جسور بين التعليم والثقافة
في وقت تتَّخذ فيه مادة التربية الفنية مكانَ الصدارة في التعليم نلمح تراجعًا لها في مصر يضعها في موقعٍ لا يتناسب مع أهميتها وأثرها الفعَّال في إعداد الإنسان المصري في مراحل تكوينه … ويصاحب هذا التراجعَ حصارٌ يحيط بمفهوم التربية الفنية، ليقصرها على قدْر ضئيل من حصص الرسم والأشغال، وقدْر أقل ضآلة من برنامج تلقيني يسمَّى التذوق الفني، وهو أبعد ما يكون في وسيلته وطريقة أدائه عن أن يكون تنميةً للتذوق بالمعنى الصحيح.
ولعل في نظرة على التجارب العالمية ومراجعة للتجربة المصرية ما يفتح مجالًا لنقاشٍ مثمر بنَّاء قد يصل بنا يومًا إلى ما نرجوه من نتائج.
- (١)
أن العالم قد تأكَّد لديه اليقين بأن إعداد المتخصِّص المتعلم هدف قاصر ما لم يصاحبه إعداد ثقافي متكامل … وما أزمة الشباب كظاهرة عالمية إلا أزمة حضارية … ومن هنا أخذ التركيز على ضرورة مواكبة الثقافة والفنون للتعليم في مراحله المختلفة.
- (٢)
أن اهتمامًا كبيرًا أخذ ينصرف إلى استخدام أوقات الفراغ لتنمية القدرات الإنسانية، واحتلَّت الفنون مكانًا أساسيًّا في هذا المجال.
- (٣)
أن الربط بين التعليم والفنون وشَغل أوقات الفراغ في المدارس كان من شواغل مؤتمر اليونسكو الأول للسياسات الثقافية الذي عُقد في فينسيا سنة ١٩٧٠م وأوصى الدول الأعضاء بأن تقدِّم نتائجَ دراستها في هذا المجال في اجتماعٍ يُعقد سنة ۱۹۷۲م.
كما أشار المؤتمر أيضًا إلى ظاهرة إهمال تقويم الجمال الطبيعي والجمال المعماري وظاهرة فقْد البصر الفني … ولا سبيل إلى إحياء البصر والبصيرة واستنهاض الإحساس بالجمال في إنسان هذا العصر ما لم يسهم التعليم في التربية الفنية بمعناها الشامل الواسع.
ومن هنا برز دور المدرسة كأداةٍ لا تقتصر على الإعداد الفكري فقط، بل تسهم أيضًا بالقدْر نفسه في شحذ الحساسية والابتكار.
ولذلك نرى ضرورةَ التركيز على الإعداد الفني في التعليم العام منذ المرحلة الابتدائية، لخلق السلوك وإشاعة النور الذي سوف يُحدِث أثره في رفع مستوى الشعب الثقافي.
- (٤)
إن استثمار الطاقات الإنسانية بصورة أفضل يتطلَّب إتاحة الفرصة للانفتاح على قيم الفن والجمال … ولا سبيل إلى ذلك ما لم يُدخل التعليم هذا الأمرَ في اعتباره، وما لم تُطوَّر المناهج بحيث تستوعب هذه القيم وتكون موصلًا جيدًا لها.
وهذا من شأنه ألَّا يُقصر مادة التربية الفنية على تعليم الرسم والهوايات الفنية، وإنما يتطلَّب أن تكون المدرسة نفسها في بنائها وأثاثها ومظاهرها ومحتواها مركزَ إشعاع للقيم الفنية والجمالية … وأن تستقر فكرة التعليم عن طريق الفنون في أذهان المسئولين عن مناهجه … وأن يصاحب التذوق الفني كلَّ مراحل التعليم كمنهج أساسي، بل أن يكون تناول عديد من المواد وتوصيلها إلى الطالب عن طريق الوسائل الفنية. ومن ذلك مادة التاريخ والمواد الاجتماعية عامةً وكذلك المواد العلمية.
ولقد أدركت دولٌ كثيرة هذا النظر، واعتنقت منطقه وأقامت جسورًا وثيقة بين التعليم والثقافة، وطوَّرت متاحفها لتكون بالدرجة الأولى مراكزَ تعليمية تضع إمكانياتها وطاقاتها العظيمة لتكوين الطفل منذ أن تتلقَّاه المدرسة إلى أن يخرج إلى الحياة العامة.
-
تحسين وسائل العرض في المتاحف.
-
استخدام الوسائل السمعية والبصرية الجديدة.
-
تجسيد التاريخ في قاعات المتاحف ليكون مادةً حية.
-
تنظيم معارض جوَّالة من المتاحف إلى المدارس.
ويتطلَّب ذلك كله التعاونَ الوثيق بين المنظمات التعليمية والمنظمات الثقافية.
وقد أنشئت في متاحف لندن مجموعةُ إدارات لخدمة التعليم ما زالت تتَّسع ويزداد شمولها، كما نُظمت الزيارات الشارحة في المتحف البريطاني بمعدَّل ثلاث مرات أسبوعيًّا لطلبة المدارس.
ونفذَت كل أدوات التربية الفنية إلى المتاحف العامة كمتحف العلوم ومتحف الصور التاريخية؛ حيث يُتاح للطالب البريطاني من خلال اللوحات والنماذج المجسمة والأزياء التاريخية أن يعايش عصور التاريخ وأن يستوعبها.
وهكذا استطاعت المتاحف بهذه الوسائل أن تحيل المواد التعليمية من موادَّ تلقينية إلى موادَّ حية مُعاشة تجعل الطالب يقيِّم تجربته بنفسه، ويعمِّق انتماءه الحضاري وتكوينه العلمي بنفسه.
ولم يقتصر الأمر على متاحف لندن وحدَها، بل إنَّ متاحف المقاطعات مثل ويلز حقَّقت تطويرًا ضخمًا في متاحفها لخدمة التعليم والتربية الفنية.
كما أن ليفربول أعادت بناءَ متاحفها جميعًا مُدخلة في الحسبان دَور المتاحف الجديد في العملية التعليمية.
وفي فرنسا أخذتِ المتاحف بفلسفة إتاحة الأمر للطفل ليترجم بحسِّه ما يستوعبه، وهُيِّئت المتاحف لهذا الغرض فأُنشئ بها أقسام للأطفال ومراسمُ خاصة وبرامج ومحاضرات.
كما رُوجعت وسائلُ توثيق العُرى بين الطالب وبين روائع الفنون ومعايشتها معايشةً لم تَعُد تكفي فيها الزيارات الشارحة والأفلام التسجيلية، وإنما معايشة بالممارسة، من ذلك تجربةُ مدرسة فالوري في لقاء الطلبة ببيكاسو وأعماله واشتراكهم في عمل لوحات من وحي تأثُّرهم بهذا اللقاء.
وتجربة متحف كانتيني في معايشة الطلاب للفن الزنجي من خلال عمل نماذج من الأقنعة الزنجية استلهامًا لمعرضٍ كبير نُظِّم لهذا الغرض.
وتجربة لوحات بول كلي في متحف الفن الحديث؛ حيث سبق زيارة معرضه إطلاعُ طلبة المدارس على عناوين لوحاته، ورسم أعمال من وحيها، ثم جاءت الزيارة بعد ذلك، فتحقَّقت المقابلة بين عمل الطفل وعمل الفنان الكبير.
ولقد أخذت ظاهرة متاحف الأطفال تزداد اتساعًا. كانت أمريكا البادئة بها سنة ۱۸۹۹م، وأصبح لديها الآن ٢٦ متحفًا إلى جانب ٤٠ متحفًا أنشأت أقسامًا للأطفال لإدخال الفن في حياتهم.
واتَّبعت السويد والدانمارك وهولندا النهجَ نفسه، في حين أخذت ميزانية الفنون وميزانية التعليم في فرنسا تخصِّص جانبًا من اعتماداتها بالنشاط الفني للطلبة بالتعليم من خلال الفنون، وتحوَّل كلٌّ من المتحف والمدرسة إلى خليةٍ ثقافية حية لا ينقطع بينهما التبادل والحوار.
-
إدخال الحياة إلى المتاحف.
-
وانفتاح المتاحف على الحياة.
ومن هذا تشكَّلت برامج الإصلاح فيما يتعلَّق بتجديد المتاحف، وإبراز شخصيتها، والعناية بعرض مجموعاتها، وتزويدها بالوسائل السمعية والبصرية، واندماج المتحف في تيار الحياة الجارية بأن تكون له مطبوعاته ونشراته الثقافية في الصحف، وبرامج خاصة في الإذاعة والتليفزيون، والخروج ببعض مجموعات المتاحف إلى الحياة عن طريق عرضها في المدارس وفي المنشآت العامة وفي الميادين والحدائق حتى يتأكَّد امتلاك الجماعة لتراثها الفني، واستخدام التليفزيون كوسيلة لربط روَّاد المتاحف بروائع الفنون في العالم. والعناية بمجال التجريب في المتاحف بإفساح قاعاتٍ لإبداع الأطفال، وقاعاتٍ للشباب لممارسة تجاربهم الفنية، مع ربط الفن بالطبيعة من خلال العروض التي تقدِّمها المتاحف النباتية ومتاحف الحيوان، وهي عروضٌ تستهدف إيقاظ الرؤية واستثارة الوجدان.
وكذلك حرصتِ المتاحف على السعي إلى الجمهور عن طريق الارتباط بالمدارس والمنشآت العامة لتوسعةِ نطاق الرواد وجذبهم بوسائل العرض الحديثة، كل ذلك مع الحفاظ على الفن كتجربة إنسانية عميقة تستوعبها الحواس.
أين التجربة المصرية من هذا التيار الدافق الذي جعل التربية من خلال الفنون تحتل الصدارةَ في تشكيل التعليم المعاصر؟
لستُ في حاجة إلى أن أقول إنها تجربةٌ متخلِّفة عن هذا التطور، سواء في نطاق ما تؤديه أجهزة التعليم، أو ما تؤديه أجهزة الثقافة.
كما أن الجسور بين هذه الأجهزة ما زالت واهية.
ولقد جرَت محاولة في عام ۱۹۷۰م — في ظل قيام لجنة وزارية للتعليم والثقافة — لإقامة هذه الجسور والتنسيق بين خطط التعليم والثقافة، لاستكمال قصور العملية التعليمية عن طريق امتداد الخدمات الثقافية وتوجيهها لأغراض التربية الفنية.
- (١)
وضع أنشطة وزارة الثقافة ومواردها الفنية في خدمة رجال التعليم والطلاب في مواقع تجمُّعاتهم.
- (٢)
أن يتحوَّل المسرح والسينما والمتحف إلى أدواتٍ لتكوين الثقافة الفنية للطلاب بتعاونٍ بين المسئولين الثقافيِّين والموجِّهين الفنيِّين.
- (٣)
التركيز على مادة التذوق الفني، وتحويلها من مادة تلقينية إلى مادة حية مشوقة تساهم في تكوين وجدان الفرد، وذلك باستخدام المتاحف والأفلام التسجيلية والشرائح الملوَّنة، مما يتيح للطالب تذوقًا حقيقيًّا لروائع الفنون وتنظيم معارض متنقلة للفنون التشكيلية ترتاد المدارس، ويصحبها تعريفٌ بالاتجاهات الفنية، وكذلك تكوين مناخ فني في المدارس يتيح الانفتاحَ على روائع الفنون وغرس قيم الجمال … على أن يُتاح للطلبة في كل سنوات التعليم ممارسة التذوُّق الفني بأنواعه المختلفة، وألا يقتصر الأمر على مرحلة دون أخرى.
- (٤)
إدخال الثقافة المسرحية والموسيقية في برامج التعليم، والاستعانة في ذلك بالإمكانيات البشرية والفنية المتخصِّصة بأجهزة وزارة الثقافة، وتوجيه العناية الكافية للمسرح المدرسي والجامعي وفِرق الموسيقى وجمعيات هواة الفنون تحت إشراف وزارة الثقافة بقصد دعمها وتوجهها، ويمكن أن يكون ذلك سبيلًا أيضًا لإنتاج المسرحيات والأفلام والأغنيات والمقطوعات الموسيقية والأسطوانات التي تتناسب مع أعمار التلاميذ ومستوياتهم.
- (٥)
إسهام المسئولين الثقافيِّين والموجِّهين الفنيِّين في تطوير وإخراج الكتاب المدرسي.
- (٦)
وضع برنامج للتعريف بالآثار ومجموعات المتاحف وتشجيع ارتياد المتاحف والمناطق الأثرية من خلال مشروع جمعيات أصدقاء الآثار والمتاحف التي أخذت الوزارة في إعداده بالاشتراك مع أجهزة التعليم.
- (٧)
الإفادة من المدارس بتحويلها إلى مراكز للفنون والأنشطة الثقافية في غير أوقات الدراسة، وتزويدها بالأدوات والأجهزة اللازمة لهذا الغرض.
لقد كان برنامجًا يستضيء بالطموح، ولكنه مبني على الواقع بإمكانياته ومعوِّقاته. والاعتمادات التي رُصدت له كبرنامج للتنسيق الثقافي كانت كفيلة بأن تحقِّق خطوةً على الطريق.
ولقد بدأت فعلًا تجاربُ التنسيق بين بعض قصور الثقافة في القاهرة وبين المدارس، كما أجريت الدراسات التمهيدية لتنفيذ مشروع متكامل للتنسيق بين التعليم والثقافة في محافظتَي قنا وكفر الشيخ.
ولكن هذه التجارب ينبغي أن تتحوَّل إلى منهج … منهج يؤمن بأن تربية الفرد من خلال الفنون ضرورةٌ قومية وحضارية، ويحاول الإفادة من تجارب الآخرين.
وإن التجارب الكثيرة التي أشرتُ إلها لَتدل على أن التربية الفنية لا تقف، ولا ينبغي لها أن تقف، عند قاعات الرسم وفي حدود حصصها الضئيلة، وإنما يجب أن تمتد إلى التربية بشمولها الواسع، وأن تسهم مواهبُ التربويِّين الفنيِّين لا في تعليم الفنون والهوايات وإنما في تكوين المواطن حضاريًّا ومدِّه بطاقات النور التي تفتحها آفاق الفنون … وأن تسهم أيضًا في تشكيل المواد التعليمية الأخرى، وفي تطوير المدرسة مبنًى ومعنًى … شكلًا ومحتوًى.