التخطيط العمراني والطابع الحضاري للمباني العامة

كثيرًا ما تثور قضية التخطيط العمراني، وتخطيط المباني العامة كإحدى القضايا القومية التي تمس جوهر حياة المجتمع … وبرغم اجتماع الرأي حول هذه القضايا فإن التنفيذ يصطدم باعتباراتٍ غير منظورة لا تقوى أمام المنطق السليم؛ ومن هنا تتَّسع الهوة بين الفكر والتخطيط والمنطق وبين أسلوبنا في تناول الأمور حين تأخذ سبيلها إلى التنفيذ.

ولعل في هذا ما يدعو إلى تناول هذه القضية الهامة بإفاضة نركِّز عليها النظر؛ فنحن نواجه مرحلةَ تشييد ضخمة … والمباني العامة التي تقام وفقًا لخطة التشييد تقتضي منا وقفةَ تأمُّل وتقيم … حيثما طفنا بالقاهرة أو بغيرها من المدن لمسنا حركةَ بناء نشيطة … وصدمتنا كتلٌ من المنشآت المعمارية لا تنبئ عن طابع حضاري أو قيم جمالية، فضلًا عن افتقارها إلى مطالب التنظيم الحديث ومواصفاته في المباني العامة؛ فالمبنى العام ما زال طرازًا ووظيفة وفنًّا متخلفًا يعوزه الكثير من المقوِّمات الأساسية التي يجب توافرها في منشآت الدولة.

وإذا كانت العمارة قد شكَّلت دائمًا معالمَ الحضارة في كل العصور وحفظتها، فهي في هذا العصر أيضًا موكلة بهذا الدور الخطير، لم تفسدها غلبة التكنولوجيا بل قدَّمت لها من المعطيات ما أتاح للفكر الهندسي والفكر الفني آفاقًا جديدة.

وإن مصر بحكم تراثها الحضاري العظيم في العمارة والتخطيط مطالبة أكثر من غيرها بأن تقول كلمتَها في هذا العصر، وأن تتحدَّث من جديد من خلال اللغة نفسها التي بهرتنا بالشواهد المعمارية الرائعة عبر عصورها المختلفة.

إن المصريين القدماء حين أقاموا عاصمتهم «منف» على مشارف القاهرة قدَّموا من خلال العمارة حلولًا رائعة للقاء الصحراء بالمدينة، ولقاء المدينة بالنهر، وخلَّفوا نماذج رائعة من المعمار المصري الذي ما زال يحفظ من عناصر المعاصرة ما يصلح حلولًا تُحتذى في حياتنا الجديدة، ويشكِّل مصدر إلهام للمعماري المصري المعاصر … وعندما قامت العواصم الإسلامية على الضفة الثانية من النيل حقَّقت روائع ما زالت تبهرنا من الفسطاط إلى القطائع مدينةِ ابن طولون السامقة إلى القاهرة التي تشكِّل أروع متحف للعمارة والفنون.

نماذج من فوضى التخطيط والعمارة

وحين تلقينا عطاءَ الطبيعة وعطاء التاريخ في هذا المكان اختلط علينا الأمر وتشتَّت الاتجاه، فلا نحن وعينا معنى لقاء الصحراء بالمدينة، ولا معنى لقاء المدينة بالنهر، ويكفينا هذا الخليط المعماري القائم على جانبي النيل في القاهرة، وهذه الكتل المعمارية التي كادت تخنق النهر وتذهب بجلاله … وحين قاربنا مواطن الجلال القديم أفسدناها بالجديد الذي أقمناه … ففي الطريق إلى الأهرام فوضى معمارية لا نظير لها أفسدت جلال المكان … وفي مواجهة بقعةٍ من أروع بقاع القاهرة الإسلامية عند جامع السلطان حسن والقلعة أحدثنا من الشغب المعماري ما شوَّه روعة المكان وعظمته، وبدلًا من أن تضع الدولة تخطيطًا يحفظ لهذه المواقع جلالها شاركت هي بما أقامته من مبانٍ في الزحف الذي شكَّل عدوانًا على الطبيعة وعلى الآثار … وثمَّة شواهد أخرى نراها حيثما مضى بنا الطواف في مصر، ولعل أكثرها فظاعةً وعدوانًا على جلال التاريخ ذلك المبنى الذي تقيمه حاليًّا منشأة تجارية من منشآت القطاع العام مطلًّا على معبد الأقصر، وما يقام أيضًا بتلك المدينة العظيمة من مبانٍ أخرى تعترض طريقَ الكباش، وتدل على قصور الرؤية وانعدام الذوق.

وكثيرًا ما ارتفع الاحتجاج في وجه بعض المباني التي أقيمت وشكَّلت عدوانًا إما على أثرٍ رائع من آثارنا، وإما على موقعٍ طبيعي له جماله الخاص الذي كان يجب أن نحافظ عليه؛ كذلك طالما ارتفع الاحتجاج على هذه المباني الخرسانية التي تقام في مواقع وفي بيئاتٍ لا تتناسب معها. ومما يسترعي النظر أننا حيثما صادفنا هذه المباني القبيحة التي تشكِّل عناءً وعذابًا للناس، وعلى الأخص في مناطق الصعيد، نجد إلى جانبها كثيرًا من المؤسسات الأجنبية تحترم طبيعةَ المكان، وتحترم جلاله التاريخي، وتحاول أن تحقِّق وفاقًا بين هذه المقوِّمات وبين مطالب الإعاشة، وتتحرَّى استخدام الخامات الملائمة للجو والطراز المعماري الملائم والموحي بالتراث.

ومرةً أخرى أعود إلى طريق النيل في الأقصر للمقارنة بين ما أقيم فيه من مبانٍ عامة وما أقامته البعثات الأثرية من مبانٍ أقل في التكلفة وأكثر تحقيقًا للنفع وحرصًا على القيم الجمالية؛ فالأمر إذن ليس أمرَ أعباء أو تكلفة مالية، ولكنه أمرُ تخلُّف في الوعي وفي الذوق العام، يؤدي بنا إلى هذا القبح المعماري الذي نغرسه في كثير من مواقعنا، ويكلفنا مبالغَ طائلة، ويظل شاهدًا على مستوًى حضاري هابط تستعصي علينا إزالته.

القيم الحضارية ضرورة في المباني العامة

العمارة هي أخطر الفنون المرئية، وهي منذ القِدم أم الفنون؛ فمراعاة القيم الحضارية والطابع القومي فيما نتصدَّى لإقامته من مبانٍ عامة يحقق أثرًا عميقًا في تكوين شخصية المواطن حضاريًّا.

قد لا يتَّصل كل المواطنين اتصالًا وثيقًا بالفنون التشكيلية الأخرى من نحت أو تصوير، ولكن العمارة تطالعهم حيثما كانوا، والعمارة تنقل إليهم الإحساسَ بالتناسق أو بالتنافر، بالذوق العالي أو الذوق الهابط، بالقيم الحضارية العالية أو بالعناصر المتهافتة الدارجة التي يتَّسم بها كثير من مبانينا.

من أجل هذا نجد اهتمامًا عالميًّا بالحفاظ على القيم الحضارية والجمالية في مباني الدولة ومنشآتها، سواء من حيث التوفيق بين الأساليب العالمية للعمارة المعاصرة والطابع القومي لبلدٍ من البلاد، أو من حيث التناسق بين المعطيات المعمارية الحديثة ومعطيات المكان — بين العمارة والبيئة — أو من حيث تحقيق أفضل استخدامات لخامات البيئة المختلفة، ومراعاة الظروف الطبيعية والجوية في تصميم مباني الدولة ومنشآتها، وكذلك من حيث اللقاء السعيد بين العمارة والفنون التشكيلية.

لقد سبقَنا العالَم في هذا المضمار، وقطع شوطًا بعيدًا، ونحن ما زلنا متخلفين ويكفي أن أشير على سبيل المثال إلى ما حقَّقته الكميرون في جامعتها الحديثة التي أقامتها، واستطاعت أن تقدِّم بها نموذجًا رائعًا لأفضل استخدامات لخامات البيئة، ولفنونها المختلفة وتوظيفها في تحقيق الأثر الحضاري العام الذي يحدثه المبنى.

لقد استطاعت الكميرون أن تفيد من مواهب الفنانين الأفريقيِّين في مبنًى جمع أحدث مقتضيات العمارة المعاصرة ومتطلباتها، وبين أفضل ما في التراث الأفريقي من آثارٍ رائعة، مع مراعاة التوفيق بين وظيفة المبنى من الداخل والجماليات المختلفة التي يجب أن تتوافر في البناء، بين دلالة المبنى من الخارج ووظيفته.

كل ذلك تلاقى في تناسقٍ وروعة أحالت حجارة جبال الكميرون إلى دراما معمارية رائعة، تلاقت فيها كل الفنون في أعلى مستوياتها، وأفادت من كل معطيات العصر الحديث: الآلات والتجهيزات والأفكار المعمارية الجديدة.

وقد تحقَّق ذلك في مباني الكميرون الأخرى، وفي عديدٍ من الدول الأفريقية حيث نلمح معالمَ حركة إحياء معماري وفني واسعة النطاق.

هذا هو المَثل الأفريقي يأتينا من جنوب القارة محملًا بدلالاته الحضارية، في حين نرى حيثما طوفنا العالَم أمثلة أخرى رائعة؛ فنحن نعرف ما حقَّقته العمارة المكسيكية من مواءمة بين طرازها القومي وأحدث الاتجاهات الحديثة، بالإضافة إلى سيطرة الأعمال التشكيلية بصورةٍ رائعة على مباني الدولة كافة في المكسيك.

كذلك ما حقَّقته البرازيل في المدينة الجديدة التي شيَّدتها، واستطاعت أن تضفي على كل بناء شخصيته المميزة، ليقول كلمته الخاصة بأعلى ما يمكن أن تعطيه العمارة من بلاغة التعبير.

هناك أيضًا تجاربُ أخرى كثيرة جمعت بين أفضل الخبرات الهندسية وأكبر المواهب الفنية، لتقديم حلول لمشكلة العمارة والمكان، كهذا الذي تحقَّق في هامبورج من إقامة مجموعٍ من المباني العامة على رقعة ضيقة من الأرض، مع إضفاء الإحساس بالعظمة والتكامل على مجموعة الأبنية المقامة، والمزاوجة بين أحدث معطيات العمارة وأروع آثار الفنون.

من خامات العصر ولغته أيضًا أمكن لكثير من المعماريين في العالم أن يقدِّموا من خلال عمارة الصُّلب والزجاج والبلاستيك عناصرَ معمارية رائعة جمعت أعلى مقتضيات الفن والجمال، وجعلت للبناء دلالته على روح العصر.

هل هناك بعد هذا طابعٌ حضاري أو طراز مميز لمباني الدولة في هذا البلد الذي أعطى أفضلَ ما يمكن أن تقدِّمه العمارة من حلول مختلفة عبر العصور؟ هذه الحلول التي أفاد منها الآخرون، واستطاعوا أن ينقلوها إلى بيئاتهم، وأن يطوِّعوها، ويخرجوا منها بنماذج رائعة.

لم يتحقَّق حتى الآن لمعظم مبانينا العامة هذه المقومات الحضارية، بل كثيرًا ما نفقد القدرةَ على دلالة المبنى على وظيفته في متاهاتِ الطرز المعمارية المختلفة. قلما نستطيع أن نلمس من الشكل الخارجي للمبنى محتواه ووظيفته، على عكس ما تحقِّقه المباني في العمارة القديمة أو في العمارة الحديثة من إيحاءٍ مباشر ينقل للمُشاهد الإحساسَ بالجلال أو الإحساس بالعظمة أو الإحساس بالجمال أو الإحساس بالمنفعة، ويوحي في إيحاءات مباشرة بوظيفة المبنى بدون الحاجة إلى قراءة اللافتة المعلَّقة على واجهة المبنى العام … فعندنا تختلط دلالة مبنى مستشفًى للأمراض المتوطنة بمعهدٍ للفنون … وتختلط المدرسة بالمحكمة، أو بمبنى وزارة من الوزارات من حيث دلالاتها الخارجية، فلا نجد للمبنى دلالته المميزة أينما طفنا بالمباني العامة عدا بعض استثناءات قليلة.

إذا تركنا المبنى من الخارج، وانتقلنا إلى المبنى من الداخل نجد فضلًا عن العجز الوظيفي لكثير من مباني الدولة ومنشآتها افتقارَها إلى طابع مميز، وأيضًا إلى سمات الجمال. ولقد قامت محاولات للربط بين العمارة والفنون التشكيلية عن طريق تنظيم تشريعي يكفل تخصيص نسبة مئوية من مجمل تكاليف المباني العامة للأعمال الفنية … وقطعنا في هذا التنظيم شوطًا بعيدًا، ولكنه تعثَّر، في حين حقَّقت نظائر هذا التنظيم التشريعي نتائجَ رائعة في كثير من الدول.

إن وجه الخطر في حركة البناء أننا نبني بلا إدراك لخطر العمارة كأداة أولى للثقافة وتكوين حس المواطن وذوقه ووجدانه وإحساسه بالتناسق، على حين أن دلالة التاريخ عندنا تكشف عن مدى ولع المصري بجلال البناء، هذا الولع الذي أقام شواهدَ تلك الحضارات العظيمة … أما نحن فماذا يبقى بعدنا من هذا الخليط المعماري العجيب الذي يشكِّل عدوانًا على الطبيعة وعلى الآثار، ويقتحم الأنظار بما يحمله من معالم الشغب؟

لقد أصبح الأمر متطلبًا وضع خطة قومية للعمارة تساندها تشريعاتٌ تحمي الأماكن الأثرية والمواقع الطبيعية من المباني الحديثة التي تقام حولها بلا تخطيط ولا تنسيق، وتشريعات تكفل وضع مواصفات وضوابط لما ينبغي أن تكون عليه المباني العامة للدولة ومنشآتها المختلفة.

كما أن الأمر يتطلب تسانُد الأجهزة كلها من أجل صيانة وجه مصر الخالد من عدوان الزحف المعماري، ويتطلب قبل ذلك كله وعيًا ويقظة في الحس والوجدان ومراجعة لأساليب إعداد المعماري المصري في كليات الهندسة والفنون، واستقصاء لأسباب أزمة العمارة المصرية القائمة.

إن المسألة أخطرُ مما نظن، ومصر التي تعيش على أبواب القرن الحادي والعشرين، وتتعجَّل خطى الإنشاء والتشييد، ينبغي أن تلتفت إلى الدلالة الحضارية لمنشآتها، إلى الطابع المميز لها، ولست أقصد بالطابع البناءَ على الطراز الفرعوني أو طراز العمارة الإسلامية، وإنما أقصد أن يكون لدينا نماذج وحلول معمارية عظيمة لها طابعنا … حلول من وحي طبيعة المكان ومناخه ودرجة الإضاءة، حلول تستضيء بحكمة الأسلاف، ولكنها تنبئ عن روح العصر.

ولعل مجالسنا القومية تجعل من هذه المشكلة إحدى القضايا الأساسية التي تتصدَّى لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥