عمل المرأة داخل البيت

هناك فئة كبيرة من النساء المضطهدات في قانون العمل؛ وهن النساء العاملات داخل البيت، ويُطلَق عليهن «ربات البيوت».

إن عمل المرأة داخل البيت غير منظور وغير مُعترَف به ضمن أعمال الإنتاج في المجتمع، ونحن لا نُطلق على المرأة التي تعمل في البيت اسم «امرأة عاملة»، مع أن عمل المرأة في البيت عمل إنتاجي مائة في المائة، لكنه عمل بغير أجر وبغير مقاييس اقتصادية واجتماعية، في حين أن عمل المرأة داخل البيت يبدأ أول النهار وينتهي في آخره؛ أي إنه بمقاييس العمل يزيد عن أي معدَّل لأي عمل آخر خارج البيت (هذا باستثناء النساء العاطلات في البيوت من الطبقة القادرة على استئجار الخدم والطباخين ومربيات الأطفال، وهنَّ يُمثلن فئة صغيرة من المجتمع العربي بصفة عامة).

وعمل المرأة داخل البيت أيضًا يَشتمل على عدة وظائف وعدة تخصُّصات؛ فهي تقوم بوظيفة الطباخ والخادم والممرضة والمرضعة والغسالة والسفرجية ومربية الأطفال والمُدرِّسة والمرفِّهة النفسية والمواسية والمشجعة والمُشبِعة جنسيًّا والمُنفِّسة عن غضب الزوج أو فشله أو توتُّره أو إحباطه.

تقوم المرأة داخل البيت بجميع هذه الوظائف بغير أجر، وبغير أن يُعترَف بعملها ضمن الأعمال الإنتاجية في المجتمع؛ أي إن المرأة العاملة داخل البيت مُستغَلَّة اقتصاديًّا؛ لأن الإنتاج هو الذي أعطى البشر صفة الإنسانية؛ فالفرق بين الإنسان والحيوان هو الإنتاج، وقد توصَّل الإنسان إلى الإنتاج لأنه هو وحده دون سائر الحيوانات الذي اكتشف الأدوات؛ أي وسائل الإنتاج.

الإنتاج إذن عمل خاص بالإنسان وحده، أمَّا الاستهلاك فتقوم به جميع المخلوقات والكائنات.

إنَّ سلبَ إنتاجية المرأة العاملة في البيت سلب لإنسانيتها، وإن سلب أجرها وفرض هذا العمل عليها بغير أجر إنما هو سلبٌ لحقوقها الاقتصادية الأساسية. كما أن فرض هذا العمل عليها يَحرمها من حرية اختيار عمل آخر، والمفروض أن الإنسان هو الذي يختار عمله، لا أن يُفرَض عليه لأنه وُلد أنثى. إن وظيفة تنظيف البيت يجب ألا تُفرَض على المرأة لمجرَّد أنها أنثى، كما أن وظيفة تنظيف الأحذية يجب ألا تُفرَض على الزنجي لمجرَّد أنه وُلِدَ أسود اللون.

وعلى هذا فإن الاضطهاد الواقع على المرأة العاملة في البيت اضطهاد مُضاعَفٌ ثلاث مرات كالآتي:
  • (١)

    حرمانها من شرف الإنتاج كإنسان، وتجاهُل عملها بمقياس العمل المنتج.

  • (٢)

    حرمانها من الأجر.

  • (٣)

    فرض عمل البيت عليها والخدمة فيه لمجرَّد أنها أنثى.

ويمكن لنا أن نتصور الأموال التي توفرها أي دولة بتسخير النساء في العمل داخل البيت بغير أجر، حين ندرك النفقات الباهظة والصعوبات التي تتطلَّبها هذه الوظائف في المجتمعات الاشتراكية التي حاولت أن تُحرِّر نساءها العاملات خارج البيوت من الأعمال المنزلية وخدمة الأطفال، إلى الحد الذي جعل معظم البلاد الاشتراكية عاجزة عن تحرير الأغلبية من نسائها من هذه الأعمال المنزلية أو رعاية الأطفال. إن الاتحاد السوفيتي مثلًا لم يوفر من دور الحضانة إلا ٢٥٪ فقط مما يُمكن أن يكفي أطفال الأمهات العاملات، وألمانيا الشرقية لم توفر إلا ٣٠٪ فقط.

أمَّا في المجتمعات الرأسمالية مثل الولايات المتحدة فإن هذه النسبة لا تزيد عن ٣٪ رغم ثراء المجتمع النسبي.

لكن المجتمع الرأسمالي قائم أساسًا على الربح ومضاعفة رأس المال، ومثل هذه الخدمات الضرورية للنساء العاملات لا تمثل للمجتمع الرأسمالي ضرورة؛ فهي مصاريف ونفقات باهظة بغير عائد مباشر.

ويتجاهل المجتمع الرأسمالي العائد من وراء عمل النساء في البيوت؛ إذ لو عملت النساء في البيوت لانهار الاقتصاد الرأسمالي، فكيف يعمل العامل إذا لم تكن له امرأة في البيت تُطعمه وتغسل ملابسه وتُربِّي أطفاله؟ وكيف يُدبر المجتمع الرأسمالي الأيدي العاملة الجديدة إذا امتنعت النساء عن ولادة الأطفال أو عن رعايتهم؟!

ومن هنا ذُعر المجتمع الرأسمالي من قوة النساء الصاعدة التي قد تَفرِض على المجتمع شروطًا جديدةً للعمل في البيت، وتُطالب بأجر عن عمل البيت، وعن الحمل والولادة والرضاعة، أو أن تثور النساء ضد كل هذه الوظائف المفروضة وتَرفُض الزواج وتسعى إلى منع الحمل والإجهاض، وهذه كلها حقوق مسلوبة من النساء؛ لأن النساء لم يُمثِّلن في يوم من الأيام قوة ضاغطة على أي نظام أو حكم.

وبرغم أن الاشتراكية سعت إلى تحرير المرأة؛ وذلك بأن تعمل المرأة مثل الرجل وتتقاضى أجرًا مساويًا له عن العمل نفسه، إلا أنَّ الاشتراكية دفعت أعدادًا متزايدة من النساء للعمل دون أن تُحرِّرهن من عمل البيت ورعاية الأطفال إلا بنِسَب صغيرة.

كما أن النظرية الاشتراكية الخاصة بفائض القيمة، لم يُطبِّقها الاشتراكيون على الإنتاج داخل البيت، وإنما طُبقت هذه النظرية على الإنتاج في المجتمع؛ ولذلك تم الكشف عن مدى الربح الذي يجنيه الرأسماليون من وراء العمال، ولم يتمَّ الكشف عن الربح الذي يجنونه من وراء عمل النساء في البيوت.

وفي مجتمعاتنا العربية لا تزال معظم النساء مسخَّرات للعمل داخل البيت بالمجَّان، ودون الاعتراف بدورهن الهام في الاقتصاد والإنتاج. أمَّا النساء العاملات خارج البيت فإنهن يَجمعن بين العملين داخل البيت وخارجه في معظم الأحيان؛ مما يُسبِّب الإرهاق الجسدي والنفسي لمعظم الأمهات العاملات، بالإضافة إلى مشاكل الأطفال الذين تُركوا بغير رعاية الأم أو الأب وبغير رعاية الدولة.

ولا يمكن للنساء العربيات أن يعالجن مشاكلهن وهن أفراد متفرقات، إن الذي عطَّل حصول النساء على حقوقهن هو أنهن لم يكنَّ أبدًا مجموعة قوية متماسكة، ولم يكنْ لهنَّ في أي مجتمع حزب سياسي يُناضل من أجل تحريرهن، ويَفرض شروطهن بالإقناع والمنطق أو الاضطراب والضغط. وبغير القوة الضاغطة الاجتماعية والسياسية لا يمكن لأي مجموعة من البشر أن تنال حقوقها في أي نظام أو حكم.

إن المهام الملحَّة المطلوبة من حزب النساء السياسي مثلًا، هو وضع خريطة جديدة لقوة العمل النسائية المنتجة؛ بحيث تضمُّ الفلاحات وربات البيوت. إن إحصاءاتنا الرسمية تقول إن قوة العمل النسائية هي ٩٫٢٪ فقط، وهي لا تحسب الفلاحات ضمن هؤلاء، وإنما تحسب النساء العاملات بأجر فقط، لكن الفلاحة المصرية مُنتجة مائة في المائة، لكنها محرومة من الأجر ومحرومة أيضًا من شرف الدخول في قوة العمل المنتجة لمجرَّد أنها لا تتقاضى أجرًا.

وإني أتصوَّر أن من المهام المطلوبة أيضًا من حزب النساء السياسي هو صنع مقاييس لعمل المرأة في البيت ضمن أعمال الإنتاج في المجتمع؛ بمعنى آخر: إعطاء صفة الإنتاجية الاقتصادية لربات البيوت؛ وذلك بمنحهنَّ الشرف الإنساني كأعضاء منتجات في المجتمع (وليس مستهلكات فقط)، بالإضافة إلى الحصول على أجرٍ مُساوٍ لما يحصل عليه شخص آخر يقوم بالعمل نفسه.

ومن مهام الحزب أيضًا تحرير النساء المشتغلات خارج البيت من العمل في البيوت؛ وذلك بأن توفر الدولة المطابخ والمغاسل ودور الحضانة، وأن يكون لتوفير هذه الدور والمؤسسات أولوية في ميزانية الدولة؛ لأنَّ عدم توفيرها يُسبِّب المشاكل والأزمات العديدة للنساء والأطفال، بل والرجال أيضًا.

والذين يقولون إنَّ هذه المشاكل يُمكن أن تُحلَّ بعودة المرأة إلى البيت لا يَدرسون الواقع دراسة علمية موضوعية؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لوجدوا أنَّ الذي يدفع الأغلبية الساحقة من النساء العاملات في الحقول والمصانع والمكاتب هو الحاجة الاقتصادية للمجتمع، والحاجة الاقتصادية للأسرة. إن أغلبية نساء مصر مثلًا فلاحات، يَخرُجنَ إلى العمل كل يوم منذ آلاف السنين، ولولا خروج الفلاحة المصرية من دارها لما وجدنا الخبز الذي نأكله ولا الملابس التي نلبسها. إن الفلاحة المصرية عاملة منتجة مائة في المائة، ولا تكاد تستهلك شيئًا، وإن أغلبية النساء العاملات في غير الزراعة عاملات كادحات في المصانع أو الخدمات أو المِهَن الضرورية، وكلهن يعملن من أجل توفير القوت الضروري لأُسرهنَّ وأطفالهن.

وإن نسبة ضئيلة جِدًّا من جملة النساء اللائي يخرجن للعمل لأسباب غير اقتصادية ضرورية، وحتى بالنسبة لهذه الفئة القليلة فإن أسباب العمل ضرورية وإنسانية.

فمن قال: إنَّ الهدف الوحيد من العمل في حياة الإنسان هو الحصول على القوت الضروري؟ إن الإنسان العاطل بغير عمل يفقد مع فقدان العمل إنسانيته وشرفه سواءً بسواء.

وقد كتب أحد كُتَّابنا — وهو توفيق الحكيم — يقول: إنَّ الرَّجُل إنتاج والمرأة استهلاك. وهذا هو التقسيم الاقتصادي في الفكر الرأسمالي، الذي يَحرم المرأة شرف الإنتاج رغم أنها منتجة مائة في المائة؛ فإن أغلبية النساء فلاحات منتجات مائة في المائة، وأغلبية العاملات في المصانع والمكاتب منتجات، والنساء العاملات في البيوت فقط منتجات أيضًا، وإنتاج المرأة العاملة أكثر من إنتاج الرجل؛ لأنها تعمل في وظيفتين: داخل البيت وخارجه. أمَّا المرأة المُستهلِكة فهي لا تُمثِّل إلا نسبة ضئيلة جِدًّا في المجتمع، واستهلاك الرجل في هذه الفئة مثل استهلاك المرأة أو أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤