الفصل التاسع عشر

خَائِفٌ وَمَجْرُوحٌ وَوَحِيدٌ

أَنْ تَجْرَحَ الْآخَرِينَ دُونَ مُبَرِّرٍ
هَذِهِ وَحْشِيَّةٌ وَعَمَلٌ مُتَهَوِّرٌ.

جَلَسَ بوب وايت الصَّغِيرُ مُنْكَمِشًا تَحْتَ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ الذَّابِلَةِ الَّتِي حَمَلَتْهَا الرِّيَاحُ إِلَى بَابِ الْبَيْتِ الْقَدِيمِ الَّذِي بَنَاهُ الْخُلْدُ جوني فِي حَقْلِ الْقَمْحِ الْخَاصِّ بِالْمُزَارِعِ جونز. فَاضَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ؛ دُمُوعِ الْخَوْفِ وَالْأَلَمِ، حَاوَلَ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى دُمُوعِهِ وَأَنْ يُفَكِّرَ مَا الَّذِي سَيَفْعَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّفْكِيرَ مِنْ شِدَّةِ ارْتِبَاكِهِ. الشُّعُورُ بِالِارْتِبَاكِ يَعْنِي الشُّعُورَ بِالِانْزِعَاجِ لِدَرَجَةِ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ فَهْمَ مَا قَدْ حَدَثَ أَوْ مَا الَّذِي يَحْدُثُ، وَهَذَا بِالضَّبْطِ مَا يَمُرُّ بِهِ بوب وايت الصَّغِيرُ.

فَقَدْ كَانَ يَلْتَقِطُ حُبُوبَ الْإِفْطَارِ وَهُوَ يَمْرَحُ مَعَ أَشِقَّائِهِ فِي صَبَاحِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ أُكْتُوبَرَ الْجَمِيلِ، وَدُونِ إِنْذَارٍ وَجَدَ كَلْبًا ضَخْمًا يُهَدِّدُهُ بِالْإِمْسَاكِ بِهِ، فَلَجَأَ إِلَى الطَّيَرَانِ بِاسْتِخْدَامِ جَنَاحَيْهِ السَّرِيعَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ، وَعِنْدَمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَأَى مَخْلُوقًا ضَخْمًا يَقِفُ عَلَى سَاقَيْنِ يُصَوِّبُ نَحْوَهُ عَصًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَخَفْ؛ فَقَدْ رَأَى طَوَالَ الصَّيْفِ مَخْلُوقَاتٍ تَقِفُ عَلَى سَاقَيْنِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يُلْحِقُوا بِهِ أَيَّ أَذًى. وَبِالطَّبْعِ أَصْبَحَ يَعْتَبِرُهُمْ أَصْدِقَاءَهُ، أَلَمْ يَأْتِ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون لِمُشَاهَدَتِهِ هُوَ وَأَشِقَّائِهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَمْ يُخِفْهُمْ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ لِذَلِكَ لَمْ يَخْشَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ أَيْضًا.

ثُمَّ مِنْ نِهَايَةِ عَصَاهُ الَّتِي كَانَتْ مُصَوَّبَةً نَحْوَهُ انْدَفَعَ نَارٌ وَدُخَانٌ، وَدَوَّى صَوْتٌ مُفْزِعٌ. أَصَابَهُ شَيْءٌ مَا، شَيْءٌ لَسَعَهُ وَأَحْرَقَهُ وَمَزَّقَ جَسَدَهُ الرَّقِيقَ، وَأَحَدُ جَنَاحَيْهِ السَّرِيعَيْنِ الْقَوِيَّيْنِ الصَّغِيرَيْنِ قَدِ أَصْبَحَ بِلَا فَائِدَةٍ؛ لِذَلِكَ سَقَطَ بِقُوَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ. مِنْ ثَمَّ جَرَى بِسُرْعَةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذَا الْمَخْبَأَ، وَكَانَ قَلْبُهُ يَدُقُّ بِقُوَّةٍ وَبِسُرْعَةٍ فِي خَوْفٍ، وَقَدِ انْكَمَشَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَسْفَلَ الْأَوْرَاقِ الْبُنِّيَّةِ اللَّطِيفَةِ، بَيْنَمَا كَانَ الْكَلْبُ الضَّخْمُ وَالْمَخْلُوقُ ذُو السَّاقَيْنِ يَبْحَثَانِ عَنْهُ. وَالْآنَ اسْتَسْلَمَا وَرَحَلَا، عَلَى الْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُهُمَا.

مَا الَّذِي كَانَ يَعْنِيهِ كُلُّ ذَلِكَ؟! لِمَاذَا قَدْ حَدَثَ هَذَا الشَّيْءُ الْمُرِيعُ لَهُ؟! مَا الَّذِي فَعَلَهُ لِيُحَاوِلَ قَتْلَهُ الْمَخْلُوقُ ذُو السَّاقَيْنِ بِوَاسِطَةِ الْعَصَا الْمُرِيعَةِ الَّتِي تُطْلِقُ نِيرَانًا؟! كَانَ الْيَوْمُ جَمِيلًا لِلْغَايَةِ، وَلَكِنْ تَلَاشَى مَا كَانَ يَحْمِلُهُ مِنْ بَهْجَةٍ وَحَلَّ مَحَلَّهَا الْفَزَعُ. مَا الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْآنَ؟ مَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَهُ؟ أَيْنَ أُمُّهُ وَأَبُوهُ وَأَشِقَّاؤُهُ؟ هَلْ وَقَعَ لَهُمْ مَكْرُوهٌ مِثْلَمَا حَدَثَ مَعَهُ؟ هَلْ سَيَرَاهُمْ مَرَّةً أُخْرَى؟

سَمِعَ الْآنَ صَفِيرًا حَزِينًا وَقَلِقًا مِنْ بَعِيدٍ، كَانَ صَفِيرَ وَالِدِهِ بوب وايت؛ كَانَ يُنَادِي عَائِلَتَهُ، وَبَعْدَهَا سَمِعَ صَفِيرًا يُلَبِّي النِّدَاءَ وَعَلِمَ أَنَّ الْآخَرِينَ بِخَيْرٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجْرُؤْ عَلَى أَنْ يُجِيبَ. زَحَفَ إِلَى الْمَدْخَلِ وَاخْتَلَسَ النَّظَرَ، اسْتَطَاعَ رُؤْيَةَ الْكَلْبِ الضَّخْمِ وَالْمَخْلُوقِ الْوَحْشِيِّ ذِي السَّاقَيْنِ وَمَعَهُ الْعَصَا النَّارِيَّةُ وَهُمَا بَعِيدَانِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْحَقْلِ. حَاوَلَ أَنْ يَقْفِزَ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنْ يُحَلِّقَ كَمَا اعْتَادَ أَنْ يَفْعَلَ، لَكِنَّهُ تَخَبَّطَ بِلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ. كَانَ أَحَدُ جَنَاحَيْهِ بِلَا جَدْوَى، وَأَخَذَ يَجُرُّهُ عَلَى الْأَرْضِ، آلَمَهُ لِلْغَايَةِ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ.

أَغْلَقَ عَيْنَيْهِ وَظَلَّ بِلَا حَرَاكٍ لِعِدَّةِ دَقَائِقَ يَلْهَثُ، ثُمَّ خَطَرَتْ عَلَى بَالِهِ فِكْرَةٌ مَلَأَتْهُ بِالْخَوْفِ الشَّدِيدِ؛ إِذَا تَصَادَفَ مُرُورُ الثَّعْلَبِ ريدي أَوِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ أَوِ الصَّقْرِ أحمر الذيل فِي الْجِوَارِ، فَكَيْفَ سَيَهْرُبُ دُونَ اسْتِخْدَامِ جَنَاحَيْهِ؟ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ! إِذَا اسْتَطَاعَ فَقَطْ أَنْ يَصِلَ إِلَى وَالِدَيْهِ، فَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُسَاعِدَاهُ. كَافَحَ لِيَقِفَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَبَدَأَ يَسِيرُ فِي اتِّجَاهِ الصَّفِيرِ الْبَعِيدِ. كَانَ يَسِيرُ بِبُطْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَعِيفًا وَهَزِيلًا وَجَنَاحُهُ الْمُتَدَلِّي يَنْزَلِقُ بَيْنَ الْقَشِّ الْمُدَبَّبِ الَّذِي آلَمَهُ بِشِدَّةٍ حَتَّى بَدَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ الْأَلَمِ. كَثِيرًا مَا انْكَمَشَ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَكَانَ يَلْهَثُ فِي قَلَقٍ وَأَلَمٍ وَخَوْفٍ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي السَّيْرِ مُجَدَّدًا، كَانَ ظَمْآنَ بِشِدَّةٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَاءٌ لِيَشْرَبَهُ، وَفِي النِّهَايَةِ زَحَفَ تَحْتَ السِّيَاجِ؛ وَمِنْ ثَمَّ فَجْأَةً وَقَفَ أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً أَحَدُ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ السَّاقَيْنِ! وَقْتَهَا فَقَدَ بوب وايت الصَّغِيرُ أَيَّ أَمَلٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤