اللاأخلاقية في القيم الأخلاقية

من الكلمات التي استُخدمت على نحو خاطئ هي كلمة «مومس»، وقد أُطلقت على المرأة التي تدفعها ظروفها الاقتصادية إلى ممارسة الجنس مع الرجل مقابل شيء من المال، واعتُبرت هذه المرأة فاقدة للشرف والأخلاق، مع أنها ليست إلا ضحية مجتمع ذكوري طبقي مزدوج القيم والأخلاق، ولم يدفعها إلى هذا العمل إلا المجتمع نفسه والرجال أنفسهم والفقر نفسه.

وفي رأيي أن الآباء الذين يَبيعون بناتهم بالمهر الغالي تحت ستار عقد الزواج هم الذين يجب أن يُطلَق عليهم اسم المومس؛ لأنهم يَنتهكون الشرف الحقيقي والأخلاق الحقيقية حين يُتاجرون ببناتهم، ويَفرضون عليهنَّ أزواجًا بغير رغبتهن لمجرد قبض المهر أو الهدايا، وهم أيضًا لا يتبعون الدين؛ لأن الإسلام يقول: إنَّ أفضل الرجال أتقاهم وليس أكثرهم مالًا؛ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، والحديث المعروف يقول: «إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، إن لا تفعلوا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.»

والشرف في جوهره ضد الإجبار، وضد العبودية، وضد المتاجرة في النفوس، ساء كانوا عبيدًا أو نساءً أو أطفالًا.

الشرف في جوهره ضد تحويل الإنسان إلى أداة أو شيء أو بضاعة؛ وعلى هذا فإن قانون الزواج في مجتمعنا الأبوي الطبقي ضد الشرف الحقيقي؛ لأنه حوَّل المرأة إلى بضاعة تُشترى بالمهر وتُباع بالنفقة، وأحيانًا تُباع بلا شيء على الإطلاق، كما يتضح من المادة ٦٧ في قانون الزواج في مجتمعنا المصري التي تنص على الآتي: «لا تجب النفقة للزوجة إذا امتنعَت مختارة عن تسليم نفسها، كما لا تستحق إذا حُبست ولو بغير حق، أو اعتُقلت، أو غُصبت، أو ارتدَّت، أو منعها أولياؤها، أو كانت في حالة لا يمكن الانتفاع بها كزوجة.»

إن وضع الزوجة هنا أقل من البضاعة؛ لأنَّ البضاعة مهما حدث يظلُّ لها ثمن، بخس أو غير بخس، إلا أنه ثمن، أمَّا الزوجة التي تُحبَس ولو بغير حق أو يغتصبها رجل أو تمرض فإن من حق زوجها أن يُطلِّقها وتسقط نفقتها.

وحينما تُطلَّق المرأة بسبب أو بغير سبب، فإن ثمنها يَنخفض في سوق الزواج كأي سلعة ينخفض ثمنها إذا استُعملت من قبل.

لقد أهدر المجتمع الأبوي الطبقي إنسانية الزوجة، وحوَّلها إلى سلعة، بل إلى أبخس السلع ثمنًا؛ فالخادمة التي تؤجَّر لتنظيف البيت أو رعاية الأطفال تنال عن عملها أجرًا، أمَّا الزوجة فلا تتقاضى أجرًا. والمومس التي تعطي الرجل اللذة الجنسية تتقاضى أجرًا، أمَّا الزوجة فلا تأخذ شيئًا.

ويخدع المجتمع الزوجة؛ وذلك بأن يُوهمها أنها إنما تعمل في بيتها وأسرتها وأطفالها، ويحيط هذه الأعمال بهالة من الكلمات الجوفاء؛ فالبيت مملكة المرأة، والأم المثالية هي التي تضحي من أجل أطفالها، والزوجة المثالية هي التي تُطيع زوجها وتخدمه، وهذا كله خداع؛ لأن البيت والأطفال والأسرة ملك للرجل لا للمرأة، وعمل «الخدمة» من كنس وطبخ وغسيل، وهي ليست أعمال مُحترَمة في المجتمع بدليل أن المجتمع لا يَحترم من يقومون بها، ولا يَجزيهم عليها إلا أقل الأجور وأبخسها؛ إنها أحط الأعمال في سلم الحياة الاجتماعية، وهي أعمال لا تحتاج إلى ذكاء أو مهارة، وهي أعمال قَذِرة تغوص فيها اليدان طوال الوقت في الماء والبصل والثوم والقذارة.

إنَّ المجتمع يستغل الزوجة بأكثر مما يستغل الأجير أو العبد، نظير أنه يَمنحها شرف الزواج برجل، وهو شرفٌ وهمي لأنه قائم على الاستغلال وقائم على التجارة، وقائم على تحويل النساء في سوق الزواج إلى بضاعة، ولسوف ترفض النساء الزواج إذا ما فتحت عيونهن على هذه الحقيقة؛ لأن الشرف الإنساني يشترط في أول شروطه أن يكون الإنسان إنسانًا وليس بضاعةً تُشترى وتُباع بأي ثمن.

إن المجتمع الأبوي الإقطاعي أو الرأسمالي الذي يُحوِّل الإنسان إلى بضاعة مجتمع غير إنساني وغير شريف، وإن الإنسان الذي يقبل على نفسه أن يكون بضاعة إنما هو إنسان فقد إنسانيته وفقد شرفه.

لكن المجتمع الاستغلالي يتسم دائمًا بالقيم المعكوسة؛ فالشرف الاجتماعي السائد في حقيقته فقدان لأهم مقومات الشرف، والعدالة التي يتشدق بها المجتمع ليست في حقيقتها إلا أشد أنواع الظلم، والحب الذي يَترنَّم به ليس إلا قمة الاستغلال والامتلاك.

إن هذه القيم المعكوسة هي النتيجة الطبيعية لمجتمع قائم على الربح، ربح الأقلية التي تملك، واستغلال الأكثرية التي لا تملك إلا عرقها وجسدها، تبيعه بأبخس ثمن في سوق العمل أو سوق الزواج أو سوق البغاء.

وبرغم أن قوانين السوق جميعًا غير أخلاقية لأنَّ هدفها القرش وليس الإنسان، إلا أن سوق البغاء وحده هو الذي حرَّمه المجتمع من الأخلاق ومن الشرف.

وهو لم يَحرم السوق كله من الأخلاق والشرف، لقد حرَم النساء فقط، أمَّا الرجال فإنهم يُمارسون الجنس في سوق البغاء دون أن يَحرمهم المجتمع من الشرف دون أن يعاقبهم القانون، ودون أن يُطلق عليهم كلمة «مومس»؛ أمَّا النساء فهن وحدهن اللاتي يقع عليهن العقاب، والعار يمتد ليشمل الأطفال الذين يولدون في سوق البغاء أو في سوق العشق، ويُطلَق عليهم الأطفال غير الشرعيين أو اللقطاء.

إن المجتمعات التي تُفرق بين الأطفال وتعاقبهم على ما حدَث قبل ولادتهم إنما هي مجتمعات بلَغت أشد أنواع الظلم والاستغلال؛ لأنها تصدر حكمًا على أبرياء صغار لم يَشتركوا في الفعل الذي جاء بهم إلى الحياة.

وهذا أكبر دليل على أن مجتمعنا الذي نعيش فيه لا يُمارس شيئًا من العدالة التي يتشدَّق بها، وإنما هي كلها كلمات جوفاء لا يُراد بها إلا التغطية على الظلم والاستغلال الواقع في الحقيقة. إن مؤسسة الأطفال غير الشرعيِّين ليست إلا مظهرًا من مظاهر التناقُض الأخلاقي والإنساني للمجتمع الذكوري الطبقي، لكنَّ شهوة السلطة والمال تُفقد الملاك والحكام المنطق، وتُصبح قوانينهم متناقضة، وتَنتج عنها ظواهر غير إنسانية وقيم عكسية؛ ففي الوقت الذي يدَّعي فيه الأب الإنسانية والأبوة والحب في علاقته بأطفاله، تجد هذا الأب نفسه يقسو ويتنكر لأطفاله، لماذا؟ لأنَّ أطفاله من النوع الأول، وُلدوا من المرأة الأولى التي اختارها الرجل للزواج، أمَّا أطفاله من النوع الثاني فقد وُلدوا من المرأة الثانية التي اختارها للعشق فقط، وأن الرجل في كلا الحالتين (الزواج أو العشق فقط) هو الذي يُحدد العلاقة، زواجًا أم عشقًا فقط.

وتَبرز في التاريخ ظاهرة الأطفال غير الشرعيِّين كوصمة عار في جبين هذه الحضارة الذكورية الطبقية، وقد اضطرَّت بعض المجتمعات الرأسمالية المتقدمة أن تعالج هذه الظاهرة بفكرة «التبنِّي» التي شاعت في بعض البلاد الغربية، كما أن استغلال النساء العاملات بأجر قد فَرض على بعض المجتمعات الصناعية المتقدمة أن تُعطي للأم الحق في منح اسمها لطفلها، وأصبح اسم الأم يَتمتع بالشرف والشرعية التي يتمتع بها اسم الأب.

لكن المجتمع الإسلامي يُحرم التبنِّي، وفي الإسلام لا تثبت البنوة ولا أية علاقة نسبية أخرى عن طريق التبني، وأوجب الإسلام أن يُدعى كل إنسان إلى أبيه تفسيرًا لهذه الآية: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ.

إلا أنَّ تونس سبقت البلاد الإسلامية في اتخاذ نظام التبنِّي، ولا تزال قوانين الأسرة في البلاد العربية الأخرى تحرِّم التبني.

ومن كثرة الأطفال غير الشرعيِّين بسبب حرية الرجال الجنسية، فقد شملت قوانين النسب والبنوة عددًا كبيرًا من هؤلاء الأطفال غير الشرعيِّين، ضاربةً عرض الحائط بقوانين الزواج. بل المنطق والعدل نفسه أن بنوة الطفل تثبت لأبيه، إمَّا (١) نتيجةً لاتصال الرجل بالمرأة بعقد شرعي صحيح. أو (٢) «بوطء شبهة». أو (٣) نتيجة للإقرار. أو (٤) نتيجة لشهادة العدلين.
  • (١)
    العقد الشرعي الصحيح: إذا وطئ الرجل زوجته (أي اتصل بها جنسيًّا)، وأنزل المني (السائل المنوي) بحيث يمكن أن يكون قد دخل في الرحم منه شيء، (أو خلا بها خلوة صحيحة عند أهل السنة)، ومضت أقل مدة الحمل (وهي ستة أشهر من حين الوطء)، ولم تتجاوَز المرأة أقصى مدة الحمل (وهي سنة من حين الوطء، وسنتان عند الأحناف، وأربع سنوات عند الشافعية والمالكية).

    وقد حاول المجتمع الإسلامي الإقلال بقدر الإمكان من عدد الأطفال غير الشرعيِّين؛ وذلك عن طريق تلك الفكرة التي عُرفت باسم الطفل «النائم»، أو الشعار الذي أطلقه الإسلام على الطفل ابن الفِراش اتِّباعًا للحديث النبوي: «الولد للفراش». وفسَّر البعض هذا الحديث على أنه رجوع بنسب الولد إلى الأب بعد أن كان يُنسَب إلى الأم، وفسَّره البعض الآخر على أنَّ أي طفل تلده الزوجة هو ابن زوجها. وقال الإمام أبو حنيفة: إن عقد الزواج وحده بصرف النظر عن مدته سبب في ثبوت نسب الطفل للزوج؛ وعلى هذا فقد كان الطفل الذي تلده الزوجة رغم غياب زوجها عنها أربع سنوات يُعتبَر ابنًا شرعيًّا لهذا الزوج.

    كما أن الطفل الذي تلده الزوجة التي لم يَمض على زواجها ثلاثة أو أربع شهور يُعتبَر ابنًا شرعيًّا لزوجها، ويُسَمَّى ذلك الطفل «بالطفل النائم».

    إلا أن المعلومات الطبية الحديثة عن مدة الحمل، وعدة الشهور التي يُمكن أن يحياها الجنين في رحم أمه، بالإضافة إلى زيادة عدد الأطفال الشرعيين وغير الشرعيين، قد دعا المجتمع العربي الإسلامي إلى نقد فكرة الطفل النائم.

    وكان المجتمع المصري حتى سنة ١٩٢٩ يتبع الفكرة القائمة على رأي الإمام أبي حنيفة من حيث أنَّ عقد الزواج وحده يكفي لثبوت نسب الطفل للزوج، ثُمَّ أخذ برأي أحد بن حنبل والشافعي ومالك؛ الذين يقولون إن الدخلة أو الدخول لا بد أن يكون مُمكنًا ليَثبُت النسب. وقد قضت معظم البلاد العربية على فكرة الطفل النائم في قوانينها المتطورة الحديثة.

  • (٢)
    وطء الشبهة: إذا وطئ الرجل امرأةً بدون عقد زواج صحيح أو امرأة محرَّمة عليه، جاهلًا ذلك مُعتقدًا صحة العقد عليها، وأحبلها، فلا يتحقَّق في هذه الحالات عنوان الزنا بسبب الجهل، ويلحق الولد به شرعًا، وتَثبُت أبوته للولد (مفهوم طبعًا أن الرجل هو الذي يَعترف بالطفل، ويعترف بصلته بأمه)، وترى هنا كيف يتساهل القانون مع الرجل بالنسبة للحرية الجنسية؛ فهو يستطيع أن يتصل جنسيًّا بأية امرأة غير زوجته ولا يُعتبَر ذلك زنا، بل ويُنسب طفله إليه أيضًا لأن هذا الرجل تصور أن هذه المرأة هي زوجته، ولا أدري هل هذا مُمكن؟ هل يمكن أن يجهل الرجل مع من يمارس الجنس؟ زوجته أم امرأة أخرى؟

    وإذا كان الرجل قد بلَغ من الغفلة إلى حدِّ أنه لا يعرف زوجته من امرأة أخرى، أفلا يمكن أن تبلغ المرأة من الغفلة «أحيانًا» فلا تَعرف زوجها من رجل آخر؟ فهل يُباح للمرأة مثل هذه الغفلة، خاصةً وأنها أقل من الرجل عقلًا ودينًا كما أُشيع؟ أم أن الرجل أكثر حكمةً وبالتالي أقل غفلة؟

    وإذا اتبعنا هذا المنطق — منطق الغفلة — بحيث لا يُعتبَر زنا كلُّ من مارس الجنس خارج الزواج، لمجرَّد أن الأمر اختلط عليه، فلم يَعرف الزوجة من غير الزوجة، فعلى من إذن يَسري قانون الزنا؟

    ومن هنا يَتضح لنا غياب المنطق والعدالة في مثل هذه القوانين التي تعالج تلك الازدواجية الأخلاقية القائمة على منْح الرجل حرية جنسية خارج الزواج، وهذا القانون — قانون البنوة لوطء الشبهة — ليس إلا دليلًا على ذلك.

    ولا شك أن هذا القانون يعالج بعض الشيء مشكلة الأطفال غير الشرعيِّين، لكنه علاج قاصر لمشكلة كبيرة لا يُمكن أن يكون لها حلٌّ أو علاج طالما أن من حق الرجل أن يمارس الجنس مع أربع زوجات، بالإضافة إلى الإماء والجواري، وبالإضافة إلى أية امرأة أخرى يظن أنها زوجته أو يجهل أنها زوجته أو يجهل أنها محرَّمة عليه!

  • (٣)
    الإقرار: يَثبت النسب بالإقرار، فإذا أقر الرجل ببنوة طفل نُفِّذ إقراره، بشرط ألا يكون هناك رجل آخر يُنازعه هذه الأبوة، ولا يشترط تصديق الطفل إذا كان صغيرًا، أمَّا إذا كان كبيرًا فيُشترط تصديقه.

    وبهذا يُصبح من حق الرجل غير المتزوِّج أن يكون له أطفال شرعيون، أمَّا المرأة غير المتزوجة فأطفالها غير شرعيِّين، إلا إذا لاح للرجل الذي مارس معها الجنس أن يُقر بأن الطفل ابنه، بشرط ألا يكون هناك رجل آخر يُنازعه ملكية هذا الطفل!

  • (٤)
    شهادة العدلين: يَثبت النسب عمومًا — ومنه البنوة — بشهادة عدلَين، فلو شهد أخوان للميت بابنه له (وكانا عدلَين) ثبتت بنوته، والعدلان هنا رجلان من أسرة الرجل، أمَّا الأم التي ولدت الطفل والتي هي أدرى منهما بأبي طفلها فإن نسَب البنوة لا يَثبت بشهادتها!

    وكما يُعطى للرجل حقُّ إقرار بنوة الطفل فيصبح ابنًا شرعيًّا كذلك يُعطى له حق نفي نسب الطفل إذا ساورته الشكوك بأن الطفل ليس منه، وإذا علم الرجل أن الطفل ليس منه وجب عليه شرعًا أن يَنفيَه، ولا يجوز له شرعًا أن يُقرَّ بنوة طفل يَعتقد بعدم بنوته له.

    ويُمكن للزوج أن يَنفي نسب الطفل إليه في هاتين الحالتين:
    • (أ)

      أن يولد الطفل لأقل من ستة أشهر من حين الوطء، أو لأكثر من أقصى مدة الحمل (أقصى مدة الحمل اعتُبرت سنة واحدة).

    • (ب)

      اللعان: إذا أنكر الزوج الطفل المولود الذي لم ينقص حمله عن أدنى مدة الحمل، ولم يزد حمله على أقصى مدة الحمل، وكان العقد دائمًا، ففي هذه الحالة لا ينتفي عنه الطفل إلا باللعان، وكيفية اللعان هي أن يَرفع الزوج دعوى عند الحاكم الشرعي يَنفي بها بُنوَّة الطفل، فيأمره الحاكم الشرعي بالشهادة، فيشهد أربع مرات بقوله: «أشهد بالله أني لمن الصادقين في أن الولد ليس مني.» ثُمَّ يقول بعد تكرار الشهادة السابقة: «لعنة الله عليَّ إذا كنتُ من الكاذبين فيما رميتُ به زوجتي من نفي الولد.» وبعد فراغ الزوج تشهد الزوجة — بعد أن يأمرها الحاكم — فتقول أربع مرات: «أشهد بالله أن زوجي من الكاذبين فيما رماني به من الزنا.» ثُمَّ تقول بعد تكرار الشهادة السابقة: «وغضبُ الله عليَّ إن كان من الصادقين.»

      ويَترتَّب على اللعان أحكامٌ منها نفي الولد عن الرجل؛ ومنها التحريم المؤبد بين الرجل والمرأة.

      ويَتضح لنا من هذا القانون أن الزوج أيضًا (وليس الرجل غير المتزوج فقط) يستطيع ألا يعترف بشرعية طفله لمجرَّد استخدامه لكلمات اللعان، رغم صحة عقد الزواج وصحة مدة الحمل، ورغم أن زوجته تقسم بأنه هو الأب.

      لكن الحاكم الذي يحكم بينهما رجل وليس امرأة، النظام السائد نظام رجولي أبوي، فمن ذا الذي يُصدِّق امرأة ويُكذِّب رجلًا؟ لأن الرجل في حكم الشرع والقانون أكثر ميلًا إلى الصدق والحق والعقل، والمرأة أكثر ميلًا إلى الكذب والضلال والغفلة.

      لكن الغفلة كانت من نصيب الرجل حينما كان الأمر يتعلق بحقه في الاتصال الجنسي بامرأة غير زوجته، أمَّا الغفلة فهي الآن من نصيب المرأة؛ لأن الأمر الآن يتعلق بحق الرجل المطلق في نسب طفله إليه أو نفي هذا النسب داخل الزواج أو خارجه.

      إنَّ اللعان يُعطي الزوج الحق في نفي نسب طفله إليه لمجرَّد أن الشك ساوره في إخلاص زوجته له، وإن قانون النسب والأبوة يُعطي الرجل الحق في نكران نسب طفله إليه لمجرد أنه لم يوقع عقد زواج مع الأم.

ولنا أن نتخيل (في ظلِّ نظام يَمنح حرية جنسية غير محدودة) عدد الأطفال الذين يَروحون ضحية رجال مارسوا الجنس مع نساء دون أن يُوقِّعوا معهن عقود الزواج، ولنا أن نتخيل عدد الأطفال الذين يَروحون ضحية رجال ساوَرهم الشك في أبوتهم.

إن الأب لا يلد أطفاله؛ ولذلك لا يُمكن لأي أبٍ (مهما وثق) أن يُقسم أن طفله منه هو وليس من رجل آخر، أمَّا الأمومة فهي الشيء الوحيد المؤكَّد؛ لأن الأم هي التي تلد الطفل من رحمها هي وليس من رحم امرأة أخرى.

ومنذ التاريخ القديم، منذ حل النظام الأبوي محل النظام الأمومي، لم تكن هناك مشكلة أكثر من مشكلة النسب والأبوة لارتباطهما بالميراث والنفقة، وكلها أسباب اقتصادية لا علاقة لها بالعدالة أو الحق أو الأخلاق؛ فالعدالة والحق والإخلاص تقضي ألا يُعاقَب الطفل لأن أباه رجل مُستهتر، والعدالة والحق والأخلاق تقضي أول ما تقضي أن يُطالَب الرجل بالإخلاص لزوجته بمثل ما تُطالب المرأة بالإخلاص لزوجها.

ولا تدلُّ قوانين ثبوت أو عدم ثبوت الطفل لأبيه في الماضي أو الحاضر إلا على المحاولات اليائسة التي يُحاول بها الرجل إثبات أبوته البيولوجية، هذه الأبوة التي لا يُمكن إثباتها بحالٍ من الأحوال إلا إذا ضمن الرجل إخلاص زوجته له مثلما تُطالب المرأة بالإخلاص لزوجها.

ولا تدل قوانين ثبوت أو عدم ثبوت الطفل لأبيه في الماضي أو الحاضر إلا على المحاولات اليائسة التي يُحاول بها الرجل إثبات أبوته البيولوجية، هذه الأبوة التي لا يمكن إثباتها بحالٍ من الأحوال إلا إذا ضمن الرجل إخلاص زوجته له مائة في المائة؛ وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا في أحيانٍ غير قليلة، ولا يُقاربه في الاستحالة إلا أن تضمن الزوجة إخلاص زوجها لها مائة في المائة.

إن فقدان الثقة أمر شائع بين الزوجين؛ لأن الزواج في معظم الحالات لم يتم على أساس إنساني ومشاعر حرة حقيقية متبادلة بين شخصين ناضجين مستقلَّين؛ وإنما يحدث لأسباب اقتصادية نفعية، وتُدفع البنات بالإكراه للزواج من رجال أكبر سنًّا لمجرد المال، وتتحول المرأة إلى سلعة أو بضاعة تُشترى بالمهر وتُباع بأبخس ثمن أو بلا ثمن. وعلاقة الزوجة بزوجها في ظل القوانين الأبوية هي علاقة العبد بسيده؛ وهي علاقة نفعية استغلالية لم تقم على أساسٍ من الاختيار أو الحرية أو المساواة.

وقد وجدت في البحث الذي أجريته على ١٦٠ امرأة مصرية عام ٧٣ و١٩٧٤ أن ٧٥٫٦٪ من الزوجات تزوَّجن بغير حب، وهذا الرقم في رأيي أقل من الحقيقة؛ لأنَّ الزوجة المصرية أو العربية بصفة عامة تخاف من التقاليد التي تَفرض عليها الطاعة وعدم التذمر أو الشكوى، وكم من زوجة تكره زوجها وتتمنى له الموت من أعماقها، لكنها تُظهر أمام الناس خلاف ذلك، بل إن الزوجة نفسها قد لا تعترف في أعماقها بكراهيتها لزوجها؛ لأنها تخاف منه وتخاف من الطلاق لو أنها اعترفت بما تطويه في صدرها؛ وهذا هو السبب الذي جعَلني أضع في بحثي سؤالًا غير مباشر ليدلني على مدى الحب أو على الأقل الراحة التي تشعر بها الزوجة تجاه زوجها، وكان هذا السؤال هو: هل تتزوجين زوجك هذا نفسه لو أن السنين عادت إلى الوراء وأصبحتِ بنتًا ولك حرية اختيار زوجك؟ وقد أجابت ٨٤٫١٪ من الزوجات بأنهنَّ لا يخترن أزواجهن لو أن الماضي عاد وأصبحت الواحدة منهن لها الحرية أو الفرصة لاختيار زوج آخر.

أمَّا العلاقات الجنسية خارج الزواج، فقد اعترفت لي ١٦٫٧٪ في المتوسط من الزوجات بأنَّ لهن علاقات مع رجال غير أزواجهن.

وقد ارتفعت هذه النسبة إلى ٢٢٫٤٪ في حالة الزوجات العصابيات والطبيعيات، وانخفضت إلى ١١٫٤٪ في حالة الزوجات غير المتعلمات عصابيات وطبيعيات. وفي كل هذه الحالات لا تدل هذه النسب على الحقيقة كلها؛ لأنَّ الزَّوجة العربيَّة بصفة عامة مهما تعلَّمت واستقلت فإنَّها تجد صعوبة في الاعتراف بأية علاقة بينها وبين رجل آخر غير زوجها، فما بال العلاقة الجنسية؟ إن مثل هذه العلاقة تُسَمَّى خيانة زوجية، والقانون يعاقب الزوجة على الخيانة الزوجية أكثر مما يُعاقب الزوج؛ فالزوجة التي تخون زوجها في القانون المصري تُعاقَب بالحبس سنتين، أمَّا الزوج فهو لا يُعاقب إذا خان زوجته في بيت آخر غير بيت الزوجة، أمَّا إذا مارس الخيانة في بيت زوجته فإنه يُعاقَب بالحبس ستة شهور فقط.

هذا بالإضافة إلى أن العرف يُعاقِب المرأة وحدها؛ فخيانة المرأة لزوجها محرمة شرعًا وقانونًا وعرفًا، أمَّا خيانة الرجل لزوجته فهي مُباحة بالمستويات نفسها؛ ذلك أن خيانة الزوجة لزوجها معناها اختلاط النسب أو الميراث الذي هو الدعامة الأساسية لنشوء واستمرار الأسرة الأبوية.

وفي رأيي أن أكبر خيانة هي أن يخون الأب ابنته ويُكرهها على الزواج برجل لا تريده من أجل المهر، وأن أكبر خيانة هي أن يقطع المجتمع أعضاء البنات الجنسية ليَفرض عليهنَّ العذرية والعفة (عملية ختان البنات)، وأن أكبر خيانة هي أن يُرَبَّى الطفل على الخوف والكبت والطاعة العمياء، وأنَّ أكبر خيانة هي أن تُعاقب الطفل ويُوصَم بالعار والتشرُّد لأن أباه هرب بعد انقضاء لذَّته الجنسية ورفض الزواج من أمه، وأن أكبر خيانة هي أن يملك الرجل المرأة بعقد الزواج كما يملك قطعة من الماشية، وأن أكبر خيانة هي أن تُحرَم المرأة من العلم والمعرفة لتتفرَّغ لغسل الصحون والملابس. لكن المجتمع يَتغاضى عن كل هذه الخيانات الكبرى، ولا يفتح عينيه إلا على تحرُّكات الزوجة. إن أي حركة من الزوجة أو أي ابتسامة في وجه رجل غير زوجها تملأ المجتمع بالشك والريبة، وتدفع الزوج إلى جنون الغضب والثورة. والزوج الذي يقتل زوجته دفاعًا عن شرفه (وإن كان الأمر مجرد شك) لا يَنال عقابًا أو ينال عقابًا مخففًا؛ لأن الدفاع عن الشرف واجب الرجل الشريف.

وكم من رجل «شريف» يَتسلَّل ليلًا أو نهارًا من بيت الزوجية ليذهب إلى عشيقته أو إلى مومس، ومن كثرة الخيانات الزوجية فقد نصَّ قانون نابليون (عنه أُخذ القانون المصري) على حق الرجل في خيانة زوجته ما دام لا يُحضر عشيقته إلى منزل الزوجية.

وفي رأيي أن نظام تعدُّد الزوجات، وحق الرجل في ممارسة الجنس مع السراري والجواري، أو حقه في أن يخلط بين زوجته وامرأةٍ أخرى جهلًا أو تجاهُلًا، ليس إلا أنواعًا مختلفة من الخيانات الزوجية التي يُمارسها الرجل في ظل حماية الأخلاق والشرع والقانون، وكلها من مظاهر الازدواجية التي يَتَّسم بها النظام الأبوي ويُبيح للرجل ما لا يبيحه للنساء.

رغم كل هذه الخيانات، ورغم أن النظام الأبوي هو الذي خلق فئة المومسات، ورغم أن الرجل هو الذي يَذهب مع المومس الذي يَستمتع بها، وهو الذي يدفع لها؛ إلا أن المجتمع لم يطلق كلمة مومس إلا على المرأة فقط، ولم يفرض العقاب إلا على المرأة وحدها.

إنَّ الرجل في القانون المصري إذا ضُبط يمارس الجنس مع مومس فهو لا يُحبَس، وإنما يكون شاهدًا، أمَّا المرأة فهي تُحبَس وحدها.

وقد كان البغاء في مصر قانونيًّا وتحت إشراف الدولة حتى سنة ١٩٥١، ثُمَّ ظهر قانون يَمنعه. ويُعتبَر البغاء في معظم البلاد العربية اليوم غير قانوني، إلا أنه يُمارَس سِرًّا أو علنًا في بعض الأحيان.

وكم من بغايا يَتستَّرن تحت أنواع مختلفة من الفنون الرخيصة وغير الرخيصة، وكم سمعنا عن هذه الراقصة التي تتجوَّل في البلاد العربية فترقص في الملاهي وتُرضي الرغبات الجنسية في أوكار الغرام المملوكة للرجال الأثرياء وأصحاب السلطة! وكم عرفنا عن صلة أجهزة المخابرات في بعض الدول بمثل هؤلاء البغايا لاستخدامهن عند اللزوم لإغراء شخص هامٍّ أو إرهابه عن طريق تصويره في أوضاع جنسية مع امرأة.

وفي قسم النساء بسجن القناطر التقيتُ ببعض هؤلاء، وقالت لي واحدة منهنَّ أثناء بحث حالتها النفسية: أكاد أُجنُّ يا دكتورة، فأنا أمارس هذا العمل منذ سنوات، والكل يعرف ذلك، فلماذا قبضوا عليَّ الآن وأدخلوني السجن؟ وقد أُصيبت هذه المرأة بحالة من العصاب لأنها لم تفهم سرَّ حبسها المفاجئ.

وكم من قصص أليمة لهؤلاء النساء المُسمَّيات بالمومسات، واللاتي لسنَ إلا ضحايا مجتمع مزدوج الأخلاق، وكم من قصص أليمة عن حياة الأطفال الذين عُرفوا باسم الأطفال غير الشرعيين.

وقد أصبح التناقُض واضحًا بين القيم الدينية المُنتشرة في كل مكان وبين الإعلانات التجارية القائمة على الجسد العاري للمرأة وزجاجات الويسكي. إن مَن يسير في أي شارع من شوارع معظم العواصم العربية يرى أن جدران بعض المباني مُغَطَّاة بالإعلانات عن خمور معتَّقة، واليد التي تمسك بالكأس يد امرأة نصف عارية؛ أو إعلانات أفلام تُصوِّر أجساد النساء وتَعرض القصص لمجرد الإثارة الجنسية، وعرض رقصات البطن البعيدة عن الفن والتي تهدف إلى إثارة جماهير الناس المكبوتين جنسيًّا. وتزيد هذه الإعلانات التجارية الجنسية بازدياد ارتباط البلد العربي بالقوى الرأسمالية العالمية والمحلية، وتقل بانتقاله من النظام الإقطاعي أو الرأسمالي إلى السير في طريق الاشتراكية ومحاولة تحقيق العدالة الاجتماعية.

لقد اختفَت كثير من هذه الإعلانات الجنسية التجارية من شوارع القاهرة ودمشق وبغداد والخرطوم، حين حاولت هذه البلاد مقاومة الاستغلال الإقطاعي والرأسمالي، وسارت بشعوبها نحو تحقيق بعض المبادئ الاشتراكية.

لكن القوى الرأسمالية العالمية لا تَغفل أبدًا عن المنطقة العربية، لما تحتوي من البترول والمواد الخام، وموضع جغرافي، وميزات أخرى مُتعدِّدة، والصراع الرهيب الدائر بغير توقف أو هدنة. إذا ما حاولت إحدى البلاد العربية التحرُّر من قبضة الاستعمار الاقتصادي الرأسمالي العالمي حاصرتها هذه القوى العالمية من جميع الجهات، ووجهت الضربات الواضحة والخفية، حتى تعيدها إلى حظيرة النظام الرأسمالي العالمي.

وبازدياد الإعلانات الجنسية التجارية في العواصم العربية عن الخمور وزجاجات الويسكي لتصريف إنتاج مصانع الخمور في لندن ونيويورك، تزداد الصفحات الدينية في الصحُف العربية وأجهزة الإعلام، والمُطالِبة بإصدار قوانين لتحريم شرب الخمور لأن شرب الخمور في الإسلام مكروه أو حرام، وقد يصل الأمر إلى إصدار قوانين مُضحِكة لشدة تناقضها، أو لأنها تعاقب الذي يَشرب الخمر ولا تعاقب الذي يَبيعه، أو لأنها تعاقب الصغير في الحي الفقير ولا تعاقب الفقير في الحي الراقي.

أحد أمثلة ذلك هو قانون تحريم الخمور الذي صدر في مصر عام ١٩٧٦، والذي أباح الخمور للفنادق الكبيرة والشقق المفروشة باعتبار أنها أماكن سياحية، مع أن معظم هذه الشقق المفروشة ليست أماكن سياحية ولكنها أوكار للبغاء والدعارة الخفية، وسواء كانت سياحية أو كانت أوكارًا للبغاء فهي فوق أرض مصر أو فوق أرض إسلامية، والمفروض أن تحكمها المبادئ الإسلامية، مثلها مثل شقق الطبقات الكادحة الفقيرة.

ولا أظن أن الإسلام يُمكن أن يستثنيها لمجرد الحصول على عدد من الدولارات أو العملة الصعبة أو تنشيط السياحة.

وإذا كان تنشيط السياحة يَتعارض مع مبادئ الإسلام، فالمفروض (في منطق الدين الصحيح) هو تنشيط الإسلام على حساب السياحة، وليس تنشيط السياحة على حساب الدين.

إلا أن التناقض هو سمة أي منطق استغلالي، وفي الوقت الذي تَتعرَّى فيه أجساد النساء على الشاشة الصغيرة والكبيرة وصفحات المجلات، تَنتشر ظاهرة الطُّرَح، وفرْض ما سُمِّيَ بالزي الإسلامي على البنات تحت اسم الاحتشام، وإخفاء جسم المرأة لأنه «عورة وفتنة» ما عدا وجهها وكفيها، على حين تُحاصرها في كل لحظة إعلانات الراديو والتليفزيون التي تدعوها إلى الفتنة والسِّحر والإغراء بالكريمات والدهانات والروج الذي يجعل ساقَيها جذابتين و«اللوسيون» الذي يجعل شعرها متموِّجًا ساحرًا … إلخ.

وكم من فتيات ونساء عربيات يُصَبن بالأمراض النفسية المتعددة بسبب هذا التناقض الشديد. إن الأغاني الغربية والعربية لا تكفُّ ليل نهار عن التغني بالحب، والأدب العربي لا يكف عن النداء للحب، ولكن إذا استجابت فتاة لهذا النداء وأحبَّت فالويل لها. إن أقل ما يمكن أن توصَف به هو أنها فتاة بغير شرف أو بغير أخلاق، ويرفض الزواج منها أي رجل، حتى الرجل الذي أحبته، إنه يقول لها إنه لا يثق في الفتاة التي تحب رجلًا قبل الزواج وإن كان هو هذا الرجل!

وبازدياد الاستغلال واستنزاف قوات الشعب وبترول العرب إلى جيوب الحكام المحليين والرأسماليين العالميين، يزداد الفقر بين الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية، وتزداد حدة المشكلة الاقتصادية، وبانتشار السلع الأوروبية والأميريكية الباهظة الأثمان في الأسواق العربية تزداد طوابير الشعب الكادح أمام الجمعيات التعاونية والمَخابز الشعبية، ويقفون بالساعات الطويلة من أجل التنافُس على رغيف خبز أو قطعة صابون أو باكو شاي.

إن مَن يسير في الشوارع يرى السلع الأجنبية المُستورَدة تغمر الأسواق بأثمان باهظة، ويرى في الوقت نفسه طوابير الرجال والنساء والواقفين أمام الجمعيات والمخابز ومحلات البقالة الشعبية.

وبتأزُّم الحالة الاقتصادية للأغلبية من الناس تَنتشر ظاهرة الاختلاس والسرقة والقتل، وقد ازدادت هذه الحوادث في المجتمع إلى حدِّ مطالبة بعض الصحف بإقامة نظام القاضي الليلي لحماية رجال الأمن والناس من اعتداءات حاملي المطاوي واللصوص والخطافين.

وانتشار ظواهر العنف والسرقة والخطف، والإدمان والإتجار بالجنس والمخدرات علنًا وسِرًّا، وانحراف الآباء الذين يبيعون بناتهم باسم الزواج، وانجذاب الشغالات والخادمات إلى مهنة الدعارة أو الرقص الرخيص أمام السياح والأثرياء، وانتشار الممارسات الجنسية الخالية من العواطف الإنسانية لمجرَّد الحصول على الرزق أو لقمة العيش؛ وانتشار ظواهر مناقضة لها، هي تلك الموجات الدينية العامة التي تطالب بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية وعقوباتها الرادعة، مثل عقوبة يد السارق، وعقوبة الزنا (الرجم بالحجارة) وبتر مناظر الجنس من الأفلام، وإصدار القرارات بمنع القُبَل في الأفلام العربية المنحرفة التي تفسد الأجيال الشابة، وعقاب المنحرفات من النساء، والمناداة بعودة المرأة إلى البيت حفاظًا على أخلاقها، وتشديد الرقابة على البنات، وإسقاط الجنسية المصرية عن أي امرأة من هؤلاء الفنانات العارية في الصور والرقصات.

وقد طالب بعض الكُتَّاب العرب باقتلاع الفقر من المجتمع العربي قبل اقتلاع يد السارق، وحل مشكلة الشباب والكبت الجنسي قبل توقيع عقوبة الزنا، إلا أن مثل هذا التفكير «المنطقي» ليس إلا قطرة في بحر التفكير «غير المنطقي».

إن المنطق أشد أعداء الاستغلال والاستعمار ونهب الشعوب؛ ولهذا تعمد الثقافة بفنونها وآدابها وصحفها وأجهزتها الإعلامية إلى إخفاء المنطق، وإلى تجهيل الناس بالحقائق، وإلى تجاهل الأسباب الحقيقية التي تدفع كثيرًا من الناس إلى الانتحار النفسي البطيء عن طريق الإدمان أو الجنس أو الجريمة. وأيهما أقل شرفًا؛ المرأة التي تبيع جسدها لتأكل رغيفًا، أم الدولة التي تبيع عقلها ومنطقها من أجل أن تُربح وتُثري قلة من الأشخاص بيدهم السلطة ورأس المال؟ وأيهما يستحق العقاب؛ الشاب الذي هرب من فقره عن طريق حبوب مخدرة، أم الدولة التي فرضَت عليه الفقر؟

إنَّ أي مجتمع قائم على الاستغلال لا بد وأن تَتناقض فيه القيم التجارية والاقتصادية مع القيم الأخلاقية والدينية؛ ولهذا تتفشَّى التناقضات في النظم الأبوية الإقطاعية والرأسمالية، وتَنتشر الازدواجية في كل شيء، ويدفع أثمان هذا التناقض ضعفاء المحكومين؛ النساء لا الرجال، والطبقات الكادحة وليست الطبقات العالية.

وتزيد هذه التناقضات حدة في المجتمعات الفقيرة المتخلفة، وبالرغم من أن المنطقة العربية تُعتبَر (بسبب البترول ومنتجاتها الزراعية) منطقة ثرية اقتصادية، إلا أن ثراءها لا يعود إلى أبنائها، وإنما إلى أبناء الدول الاستعمارية الكبرى، وإلى القلة القليلة الحاكمة داخل البلد العربي؛ ولهذا السبب تعيش الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية في فقر وتخلُّف اقتصادي واجتماعي، ويؤدي هذا التخلف بالضرورة إلى تخلُّف فكري وأخلاقي. فالمرأة الفقيرة تعاقب تصرُّفاتها أكثر مما تُعاقَب المرأة الثرية؛ فقد يغفر الثراء فسادها الأخلاقي، بل إن الثراء قد يُحوِّل الرذائل إلى فضائل في أحوال كثيرة. ويحمي المال أيضًا المرأة المطلَّقة من التشرد أو التسول أو بيع الجسد في سوق البغاء الرسمي أو غير الرسمي، ويُساعد المال المرأة على التخلص من الجنين غير المرغوب فيه عند بعض الأطباء رغم تحريم الإجهاض، إلى غير ذلك من الأمور.

وتعاني المرأة العربية من الاضطهاد بسبب الازدواجية الأخلاقية؛ فالاستعمار الرأسمالي والاقتصادي إلى جانب امتصاصه لخيرات المنطقة العربية، فإنه يَنقل إلى المجتمع العربي ازدواجيته الأخلاقية إلى التناقُض بين قِيَمه التجارية وقيمه الدينية. وتعاني المرأة أكثر من غيرها الاضطهاد بسبب هذه الازدواجية؛ فجسدها يجب أن يُعرَّى لشدة انتباه الناس وإثارتهم من أجل ترويج السِّلَع الناتجة عن طريق الإعلانات وأجهزة الإعلام والأفلام والأغاني والفنون والصحف والمجلات؛ وجسدها عورة ويجب أن يُحجَب بمنطق القيم الدينية والأخلاقية، وتُصبح المرأة أداة الإعلان التجارية، وأداةً للعمل بغير أجر في البيت أو الحقل، أو أداةً للعملين معًا داخل البيت وخارجه، أو أداةً للولادة من أجل إنتاج البشر للدولة، أو أداة جنسية من أجل إشباع رغبات الرجل أو ترويج السلع.

إنَّ إزالة الاضطهاد الواقع على المرأة العربية لا يُمكن أن يتم إلا بإزالة الأسباب الحقيقية، إلا بإزالة جميع أنواع الاضطهاد، سواء كانت اقتصادية فقط، لا يَكفي. وخروج المرأة إلى العمل، وحصولها على أجرٍ مساوٍ لأجر الرجل، لا يقود إلى تحريرها الحقيقي إذا ظلَّ النِّظام أبويًّا تخضع فيه المرأة للرَّجل في ظل قوانين الزَّواج والطَّلاق.

وتحرير العمال والفلاحين من استغلال الرأسماليِّين والإقطاعيين لا يقود إلى تحرير المرأة؛ لأنَّ المرأة تظلُّ عبدة لزوجها. إن تحرير الرجال المقهورين لا يقود تلقائيًّا إلى تحرير النساء المقهورات.

إن القهر الواقع على الرجل من جانب واحد هو الدولة أو النظام الإقطاعي والاقتصادي الحاكم، أمَّا المرأة فإن القهر الواقع عليها من جانبين؛ جانب الدولة وجانب الزوج والأسرة الأبوية.

إن تحرير المرأة العربية لن يكون حقيقة فعلية إلا إذا زال القَهران الواقعان عليها من الدولة ومن الأسرة معًا.

إن المرأة العربية لم تكن سلبية ولم تكن ضعيفة كما هي اليوم، ونحن في حاجة إلى علم نفس جديد يَدرس شخصية المرأة العربية القديمة والجديدة، ويُقدم لنا حقائق جديدة عن نفس المرأة. ونحن في حاجة إلى علم بيولوجي جديد، يدرس جسد المرأة غير المكبوتة جنسيًّا وغير المبتورة الأعضاء الجنسية، ويُقدِّم لنا حقائق جديدة عن جسد المرأة وطاقتها. ونحن في حاجة إلى علم تاريخ جديد، يدرس تاريخ المرأة في الحياة البشرية القديمة والحديثة، يدرس التاريخ الحقيقي وليس التاريخ المزيَّف بمصالح النظام الأبوي الطبقي.

ولعلَّ مشكلة علم التاريخ أنه كُتب من وجهة نظر الحكام لا المَحكومين، فجاء مُعبِّرًا عن مصالح الطبقات الحاكمة ضد مصالح الأغلبية من الكادحين، وجاء مُعبِّرًا عن وجهة نظر الرجال ضد مصلحة النساء.

وقد زيَّف التاريخ كثيرًا من الحقائق عن المرأة العربية. إن النساء العربيات لسن ناقصات العقل كما يدَّعي الرجال والتاريخ، ولسنَ ضعيفات أو سلبيات، بل العكس هو الصحيح.

إنَّ الجمال هو أن تكون المرأة على حقيقتها، فلا تُزيِّف نفسها لترضي زوجها خوفًا من أن يُطلقها، ولا تُزيِّف شكلها لترضي الرجل حتى يتزوجها، ولا تُزيف أخلاقها ورغباتها وسعادتها لترضي المجتمع حتى لا يُحاربها أو يتهمها بالخروج عليه أو الشذوذ. والجمال هو جمال العقل وذكاؤه، وصحة الجسم والنفس، وليس الجمال تراكم الشحم وتراكم الوهم وادِّعاء الضعف والسلبية.

ومَن هي هذه المرأة الحقيقية، أو كم هو عدد هؤلاء النساء الحقيقيات في مجتمعنا العربي؟ كم عدد النساء العربيات الشجاعات اللاتي يُواجهن الناس بوجهٍ نظيف مغسول بغير مساحيق؟ وكم عدد النساء العربيات الشجاعات اللاتي يواجهن آبائهنَّ وأزواجهنَّ بحقيقة ما في صدورهن؟ كم عدد النساء الشجاعات اللاتي يُواجهن المجتمع العربي بحقيقة أفكارهنَّ؟ ومن هي المرأة العربية التي تُدلِّك عقلها قبل أن تُدلِّك بشرتها؟

من هي المرأة العربية التي تهتم بتنمية عقلها وذكائها أكثر من اهتمامها بتنمية شعرها ورموشها وأظافرها؟

إن قلة عدد النساء والفتيات المهتمات بعقلهن أكثر من رموشهن وأظافرهن ظاهرة موجودة في المجتمع، وهي ظاهرة لا تدلُّ على أن المرأة ناقصة العقل، ولكنها تدل على أن التربية التي تتلقاها البنت منذ طفولتها تخلق منها امرأة تافهة التفكير؛ فالبنت العربية تتدرَّب من الصِّغر على أن تنشغل بجسمها وملابسها وشكلها أكثر من اهتمامها بعقلها وذكائها.

وكم يُتلف الذكاء — عندنا — أنوثة المرأة، وكم يُتلف جمال المرأة أن تكون رياضية قوية العضلات، أو طويلة القامة شامخةً مفتوحة العينين! إن الأنثى المثالية هي المُنكسِرة المُطرقة الناعسة العينين القصيرة القامة.

إنَّ طول القامة يُعتبَر عيبًا في البنت المصرية حسب بعض الكتب المُقرَّرة على تلاميذ وتلميذات السنة الثالثة الثانوية في المدارس المصرية. يقول في الفصل الخاص بالنمو في فترة المراهقة: إنَّ الشكل المقبول للمراهق الذكر هو أن يكون طويل القامة قويَّ الجسم، أمَّا البنت فيجب ألا تكون طويلة القامة.

ويُمثل المجتمع المصري أحد المجتمعات العربية الذي أخذ من المدنية الغربية بعض مظاهرها الخارجية، وأبقى على كثير من التقاليد القديمة، وفي بعض الأحيان تكون هذه المظاهر المدنية أشد تخلُّفًا من التقاليد القديمة، مثل هؤلاء الزوجات المصريات اللاتي يُقلِّدون الزوجات الغربيات في حمل أسماء أزواجهن.

ولعلَّ من نواحي التقدم النسبي في المجتمع العربي أنَّ المرأة لا تفقد اسمها بعد الزواج، ولا تَحمل اسم زوجها، ولعلَّ ذلك أحد بقايا قوة المرأة في المجتمع الأمومي القديم.

ويَنتشر في العواصم العربية هؤلاء النساء المتفرنجات اللاتي تتصوَّر الواحدة منهنَّ أن المدنية هي أن تُعرِّي فخذها في الميني جيب، أو تدخن السيجارة أو البايب، أو تشرب الويسكي وترقص الرقصات الحديثة.

إلا أنَّه تحت هذا المظهر ترقد الأنثى المكبوتة جنسيًّا ونفسيًّا وفكريًّا، الأنثى التي تضع الحجاب على عقلها وإن عرَّت جسدها، الأنثى التي تظن أن الغرض الأساسي من حياتها هو أن تتزوَّج وتُطيع زوجها وتخدمه وتنجب له أطفالًا، وتريدهم ذكورًا لو استطاعت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤