الفن … ومعاركنا
هل يستطيع فنانٌ يعيش بالقيم الحضارية أن ينعزل عن صراع يتهدَّدها؟ ألا يشكِّل هذا الصراع نبضًا وحركة في وجدان الفنان تدفعه لأن يشارك بإبداع ملحمي في التعبير عن هذه اللحظة من التاريخ … في تعميقها وإرسال أبعادها إلى آفاقٍ تولِّد طاقاتٍ لا حدود لها؟!
ذلك هو السؤال الذي يُلح اليوم على الفنان العربي المعاصر … وهذا هو الواجب النبيل الذي يتردَّد في شِعر المقاومة، ونلمح لمعالمه سمتًا وتشكلًا في فن المقاومة … فن يشتعل بشرارة الغضب، ويعبِّر عن إرادة الأحرار، ويسجِّل حركة التاريخ على هذه الأرض.
شهِدنا تجمُّعه في معارض القاهرة؛ حيث تلاقت لوحات فناني فلسطين مع أعمال فناني مصر، وسمِعنا بانطلاقاتٍ له في مواقع من الوطن العربي.
منذ سنوات كانت إرادة البناء تسيطر على أعمال الفنان في هذا المكان، وكانت روح التشييد تشغل وجدانه … ومضت حِقبة كان السد العالي يشكِّل فيها ملامح الفن، فارتسمت على الألواح والتماثيل حركةُ الحياة الزاخرة، وتمجيد معنى العمل، ومقابلات تشكيلية بين قوة الطبيعة العاتية وجهد الإنسان لتطويعها، وأتاح ذلك للفن أبعادًا من الرؤية والتعبير والتطلُّع … وظهر في الفن المصري مَحاور جديدة أبرزها محور الإنسان بين الطبيعة والآلة … عالَم زاخر من التعبير التشكيلي أضاف إلى مضامين فنوننا مضمونًا هامًّا فتح السبيل لإبداع في أساليب التشكيل.
ولكن أحداث المأساة تلاحقت، وغرق الفن في خِضم من الآلام، جلَّله سواد الحزن، ودارت به دوامة الأحداث، وتبدَّى فيه الهلع من كابوس يتهدَّد قيم الإنسانية والحضارة.
كان لا بد أن تكون الألوان آلامًا، وأن يكون الخط أهوالًا أو غضبًا وأن يتحوَّل التكوين إلى دوامةٍ يتمثَّل فيها حَيرة الفكر وانقباض الأزمة وأنين الروح المثخنة بالجراح.
وتخطَّى الفنان أزمتَه، وانتصر على النكسة، ليسجِّل الامتداد التاريخي للحظة إصراره وإرادة صموده، فظهر بعد فن النكسة فنُّ المقاومة والمعركة.
هذا محورٌ من محاور الفن من قديم … في الشرق والغرب، كان الفن موكلًا بأحداث الحياة الكبرى، يحيل اللحظةَ التاريخية المحدَّدة إلى لحظة من لحظات الإنسانية.
وفي الأعمال الفنية الخالدة التي خلَّفها الشرق القديم تخليدٌ لمعارك النصر، وصراع القوى، ولطالما ارتفع صليل الحروب في اللوحات والتماثيل على نغمات السلام.
وفي الغرب كان ضرام المعارك من شواغل الفن … ألم يصور دافيد معاركَ نابليون، أوَلَم يصحب جرو الجيش الفرنسي في غزوته الإيطالية ليصوِّر من قريب حقائقَ الحروب وأحداثها.
وفي إسبانيا كان فرانشسكو جويا أروع معبِّر عن ضرام عصره ومعاركه، ولكنه صوَّر من الحروب مآسيها وكروبها لا جانبها البطولي.
ومن قبلُ صوَّر روبنز في القرن السابع عشر فظائع الحرب … وعبَّر بشاعريته التصويرية عن جوانبها … رحيل الجندي من بيته إلى المعركة … ضرام المعارك وامتزاجها برفقة الموت.
كان تعبير جويا هو تعبيرَ الحِداد الأسود في محفوراته القاتمة … وكان تعبير روبنز تعبيرًا تراجيديًّا ساهمت في تشكيله ألوانه المتألقة ونوره الساطع وتكويناته الزاخرة بالقوة وبالحركة.
وكان ديلاكروا وريث روبنز … فنان الأحداث والأساطير والمعارك … لمست نفسه شجن عصره الحزين وعواطفه، فكان بضرام ألوانه التي اختلط فيها لون الدم بلون الذهب أروع معبِّر عن المعارك والمذابح والأحداث الكبرى.
ودخلت الملاحم فنَّ النحت تحت تأثير المعارك … نراها ماثلة في النحت الفرنسي، وفي النحت الإيطالي، وفي النحت اليوغوسلافي، وفي الإبداع الفني لكل بلد عاش ضرام الحروب وأحداثها.
ليس غريبًا إذن أن تكون المعركة شاغل الفنان في أرضنا، بل الغريب ألا تكون شاغله؛ فكل عصر وكل وسط يطرح قضايا على الفنان، وبوسعه أن يقدِّم إجاباتٍ عنها، إذا كانت موهبته تمضي على مستوى الأحداث.
من أجل هذا أخذ الفن أخيرًا بأحداث المعارك، فجاء كثيرٌ من أعمال التشكيليِّين انعكاسًا مباشرًا لها وتسجيلًا عابرًا لبعض مواقعها … في حين جرَت سيول الأحداث مجرًى آخرَ في بعضٍ منها، اكتسبت معناها التاريخي، ومغزاها العميق واستحالت إلى رموز تخطَّت الأحداث الطارئة إلى الحقائق البعيدة … منها ما يمثِّل وثيقةَ اتهام صارخة لهذا العصر، ومنها ما يعبِّر عن إرادة الصمود التي تنطق بمعاني الإصرار والمقاومة، ومنها ما يسجِّل بالعار مذابحَ القيم الحضارية، وفيها نبضُ جِراح المناضلين، ورعشة الربيع المنتفض في بعض ألوانها طغيان القتامة، وصمت الأصوات الخرساء، وفي بعضها الآخر شروق ينبئ عن أمل النصر … فيها الحدْس والأمل والاحتجاج … الحرب متواجدة فيها، ولكن الصمود أيضًا ماثل … صلب المعاني الكبرى ومعها في الوقت نفسه انتصارها، ومن الجِراح تتفتح الورود.
تلك هي معاني المعركة والصراع وأمل النصر الذي يلوح في فن هذا العصر، قد يتفاوت نبضه ويختلف إيقاعه، ولكنه يمثل التزام الفنان بقضايا عصره ومشاكلته لها.
وتلوح القدس كمنارة سليبة في لوحاتِ بعض الفنانين … أحزانها تفيض على حجارتها، ويصرخ بها صمت الأجراس في كنيسة القيامة، وشحوب المآذن في المسجد الأقصى … ويتجسَّد صلب المسيح كعدوان على كل القيم … على حضارة الإنسان.
تروح الألوان بين شحوب الحزن، ووردية الأمل، ويسعى التكوين في اللوحات ليلاحق المغزى … بعضه يخفق، وبعضه يصيب.
ولكن هل قال الفن التشكيلي كلَّ ما عنده في القدس … وفي المعركة؟
إنَّ آفاقًا جمَّة ما زالت ترتقبنا، وأغوارًا من التعبير ما زالت بعيدةً عن الإدراك، ولقد حان الوقت الذي أصبح فيه من واجب الفنان أن يعطي أحداثَ عصره وعيه الكامل، وأن يهبها عبقريته ليستخلص من الأحداث حقائقَها العميقة.
لا بد من الإحساس بنبضات الأشياء وإيداعها أعماق العمل الفني؛ لا بد من الصدق والحماس والوعي الفلسفي والسياسي بالأحداث، ليخرج العمل الفني محملًا بفكر الإنسان ووجدانه.
لقد وعى فنانٌ عظيم مثل بيكاسو هذه الحقيقةَ حين قال: «لقد أثبتت لي سنوات الاضطهاد أنه يتعيَّن عليَّ ألا أكافح بفني فقط، ولكن بكل كياني … ماذا تظنون في الفنان؟ رجلًا أحمقَ لا يملك سوى عينين إذا كان مصوِّرًا، وأذنين إذا كان موسيقيًّا، وقيثارة في كل طبقات القلب إذا كان شاعرًا! … إنه على العكس من ذلك، كائن سياسي دائم اليقظة أمام أحداث العالم يتشكَّل بها جميعًا، سواء كانت أحداثًا تمزِّق القلب، أو أحداثًا رقيقة أو مثيرة.»
من أجل هذا كان بيكاسو أصدقَ شاهد لعصره، وأبلغ معبِّر عن أحداثه … وما من فنَّان استطاع أن يصوِّر مذبحة القيم الإنسانية واندحار الحرية مثلما صوَّرها هو في لوحة «جرنيكا».
لقد كان انفعال الفنان بالأحداث، وصدقه الخاص لها، مبعثَ هذا الجلاء الفكري والوجداني الذي انبثقت منه رموز جرنيكا … رموز تسمو على الحكاية وترتفع فوق أحداث الزمان والمكان، لتصوِّر عملًا هو في ذاته إدانةٌ للعصر، وصرخة احتجاج تنذر بالخطر الذي يدهم المعاني الإنسانية، ومغزًى يتولَّد من داخل اللوحة ليكثِّف الإحساس بالصدمة المأسوية الكبرى.
نحن لسنا بحاجة إلى عملٍ فني يحاكي الواقع، أو يصوِّر موضوعًا بذاته، بقدرِ ما نحن بحاجة إلى العمل الذي يمدُّنا بالقوة التي تستأثر بكل جوارحنا … ذلك الذي يشارك في أن يشحذ روح الصراع فينا، ويولِّد عندنا أبعادنا وطاقاتٍ لا حدود لها … ويتخطَّى الحدث المباشر ليعبِّر عن المغزى العميق.
يستطيع الفنان التشكيلي بصدقه لأحداث عصره أن يستخلص من المواقع والأشخاص رموزًا لمغزى هذه اللحظة الإنسانية، وفي إمكانه أن يكون مشاركًا في صياغة التاريخ … من موقعه هنا يستطيع أن يبلغ قلبَ الإنسان في كل مكان إذا ما استطاع أن يشحذ فنَّه بالمغزى الإنساني العميق، وأن يحملها إيقاع هذه الأيام من تاريخ البشرية، وأن يحملها من الرموز والدلالات ما يشكِّل صورةً صادقة لمأساة العصر.
تلك مهمة تتطلَّب أعلى المواهب الفنية، وأسمى ما في قدرة الإنسان من ممكنات، ولكن بلوغها ليس بالعسير.