مولد الازدواجية الأخلاقية

كان المالك البدائي يحتاج للعبيد والأُجَراء كي يشتغلوا في أرضه التي يملكها، والتي أصبحت تزداد بازدياد الملكية والجشع والإقطاع، وتطلَّبت الحياة الاقتصادية الجديدة التي بُنيت عليها قيم اجتماعية ودينية يستهدف الحفاظ عليها نسلًا كثير العدد لزراعة الأرض وإقامة الصلوات على أرواح الموتى من الذكور، واقتضى ذلك تعدُّد الزوجات الذي يؤدي أيضًا إلى زيادة ثروة الرجل؛ حيث تقوم المرأة بكافة الأعمال اليدوية في الحقل وفي البيت دون أجر؛ فهي أجير بلا أجر، يعمل مهضوم الحق ويُرحِّب بوجود أجراء آخرين يشاركونه العمل ويُخفِّفون عنه الظلم والعبء.

وتعدُّد الزوجات يشبع رغبات الرجل الجنسية، وكان لا بد من تدعيم هذا الحق للرجال عن طريق الدين، ليُقرِّر بقدسية أغراض الرجل الاقتصادية والجنسية معًا. على حين اقتضى النظام الأبوي ونسب الأطفال إلى الرجل أن يَفرض على المرأة زوجًا واحدًا، وكان لا بد من تدعيم ذلك الفرض على النساء عن طريق الدين أيضًا، ليَخدم بقُدسية امتلاك الرجل للمرأة اقتصاديًّا وجنسيًّا في آنٍ واحد.

ولأن فرض زوج واحد على المرأة لم يكن يُشبع حاجاتها الجنسية، بالإضافة إلى أن هذا الزوج لم يكن لها وحدَها وإنما كانت تشترك معها فيه رغبة نساء أُخريات؛ فقد أصبح نصيب المرأة من الجنس ضئيلًا جِدًّا لا يزيد عن جزء من نصيب الرجل، وهو أمر كان يَتعارض بطبيعة الحال مع إشباع رغبة المرأة البدائية القوية.

وقد قاومت المرأة بالضرورة هذا القيد لتمارس حياتها الطبيعية، قاوَم الرجل بالطبع مقاومة المرأة بقوانين أشد صرامة؛ منها القتل للخيانة الزوجية، ومنها الحبس، ومنها تجربة الماء المر الذي كان يَفرضه الكهنة على المرأة المتهمة بخيانة زوجة، فإذا لم يتورَّم بطنها بعد أن تتناول هذا السم تُصبح بريئة، وإذا تورم بطنها فهي مذنبة وتُصبح عارًا على أهلها، ومنها وسائل اختبار العذرية وعلامة البكارة، وأقلها بلا شك هي «الغيرة»، تلك العاطفة التي ألبسها الرجل الحديث ثوب النُّبل والحب، وتغنَّى بها الأدباء والشعراء في الشرق والغرب. ولم تكن غيرة «عطيل» الشهيرة في أدب شكسبير وقتله لديمونا إلا إفراغًا لتلك الشحنة العاطفية الجامحة التي توارثها الرجال منذ بدأت الملكية الفردية.

لقد فرضت على النساء العفة والعذرية والإخلاص الزوجي بكافة القوانين السماوية والأرضية المُمكنة، حتى لا يَتسرب إلى الرجل المالك أيُّ شك في اشتراك طفل غريب مع أطفاله في ميراث أمواله.

وبرغم كثرة القوانين المقدسة والإلهية والوضعية الصارمة في هذا المجال، وبرغم كثرة التجارب والفحوص للتأكيد من الإخلاص والعذرية، إلا أن «الشك» في إخلاص المرأة ظلَّ ملازمًا للرجل منذ العهود البدائية حتى عصرنا الحديث، مما يدلُّ على أنه شكٌّ في موضعه وله مبرراته المنطقية المقنعة.

وهذا يُفسر لنا سبب تلك الازدواجية الأخلاقية التي هي إحدى السمات المميزة لمعظم المجتمعات، والتي نبعت منذ العهود البدائية الأولى، حين استولى الرجل على المرأة اقتصاديًّا وجنسيًّا، وما نتج عن ذلك من انحدارٍ في قيمة المرأة في الدين وفي المجتمع وفي البيت أيضًا، وبلَغ انحدار المرأة مداه عند قدماء الرومان؛ إذ أصبحَت المرأة في قبضة الرجل.

وتوالت عهود الظلام بالنسبة للمرأة، تحوَّلت فيها من قائدة للمجتمع، ينحدر منها النسب، إلى جارية وحبيسة تُباع وتُشترى، إما بيعًا واضحًا في سوق الرقيق والعبيد وإما بيعًا مقنَّعًا بحق الزواج، ولم تعد المرأة تُزوِّج نفسها بنفسها، وإنما أصبح أبوها أو ولي أمرها من الرجال يزوجها بمن يشاء نظير المال، بالضبط كما يتصرف الأب الروماني في «الفاميليا Familia».

وقد بلغ من سيطرة الرجل على المرأة في القانون الروماني أن الأب لم يكن له حق بيع ابنته كالرقيق فحسب، ولكنه كان يَملك حق قتلها أيضًا، وبعد الزواج يحلُّ الزوج محل الأب في السيطرة على المرأة وامتلاكها بحكم القانون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤