الإجهاض ومشكلة النسل

إنَّ النظر إلى مشكلة السكان (وبالذات في مجتمعاتنا العربية) على أنها مجرَّد زيادة أو خفض المواليد، إنما هي نظرة محدودة قاصرة، عاجزة عن حل مشكلة السكان، وبالذات مشكلة الزيادة السكانية التي تُعاني منها بعض البلاد العربية وفي مقدمتها مصر.

إن أول خطوة لعلاج مشكلة الزيادة السكانية في مجتمعاتنا الفقيرة هي القضاء على الفقر، والفقر في مجتمعاتنا العربية ناتج عن التخلُّف، والتخلف والفقر يرجعان إلى أن مواردنا وثرواتنا الطبيعية تُسلَب بواسطة الاستعمار الاقتصادي الذي لا يزال جاثمًا على صدر المنطقة العربية بأسرها.

ولهذا فإن المشكلة السكانية لن تعالَج إلا بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية السليمة، هذه التنمية التي لا يُمكن أن تتحقَّق طالما أن البلد غير مستقل اقتصاديًّا.

ولا شك أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية السليمة سوف تُحرِّر النساء أيضًا، فتسترد المرأة حقوقها الإنسانية الأساسية، ومنها استردادها لحقها في امتلاك جسدها، هذا الحق الذي سُلب منها؛ لأنَّها هي التي تحمل الطفل وتلده.

إنَّ المشكلة الأساسية في حياة المرأة أن جسدها هو الوسيلة الوحيدة لإنتاج البشر، ومن أجل أن تُسيطِر الدولة على وسائل إنتاج البشر وتُخضعها لمصلحة النظام الاقتصادي السائد، فقد سيطرت على أجساد النساء، وأصبحت المرأة لا تملك جسدها، وإنما الذي يملكه هو الدولة التي ورثت في العصر الحديث كثيرًا من سلطات الرجل في الأسرة الأبوية البدائية.

وحيث إن الدول في العالم لم لتكن في معظمها إلا دولًا طبقية إقطاعية أو رأسمالية، فقد أصبح جسد المرأة مملوكًا بقوانين صارمة لصالح الإقطاع أو الرأسمالية، وكم تتغير هذه القوانين تبعًا لحاجة الدولة لمزيد من الأيدي العاملة أو خوفها من الأكثرية البشرية.

إنَّ الحرية الجنسية وإنجاب الأطفال بكثرة خارج الزواج أو داخله عملًا صالحًا تُكافأ عليه الأم المتزوِّجة وغير المتزوجة بالتساوي في المجتمع السويدي اليوم، فالمجتمع السويدي يعاني من قلة الأيدي العاملة.

أمَّا في البلاد التي تُعاني من مشكلة زيادة السكان، مثل الهند ومصر، فإن الأم المتزوجة (دع غير المُتزوِّجة جانبًا) قد تُعاقَب إذا ما ولدت طفلًا غير طفلها الثاني أو الثالث، وقد ارتفعت بعض الأصوات في مصر في السنوات الأخيرة تُطالب بحرمان المرأة العاملة من بعض الحقوق والعلاوات الدورية إذا ما أنجبت أكثر من طفلَين، وفي الهند وبلاد أخرى نماذج مختلفة من العقوبات التي قد تنال الأم ذات الخصوبة العالية.

وفي تونس والصومال رغم أنهما بلدان إسلاميان، فقد أُبيح الإجهاض كأحد وسائل مكافحة الكثرة السكانية، رغم أنَّ معظم البلاد العربية تحرِّم الإجهاض بدعوى أنه مُحرَّم في الإسلام.

إن الذي يدرس علاقة الدين بالسلطة في مختلف الأنظمة والعصور يرى كيف يمكن للدين الواحد أن يَجمع بين قِيَم ومبادئ متناقضة تختلف باختلاف نظام الحكم، وكم تغيَّرت مبادئ متناقضة تختلف باختلاف نظام الحكم! وكم تغيرت مبادئ الكنيسة في أوروبا لتُساير التغيير الذي يحدث بالانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية! وكم تغيَّرت اجتهادات رجال الدين الإسلامي لتساير أنظمة الحكومات العربية المختلفة ما بين عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية!

ويقف رجال الدين الإسلامي بالنسبة لموضوع تحديد النسل موقفًا متناقضًا، بعضهم يرى أن الإسلام يُبيح تحديد النسل والإجهاض أيضًا، وبعضهم يرى أن الإسلام يُحرِّم الإجهاض، بل يحرم أيضًا استخدام وسائل تحديد النسل.

وقد أعلن رئيس الدولة المصرية «جمال عبد الناصر» في الميثاق الوطني سنة ١٩٦٢ ضرورة تنظيم الأسرة «لأنَّ مشكلة تزايد السكان المضطرد أهم عقبة تواجه الشعب المصري في كفاحه لرفع مستويات الإنتاج.»

وفي سنة ١٩٦٥ تأسَّس الجهاز الرسمي لتنظيم الأسرة تحت سمع وبصر رجال الدين، ولم يَعترض أحد منهم على قرار رئيس الدولة، بل إن بعض المشايخ تَسابقوا إلى إثبات أن الإسلام يبيح تحديد النسل، وتردَّد على سمعنا في الصحف وأجهزة الإعلام الأحاديث والآيات التي تدعو إلى تحديد النسل. وعمل جهاز تنظيم الأسرة عشر سنوات كاملة حتى سنة ١٩٧٥ (وكان جمال عبد الناصر قد مات قبل ذلك بأربع سنوات)، فإذا بقرار يُذاع على الناس من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي يقول إنَّ تحديد النسل حرام في الإسلام، وجاء في القرار ما يأتي: «وقد ثبَت طبيًّا أن تناول الدواء المانع من الحمل يُلحق أضرارًا بليغةً بالأمهات أو بأولادهن إذا لم ينفع في منع الحمل وولدن، ولا يُعتَد بالأسباب الواهية التي يَذكرها أنصار تحديد النسل، كخوفهم من كثرة السكان وتعذُّر التغذية وفساد التربية؛ ففي الآية الكريمة الجواب على ذلك: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ؛ فالرزق على الله وهو مكفول، ووَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ

إلا أنَّ جهاز تنظيم الأسرة في مصر لم يتوقف عن العمل؛ فهناك آراء أخرى في الإسلام أيضًا تُعارض الرأي السابق، وهناك بلاد إسلامية أباحت تحديد النسل، مثل المغرب وتونس وإيران وتركيا، وتوسَّعت بعض البلاد إلى حدِّ إباحة الإجهاض.

ومن ناحية جوهر الإسلام، فلا يوجد شيء في القرآن يؤيد منع الحمل أو يُعارضه، ويُعتبَر القرآن الأساس الأول للفقه الإسلامي، ويليه في ذلك أحاديث الرسول «محمد»، ثُمَّ إجماع العلماء والقياس، هذه هي الأسس الثلاثة بعد القرآن، وللرسول أحاديث تدعو إلى التكاثُر والتناسل، وأحاديث أخرى تدعو إلى قلة العيال، وبالمثل أيضًا آراء العلماء والفقهاء. وهذا التناقض في أحاديث الرسول يدلُّ على أن هذه الأحاديث نزلت في ظروف مختلفة وكانت لها أسباب مختلفة، وآيات القرآن نفسه بعضها قد يُناقض البعض الآخر لأنها جاءت في ظروف مختلفة ولأسباب مختلفة؛ فالدين لا يمكن أن يُفهَم كنصوص مُتفرِّقة، ولكن الدين يُفهَم ككل، ولا بد من دراسة الظروف والمجتمعات التي عاش فيها.

وفي بداية الإسلام كان الرسول «محمد» في حاجة إلى إنشاء الدولة الإسلامية وتقوية الأمة الإسلامية، فدعا الناس إلى التناسل؛ فالكثرة العددية في تلك العهود كانت تؤدي إلى القوة وازدياد عدد الجيوش المحاربة؛ ولذلك نجد أحاديث «محمد» تقول: «تناكحوا تكاثروا؛ فإني مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة.»

ويستند بعض الفقهاء على بعض الآيات القرآنية لتحريم تحديد النسل، مثل آية: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ، واللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وأيضًا: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.

وتأييدًا لهذا الرأي كثيرًا ما يُشار إلى تأكيد النبي على أنه حين يمضي على الجنين في بطن أمه مائة وعشرون يومًا يبعث الله مَلَكًا فيؤمر له بأربع: «برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد.» إلا أن مُحَمَّدًا كان يفطن إلى أن الكثرة العددية يجب أن تقترن بالصحة والقوة وليس بالضعف والتفكك وعدم الفائدة.

وهذا تفكير أي شخص يقود شعبًا، مُحاولًا أن يَقوى به ويساعده على الانتصار على أعدائه.

وقال «محمد» في حديثه المعروف: «جهد البلاء كثرة العيال مع قلة الشيء.» وهذا الحديث هو الذي اتخذه جهاز تنظيم الأسرة في مصر كشعارٍ خاصٍّ به. وللرسول حديث آخر يقول فيه: «توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.» فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ فقال: «لا، بل أنتم كثير، ولكنَّكم كغثاء السيل.»

ويعني ذلك أن كثرة عدد البشر غير المفيدة وغير القوية كالزبد الذي تقذفه المياه بغير نفع لأحد.

وكان المسلمون يُمارسون تحديد النسل في عهد محمد بواسطة العزل؛ أي بواسطة القذف خارج الرحم.

وجاء في الصحيحين عن جابر: «كنا نَعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل.» وفي صحيح مسلم قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله، فبلغ ذلك الرسول فلم ينهنا.» وقال الإمام الغزالي: «وأصبح عندنا أن ذلك (العزل) مُباح.»

وينصُّ فقهاء المذهب المالكي على جواز العزل لمنع الحمل، واشترطوا إذن الزوجة بذلك صغيرة كانت أو كبيرة.

والمذهب المنتشر في اليمن (عن الإمام زيد بن علي زين العابدين) يُبيح العزل إذا وافقت الزوجة، وأجاز الإمام يحيى بن زيد العزل لمنع الحمل صراحةً، وفي العراق وباكستان وأفغانستان وسورية يَنتشر الشيعة الجعفرية الذين تُبيح كتبهم العزل لمنع الحمل، على أن تُوافق الزوجة عند عقد الزواج.

وعن الرسول «محمد» أنه نهى أن يُعزَل عن الحرة إلا بإذنها. وأتباع عبد الله بن أباض التميمي (يُعرَفون بالإباضية) في عمان في شرق الجزيرة، وقالوا: «إن العزل يُباح للفرار من الولد خشية العيال وإدخال الضرر على الرضيع.»

وأباح بعض فقهاء الإسلام وسائل أخرى لمنع الحمل غير العزل؛ ومنها أن تسد المرأة فم رحمها منعًا من وصول «السائل المنوي» لأجل منع الحمل، وذلك ما نقله ابن عابدين عن صاحب البحر — أحد فقهاء المذهب الحنفي — وقد اشترط لجواز ذلك موافَقة الزوج.

وقد تكلم الزركشي عن إسقاط الجنين باستخدام دواء، ثُمَّ قال: «هذا كله في استعمال الدواء بعد الإنزال، فأما استعمال ما يَمنع الحمل قبل إنزال المني في الجماع فلا مانع منه.»

وقالت لجنة الفتوى في الأزهر: إن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقَّتًا لا يُحرَّم على رأيٍ عند الشافعية، وبه تُفتي اللجنة لما فيه من التيسير على الناس ورفع الحرج، ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف في المرأة من الحمل المتتابع، والله تعالى يقول: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وكان الأطباء المسلمون طوال العصور الوسطى يُقدمون للناس المعلومات عن وسائل منع الحمل؛ من هؤلاء أبو بكر الرازي الطبيب المسلم الفارسي الذي وُلد قرب طهران في منتصف القرن التاسع، وهو يُعتبَر أعظم الأطباء السريرين في الإسلام، وأعظم أطباء العصور الوسطى، وقد ذكر في كتابه «الحاوي» وسائل مختلفة لمنع الحمل، وكتب يقول: «إن من المهم أحيانًا منع المني من دخل الرحم حين يكون الحمل خطرًا على المرأة مثلًا، وهناك عدة طرق لمنع دخوله؛ أولها أن ينسحب الرجل من المرأة في لحظة القذف فلا يقترب المني من مدخل الرحم. والطريقة الثانية هي منع القذف وهي طريقة يمارسها البعض. أمَّا الطريقة الثالثة فهي وضع نوع من العقار عند فم الرحم قبل الإدخال؛ فإما أن يسد العقار مدخل الرحم أو يَطرد المني فيَحول دون الحمل، مثل أقراص أو تحاميل الكرنيب والحنظل والقار ومرارة الثور والمادة الشمعية التي تُفرزها أذن الحيوان وروث الفيل وماء الكلس، ثُمَّ إن هذه المواد قد تُستعمَل منفردة أو مجموعة.»

ومن أكبر أطباء عهد الخلافة العباسية علي بن العباس المجوسي، الذي كتب خلال منتصف القرن العاشر يقول: «إن الأدوية التي تَمنع الحمل وإن كان واجبًا ألا تُذكَر لئلا يَستعملها بعض النساء السيئات السمعة، إلا أنه لا مفر من إعطائها للنسوة ذات الرحم الصغير أو اللائي يُعانين مرضًا يجعل الحمل خطرًا إلى حدِّ تعريض الحامل للموت أثناء الوضع.»

ورغم تفوق علي بن العباس في معلوماته الطبية عن وسائل منع الحمل، إلا أنه لم يكن مُتفوِّقًا في معلوماته عن المجتمع والأسرة الأبوية ومأساة الأطفال غير الشرعيِّين؛ لأنه لو كان مُلِمًّا ببعض هذه المعلومات ربما كان قد رأى أن هؤلاء النساء اللاتي أُطلِقَ عليهن اسم سيئات السمعة (لا بُدَّ أنه كان يعني المومسات)، كانوا في أشد الحاجة من غيرهنَّ إلى وسائل منع الحمل حمايةً لأطفالهنَّ من التشرد والموت، وحمايةً لصحة المرأة أيضًا ونفسيتها من عبء طفل غير شرعي، لم يكن إلا نتيجة اتصال الرجل بها، هذا الاتصال المفروض عليها بسبب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية التعيسة في ظلِّ مجتمع طبقي أبوي.

ومن أشهر علماء الإسلام ابن سينا، الذي مات سنة ١٠٣٧، والذي كتب في كتابه القانون عشرين طريقة لمنع الحمل على نحو ممتاز بالنسبة لعصره، وقد استُعملت قرونًا وفاقتْ طُرُقه علميًّا ما كتبه كثيرون من الذين جاءوا بعده، لكنه ككل الأطباء في الماضي والحاضر كان يَصف وسائل منع الحمل لأسباب طبية فقط، لمرض الرحم أو ضعف المثانة، أمَّا الأسباب الاقتصادية والاجتماعية فلم يَرِد ذكرها إلا نادرًا جِدًّا.

وقد أخذت أوربا عن هذه الكتب وعن هؤلاء الأطباء المسلمين كثيرًا من معلوماتها الطبية الحديثة، وأخذت أيضًا عن الإرشاد لابن الجامع وتذكرة داوود الأنطاكي وإسماعيل الجرجاني والكتاب الملكي.

ويظن بعض الناس أن وسائل منع الحمل وفكرة تحديد النسل نبَعت من الغرب، وبعض الناس يتصورون أن الحاجز المطاطي الذي يَستخدمه الرجل لمنع الحمل من ابتكار علماء الغرب، مع أن الإمام الغزالي ذكر ما سمَّاه «قراب الذكر» أو «الحجاب الواقي»، وكان يُصنَع قديمًا من الأمعاء.

وتختلف البلاد العربية الإسلامية في نظرتها إلى موضوع تحديد النسل، حسب مشكلة السكان وعلاقتها بالإنتاج أو الموارد الاقتصادية المادية؛ ففي الكويت والسعودية (المملكة العربية السعودية) لا تَنصح الحكومة بمنع الحمل إلا لأسباب طبية فقط. أمَّا في البلاد العربية مثل مصر وتونس فإن الحكومة تتبنى مشروعات لتحديد النسل، وكذلك الأمر أيضًا في بلاد إسلامية مثل باكستان وتركيا وإيران. فالمسألة إذن ليست مسألة دينية، ولكنها مسألة اقتصادية أساسيًّا.

ولقد أُثير موضوع تحديد النسل في الصحافة المصرية منذ أربعين عامًا (٢٩ يناير ١٩٣٧)، حين طُلب من مفتي الديار المصرية الإدلاء برأي الدين المحدَّد بشأن منع الحمل والإجهاض من الناحيتين الطبية والاجتماعية، وقد كان رد المفتي كالآتي:
  • (١)

    للزوجين أن يَتخذا الإجراءات الضرورية لمنع الحمل لأسبابٍ طبية واجتماعية، وموافقة كلا الطرفين ليست ضرورية.

  • (٢)

    قبل مضي نحو ١٦ أسبوعًا على الحمل، يُمكن اتخاذ الإجراءات أو العقاقير للتهيئة للإجهاض دون تعرُّض الأم لأيِّ خطر في حالة توفر إرشاد معقول.

  • (٣)

    اتفاق أئمة المسلمين بالإجماع على أنه: لا يجوز إبداء إجراء الإجهاض بعد تلك الفترة.

وعن هذا نرى أن منع الحمل والإجهاض قبل انتهاء ١٦ أسبوعًا من الحمل كان مُباحًا دينيًّا في مصر سنة ١٩٣٧، وفي ذلك الوقت كانت معظم البلاد الأوروبية خاضعة للقوانين التي تُحرِّم منع الحمل والإجهاض، وفي هذا العام نفسه نظَّم الاتحاد الطبي حلقة دراسية للبحث في هذه المسائل من مختلف وجوهها الاجتماعية والقانونية والدينية والطبية والإحصائية.

وقد أباح القانون المصري منع الحمل بالوسائل الطبية المعروفة، لكن الإجهاض لا يزال ممنوعًا بالقانون حتى اليوم.

وبعض البلاد العربية أباحت الإجهاض مثل تونس، والصومال أيضًا، لكن أغلبية البلاد العربية لا تزال تُحرِّم الإجهاض، مع أن هناك آراء واضحة في الإسلام تُبيح الإجهاض قبل أن يتم الجنين أربعة شهور من الحمل. ويمثل الإمام الغزالي (الشافعي) وابن جزي (المالكي) الاتجاه في الإسلام الذي يُحرِّم الإجهاض في أي وقت من الحمل.

ويرى بعض علماء الدين أن الإسلام لم يُحرِّم الإجهاض قبل مائة وعشرون يومًا حسب ما جاء بكتب الحنفية عن الكمال بن الهمام.

وهؤلاء الفقهاء أباحوا الإجهاض بدعوى أن الحمل قبل تمام أربعة أشهر لا تكون فيه روح أو حياة، وقد صح عن النبي أن الروح تُنفَخ فيه بعد مائة وعشرين ليلة، وقال ابن وهبان الحنفي:

«ومن الأعذار أن يَنقطع لبنها بعد الحمل، وليس لأب الصبي ما يَستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه …» إلى أن قال: «فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل.»

أمَّا إذا مرَّت أربعة أشهر فإن الفقهاء متفقون على تحريم إسقاط الجنين، ويوصون في حدوثه (الدية) إن سقط حيًّا، والغرة (وهي نوع من الدية) إن سقط ميِّتًا، إلا إذا ثبت أن الإجهاض كان ضروريًّا لإنقاذ حياة الأم، ولا يُضحَّى بالأم في سبيل إنقاذه لأنها أصلُه، وهذه الحالة تدخل على الخصوص في باب «ارتكاب أخف الضررين»، وهو من القواعد العامة المُعتبَرة شرعًا، وبهذا المبدأ أخذ القانون الجنائي المغربي في فصله ٤٥٣ حيث قال ما نصُّه: «لا عقاب على الإجهاض إذا استوجبتْه ضرورة إنقاذ حياة الأم من الخطر، متى قام به طبيب أو جراح علانية، وبعد إخطار السلطة الإدارية.»

ومن أهم المشاكل التي تتعرَّض لها المرأة العربية مشكلة الحمل والإنجاب، سواء داخل الزواج أو خارجه، إذا حملت الفتاة الفقيرة بغير زواج فالويل لها، قد تدفع حياتها ثمنًا لها، وإن لم تكن هي المخطئة، وإنما مجرد طفلة صغيرة فقيرة اغتصبها أو خدعها رجل من طبقة أعلى، ولا تتعرض الفتاة من الأسر العالية لمثل هذه القسوة؛ لأن الأسر الثرية سرعان ما تجد الحل، فتُزوج الفتاة لرجل من طبقة أقل يُسرع متسلِّحًا بالشهامة المزيفة (يطمع في مال الفتاة) ويتزوج الفتاة وهو راضٍ سعيد، أو تجد الأسرة الطبيب الذي يسرع أيضًا (بسبب المال) لإجهاض الفتاة والتخلُّص من الجنين.

وتُمثِّل مشكلة الحمل والإجهاض أزمة في حياة المرأة الكادحة، وإن كانت مُتزوِّجة زواجًا شرعيًّا؛ فهي بسبب الإرهاق الجسدي (تعمل داخل البيت وخارجه)، تُحاول أن تقلل من العبث الملقى على كاهلها بسبب الحمل والإنجاب المُتكرِّر.

وهي قد تسمع أيضًا أن الدولة تُشجِّع تحديد النسل، وهي لا تملك في الوقت نفسه الوسائل العلمية التي تمنع بها الحمل، لأسباب ثقافية أو اقتصادية أو أخلاقية أو دينية؛ ولهذا تعيش أغلب الزوجات العربية في قلق دائم خوفًا من الحمل وعبء طفل جديد.

وبالطبع يُلقَى عبء النسل في مجتمعنا العربي على الزوجة وحدها، وتُصبح مطالَبةً وحدها بأخذ حبوب منْع الحمل أو تركيب اللولب أو استخدام أيَّة وسيلة أخرى، فإذا ما فشلت الوسيلة في منع الحمل وحدث الحمل أصبح عليها أن تسعى إلى الإجهاض غير القانوني؛ مما يُعرِّضها لأخطار الإجهاض غير الطبي السليم، وإمَّا لجشع بعض الأطباء الذين يتاجرون بعملية الإجهاض لعدم قانونيته.

ولا تزال عمليات الإجهاض في معظم البلاد العربية ومنها مصر، غير قانونية متخفية في الظلام، وليس هناك بيانات دقيقة عن عدد عمليات الإجهاض، ولكن هناك بيانات تقريبية عن العدد الكلي لهذه العمليات الصادرة من مختلف المستشفيات.

وقد لوحظ أن عدد عمليات الإجهاض التي تَجري بسبب الأمراض الخطيرة في انخفاض مستمر، وعلى العكس من ذلك تزداد العمليات التي تجري لأسباب نفسية، أو ما يُسمَّى طبيًّا «تهديد الأم»؛ وذلك لمجرد استيفاء المُتطلبات القانونية؛ فالأسباب النفسية ليست إلا الأسباب الاجتماعية والاقتصادية، وهي الأسباب التي لا يَعترف القانون بوجاهتها لإجراء الإجهاض.

وقد لوحظ أنَّ عمليات الإجهاض تجري لنساء الطبقات القادرة اقتصاديًّا بزيادة قدرها ثلاثة أضعاف العمليات التي تَجري للنساء الفقيرات، ومن هنا يظهر تحايل بعض الأطباء على القانون بسبب المال، وأن الأطباء (كما كتب الدكتور إسماعيل رجب رئيس قسم أمراض النساء بكلية طب عين شمس) ينقسمون إلى قسمين بالنسبة لموقفهم من الإجهاض؛ قسم أصغر يقوم بهذه العملية ويتحايل على القانون بشتى الطرق لأسباب مادية في معظم الأحوال، وقسم آخر أكبر يرفض القيام بالعملية ذاتها، ولكنه يُحوِّل حالات الإجهاض إلى الأطباء الذين يقومون بهذه العمليات غير القانونية.

وبالرغم من أن هذا التحويل في حدِّ ذاته خرقٌ لقانون الإجهاض، فإن عملية الإجهاض لا تزال في مجتمعنا العربي تُعاني من التناقضات في القيم والازدواجية التي هي السمة الأساسية لأي مجتمع أبوي طبقي.

ورغم قانون التحريم، فالإجهاض غير القانوني مُنتشِر في مجتمعاتنا، وتدل البيانات التقديرية في مصر على أن حالة حمل واحدة من كل أربع حالات حمل تُجهَض بطريقة غير قانونية، وينتج من هذا مئات المضاعَفات الخطرة سنويًّا، وبالذات في حالة الأمهات الفقيرات، وقد أصبح الإجهاض غير القانوني يُمثِّل في مصر السبب الرئيسي الأكبر لوفيات الأمهات.

ولا شك أن حالة الأم غير المتزوِّجة تُصبح أشد خطورة، لا من الناحية الطبية فحسب، وإنما من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، ومعظم هؤلاء من الخادمات الصغيرات اللاتي تعرَّضن للاغتصاب بواسطة أزواج وأبناء الأسر العالية فوق المتوسطة، وقلة منهنَّ من البنات الصغيرات الغريرات اللاتي صدَّقن وعود الرجال الكاذبة بالزواج، على أن انتشار وسائل منع الحمل قد خفَّضَ من نسبة هذه الحالات.

ومن المعروف أن حالات الإجهاض التي تَحدث في مصر ليست هي حالات الأمهات غير المُتزوِّجات؛ لأن ٩٠٪ على الأقل من حالات الإجهاض غير القانوني هن أمهات مُتزوِّجات، يتراوح عمرهن بين ٢٥–٣٥ سنة، وأن أكثر من ٨٠٪ من هؤلاء أمهات أنجبن من قبل طفلَين أو أكثر وليس في مقدور أسرهن تحمُّل الأعباء الاقتصادية والاجتماعية لطفل جديد.

إن إباحة الإجهاض في مصر أو في غيرها من البلاد العربية لن تزيد العدد الضخم لحالات الإجهاض غير القانوني، ولكنها ستُخرج عمليات الإجهاض من السوق السوداء، وتَمنح الأمهات الفقيرات إجهاضًا طبيًّا نظيفًا كالذي تتمتع به النساء القادرات ماديًّا، وخاصَّةً بعد ظهور جهاز الشفط للإجهاض الذي يُجهض الجنين في بضع دقائق بغير ألم وبغير تخدير الأم. وقد أباح اليوم عدد من البلاد الغربية الإجهاض تحت ضغط الأعداد المتزايدة من النساء الواعيات المُتحرِّرات، وكذلك فعلت أيضًا البلاد الشرقية كالهند كحلٍّ لمشكلة السكان.

إن الأم وحدها هي صاحبة الحق الأول والأخير في تقرير بقاء الجنين في جسدها أم إسقاطه، وهذا شيء طبيعي؛ لأن الجنين قبل أن يُولَد ليس إلا جُزءًا من جسد الأم، وليس هناك من هو أحق من الأم بامتلاك هذا الحق، والمفروض أن كل إنسان يَمتلك جسده، والمفروض أن تمتلك المرأة جسدها لأنها إنسان، فهذا أول حقوق الإنسان.

وإنني أعتقد أن مشكلة الزيادة السكانية ليست هي مجرَّد خفض المواليد بوسائل منع الحمل أو إباحة الإجهاض، ولكنها مشكلة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحرير نصف المجتمع، وهنَّ الإناث، وتحرير المجتمع كله من الاستغلال والفقر، عن طريق الاستقلال السياسي والاقتصادي، وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية السليمة التي تَرفَع من مستوى الفرد ماديًّا وفكريًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤