعينيات مسئولة عن جانب منها لتخلفها عن التعريف بآثار الفن التشكيلي وانصرافها عن النقد الفني.
فلما جاءت الثورة أخذ الفن بعد السنوات الأولى من إقامة البناء السياسي يلقى عنايةً تمثَّلت في الاعتمادات التي رُصدت للمقتنيات الفنية، وفي تشجيع حركة المَعارض، وإعداد مراسم الفنانين، ومحاولة إحياء الفنون والحِرف التقليدية، واحتضان الفنون التلقائية، ورعاية الدولة للمواهب الفنية عن طريق نظام التفرُّغ.
غير أن أروع ما في علاقة الدولة بالفن هو أنها لم تلزم الفنانين بفنٍّ موجَّه، وتركت لهم حرية التعبير واختيار الأساليب الملائمة لتصوير رؤاهم وأحاسيسهم، وبهذا انطلقت طاقاتُ الإبداع الفني خلال هذه السنوات، وعرفت مصر شبابًا ساهم في فتح آفاق المعرفة الفنية، بعضهم اتَّبع احتياجات وأساليب التعبير الحديث، وبعضهم أخذ ينقِّب في تراث بلاده … واختفَت من الفن علاماتُ الغضب التي سبقت الثورة، وانعكست في بعض اللوحات والتماثيل معبِّرة عن الصراع والصرخة المكتومة، والجو المأسوي لحياة الشعب، وحلَّ مكان هذه العلامات أماراتُ تفاؤل واستقرار، وانعكاسات من التعبير عن الحياة الاجتماعية الجديدة والأحداث الكبرى التي مرَّت خلال هذه السنوات.
ومن أهم ما تميَّز به فن هذه الفترة خروجٌ عن «العمود الأكاديمي» في التصوير والنحت، واختفاء كثير من لوحات «الصالون» بمضمونها الدارج التقليدي من المعارض الفنية، ومحاولة التعبير عن صور جديدة من شكل البيئة والمجتمع، فلم يَعُد الفنان يدور حول عالم «المناظر» وصور الريف ومعالم الحياة الشعبية وحدَها، وإنما انفسحت له آفاق جديدة قد لا يكون قد أتيح له الغوص في أعماقها واستنباط رموزها، ولكنه ما زال في محاولة الاستحواذ عليها.
كذلك انحسرت الموجة السيريالية التي ظهرت في الأربعينيات على حين وصلت الموجة التجريدية إلى مدِّها، وسادت كثيرًا من أعمال الفنانين المعاصرين.
وبعد أن كان الفن يخرج عن نطاق خاماته التقليدية على استحياء، رأيناه يقتحم في التصوير والنحت خاماتٍ جديدة من الأسمنت إلى قِطع الحديد وحطام الآلات والأسلاك محاولًا التعبيرَ عن روح فترة وعصر؛ فهذه السنوات من التحوُّل في حياة مصر صحِبتها كشوفٌ باهرة في العالم من التنقيب في جزيئات الذرة إلى اكتشاف الفضاء … والموجات التي هزَّت أساليب التعبير الفني في العالم تردَّد صداها في مصر وانعكست في أعمال فنانيها.
ومن أهم ما اتَّسمت به هذه الفترة غزارةٌ في حجم الإنتاج الفني تمثَّلت في الكثير من المعارض التي تتابعت خلال السنوات الأخيرة، وفي الكثير من الإنجازات الفنية التي تمَّت، وظهور أسماء في الحياة الفنية لها من مواهبها آمالٌ تبشر بخير كثير.
على أن هذه النظرة إلى ما تم ينبغي أن يصحبها تطلُّع إلى المستقبل من خلال الوقوف عند مشاكل فنِّنا المعاصر وتقويم إنجازاته وموازنة خط مساره الحالي.
قد تكون أهم مشاكل فنِّنا المعاصر ما يتصل بالشكل العالمي المشترك، شكل الموجات الجديدة وتقويمها؛ ففي العالم اليوم اتجاهٌ نحو مراجعة التيار الحديث الذي اندفع تدفُّقه، وهناك إدراك ينبِّه إلى خطره على الفن المعاصر.
يقول هيربرت ريد إن تسعة أعشار الفن الذي يطلب منَّا اليوم أن نعترف به ليس فنًّا حديثًا إلا بمفهوم واحد … مفهوم «المودة».
وهو يشير في كتاباته الأخيرة إلى الخلط والغموض اللذين يسيطران على الفن المعاصر، وينوِّه بأن المصور الحديث قد وصل إلى خاتمة مطافه في عالَم الاكتشافات، وعبَرها إلى عالَم من المجهول واللامسمى.
ويرى ريد أن الفن يجب أن يلتقي مرةً أخرى مع جمهوره خلال لغة من الرموز قد لا تكون حتمًا من عالَم المرئيات الظاهرة، ولكنها يجب أن تكون لغة محدَّدة متينة البنيان.
ويطلق ناقدٌ آخر صيحةَ الخطر حين يقول: إنَّ الفن ليس ﻛ «مودات» كريستيان ديور، تدفعه بيوت الأزياء وتحيطه بالدعاية، وترعاه السيدات الثريات، ليتخذ الزي الجديد مكانه المرموق خلال موسم ثم يختفي، وإنما يجب أن يكون الفن عملًا جادًّا زاخرًا بالقيم وإلا راح هباءً.
وهذه الصيحات يردِّدها الأدباء والنقَّاد في العالم إزاء إسراف الفن في الغموض والإغراب أو الاستهانة بالقيم، وهم يرمون بها إلى وقفِ زحف هذا التيار الجارف.
وما أجدرنا بوقفة نراجع فيها ما نأخذه عن المدارس الأجنبية، ونعيد خلالها تقويمها! ثم ما أجدرنا بالحذر من الاندفاع وراء موجات «المودات» الوافدة. ولستُ في هذا أطالب الفنان بمواصفات معينة، ولا بنهج بذاته في المعالجة، وإنما أطالبه بالصدق للأسلوب، فلا يعتنق اتجاهًا غير نابع من ذاته، ولا يجرد أو يحور لمجرد الخروج عن المألوف واتباع النزعات الحديثة.
إن الأسلوب متى نبع من نفس الفنان نبض بالصدق وبإشعاع الحياة الذي يتَّسم به العمل الفني الممتاز … أما الأسلوب المنقول أو المقتبَس فلا يحمل غير سمات التقليد السطحي، ومن هنا يخرج العمل الفني محملًا بأسباب فنائه.
ولست أجد في الأسلوب التجريدي غضاضةً في بلدٍ قدَّمت حضارته الإسلامية أروع الآثار التجريدية، ولكني أرى الغضاضةَ في اقتباس تجريدات فنان بذاته بدون معاناة تجربته.
لقد كان الشرق مصدر إلهام للتجريد التعبيري … ألهم كاندنيسكي الذي ظل متصلًا بفنون الشرق متعمقًا روائعها، وعكف بولوك في فترة من حياته على الفلسفة الشرقية والدِّين قبل أن يخرج على العالم بتجريداته، ودرس مارك توبي فنونَ الشرق خلال إقامة طويلة باليابان.
فوراء الصياغة الفنية عند هؤلاء وغيرهم نبضٌ ثقافي عميق؛ ولذا فإن مجرد تقليد الصياغة يَخرج بالعمل مفتقرًا إلى الأصالة، وترديدًا لإنتاج الآخرين.
ينبغي إذن أن يصحب مراجعة المدارس الأجنبية، بل يسبقها عودةُ الفنان المصري إلى التراث القديم. لقد ربط الفنانون قبل الثورة بين التراث المصري القديم وجوانبَ من التراث الإسلامي وبين التيارات الأوروبية، ولكن مفاهيم المجتمع الجديد تدعونا إلى أن نعمِّق مفهومَ التراث، نَمُد من نطاقه، بحيث يشمل الحضارات الفنية في آسيا وأفريقيا.
إن مصر في هذه السنوات تقف على قمَّة بين القارتين، والروابط القديمة التي تربطنا بحضارتي آسيا وأفريقيا تدعونا إلى أن نتعمَّق فنون الهند، وحضارة الصين التي قدَّمت أروع درس في التزاوج بين روحانية الفن وصدقِ تعبيره، والمواءمة بين الموضوع وأساليب التعبير.
كذلك قامت في أفريقيا وانبعثت من أعماقها طاقاتٌ فنية عجيبة، وإن الإدراك السياسي اليقظ بترابط شعوب هذه القارة يجب أن يصحبه إدراكٌ ثقافي على نفس المستوى، ولقد ظلَّت فنون أفريقيا خارج نطاق تقديرنا الجمالي، في حين سبقَنا الغرب إلى اكتشافها منذ أكثر من نصف قرن … اكتشفها ماتيس وديران وبيكاسو وفلامنك من خلال التماثيل والأقنعة الأفريقية، ووجد الفنانون الحوشيُّون فيها انطلاقةً أعانتهم على تحطيم قيم التعبير اللوني التقليدية … كما اكتشف التكعيبيون فيها حاسةَ البناء، ولقي السيرياليون عندها غموض السِّحر وإبهامه، وكنوز هذه الفنون الأفريقية أدنى إلى أيدينا من الغرباء، فما أجدرنا أن نذهب إلى منابعها وننفذ إلى وجدانها!
على أن المرحلة داخل حدود أرضنا ما زالت لها أبعادٌ عميقة أيضًا؛ ففنون مصر القديمة لم تبُح بعدُ بكل أسرارها، ولم تُستنفَد الطاقات التي يمكن استخلاصها منها … وفي الفن القبطي روائعُ لم تُعرف، كما أن روح التجريد التي تسود الفنَّ الإسلامي تمثِّل محاولةً من أنبل محاولات الروح الإنساني في تخطي نطاق الحدث والعرض المؤقت إلى الدوام … هذا المزاج من الخيال والحس الهندسي يستطيع أن يقدِّم للفنان المعاصر إجاباتٍ عن أسئلة حائرة وحلولًا لكثير من مشاكله.
وهذا الصدق للتراث، والعودة إلى المنابع، سيكون خيرَ مُعين لتحديد موقفنا من كثير من التأثيرات الأجنبية الوافدة، وإعادة تقويمها، وسيفتح آفاقًا لا حدودَ لها للمعرفة الفنية ولأساليب التعبير.
على أنَّ هناك جانبَين آخرَين يحسن أن يُعنى بهما الفنان المصري المعاصر؛ أما الجانب الأول فهو جانب الصدق للموضوع، وأعني به تعمُّق المعنى الكامن وراء الحدث، واستنباط الرمز الذي يربطنا به، ويخاطب أغوار وجداننا؛ فقد مرَّت خلال هذه السنوات أحداثٌ كبار انفعل بها الفنان المعاصر، وعبَّر عنها، ولكنه لم يصبر على معاناة تجربة التعبير، فلم ينفذ إلى أبعد من سطح الحدث، ونحن نبحث في الفن عن شيء نفتقده في الحياة العادية، فينبغي أن يعمِّق إحساسنا بها، ولا يكتفي بالتسجيل المباشر لأحداثها.
وجانبٌ آخر ما أجدره أن يصاحب الثورة، هو جانب التحوُّل في أداة إخراج العمل الفني … ولقد قدَّمت المكسيك درسًا من أروع الدروس في انعكاس الثورة على الفن.
فعندما قامت الثورة في المكسيك تحوَّل وجه الفن ومصيره وطريقة اتصاله بالجماهير، تحوَّل على أيدي الفنانين إلى فنٍّ قومي جهير يشارك بوظيفته الاجتماعية في تعميق الفكر والوجدان، وسجَّل ريفيرا وأوروزكو وسكويرز على الجدران حياةَ الشعب وكفاحه القومي ورموز الحرية والعدل والحق … ومن خلال هذه اللوحات الجدارية التي أقامها هؤلاء الفنانون ارتبط الشعب بتاريخه وتراثه، ولقي معالم نفسه، فلم يَعُد الفن حبيسَ المعارض، وإنما خرج إلى الحياة مع احتفاظه بأصالته وحيويته وقيم التعبير الفني.
ولعل مصر التي سجَّلت على جدران المعابد والمقابر أروعَ كلماتها، وعاشت فنونها الإسلامية في واجهات مساجدها وعلى جدرانها، تستطيع مرةً أخرى أن تقول من خلال الفن كلمةً عظيمة، وأن تعيد لفنوننا التشكيلية جلالها لو أتاحت الدولة للفنان الانطلاقَ إلى واجهات المباني العامة، ليسجِّل أحداث بلده وأمجادها.
ذلك هو الأفق الرحيب الذي يتطلَّع إليه الفنان المصري المعاصر، وما ذلك الأفق ببعيد.