وحي الفنون الشعبية … في الفن التشكيلي
في الفنون الشعبية مَعين لا ينضب للآداب والفنون القومية؛ فهي تبهرها بنسيجٍ يؤكد أصالتها، ويمنحها نبضَها وطابعها الخاص … مرور الزمن لا يذهب بها، وتوافد التيارات لا يطمسها، فعرقها السحري دسَّاس ينساب في وجدان الشعب وتتوارثه الأجيال.
والفنون الشعبية دائمًا صنوٌ للحياة، إبداعها هو جزءٌ من ممارسة الناس لحياتهم لا عزلة ولا انفصال بين الفن والحياة، ومن هنا سرُّ صِدقها الخاص وقدرتها على الاستمرار والإلهام.
لقد كانت هذه الفنون مصدرَ إلهام للأدب والفن في عصورٍ وبلاد مختلفة، ومن فيضها تحقَّق ثراء في التعبير والرؤى، وتشكَّلت للآداب والفنون القومية سماتها.
غير أن ارتباط الفنون القومية بالفنون الشعبية وتأثُّرها بها تختلف أبعاده تبعًا لاختلاف ظروف المكان والزمان، وما يمكن أن تحدِثه عواملُ ومؤثرات معينة في الفن والأدب من اقترابٍ من المنابع الشعبية أو ابتعاد عنها.
ولعل تجربة الإبداع الفني في مصر واستلهامها للفنون الشعبية، من التجارب الحافلة بشواهدَ عدة في هذا المجال.
فمصر بلدٌ كان التشكيل إضافته المميزة إلى الحضارة عبر العصور … وظل التعبير الفني بلغة الشكل من خصائص هذا الشعب ومن لوازمه … عرف مستعمِروه أن الغزو ينبغي أن يصوَّب إلى روحه، ليصيب منه مقتلًا، فجاءت هزيمته الكبرى مع جحافل السلطان سليم الأول بالغةَ الأثر حين حطَّم روحه الفني بأسرِ فنانيه وصُنَّاعه الذين حملتهم مراكبه من مصر إلى القسطنطينية، وحملت معهم روائع فنون كان وجدان الشعب يفيض بها.
هذا هو الغزو الأكبر في تاريخ مصر الذي حطَّم روحها، وأطفأ أنوار الإلهام في شَعبها، واختفت معه فنون مصر الرسمية، ولكنَّ وجدان الشعب عاد بعد حِداد الأحزان يواصل إبداعه على واجهات البيوت، وفي عرائس المولد، وعلى أواني الفخَّار، ومن خلال السلال والنسيج والسجاد.
وعندما جاء مصر غزو بونابرت بهرت هذه الفنون موكبَ علمائه وفنانيه الذين صحبوا حملته، فسجَّلوا فنون الشعب واحتفالاته في تلك الرسوم التي حفِظها كِتاب «وصف مصر»، كما سجَّلها فنانو القرن التاسع عشر من الأجانب الذين بدءوا يفِدون إلى مصر.
وكان محمد ناجي من أوائل الفنانين المصريِّين الذين التفتوا إلى الفنون الشعبية وحياة الشعب … عاد إلى منابعها في القرنة على الضفة المواجهة للأقصر، وعايش طبقة الصنَّاع الفنيِّين … أعجب بفطرتهم في صناعة التماثيل التي كانت تقليدًا وامتدادًا للآثار المصرية القديمة، كما بُهر بقدرة القرويات على تطريز الملابس بوحداتٍ وعناصر زخرفية هي من رواسب التراث في الوجدان الشعبي.
وفي سنة ۱۹۱۹م استقرَّ بحي القلعة … وكانت فترة توافر فيها على دراسة موضوع المحمل ورسم صور لمواكبه، وللفنون الشعبية الموسيقية، كالتختروان والنقرزان التي كانت تحفل بها أحياء القاهرة القديمة.
وعندما أقيم مؤتمر براغ للفنون الشعبية سنة ١٩٢٧م قدَّم ناجي إلى المؤتمر تقريرًا أبرز فيه مظاهرَ الفنون الشعبية في مصر … عرائس الحلوى بأشكالها المختلفة، والرسوم الشعبية التي تصوِّر قصص الفروسية وأساطيرها عند العرب … وفنون الصاغة بطابعها المحلي الخاص، ومواكب العُرس وما يتبدَّى فيها من ذوق الشعب وفنونه، والصور الشعبية الأصيلة للموسيقى المصرية … وقد حفل فن ناجي بدراساتٍ لهذه المظاهر، أهمُّها مئات العجالات التي تركها وسجَّل فيها فنون الشعب.
وفي أوائل العشرينيات بدأ الاهتمام بدراسة الفنون الشعبية، وكانت الجمعية الجغرافية ومتحفها مركزًا هامًّا لهذه الدراسة.
في هذه الفترة بدأت معارض القاهرة الفنية تستقبل أعمالًا استوحاها الفنانون الأجانب والمصريون من مظاهر الفنون والحياة الشعبية.
وكان راغب عياد في هذه الحِقبة من أجرأ الفنانين الذين تمرَّدوا على أساليب الفن وموضوعاته التقليدية، من أجل تصوير واقع صريح، ظهرت فيه الأسواق ومواكب الموالد، ورقص البرجاس، وعازفي الموسيقى في المقاهي، ومشاهد من حواري القاهرة، صوَّرها في واقعية وسخرية تقرِّبنا من سخرية المازني وواقعيته في تصويره.
وطاف يوسف كامل بأحياء القاهرة القديمة فصوَّر بنظرته التأثرية مظاهرَ من الفنون الشعبية في تلك الأحياء.
ووجدت مظاهر الشعب الفنية مصورًا يجلو أعماقها، وينفذ إلى جانبها الدرامي التصويري … هو محمود سعيد، ذلك الفنان الذي اختار جانب السحر في الحياة الشعبية، وما يتبدَّى فيه من براعات فنية في «الزار»، و«الذكر»، و«الرقص» وفي زينة المرأة بنت البلد، ولكنه لم يقف عند تسجيل الظواهر وتصوير الواقع التقريري المألوف، بل قدَّم تعبيرًا ذاتيًّا من خلال تفسير خاص لرؤياه الداخلية.
أفسحت أعمال محمود سعيد منطلقًا أمام الفنانين لسبرِ أغوار الحياة الشعبية، واستنباط جوانب التعبير الفني الشعبي ودلالاته الرمزية وارتباطه بالسحر والأساطير … تلك مرحلة جاءت مع الأربعينيات، وصحبت دعوة حسين يوسف أمين، وجماعة الفن المصري المعاصر إلى تصوير باطن الحياة الشعبية، فشهدنا لوحات حامد ندا تستقي رموزها من الفنون الشعبية وأعماق البيئة، وما يغلِّفها من سحر وغموض طوفنا معه في الدروب النفسية الغامضة للحواري القاهرية، كما طوفنا مع آخرَ هو عبد الهادي الجزار.
كانت هذه رحلة شباب شديد الجسارة يسعى إلى البحث عن شكل جديد ومفهوم جديد يصبُّ فيه تجاربه ورؤاه.
وتبدَّت في هذه اللوحات أطيافٌ من الرسوم الشعبية ونماذجُ من لعب الشعب وفنونه، ولكنها تتَّخذ دلالاتٍ أخرى، وتحفر في النفس البلدية أعماقًا صادفت في الوقت نفسه معالم معادلة لها في الأدب، فكان، «مليم الأكبر» لعادل كامل، و«زقاق المدق» لنجيب محفوظ.
واتَّسعت ظاهرة العكوف على الفنون الشعبية … رأيناها تتمثل في أعمال يوسف سيده في الخمسينيات، وفي لوحات جاذبية سري في الحِقبة نفسها، تصاحبها لوحات زينب عبد الحميد. وها نحن أولاء إزاء خطٍّ آخر يستوحي أساليب الفنان الشعبي ورسومه الحائطية في تصوير أحياء القاهرة وعرائس المولد، وألعاب الأطفال في الحواري القاهرية، ولكنه أسلوبٌ يتأثَّر بنضارة الروح الشعبي وحيوية نهجه في الأداء، ويمزج ذلك كلَّه في صياغة فنية متمكنة.
ويتمثَّل هذا الاستلهام للفنون الشعبية أيضًا في بعض أعمال كمال خليفة وجمال محمود وعبد الوهاب مرسي ومحمد حسنين وصالح رضا، في فترة من إنتاجه الفني، كما يتمثَّل عند رمزي مصطفى ورءوف عبد المجيد وزكريا الزيني، في حين تبدو في أعمال سيد عبد الرسول استيحاء لأسلوب الفنان الشعبي وحسه اللوني الخاص فضلًا عن المضمون الزاخر بالفولكلور المصري.
أمَّا أعمال سعد كامل فتمضي بجهودٍ جادة في استلهام الفنون الشعبية وأحيائها.
كانت هذه حِقبة الخمسينيات وما صاحبها من اهتمام بفنون الشعب وجهود واسعة لإحياء الفولكلور حتى أصبح ذلك الاهتمام من العلامات الثقافية لتلك الحِقبة.
وهنا اتَّسعت الآفاق أمام الفنان التشكيلي، ليخوض في مجالات الفنون الشعبية، ويفيد من جهود الجامعيِّين لها والدارسين للفولكلور، في حين استوعبت لوحات حامد عويس مجموعاتٍ من الحياة الشعبية، وتأثَّرت لوحات رفعت أحمد بتصوير الفولكلور المصري، وأرادت عفت ناجي أن تصوِّر مصر خلال عالم من التمائم يمتزج فيه السحر الأسطوري بعصير شعبي من المجازات المليئة بالألغاز المتوارثة في حياة الشعب. ولمست تحية حليم جانبًا مفعمًا بالشِّعر والسحر في أجواء النوبة.
وكان غرق النوبة محركًا قويًّا لاستلهام الفنون الشعبية وسببًا لمزيد من الوشائج ربطت الفنان بها؛ فلقد استقبلت تلك المنطقة الغنية بألوان من الفنون الشعبية أفواجًا من الفنانين طرقوا أرضها وتمثَّلوا فنونها فأتاحت بعالمها الغريب وجوِّها الشعري مجالات جديدة للتعبير الفني، ودخلت الألوان والتشكيلات النوبية في مجال التعبير الفني للمصوِّر والنحَّات والمعماري.
لقد أصبح الفنان الشعبي أستاذًا يكشف للفنان التشكيلي القومي عن أسرار في أساليب التعبير، ولم يَعُد الأمر استيحاءً لمضامين الفن الشعبي، أو تصويرًا للفولكلور المصري في جوانبه المختلفة، وإنما تحوَّل الوضع إلى استلهامٍ لأساليب الفنون الشعبية، ودراسة لها واقتباس منها.
وما كانت تحدِثه لوحات جمال السجيني من أثرٍ عند تناوله هذا الأسلوب الشعبي، وعلى الأخص في لوحاته عند بداية الخمسينيات، أصبح له عديد من الامتدادات في النحت والتصوير … في لوحات الرزاز ومنحوتاته الفخارية، وفي تماثيل صالح رضا ولوحاته في مرحلته الشعبية، وفي منحوتات أحمد عبد الوهاب قبل التحوُّل الذي طرأ على أسلوبه الفني.
أصبح «الموتيف» الشعبي من لغة العصر التشكيلية. وفي أعماق الفنون الشعبية أغوارٌ لم تُكتشف، ولكنها بمزيد من الحب ومزيد من الفهم تبقى خطًّا مميزًا في مسار الفن التشكيلي يربطه بصدق بأغوار طبيعة الروح المصري وحقيقته.
وهذا الخط التشكيلي النابض بالحياة يقابله في الأدب خطواتٌ جسورة اقتحمت مجالات القصص الشعبي والسِّير الشعبية، وتزوَّدت من الأسرار الفنية للشعراء الشعبيِّين، وتبدَّى ذلك بوضوح في القصص والشِّعر الحديث.
وهناك فنانٌ كبير أخذ بعبقرية المعمار الشعبي وكشف عن دلالته وأسراره، وأقام البرهان على صلاحية هذه العمارة للمعايشة والتطوُّر مع الحفاظ على أصالتها وحساسيتها … فنان أعاد للبيت الريفي إنسانيته فيما قدَّمه من نماذج أصبحت دليلًا على عبقرية حسن فتحي.
وتغترف موسيقانا من هذا النبع الفيَّاض، فتعيد صياغة ألحاننا الشعبية في إطارٍ من مطالب التكتيك الحديث، كما فعل أبو بكر خيرت وعزيز الشوان، وكما يتَّجه الآن جمال عبد الرحيم بفهمٍ علمي عميق إلى إعادة صياغة الموسيقى الشعبية الألحان التي حفظت روح الشعب عبر السنين.
هذا اللقاء الحميم بين فنوننا وآدابنا وبين منابعها الشعبية الأصلية خليقٌ بأن يحفظ لها وهجها وصدقها وروحها الخاص.