الحب والجنس عند العرب

عُرف عن الرجال العرب قبل الإسلام وبعده أنهم استمتعوا بحرية جنسية واسعة، سواء داخل الزواج عن طريق تعدُّد الزوجات وحرية الطلاق، أو خارج الزواج عن طريق إباحة العلاقات الجنسية مع الجواري والإماء أو ما ملكَت اليمين.

ولم تكن هذه هي صفة العرب وحدهم دون سائر الرجال في المُجتمعات الأخرى؛ فقد أعطى الرجال أنفسهم هذه الحرية الجنسية منذ بدء النظام الأبوي ونشوء الأسرة الأبوية؛ فهي حرية ترتبط بالنظام الأبوي أكثر مما تَرتبط بجغرافيا البلد أو بموقعه من الشرق أو من الغرب أو بجنسية القوم وما إذا كانوا من العرب أو العجم.

لكن الذين كتبوا عن حياة العرب سواء من المُستعمِرين أو المستشرقين تجاهلوا هذه الحقيقة قصدًا أو عن عدم معرفة، وصوَّروا حرية العرب الجنسية كأنما هي الحرية الجنسية الوحيدة فوق الأرض، وكأنما الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي أباح هذه الحرية، وكأنما الرجال العرب هم أول رجال في العالم يُمارسون تعدد الزوجات أو يمارسون الجنس خارج الزواج، مع أن الرجال في كل زمان ومكان منذ نشوء الأسرة الأبوية قد مارسوا الجنس خارج الزواج سرًّا أو علنًا أو الاثنين معًا. وبالرغم من أن المسيحية كانت أكثر الأديان تقييدًا للحرية الجنسية، إلى حد أن العذرية لم تُفرَض على المسيح وأمه مريم العذراء فحسب، ولكنَّها فُرِضَت أيضًا على بعض رجال الكنيسة في فترة من الفترات. وبالرغم من ذلك فإن التاريخ يشهد بأن رجال الكنيسة في هذه الفترة التي حُرِّمَ فيها الزواج عليهم كانوا يمارسون في السر علاقات جنسية متعددة، وأن البغاء في تلك الفترات المُتزمِّتة انتشر انتشارًا كبيرًا، وقد حاول «لوثر» إصلاح حال الكنيسة بعد أن لاحظ أن دخل كنيسة روما يأتي أساسًا من الضرائب على بيوت الدعارة، وقد آلمه أن يرى أن الكنيسة تمدُّ يدها للشيطان وتحصل منه على طعامها، بل وتُنشئ بهذه الإيرادات الملوَّثة الشيطانية قصورها المهيبة المقدَّسة. ولعل أكثر ما آلمه أن الدخل الرئيسي لحصيلة صندوق النذور في الكنائس كان يدخل عن طريق زبائن بيوت الدعارة، الذين كانوا يمرُّون بالكنيسة ويدفعون شيئًا في صندوق النذور قبل ذهابهم إلى المومسات ابتغاء غفران الله مقدَّمًا على الإثم الذي هم في طريقهم إليه.

ومن المعروف في التاريخ أن البغاء لم يُعرَف ولم يُبدَأ إلا ببدء النظام الأبوي؛ فقد اقترن هذا النظام الأبوي منذ نشأته بالبغاء؛ لأنَّ البغاء ليس إلا الحل الوحيد لنظامٍ يَفرض زوجًا واحدًا على المرأة، في حين أنه يمنح الرجل حرية جنسية مع نساء أخريات خلاف زوجته. إن الحل الوحيد لمثل هذا النظام هو خلق فئة من النساء يمارس معهن الرجال حريتهم الجنسية خارج الزواج، وإلا فمع مَن يُمارس الرجال حريتهم؟

وعلى هذا أنشأ النظام الأبوي مؤسسة البغاء كضرورة لاستمراره، وأنشأ أيضًا مع مؤسسة البغاء مؤسسة الأطفال غير الشرعيين، التي كانت تضمُّ الأطفال الناتجين عن علاقات الرجال الجنسية مع المومسات.

وكان على المومسات والأطفال غير الشرعيين أن يكونوا كبش الفداء لهذا النظام الأبوي، وأن يدفعوا من حياتهم وكرامتهم وشرفهم الثمن الذي يَتطلَّبه بقاء النظام واستمراره. أما الرجال أنفسهم أصحاب هذا النظام ومؤسِّسوه فلم يكن نصيبهم من هذا الثمن شيئًا سوى المتعة والحرية الجنسية.

وربما كان الرجال العرب أكثر صدقًا وصراحةً من غيرهم؛ لأنهم لم يُسدِلوا الستائر الكثيفة على حياتهم الجنسية، وعبَّروا عنها في الكثير من أدبهم وشعرهم وقصصهم الشعبية، ولعلَّ أشهر هذه القصص جميعًا هي قصص ألف ليلة وليلة، التي أخذها بعض المستعمرين والمستشرقين كمرجع عن حياة العرب، يستنتجون من بعض أحداثها الجنسية مفاتيح عن شخصية العرب، ويضعون من بعض نوادرها قواعد للحُكم على طبيعة العرب.

ومن المعروف أن قصص ألف ليلة وليلة تحكي عن بعض قطاعات المجتمع العربي منذ أكثر من عشرة قرون، ولا يدري أحد بالضبط ماذا كان حال أوروبا في ذلك الوقت. ويقول التاريخ إنه كان أسوأ حالًا مما كان عليه الشرق أو الغرب، إلا أن بعض الأوروبيِّين أو الغربيين عن قصد أو عن جهل تناسوا هذه الحقيقة حين أخذوا يُقارنون بين الشرق والغرب. بل إن بعضهم قارن بين شخصية العرب في تلك الفترة البعيدة وبين شخصية الغربيِّين في القرن العشرين، أو في العهد الفكتوري، حين كان التزمُّت فوق السطح، والله أعلم بالسرائر. وكان الأجدر بهم أن يُقارنوا بحياة العرب حياة أوروبا في تلك القرون، أو على الأقل في القرون الوسطى، حين كان الكهنة القضاة يلقنون النساء المتَّهمات بالسحر عبارات جنسية مثيرة، ولم يكن أمام هؤلاء النساء (إزاء التعذيب) إلا أن يَعترفن بالجرائم الجنسية التي يُلقِّنها لهنَّ القضاة.

وقد استمرت حتى اليوم تلك الصورة عن العرب، وما مِن فيلم رأيته يصور حياة العرب وأنتجته شركات غربية إلا ويُصوِّر الرجال العرب وقد هرولوا وراء النساء يُغازلونهن، ويُبعثرون أموالهم على شهواتهم الجنسية والسُّكْر والعربدة. بل إن المرأة العربية أيضًا تظهر في مثل هذه الأفلام لعوبًا تتثنى وترقص ببطنها وتتعرَّى، وتُغري الرجل بشتى فنون الإغراء على نهج غانيات ألف ليلة وليلة، جواري هارون الرشيد في ذلك الوقت.

ومما لا شك فيه أن مثل هذه الصور لا تُمثل الرجال أو النساء العرب في عصرنا الحاضر، بل إني أعتقد أنها لا تُمثِّل حياة الرجال والنساء في عهد هارون الرشيد، وربما هي تمثِّل حياة قطاع الملوك وجواريهم في ذلك العهد، وهو قطاعٌ صغيرٌ لا يمثل بحال من الأحوال الأغلبية الساحقة من الشعب العربي في تلك العهود. كما أن فسْق الملوك الجنسي وغير الجنسي معروف في الغرب والشرق والشمال والجنوب على حدٍّ سواء.

وعلى هذا، فإن إطلاق الأحكام على طبيعة الإنسان العربي واعتبار أن الرجال العرب أكثر من غيرهم سعيًا وراء اللذة الجنسية، إنما هي أحكام غير صحيحة، ولم تكن إلا لتشوه صورة الشعوب العربية المُجاهِدة ضد المستعمرين الأجانب، وكان هذا هو الغرض منها.

ولست من الذين يَعتقدون بأن السعي وراء اللذة الجنسية إثم، ولست أنظر إلى الرجال أو النساء الذين يُشبعون حاجتهم الجنسية على أنهم مُنحرفون، بل إني أعتقد أن الانحراف هو تلك النزعة المسيحية والفيكتورية المُتزمِّتة التي جعلت اللذة الجنسية إثمًا وخطيئةً. هذه النزعة التي اشتدت في فترة من الفترات إلى حدِّ اعتبار الولادة أو الطفل المولود مدنَّسًا إلى أن يتم تطهيره بتلك العادة المسيحية الشائعة وهي التعميد، هذه النزعة التي خلَّفت وراءها حتى اليوم قيمًا صارمةً مُتزمِّتةً ابتداءً من الرهبنة إلى العنة إلى العذرية إلى تأثيم الجنس.

على أن هذه القيم في كل العصور والعهود لم تكن تَسري إلى على المحكومين لا الحكام، والنساء لا الرجال، والفقراء لا الأغنياء. وقد ساعدت هذه القيم بقيودها على الجسد والعقل أن تُخضع للحكام والمُستبدِّين والمستعمرين الأغلبية الساحقة من شعوب العالم نساءً ورجالًا. وكما ساعد النظام الأبوي في بدايته على مولد طبقة الأسياد والعبيد، ونشوء الإمبراطوريات والمستعمرات، فإن هذه القيم الصارمة قد ساعدت ضمن عوامل أخرى على إخضاع الشعوب، وكم استُخدمت ولا تزال تُستخدَم حتى اليوم عند اللزوم لمقاوَمة ثورات النساء والطبقات الكادحة شبه المُستعبَدة في نضالهم المستمر ضد النظم الإقطاعية ثم الرأسمالية بأشكالها المتعددة، وما صاحَبَها من استعمار قديم أو جديد.

وقد كشَف لنا التاريخ عن العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والدين، أو الحاجات الاقتصادية والقيم الأخلاقية والجنسية. إن هذه القيم الجنسية الأخلاقية أو الدينية تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، حسب الضرورات الاقتصادية وما يتبعها من ضروريات سياسية.

ولم تختلف المجتمعات الشرقية والعربية عن المجتمعات الغربية في أن الضرورات الاقتصادية هي التي تتحكَّم في القيم الأخلاقية والجنسية، وقد اقتضت الضرورات الاقتصادية في المجتمع العربي حرية جنسية واسعة للرجال من أجل زيادة النسل. والمعروف أن تعدد الزوجات للرجل يَزيد النسل، أما تعدد الأزواج فهو يُقلِّل النسل. وكان المجتمع العربي يعاني من ارتفاع شديد في نسب الوفيات، وعليه أن يُعوِّض هذا بارتفاع في نسب المواليد، كما أن قوة القبائل الاقتصادية والاجتماعية والقتالية كانت تقوم على القوة العددية أساسًا، في مجتمع لم يكن يعرف الآلات والأسلحة الحديثة بعد. وفي تلك المجتمعات الصحراوية الفقيرة نسبيًّا لم يكن الأطفال يُمثِّلون عبئًا ماديًّا، بل كانوا أدوات إنتاج للعمل برعي الإبل والماشية.

وكانت هذه القبائل كثيرة الحروب كشأنها من القبائل الأخرى، وقد اشتدت هذه الحروب بعد ظهور الإسلام ومحاولة الديانات القديمة محاربة أصحاب الدين الجديد، ودفاع أصحاب الدين الجديد عن دينهم، ثم ما تبع ذلك من انتصار المسلمين وبدئهم إنشاء الدولة الإسلامية ونشر الإسلام؛ وذلك بغزو البلاد الأخرى، كل ذلك قد أدى إلى أن يُقتَل في هذه الحروب رجالٌ كثيرون من العرب، وأن يَزيد عدد النساء عن عدد الرجال. بالإضافة إلى تلك الأعداد الكبيرة من أسيرات الحرب اللائي كان يعود بهنَّ الرجال المنتصرون في الغزوات.

وكان الحل الطبيعي في نظر المجتمع في ذلك الوقت هو أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، وأن يَتخذ من أسيرات الحرب ما يشاء من الزوجات والجواري أو السراري كلٌّ حسب مقدرته، ولم تكن مقدرة كل رجل كالآخر بطبيعة الحال. إلا أن مثل هذه الظروف قد دعت الرجال العرب إلى التفاخر بقدراتهم في هذا المجال، وفي جذب النساء وزواجهن، أو عشْقهن فحسب، ودعت أيضًا النساء إلى التباري في جذب الرجال والإيقاع بهم في شرك الحب والجنس.

وكانت المرأة العربية بصفة عامة تميل إلى الإيجابية في الحب والجنس أكثر من السلبية المُستحدَثة؛ بسبب تراثها الأمومي في المجتمع غير البعيد، وبسبب أن الدين الإسلامي لم يَنزع إلى تأثيم الجنس كما فعَلت المسيحية، بل وصفت المتعة الجنسية بأنها أحد زينات الدنيا ومباهجها، وأحد مُتَع الجنة في الآخرة، وقد نتَج عن كل ذلك أن المرأة العربية لم تكن تتردد كثيرًا في إظهار إيجابيتها الجنسية وقدرتها على الإيقاع بالرجال في شركها؛ ولعلها أيضًا كانت تريد أن تؤكِّد أو تُقلِّد أمها حواء في قدرتها الفائقة على الإيقاع بآدم وإسقاطه صريع «فتنتها» من السماء إلى الأرض، وكلمة «الفتنة» بالعربية هنا معناها «جاذبية المرأة الشديدة».

وقد ارتبطت كلمة «المرأة» عند العرب بكلمة «الفتنة». وبلغ من شدة إيجابية المرأة العربية وفتنتها أن ارتكزت الفلسفة الإسلامية على قوة المرأة الجنسية وجاذبيتها وفتنتها، التي يمكن أن تحدث «الفتنة» في المجتمع، وتحطم النظام الذي أوجده الله. وعلى هذا فإنه لا بد حتى تستقيم الحياة وحتى لا يَتهدَّد نظام المجتمع أن يُرضي الرجل رغبات زوجته الجنسية وأن يحافظ على شرفها؛ فإن شرف المرأة هو واجب الرجل، وعلى الرجل أن يُشبع حاجة المرأة الجنسية حتى لا تحدث الفتنة، ويطمئن الرجال إلى فضيلة النساء؛ وفي ذلك يقول الغزالي: «نعم، ينبغي أن يزيد أو ينقص بحسب حاجتها إلى التحصين، فإنَّ تحصينها واجب عليه.»

لكن الإمام الغزالي يعود فيُصرِّح بأن إشباع حاجة المرأة الجنسية أمر صعب، بل شديد الصعوبة: «فذلك لعسر المطالبة والوفاء بها.»

ويكاد يتفق الغزالي هنا مع بعض الآراء الحديثة عن القوة الجنسية لدى المرأة وصعوبة إشباعها، ويَتفق أيضًا مع إدراك الرجل البدائي لهذه القوة وخوفه منها منذ زمن بعيد جِدًّا، وَمِنْ ثَمَّ حرصه الشديد على تحويطها بالقيود والسلاسل.

بل إنه يتفق أيضًا مع الأفكار الجديدة التي تَنقُد الأفكار العلمية القائلة بسلبية المرأة في الجنس، وأنها تَنتظر دائمًا الرجل وتستجيب له فحسب، وتصل إلى اللذة دون أن تقذف. ويقول الغزالي إن المرأة تقذف كالرجل، ولكن على نحوٍ مُختلِف، وإن المرأة في قذفها أبطأ من الرجل. ويقول: «ثُمَّ إذا قضى وطره (الرجل) فليتمهَّل على أهله (زوجته) حتى تقضي هي أيضًا نهمتها، فإن إنزالها ربما يتأخَّر فيهيج شهوتها، ثُمَّ القعود إيذاءٌ لها، والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافُر مهما كان الزوج سابقًا إلى الإنزال، والتوافُق في وقت الإنزال ألذُّ عندها.» ويقول الإمام الغزالي أيضًا: إن الجنين لا يَتكوَّن من الحيوان الذكري وحده، وإنما من اتحاد ماء الرجل وماء المرأة، وإن ماء المرأة هو العنصر الحاسم. ويقول: «الولد لا يُخلَق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعًا، إما من مائه ومائها، وكيفما كان، فماء المرأة ركنٌ في الانعقاد، فيَجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود … وكما أن النطفة في الفقار لا يَتخلَّق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يَمتزج بماء المرأة ودمها، فهذا هو القياس الجلي.»

ومن هنا نُدرك كيف تركَّزت الفلسفة الإسلامية على أفكارٍ أكثر تقدُّمًا من الفلسفات السابقة عليها، وكيف اعترفت بإيجابية المرأة في الجنس وفي عملية الإخصاب، وهي بذلك لم تتفوق على فلسفة أرسطو فحسب (الذي رأى أن الجنين يتكون من الحيوان المنوي الذكري فقط ولا يحتاج إلا إلى تجويف داخلي هو الرحم من أجل أن ينمو)، ولكنها تفوقت أيضًا على النظريات البيولوجية والنفسية (فرويد وتلاميذه) التي وصفت المرأة بالاستجابة السلبية فقط، أما الرجل فهو الفاعل الإيجابي؛ ويُعبِّر فرويد عن هذه السلبية قائلًا: «إن حيوان الذكر المنوي يتحرَّك بنشاط ويبحث عن الأنثى، أمَّا بيضة الأنثى فهي ساكنة لا تتحرك وتنتظر بسلبية.»

إلا أن الإسلام مثله مثل الأديان السابقة عليه، قد ورث الفكرة القديمة التي ألصقت تهمة الشيطنة لحواء وللنساء جميعًا من بعدها؛ ومن الأمثلة الشائعة عند العرب هذه العبارة: «ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما.»

بل لقد صوَّر النبي «محمد» فتنة المرأة وجاذبيتها القوية كأنما هي الشيطان، فقال في أحد أحاديثه: «إن المرأة إذا أقبلت بصورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأت أهله؛ فإن معها مثل الذي معها.»

وقد فسر الغزالي وغيره من فلاسفة الإسلام الحديث النبوي هذا بأن الرسول كان يُشير إلى جاذبية المرأة التي لا تُقاوَم إنما وضَعها الله في روح الرجل، وأنه كان يشير إلى اللذة التي يشعر بها الرجل حين ينظر إلى الشيطان في قوته على الإنسان التي لا تُقاوَم.

وقد سادت هذه الفكرة في الفلسفة الإسلامية بصفة عامة، وأصبحت المرأة والي اللذة التي يَشعر بها إزاء كل ما يتعلق بالمرأة، والمرأة تُشبه الرجل أمام هذه الفتنة. وهي فكرة قديمة لكنها برزت في الفلسفة والثقافة الإسلامية ودُعِّمَت بالأحاديث والحكم.

ومن هنا أصبحت المرأة في نظر العرب خطرًا على الرجل وعلى المجتمع، وكان لا بد من عزلها في البيت بعيدًا عن الرجال وعن المجتمع، أو حماية الرجال منها إذا خرجت من أسوار السجن؛ وذلك بتغطيتها ولفها بالعباءة والحجاب كما تُغطَّى وتُلَف القنابل الخطرة. وقد بلغ تغطية المرأة بالكامل في بعض المجتمعات العربية إلى حد أن ظهور إصبع من أصابع يدها أو قدمها كان كفيلًا بإحداث «الفتنة» في المجتمع، وكلمة «الفتنة» هنا لا تعني «جاذبية المرأة الشديدة»، ولكنها تعني «الفوضى» والاضطراب والشغب وانهيار المجتمع ونظامه.

وعلى هذا يُمكن القول أن الإسلام وضع الفلاسفة المسلمين أمام حقيقتَين متناقضتَين، هما:
  • (١)

    أن الجنس أحد متع الدنيا وزينتها، وضرورة للتناسل، وتقوية المجتمع.

  • (٢)

    أن الاستسلام لهذا الجنس يقود إلى الفتنة والاضطراب في نظام المجتمع.

ولم يكن من حلٍّ أمام هذين القطبين المتنافرَين إلا أن يُوضَع للجنس نظام معين لا يقود إلى الفتنة، وإنما يقود إلى التناسل والمتعة في الحدود التي وضعها الله، وأولها خشية الله، كما يُعبِّر عن ذلك أحد زعماء الفلاسفة المسلمين، وهو الإمام الغزالي الذي يقول:

فالنكاح بسبب دفع غائلة الشهوة مُهمٌّ في الدين لكل ما لا يؤتى عن عجز وعنة، وهم غالب الخلق؛ فإن الشهوة إذا غُلِبَت ولم يُقاومها قوة التقوى جرَّت إلى اقتحام الفواحش، وإليه أشار بقوله عليه السلام عن الله تعالى: «إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.»

لكن الغزالي يعود ويقول إن هذه الرغبة الجنسية وما ينطوي إشباعها على لذة ومتعة هي إحدى متع الجنة التي وعدنا بها الله، ومن أجل دخول الجنة علينا توجيه هذه الطاقة الجنسية لعبادة الله، وفي أعمال الخير والدين؛ ويقول: «ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوى الإرهاق؛ وهي في قضائها من اللذة التي لا توازيها لذة لو دامت، فهي مُنبِّهة على اللذات الموعودة في الجنان؛ إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقًا لا يَنفع، فلو رَغب العَنينُ في لذة الجماع أو الصبي في لذة الملك والسلطنة لم يَنفع الترغيب، وإحدى فوائد لذات الدنيا الرغبة في دوامها في الجنة ليكون باعثًا على عبادة الله. إن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تُحرِّك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام، فيستحث على العبادة المواصلة إليها، فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها بتيسر المواظبة على ما يواصله إلى نعيم الجنان.»

ويَشرح الإمام الغزالي حكمة الله وإرادته من خلق هذه الرغبة الجنسية عند كلٍّ من الرجل والمرأة، وأن هذه الحكمة والإرادة قد تجلَّت على لسان رسول الله حين قال: «تناكحوا تكاثروا.» فكيف وقد صرَّح بالأمر وباح بالسر، فكل مُمتنع عن النكاح مُعرِض عن الحراثة مُضيِّع للبذر، مُعطِّل لما خلق الله من الآلات المُعدة، وجانٍ على الفطرة والحكمة المفهومة من شواهد الخلقة، المكتوبة على هذه الأعضاء بخطٍّ إلهي.

ومن فوائد الزواج بعد فائدة التناسل يقول الغزالي: التحصُّن عن الشيطان وكسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: «من نكح فقد حصَّن نصف دينه، فليتق الله في الشطر الآخر.»

وتعترف الفلسفة الإسلامية بقوة الشهوة الجنسية عند المرأة وعند الرجل أيضًا، وقال فياض بن نجيح: إذا قام ذكَر الرجل (عضو الرجل الذكري) ذهب ثُلثا عقله، وبعضهم يقول ذهب ثلث. وفي نوادر التفسير عن ابن عباس — رضي الله عنهما — «ومن شر غاسق إذا وقب.» قال: قيام الذكَر (العضو الذكري)، وهذه بلية غالبة، وإذا هاجت لا يُقاومها عقل ولا دين، فهي أقوى من آلة الشيطان على بني آدم، أشار عليه السلام بقوله: «وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب منكن.»

وقال عليه السلام: «لا تدخلوا على المغيبات — وهي التي غاب زوجها عنها — فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم.» قلنا: ومنك، قال: «ومني، ولكن الله أعانني عليه فأسلم.»

ويتضح هنا كيف كان العرب يُناقشون مُحَمَّدًا ويعاملونه بالمثل كبشر منهم، فإذا قال لهم: إنَّ الشَّيطان يجري في دمائهم، قالوا له: ويجري في دمائك أيضًا؟ ويَعترف محمد بأنه مثلهم فيما عدا أن الله أعانه على الشيطان فأسلم، «وأسلم» هنا تعود على الشيطان؛ أي إن شيطان محمد كان مسلمًا. وقد أكد «محمد» هذا المعنى حين قال: «فُضِّلت على آدم بخصلَتين، كانت زوجته عونًا له على المعصية، وأزواجي أعوانٌ لي على الطاعة. وكان شيطانه كافرًا وشيطاني مسلم لا يأمر إلا بخير.»

ونرى من ذلك كيف ورث الإسلام النظرة إلى حواء الآثمة التي عصَتِ الإله، وارتباط الجنس بالشيطان وبالمرأة أساسًا. أمَّا الرجل وإن كان ينطوي على شهوة جنسية طاغية أيضًا إلا أنه لا يُمارس الإثم إلا بسبب فتنة المرأة وشيطنتها، وعليه أن يَتزوَّج ليدفع عنه شرور الشيطان وفتنة المرأة.

ويدعو الإسلام الرجال إلى الزواج، وقال محمد رسول المسلمين: «النكاح سُنَّتي، فمَن أحب فطرتي فليستن بسنَّتي.»

ورغم اعتراف الإسلام بالشهوة الجنسية عند كلٍّ من المرأة والرجل، إلا أنه حين وضَع القيود وضعها على المرأة فقط، ونسيَ اعترافه السابق بقوة رغبتها.

ولم ينسَ الإسلام أبدًا أن الرجل له رغبة جنسية قوية، فوضَع له الحلول التي تضمن إشباعه، وأحلَّ له ممارسة الجنس بالكثرة ومع أي عددٍ من النساء يشاء؛ عن طريق تعدد الزوجات ونكاح الإماء الجواري، وإباحة الطلاق له بسهولة.

وقد شهد تاريخ العرب المسلمين هؤلاء الرجال الذين نكحوا من النساء مئاتٍ ومئات، ويقول الغزالي: «ويُقال إن الحسن بن علي كان منكاحًا، حتى نكَح زيادةً على مائتي امرأة، وكان ربما عقد على أربعٍ في وقتٍ واحد، وربما طلَّق أربعًا في وقت واحد، واستبدل بهنَّ، وقد قال عليه الصلاة والسلام للحسن: «أشبهت خَلقي وخُلُقي».»

وقد قال محمد عن نفسه أنه أُعطيَ قوة أربعين رجلًا في الجماع، واعترف الغزالي بأن شهوة الرجل قوية، وأن: «مِن الطباع ما تَغلب عليها الشهوة؛ بحيث لا تُحصِّنه المرأة الواحدة، فيستحب لصاحبها الزيادة على الواحدة إلى الأربع.»

وكان من زهاد الصحابة مَن يُفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل، وربما جامع قبل أن يصلي المغرب، ثُمَّ يَغتسل ويصلي؛ وذلك لتفريغ القلب لعبادة الله وإخراج غدة الشيطان منه.

وقال الغزالي أيضًا: ولما كانت الشهوة أغلب على مزاج العرب، أُبيح نكاح الأمة عند خوف العنت، مع أن فيه إرقاق الولد، وهو نوعُ إهلاك، وهو محرَّم على كل مَن قدر على حرة، ولكن إرقاق الولد أهون من إهلاك الدين.

وكأنما الدين لا يبقى إلا إذا نكَح الرجال ما شاء من النساء على حساب مصلحة الأطفال، ونرى هنا تساهُل الفلسفة الإسلامية مع الرجل لإشباع رغبته الجنسية، وإن كانت على حساب إرقاق الولد، وإن كانت على حساب ظلم البريء الذي لا ذنب له، وإن كانت على حساب المرأة الأمة (العبدة) التي ليست لها حقوق الزوجة وليس لطفلها حقوق الطفل الذي ولدته المرأة الحرة.

والسؤال هنا: لماذا تساهَل الدين مع الرجل كل هذا التساهل؟ لماذا لم يُطالب الدين الرجل بكبح جماح شهوته والاقتصار على زوجة واحدة كما فعَل مع المرأة وفرض عليها زوجًا واحدًا، مع أنه سبَق واعترف بأن المرأة لديها شهوة جنسية مثل الرجل وربما أشد؟ لماذا تساهل الدين مع الرجل إلى حدِّ التضحية بمصلحة الأطفال ومصلحة الأسرة ومصلحة النساء، على حين أنه تشدَّد مع المرأة تشدُّدًا بلَغ القتل إذا ما لاح للمرأة أن تنظر إلى رجل غير زوجها؟

وقد جعَل الإسلام النكاح أو الزواج المؤسسة الوحيدة التي يُمارَس داخلها الجنس بين المرأة والرجل، وأي شيء خارج هذه المؤسسة إثمٌ وفحش، بل إن الصبي أو الرجل الذي لم يؤهله المجتمع للزواج أو الذي لا يَقدر على شراء «أمة» أو عبدة من سوق الجواري، فإنه لا يستطيع أن يصرف طاقته الجنسية بطريقته الخاصة أو بيده بما سُمِّيَ بالعادة السرية أو الاستمناء باليد.

وسُئل ابن عباس عن الاستمناء باليد فقال: أفٍّ وتُف! نكاح الأمة خير منه، وهو خيرٌ من الزنا. فهذا تنبيه على أن العزب المُغتلم مُردَّد بين ثلاثة شرور: أدناها نكاح الأمة، وفيه إرقاق الولد، وأشدُّ منه الاستمناء باليد، وأفحشُها الزنا.

رغم هذه الشرور الثلاثة التي أُبيح منها نكاح الأمة وإرقاق الولد، فقد كانت مؤسسة النكاح للرجال تختلف عن مؤسسة النكاح للنساء، وحقوق الزوج غير حقوق الزوجة.

والحق أنه من الخطأ أن نستخدم اصطلاح حقوق الزوجة؛ لأنَّ الزوجة كإنسانة ليس لها حقوق في ظل بعض نُظُم الزواج إلا إذا كان العبد له حقوق في ظلِّ الرقِّ أو النظام العبودي؛ وهذا الزواج بالنسبة للمرأة كالرق سواءً بسواء.

وقد عبَّر عن ذلك فيلسوف المسلمين الإمام الغزالي حين قال تحت عنوان حقوق الزوج على زوجته: «والقول الشافي فيه أن النكاح نوعٌ مِن الرق؛ فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزوج مطلقًا في كل ما طُلب منها نفسها.»

وقال محمد رسول المسلمين: «أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة».

وحقوق الزوجة في الإسلام هي أن يَعدل زوجها بينها وبين زوجاته الأخريات، هذا العدل الذي يَستحيل تحقيقه كما ذكر القرآن: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وكان النبي محمد نفسه يُفضِّل بعض زوجاته على البعض. وقد أكَّد بعض رجال الدين الإسلامي الذين عارضوا تعدُّد الزوجات قائلين إن شرط التعدُّد مرهون بما يستحيل تحقيقه وهو شرط العدل بين الزوجات؛ لأنَّ الرجل يرغب في الزوجة اللاحقة أكثر من السابقة، وإلا فلم تزوجها؟! وأن العدل المنصوص عليه هو العدل في المحبة أو عدم الميل إلى امرأة أكثر من الأخرى.

ويرى بعض المُفسِّرين أنَّ المقصود بالعدل في الآيتين الأُخريَين: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ هو العدل في القسم والنفقة، وليس العدل في المحبة الباطنة.

والسؤال الذي يُسأل هنا: أيهما أهم للمرأة أو الإنسانة التي تَحترم إنسانيتها وكرامتها؟ العدل في توزيع بعض القروش، أم العدل في المحبة القلبية والمعاملة الإنسانية؟ وهل الزواج مجرَّد أن تحصل الزوجة من زوجها على بضعة قروش، أم الزواج تبادل عميق في المشاعر بين الرجل والمرأة؟!

ولو فرضنا وقوع المستحيل جدلًا وهو العدل بين الزوجات، فهذا الحق يجب ألا يُسمَّى حقًّا؛ لأن أول صفة في الحق هو أن يكون عادلًا ومساويًا بين الأفراد، وتعدُّد الزوجات مع تنفيذ شرط العدل يعني أن نصيب المرأة ربع رجل، على حين أن نصيب الرجل ٤ نساء، أمَّا أن تتساوى النساء في الظلم، فمثل أن يَتساوى العبيد في ظل نظام العبودية الظالم، وهذا لا يُمكن أن يُسمى عدلًا أو حقًّا.

وكما وُجد نظام الرق لصالح السيد ومنفعته ضد صالح العبد، فقد وُجد نظام الزواج الأبوي لصالح الرجل ومنفعته ضد صالح المرأة والأطفال أيضًا.

وعن فوائد الزواج للرجل يقول الإمام الغزالي: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، والتكفُّل بشغل الطبخ والكنس والفرش، وتنظيف الأواني، وتهيئة أسباب المعيشة؛ فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتَعذَّر عليه العيش في منزله وحده؛ إذ لو تكفَّل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته، ولم يَتفرَّغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل عونٌ على الدين بهذه الطريقة، واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش، ولذلك قال سليمان الداراني: الزوجة الصالحة ليست من الدنيا، فإنها تفرغك للآخرة، وإنما تفريغها بتدبير المنزل وبقضاء الشهوة جميعًا.

ونفهم من هذا أن الزوج لا يمكن أن يتفرغ للدين أو العلم إلا إذا كانت له زوجة تتفرغ لأعمال منزله وخدمته وأكله وتنظيف ملابسه. والسؤال هنا هو: والزوجة، كيف تتفرغ الزوجة للدين والعلم؟

ويَتَّضح لنا أن أحدًا لم يُفكِّر في هذا، وكأن المفروض أن الزوجة ليس لها وظيفة في مجال الدين والعلم، وأن وظيفتها الوحيدة في الحياة هي الكنس والطبخ والغسيل وتنظيف الأواني، وغير ذلك من الأعمال التي أطلق عليها الغزالي اسم الشواغل والمُشوِّشات للقلب والمُنغِّصات للعيش، ولو أن الرجل قام بها لضاع وقته وتعذَّر عليه العمل في مجالات العلم والدين.

ونرى هنا كيف تم إلغاء عقل المرأة وطموحها الفكري والعلمي والثقافي من أجل أن يتفرغ الرجل في هذه المجالات، ويَفرض الرجال على المرأة الأعمال المنزلية؛ أي الشواغل والمشوشات والمنغِّصات التي تُبلِّد العقل، ثُمَّ يقولون عنها ناقصة عقل ودين. وتقوم الزوجة بكل هذه الأعمال بغير أجر إلا طعامها، ولا يقتصر الزوج على استغلال عقل المرأة عن طريق إلغائه وعدم تنميته بالعلم والمعرفة، ولا يَقتصر على تسخيرها في أعمال الخدمة بغير أجر، ولكنه استغل المرأة أيضًا في إشباع شهوته الجنسية نظير طعامها أيضًا، وبالقدر الذي يُريده منها، ويدخل ذلك ضمن واجبات الزوجة؛ فالزوجة يجب أن تُلبي رغبة زوجها في أي وقت، فإن عجزت أو مرضت أو غضبت أو امتنعت أو منعها أولياؤها يحقُّ للرجل أن يُطلِّقها وتسقط نفقتها.

ويدخل ضمن واجبات الزوجة طاعة زوجها طاعةً مُطلَقة، لا يحق لها أن تناقشه أو تسأله أو تُخالفه، أمَّا الرجل فإنه لا يطيع زوجته، بل من الخير ألا يُطيع الرجل زوجته.

وقال عمر بن الخطاب: «خالفوا النساء؛ فإن في خلافهنَّ بركة.» وقد قيل: شاوروهن وخالفوهن، وقال عليه السلام: «تعس عبد الزوج.» وقال الحسن: والله ما أصبح يُطيع امرأته فيما تهوى إلا كبَّه الله في النار.

ومن حقوق الزوجة أن يدفع لها الرجل شيئًا من المال (سُمِّيَ المهر) حين يتزوجها، ويدفع لها شيئًا من المال (سُمِّيَ النفقة) حين يُطلِّقها، وعليه أن يكسوها ويُسكنها في منزل، وليس على المرأة أن تشترط مواصفاتٍ لهذا المنزل؛ فقد يكون هذا المنزل مجرد عشة أو كوخ حسب مقدرة الزوج المالية. وليس لها أن تشترط المهر أو النفقة أو نوع طعامها أو ملابسها؛ فكل ذلك يحدده الرجل حسب مقدرته المالية.

وللأم في الإسلام أن تَطلب أجرة على إرضاع طفلها، وعلى الأب أن يؤدي لها الأجرة من ماله إذا لم يكن للطفل مال، وإلا فمِن مال الطفل، ولا تُجبَر الأم على الإرضاع، وإنما تستحق الأم الأجرة إذا طلبتْها، إذا لم توجد امرأة مُتبرِّعة بإرضاعه ورضيَ بها الأب، وإلا فإذا وُجدت امرأة متبرعة رضيَ بها الأب فليس للأم إذا اختارت إرضاع طفلها أن تطلب أجرةً على الإرضاع.

ونرى هنا أن رضا الأب هو العنصر الحاسم، وهو يَستطيع أن يمنع الأم من إرضاع طفلها إذا طلبت أجرًا، ويأتي بمرضعة أخرى أقل أجرًا أو بغير أجر.

وتستحق الأم كذلك أجرًا على حضانة طفلها (الحضانة تعني هنا تارةً إرضاع الطفل وتارةً خدمته وتربيته)، إلا إذا وُجد متبرِّع بالحضانة، فليس لها في هذه الحالة أن تطلب أجرًا إذا أرادت أن تتولى الحضانة بنفسها.

ولا تمثل هذه الحقوق الضئيلة المشروطة بشروط صعبة التحقيق شيئًا يُذكَر، بل إنها تُعطي الرجل حق الاستغناء عن الأم فورًا إذا طلبت أجرًا، وهذا الشرط يَفرض على النساء الإرضاع بغير أجر؛ فالأغلبية الساحقة من النساء بسبب التربية الأبوية الصارمة وتضخيم المجتمع لوظيفة الأمومة وجعلها مقدَّسة لا يستطعن إلا أن يُضحِّين في سبيل أطفالهن بكل شيء حتى حياتهن، فما بال مجرَّد الأجر؟

إن استغلال الزوجة والأم يتمثل في أنها تقوم بعدد من الوظائف الهامة بغير أجر؛ فهي طباخة، وغسالة، وخادمة، ومرضعة، وحاضنة، ومربية، بالإضافة إلى أداة جنس وإمتاع لزوجها، كل ذلك بغير أجر، اللهمَّ إلا طعامها وكساؤها؛ أي لا أبخس أجر يُمكن أن يحصل عليه الأجير.

إن استغلال المرأة يقوم على أن الرجل يَدفع لها أبخس أجر، والرجل هو الذي يُحدِّد ما يدفع، قد يكون قروشًا، وقد يكون طعامًا أو كساءً، لكنه شيء يدفعه الرجل ويُبرِّر به سيادته على المرأة؛ فالرجال قوامون على النساء بما أنفقوا من أموالهم.

فُرضت سيادة الرجل على المرأة بسبب قروش تُدفَع، وفُرِضَ على المرأة زوج واحد حفاظًا على قروش الرجل من أن يَرثها أطفالٌ غير أطفاله؛ فالحفاظ على القروش أو الإرث هو الذي وراء تلك القوانين الصارمة المُتشدِّدة التي تَنشُد إخلاص الزوجة لزوجها حتى لا تختلط الأنساب، وليس من أجل الحب بين الزوجين؛ لأنه لو كان الحب بين الزوجين هو الأساس الذي يقوم عليه الإخلاص الزوجي، لأصبح هذا الإخلاص مطلوبًا من الزوج والزوجة بالتساوي؛ أمَّا أن يُطلب الإخلاص من المرأة فقط، ويُفرَض عليها زوج واحد. أمَّا حين يُباح لزوجها تعدد العلاقات، فإن هذا دليل على أن الإخلاص الزوجي ليس قيمةً أخلاقية إنسانية، ولكنه أحد وسائل القمع الاجتماعي للزوجة حتى لا تَختلط الأنساب، والأنساب هنا هي أنساب الرجال فقط. إن عدم إخلاص الزوجة لزوجها سوف يُحطِّم على الفور النسب الأبوي وما يتبعه من إرث.

ومعنى ذلك أن «الفلوس» هي التي تَفرض الأخلاق، والمفروض في الأديان — وفي الإسلام — أن الأخلاق ترتكز على المبادئ الإنسانية وليس على الفلوس، وقد نص القرآن: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى، وإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.

وقد أدركنا من قبل كيف فَطِن المجتمع إلى الطبيعة البيولوجية والجنسية القوية للمرأة، التي شبَّهها بقوة الشيطان؛ ومن هنا لم يكن في استطاعة المجتمع أن يَفرض إخلاص المرأة وعفَّتها إلا بأن يَحول بينها وبين جميع الرجال إلا زوجها، والرجال المحرَّمين عليها مثل الأب والأخ والعم والخال؛ وهذا هو السبب في نشوء ظاهرة الفصل بين الجنسين، وتحريم اختلاط الرجال بالنساء؛ وذلك بحبس النساء في البيوت. إن تحريم خروج النساء من البيوت يحقق ثلاثة أهداف في وقت واحد، هي:
  • (١)

    يضمن إخلاص المرأة وعفتها لعدم اختلاطها برجل غريب.

  • (٢)

    يُفرِّغ المرأة تمامًا لأعمال البيت وخدمة الرجال والأطفال والمسنين.

  • (٣)

    يحمي الرجال من خطر النساء وفتنتهن القوية المُهلكة، التي قد تذهب بثلثَي عقله، وتمنعه من التفكير في الله والدين والعلم، كما قال بعض الفلاسفة في الإسلام.

ويستعير فلاسفة الإسلام من أسطورة آدم وحواء معظم أفكارها؛ فيرون المرأة مثل حواء، قد انطوت على قوة مُهلكة للرجل وللمجتمع وللدين، وأن الحضارة قد بُنيت على صراعٍ ضد هذه القوة، لتخضعها من أجل حماية الرجال منها وعدم انشغالهم بها عن واجباتهم تجاه الله والمجتمع.

ومن أجل الحفاظ على المجتمع والدين كان لا بد من فصل الجنسَين، وإخضاع النساء بالحديد والنار كما يقولون؛ فالحديد والنار وحدهما هما اللذان يستطيعان أن يُخضعا العبيد لأحكام ظالمة قائمة على الاستغلال، وحال المرأة في الزواج أسوأ من العبيد؛ لأنها تُستغَل جنسيًّا واقتصاديًّا في آنٍ واحد، بالإضافة إلى القهر الأخلاقي والديني والاجتماعي؛ وينال العبيد عن جهدهم بعض الأجر أو الجزاء، لكن الزوجة تعمل في أعمال الخدمة والبيت ورعاية الأطفال والمسنِّين بغير أجر؛ والعبيد قد يُطلق سراحهم السيد، فيُصبحون رجالًا أحرارًا لهم كل حقوق الرجال الأحرار، وأولها أن الرجل له عقل ودين، أمَّا النساء فطالما هن نساء فلا أمل في أن يكون لهنَّ عقل الرجل ودينه.

ولأن الرجل أعقل من المرأة وأحكم، فقد أصبح من حق الرجل وحده (وليس المرأة) أن يكون الحاكم والإمام والمُشرِّع والوالي؛ وأن من أول شرائط الإمامة في الإسلام أو الولاية هي «الذكورة»، ثُمَّ الورع والعلم والكفاية.

ومن كل ما سبَق يُمكن تلخيص الأفكار التي ارتكز عليها بعض فلاسفة الإسلام في علاج مشكلة الجنس والمرأة على النحو الآتي:
  • (١)

    الرجال قوامون على النساء لأنهم يُنفقون من أموالهم، ولأنهم أكثر عقلًا وورعًا وعلمًا ودينًا، وللزوج السيادة، وعلى الزوجة الطاعة.

  • (٢)

    تفريغ طاقات الرجال في العبادة والدين والعلم؛ وذلك عن طريق تفريغ النساء لخدمة الرجال في البيوت من حيث المأكل والمَشرب والمغسل ورعاية الأطفال والمسنِّين.

  • (٣)

    إشباع رغبات الرجال الجنسية حتى يَتفرَّغوا للدين والله والعلم والمُجتمع، ويتم هذا الإشباع عن طريق النكاح، من أجل التناسُل ومن أجل تذوُّق أحد متع الجنة للتسابق إلى دخول الجنة. وللرجال الحق في إشباع رغباتهم بالكامل بأي عدد من الزوجات والإماء الجواري، أمَّا الاستمناء باليد فهو شرٌّ، وأشرُّ منه الزنا.

    إن الذكور الذين لا يجدون من وسيلة لإطفاء الرغبة الجنسية إلا طريق الاستمناء باليد (المراهقون الصغار) أو الزنا (الرجال الفقراء الذين عجزوا عن شراء زوجة أو أمة) هم الذين مُنعوا فقط من حق الإشباع الجنسي (وفُرضت عليهم العفة): وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ «ومن استطاع منكم الباء فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء.»
  • (٤)

    خطر المرأة وفتنتها قوية مُهلكة، ولا بد من حماية الرجال من فتنة النساء؛ وذلك بحبس النساء في البيوت؛ فالرجل معرَّض للهلاك إذا استسلم للنساء، وقد قال إبراهيم بن أدهم: «من تعود أفخاذ النساء لم يَجئ منه شيء.»

  • (٥)

    يُحظر على النساء الخروج من البيت إلى عالم الرجال الخارجي إلا للضرورة القصوى، وفي حالة خروج النساء من البيت يتحتَّم عليهن ألا يُظهرن أي شيء من فتنتهن؛ وذلك بتغطية أجسادهن وحفظ فرجهنَّ وعدم إظهار مفاتنهن أو زينتهن.

ويتضح لنا الآن السبب الحقيقي وراء ذلك الحجاب الذي لم يكن موجودًا في بدء الإسلام، ولا في حياة «محمد»، لكنه شاع في المجتمعات العربية بعد ذلك، ولا زالت بعض البلاد العربية حتى اليوم تُحجِّب نساءها بالكامل كالمملكة العربية السعودية. فالحجاب لم ينشأ لحماية المرأة، وإنما أُنشئ الحجاب من أجل حماية الرجل أساسًا. والمرأة العربية لم تُحبَس في البيت حمايةً لها ولأخلاقها، وإنما هي حُبست حمايةً للرجل ولأخلاق الرجل.

كأنما يقول المجتمع بهذا إن أخلاق الرجل أضعف من أخلاق المرأة، وإن قدرة الرجل على حماية نفسه أقل من قدرة المرأة، وإن الرجل أمام رغبته الجنسية ضعيف وأقل سيطرة عليها من المرأة، وإنه إذا كان هناك مَن هو أقوى من الآخر فلا شك أنه ليس هو الرجل، وهذا رغم ما أشاعه المجتمع عن ضعف المرأة وعدم قدرتها على مُقاوَمة الإغراء.

وترتكز الثقافة العربية الإسلامية في باطنها وليس في ظاهرها، على أن المرأة قوية وليست ضعيفة، وإيجابية وليست سلبية، وفتَّاكة وليست مفتوكًا بها، وأنه إذا كان هناك من هو جدير بالحماية فإنه الرجل بغير شكٍّ.

وقد كانت قوة المرأة هي التي قد أفزعت الرجل البدائي، وهي التي اقتضَت منه أن يَقمعها بجميع الوسائل الدينية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية؛ وكان لا بد لجميع هذه الوسائل أن تعمل معًا بقوة وشدة وصرامة، من أجل إخضاع تلك الطبيعة القوية للمرأة، وهذا أمر منطقي؛ فإن قوة الشيء هي التي تُحدِّد القوة المطلوبة لإخضاعه؛ ولهذا فإن أشد القوانين عنفًا وصرامةً هي تلك المتعلقة بالتحريمات والمحظورات على حياة المرأة الجنسية.

لقد كان القتل والحرق أحيانًا أخفَّ هذه القوانين؛ ومع ذلك فهناك من العلماء من يعتقد أن قوة المرأة البدائية كانت أقوى من هذه القوانين التي وضعها الرجل، وأنها قاومت النظام الأبوي في بدايته الأولى دفاعًا عن طبيعتها وحياتها الحرة السابقة في ظل النظام الأمومي، وأن أحد الأسباب التي عطَّلت مسيرة الحضارة الأبوية الذكرية أكثر من ستة آلاف سنة لم يكن إلا تلك الطبيعة الجنسية القوية للمرأة البدائية.

ونستطيع أن ندرك بعد ذلك السبب الذي يجعل بعض الرجال حتى اليوم يَقتُلون المرأة إذا خرجت عن القوانين الجنسية والأخلاقية المفروضة عليها. وفي صعيد مصر حتى اليوم نسمع عن الأب أو العم أو الأخ الذي قتَل البنت لأن دم العذرية لم يَظهر ليلة الزفاف، أو هذا الزوج الذي يُطلِق الرصاص على زوجته إذا رآها مع رجل آخر.

وقد شجَّع الإسلام الرجال على الزواج، بل جعله واجبًا دينيًّا؛ ومن الأمثلة العربية الشائعة: «الزواج نصف الدين.» كما أباح الإسلام للرجال تعدُّد الزوجات وتعدد العلاقات الجنسية خارج الزواج عن طريق معاشرة الجواري والإماء أو السراري، واقتضت هذه الحرية الجنسية أن يَتفاخر الرجال بعدد النساء اللائي يَملكون سواء كنَّ زوجات أو جاريات أو سراري، وأن يتفاخروا بالتالي بقوتهم الجنسية.

وقد ارتبطت القوة الجنسية عند الرجال العرب بالرجولة والفحولة، وأصبح من العار أن يُعرَف عن الرجل أنه ضعيف جنسيًّا. ولم يكن هناك من أحد قادر على الحكم على الرجل من حيث القوة الجنسية أو ضعفها إلا المرأة بالطبع؛ ومن هنا أيضًا السر في قوة المرأة الخفية، ومحاولة المجتمع حماية الرجال منها؛ وذلك بتعمية عيون النساء، وتغطية وجوههن وحجب عقلهن، بحيث لا يعرفن القويَّ من الضعيف. ومن هنا ارتفاع قيمة العذراء عن الثيِّب في الزواج؛ فالعذراء جاهلة بالرجل والجنس، أمَّا الثيب فقد خبرت الجنس والرجل من قبل، ويمكن لها أن تَكتشف القوي من الضعيف، وهذا هو سبب انخفاض قيمة الأرملة أو المطلقة.

ولم يكن محمد نبي المسلمين يتبع هذه القاعدة الشائعة في زواجه؛ فقد تزج أربعة عشر زوجة كن جميعًا ثيِّبات مُطلَّقات أو أرامل، فيما عدا زوجة واحدة هي عائشة تزوَّجَها بِكرًا.

وقد كان «محمد» أكثر تقدُّمًا وأكثر تحرُّرًا من الرجال الذين خلفوه، بل من كثير من رجال اليوم الذين يُفضِّلون العذراء، بل يبحثون عن دم العذرية ليلة الزفاف، ولا زالت عندنا في ريف مصر تلك العادة الشائعة من فضِّ غشاء بكارة العروس بإصبع «الداية» أو إصبع الزوج، وتلقِّي دم العذرية على «بشكير» أبيض، ثُمَّ عرضه على الناس كدليلٍ مادي واضح على شرف البنت وأسرتها.

وقد اتضح لنا كيف انحدر حال المرأة العربية في الفلسفة والثقافة الإسلامية عن حالها في حياة محمد رسول المسلمين، أو في جوهر الإسلام ذاته، وقد نتَج عن فصل عالم الرجال عن عالم النساء، وحبْس النساء داخل البيوت أن أصبحت تقاليد الشرف والعزة في المجتمعات العربية ترتبط بالعذرية وباحتجاز النساء في البيوت. ومن الأمثلة الشعبية التي شاعت في المجتمع الفلسطيني حتى منتصف القرن العشرين، وذلك المثل: «مرتي عمرها ما تركت البيت إلا محمولة.» أي محمولة إلى قبرها. وقد سمعتُ عن جدتي لأمي أنها لم تخرج إلى الشارع إلا مرتين في كل حياتها، مرة حين خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والمرة الثانية والأخيرة حين خرجت من بيت زوجها إلى قبرها، في المرتين لم يكن يظهر منها للأعين شيء.

وقد بلغ من شدة الفصل بين عالم الرجال وعالم النساء أن المرأة التي كانت تخرج من بيتها كانت تتعَّرض للأذى من الرجال، وقد يكون هذا الأذى مجرَّد نظرات مُتبجِّحة، أو تعليقات جنسية نابية، أو أن تمتد لها يد رجل أو صبي فتُمسكها من ذراعها أو ثديها. وفي بعض الأحيان قد يَقذفها الصِّبية في الحواري بالحجارة ويَجرون خلفها يُردِّدن التهكمات أو الألفاظ الشعبية الجنسية التي تسبُّ الأعضاء الجنسية للمرأة علنًا. ولا زلت أذكر كيف كنتُ أخشى السير بمفردي في بعض أحياء القاهرة وأنا تلميذة في المدرسة الثانوية (١٩٤٣–١٩٤٨)، وكيف كان الصِّبية أحيانًا يقذفونني بالحجارة، أو يقولون لي باللغة العربية العامية بعض أنواع السباب الشائعة مثل: «اللعنة على عضو أمك الجنسي.» أو: «يا ابنة المرأة التي نكحها الرجال.» وفي مجتمعات عربية أخرى تعرَّضت النساء للأذى في الشوارع لمجرد أن أصابع أيديهن كانت ظاهرة للعيان.

وهذا الإيذاء من جانب الرجال للمرأة الخارجة عن الحدود الموضوعية لها وهو البيت، أو المعتدية على عالم الرجال باقتحامه والسير فيه، يدلُّ على أن الرجل لم ينظر إلى المرأة كمخلوق سلبي ضعيف، وإنما نظر إليها كمُعتدية على الرجل وتستحق العقاب لتعود بسرعة إلى حدودها. وتتضمن هذه النظرية الفكرية السابقة بأن المرأة قوية، وقد أراد الرجل أن يحمي نفسه من المرأة بكافة الوسائل، وهو لم يحبسها في البيت فقط، ولكنه أحاط عالمه بالأشواك والموانع والمدافع والاستحكامات، حتى إذا ما خطت المرأة خطوة واحدة نحو هذا العالم الرجولي انفجر في وجهها مدفعٌ رشاش، حتى وإن كان حجارة أو سبابًا تَنهال على أمها وجنسها.

أمَّا عالم النساء فهو في نظر الرجل شيء مُحاط بالألغاز والأسرار الغامضة غموض السحر والشيطنة والعفاريت، هو عالم يَستوجِب من الرجل حين يضطر إلى الدخول إليه أن يستعيذ بالله الذي لا حول ولا قوة إلا به، ويُردد أسماء الله كلها، فيقول الرجل العربي حتى اليوم في ريف مصر حين يدخل إلى بيت فيه نساء: يا حافظ، يا حفيظ، يا لطيف، يا ستار، يا رب، يا ساتر، ويا كريم.

وفي بعض المجتمعات العربية قد يضيف الرجل قائلًا: «دستور» (بمعنى إفساح الطريق)، وهي الكلمة نفسها الشائعة جِدًّا، والتي يقولها الريفي (أو الريفية) لطرد العفاريت أو الجان من المكان.

وارتباط المرأة بالعفاريت والأرواح الشريرة فكرة سادت ولا تزال تسود كثيرًا من أنحاء الشرق والغرب، وهي موروثة عن قصة حواء، والاعتقاد بأنها إيجابية في الشر ولها صلة بالشيطان. وقد أدى ظهور الصوفية في الإسلام إلى منْح النساء فُرَصًا للوصول إلى مراتب الأولياء، لكن نسبة النساء الأولياء إلى الرجال ضئيلة جِدًّا. أمَّا الأرواح الشريرة فتقول إحدى الدراسات العربية أن نسبة الأرواح الأنثوية فيها ٨٠٪.

إن معظم الدلائل في تاريخ الرجال العرب تدلُّ على أن المرأة لم تَخَف من الرجل بقدر ما خاف منها الرجل، إلا أن مأساة الرجل العربي وغير العربي أنه يخاف المرأة ويرغبها في آنٍ واحد، وأستطيع أن أقول إن الرجل العربي قد تغلَّب على خوفه من المرأة أكثر مما فعل الرجل الغربي؛ وقد يرجع ذلك إلى اختلاف ظروف كلٍّ منهما، واعتراف الإسلام بالمتعة الجنسية (على خلاف المسيحية).

وأدى هذا بطبيعة الحال إلى أن تحتل أمور الجنس والحب حيِّزًا أكبر في حياة العرب وأشعارهم وآدابهم وفنونهم، وفي مقابل ذلك انتشرت أيضًا الأقوال المأثورة عن فلاسفة العرب وآدابهم التي تُحذِّر من الإفراط في ملذات الجنس أو الاستسلام لها، وتحذير الرجال من الغرام بالنساء والوقوع في حبهنَّ، ومن العبارات المعروفة التي قالها ابن المقفع:

«اعلم أن مِن أوقَعِ الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها المال، وأضرِّها بالعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلال والوقار؛ الغرام بالنساء.»

وإني أعتقد أن ابن المقفع لم يكن يوجه نصيحته إلا لهؤلاء الرجال الذين يملكون الجلال والوقار والمال الذي يُحذِّرهم من فقدانه بسبب الغرام بالنساء، أمَّا هؤلاء الرجال الذين لم يكونوا يملكون المال أو الوقار أو الجلال — وهم بغير شك الأغلبية الساحقة من الشعب — فلم تكن نصيحة ابن المقفع تفيدهم أو تعنيهم في شيء؛ لأن الرجل منهم بحكم افتقاره إلى المال والجلال والوقار يفتقر إلى الوسائل الأساسية التي يُمكن بها أن يحظى بزوجة شرعية واحدة يدفع مهرها ويُنفق عليها وعلى أولادها، فما بال الأمر بقدرته على أن يصول أو يجول في عالم الغرام بالنساء؟!

وفي المجتمع العربي كغيره من جميع المجتمعات الأبوية الطبقية والقائمة على الفروق الكبيرة بين الطبقات، لم تكن الحرية الجنسية أو حياة الجنس والحب واللهو إلا من نصيب الأقلية القليلة، أمَّا الأغلبية الساحقة من الرجال فلم يكن نصيبهم إلا التلظِّي بالحرمان حسب التقاليد والقوانين، التي تُحرِّم الجنس إلا لمن يستطيع أن يدفع الثمن.

وقد عُرف عن العرب بسبب شظف العيش وصعوبة الحصول على الرزق في مجتمع متخلف، وبسبب استغلال الحكام لهم في الداخل والخارج؛ عُرف عنهم الجلد والصبر وتحمُّل الحرمان، سواء كان حرمانًا من الطعام أو الشراب أو الجنس. إلا أن الشعب العربي كغيره من الشعوب في كل زمان ومكان كان قادرًا دائمًا على تعويض هذا الحرمان بأشياء أخرى، ولعل هذا يفسِّر لنا سبب إقبال الشعب العربي على سماع قصص ألف ليلة وليلة بكل ما فيها من حكايات جنسية مثيرة. إن هذا الإقبال على السماع أو الترديد لم يكن إلا تعويضًا عن الحرمان في الحياة الواقعية، أو هذه الأقاصيص كما يقول صادق العظم:

«تَروي أحداث علاقات غرامية تبدو مثيرة لأنها تتعارض مع العرف الأخلاقي السائد، والشريعة التي تسيطر على حياة المجتمع، ومفاهيم الحلال المعمول بها؛ لذلك نجد الزوجات يخنَّ أزواجهن مع عشاقهن أو عبيدهن، والفتيات العذارى يُلاقين الشباب من عشاقهنَّ سرًّا، والرجال يهجرون زوجاتهم ويسعون إلى عشيقاتهم خفية، وجميعهم يعمل على تحقيق رغباته الجامحة المتدفقة بشتى الأساليب، بما فيها الاحتيال والكذب والتحذير والفرار … إلخ. لا ريب أن طغيان هذه الموضوعات على القصص الشعبي المذكور يَتجاوب مع رغبات عميقة في نفس كل إنسان يعيش حياة المجتمع الرتيبة، وتتوق نفسه لتحقيق التجربة العاطفية العنيفة، ولكن ما العمل حين يكون كل شيء حوله واقفًا له بالمرصاد ليَمنعه من السير على هذه الطريق الوعرة والخطرة، فيَجد في هذه القصص والحكايات بديلًا من التجربة الممنوعة عرفًا وتقليدًا.»

هذه التقاليد، وهذا العرف في المجتمع العربي، كان في حقيقة الأمر يَفرض القيود على الجنس أكثر مما كان يبيحها، وينزع إلى فصل الحب عن الجنس، والروح عن الجسد، تلك النزعة التي توارثتها البشرية عن اليهودية، والفكرة التي سادت عن تأثيم الجنس وجعله ملوثًا أو مدنسًا.

وقد ربط العرب بين الحب والروح، وآمنوا بأن الحب روحيٌّ خالص؛ كحب الله وكحب الوطن وحب الأم، ثُمَّ هبطوا بالجنس والجسد إلى الرغبات الأرضية الحيوانية التي يجب ألا تُلوِّث المشاعر السامية.

وكما نشأ الحب الرومانتيكي في الغرب فقد نشأ الحب العذري عند العرب، وبلغ من شدة الفصل بين الحب والجنس أن العرب فصَّلوا أيضًا بين الحب والزواج، فأصبح من المحرَّم على الرجل الذي يحب امرأة أن يَتزوَّجها. وفي تاريخ العرب كثيرٌ من قصص الحب العذري؛ كقصة «جميل» الذي أحب «بثينة» حُبًّا جارفًا، فأرغمها أهلها على الزواج برجل آخر دميم أعور. وهنا قصة «قيس» الشاعر العربي الشهير الذي ملأ السماء والأرض شعرًا في حب «ليلى»، فمنعوه من الزواج منها وزوَّجوها لرجل آخر. وهذه «عفراء» التي أحبها «عروة بن حزام» ثُمَّ لم يتزوجها.

ويَزخر أدب العرب وأشعارهم بمآسي الحب العذري، ويترنم العرب بالعذاب في الحب، ويتلذذون بآلام الفراق والشوق والحرمان؛ ومِن أقوال ابن حزم: «والحب داء عياء، ومقام مُستلَذ، وعلة مشتهاة، ولا يَرِد سليمها البئر، ولا يتمنَّى عليلها الإفاقة.

وأستلذُّ بلائي فيك يا أملي
ولستُ عنك مدى الأيام أنصرف»

هذه النزعة إلى استعذاب الألم أو «الماسوشية» ليست صفة العرب وحدهم، ولكنها صفة البشرية بأجمعها منذ نشأت الفكرة بفصل الجسد عن الروح وتأثيم الجنس. وقد تميز الإنسان عن الحيوان بكبر حجم مخِّه، وتطوُّره العقلي المستمر للتغلب على مخاطر الأرض وعواصف الطبيعة والكوارث التي يقابلها في حياته. وفي رأيي أن إحدى الكوارث التي واجهت الإنسان في حياته هي تلك الفكرة بفصل الروح عن الجسد وتأثيم الجنس. إن هذه الفكرة في رأيي كان من الممكن لها أن تفتك بالإنسان فتكًا أشد من فتك وحوش الغابة لولا قدرة عقل الإنسان على التطور والتكيُّف المستمر. إن أي حيوان بغير عقل لم يكن أمامه إزاء هذه الفكرة إلا طريقَين اثنين؛ إمَّا الامتناع الكامل عن الجنس الذي يقود إلى انقراض هذا الحيوان من فوق الأرض، وإمَّا ممارسة الجنس ثُمَّ الموت كمدًا وندمًا على اقتراف هذا الذنب الشنيع. وكلا الطريقين يقودان إلى الموت بغير شك.

لكن عقل الإنسان — وهو سلاحه الوحيد في الحياة — استطاع أن يَنتصر على هذه الفكرة بمثل ما انتصر على الأسود والنمور. وإذا عرفنا أن انتصاره على هذه الأسود والنمور لم يكن أبدًا بالمواجهة أو المصارعة الحرة الشجاعة، وإنما بالدهاء والذكاء والهروب من المأزق بالاختفاء فوق الشجر؛ أدركنا أن الإنسان لم يواجه هذه الفكرة بالمصارعة الحرة الشجاعة، وإنما لجأ إلى الهروب والاختفاء طلبًا للحماية والإفلات من المأزق، ولم تكن «الماسوشية» أو استعذاب الألم إلا نوعًا من الحماية، حاول الإنسان أن يعالج بها إحساسه الطاغي بالذنب، وكأنه يقول لنفسه: نعم، أنا مذنب بممارسة الجنس، ولكني أُكفِّر عن ذنبي بهذا الألم الشديد، الذي أتحمله بكل صبر، بل بلذة أيضًا.

وكم أخطأ «فرويد» حين وضع نظريته عن سيكولوجية المرأة، وجعل الماسوشية ركنًا أساسيًّا فيها وجزءًا من الطبيعة التي وُلدت بها؛ فالمرأة ليست هي وحدها الماسوشية، ولكن الرجل أيضًا ماسوشي، وكلاهما ضحايا تلك الفكرة التي فصلت بين الجسد والروح. ولأن تهمة الجسد والجنس ألصقت بالمرأة أكثر من الرجل، فيمكن القول إن إحساس المرأة بالذنب أشد من إحساس الرجل، وبالتالي فإن حاجتها إلى الألم أكثر من حاجة الرجل للتكفير عن هذا الذنب، وقد أوحتْ إليها التوراة بهذا الألم حين قالت لها: «تلدين في الأسى والألم.»

وكان الأجدر بفرويد أن يبحث عن أسباب ماسوشية المرأة في التاريخ والمجتمع، بدلًا من أن ينسبها إلى طبيعتها وتكوينها البيولوجي والنفسي كأنثى.

ومن المهم أن أذكر هنا بعض العلماء العرب قد حاولوا مناهضة هذه الفكرة الفاصلة بين الجسد والروح، وقد حاول بعضهم عقد مصالحة بين الجسد والروح.

أحد هؤلاء العلماء والمُفكرين القدامى هو الشيخ أبو علي الحسن بن علي بن سينا (الشهير بابن سينا)، والذي تُوفِّي سنة ٤٢٧ﻫ، وقد سبق ابن سينا علماء وفلاسفة في نظرته العلمية الشاملة للإنسان، وتقديره للجسد والأحاسيس الحسية. وكان ابن سينا من الأوائل في العالم أجمع الذي طالب بعدم الفصل بين الجسد والنفس، وإعادة الصلة الأصلية الموجودة في الإنسان بين الجنس والحب؛ فالإنسان وحدة واحدة لا تتجزأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤