مقدمة الطبعة الأولى

الحكاية التي تنطوي عليها هذه الرواية لا جديد فيها ولا ابتكار ولا عمل للخيال، وأعني النفور بين زوجين وما يؤدي إليه ذلك في الأحيان الكثيرة من تقوُّض بناء الأسرة والشقاء وخيبة الأمل في الحياة، وأمثال ذلك تقع كل يوم، وفي كل لغة مئات من القصص التي تدور على هذا المحور، فلا فضل لي أدعيه، ولا جهد أستطيع أن أباهي به؛ فإن الطريق مطروق والأرض ممهدة وما انقطعت الأرجل قط عن السير فيها، والأمثلة التي يمكن أن تُحتذى لا تُعد ولا تُحصى، وفي وسع القارئ — بلا أدنى عناء — أن يهتدي إلى عشرات من الروايات التمثيلية وغير التمثيلية التي تتناول هذا الموضوع وتقلبه على كل وجه وتصفيه أتمَّ تصفية وأوفاها؛ وهذا ما أحب أن أقرره في ذهن القارئ؛ فأنا لم أصنع شيئًا حين جئت بقصة مذالة وتناولت موضوعًا مبتذلًا سبقني إليه كل من تناول قلمًا ليروي حكاية أو يصورها بأحسن ألف مرة مما أستطيع أنا أن أفعل، وفي وسعي أن أورد هناك أسماء مائة قصة هذا موضوعها، وليست هي كل ما يُقرأ، بل بعض ما يتسع لقراءته وقت الذين لا يقصرون اطلاعهم على القصص والروايات، غير أني اعتقد أني وجهت الحوار في هذه الرواية توجيهًا يستحق العناية، ولهذا أكتب هذا التصدير، فما ثَمَّ شيء في حكاية زوجين فسد الحال بينهما ووقعت النَّبْوة وانتهى الأمر إلى الفراق والنزاع، وما عسى أن يجرَّا في ذيلهما من المتاعب والأسواء، وإنما الشيء ما وراء ذلك كله من الأسباب الدافعة والعوامل التي من شأنها أن تُفضي إلى هذا الحال، وقد عولج هذا الموضوع من قبل؛ غير أني حاولت في هذه الرواية أن أبرز سببًا معينًا ولو على حساب غيره من الأسباب، لأنه عندي السبب الأقوى، وما عداه — في يقيني — أقل وخامةً في عواقبه إذا أُغفل، وقد حاولت جهدي أن أشير إليه في أثناء الحوار وأنبِّه عليه، ولكني مقيد — في إدارة الحديث — باعتبارات شتى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، منها ما هو واجب؛ من الاحتشام والتزام حدود الأدب واللياقة، ومنها — وهذا أهم — أن المفروض في الرواية أن الزوجين اللذين فسد ما بينهما لا يدركان هذا السبب ولا يفطنان إليه، وأنهما قد يحومان حوله ولكنهما لا يقعان عليه، ولو أنهما كانا يعرفانه ويدركان كنهه لصلح حالهما واستقر الأمر بينهما على حدود الوفاق.

والمسألة هي أن غريزة حفظ الذات في الرجل أقوى، وأن حياة المرأة مدارها وقوامها غريزة حفظ النوع على الأكثر، هذا هو الأصل، والشواذ غير معدومة ولا قليلة، ولكن الشواذ لا تنفي الأصل ولا تحجبه، وليس هذا مكان الإفاضة في شرح هذا الفرق، وعلى من شاء التوسع أن يطلبه في الكتب والفصول التي تتناول هذا الموضوع، فالوفاق بين الرجل والمرأة لا يكون إلا إذا فهم كل منهما طبيعة الآخر وما تتطلبه كلٌّ من الغريزتين، والشقاق نتيجة العجز عن هذا الفهم، وقد تؤدي أسباب أخرى إلى الخلاف والجفوة، ولكن من المحقق أن العجز عن إدراك مطالب الغريزة النوعية في المرأة يؤدي بلا أدنى شك وفي كل حال إلى فساد ما بينها وبين الرجل، ومن الرجال من يكون سلوكه مرضيًا للمرأة ومحببًا لها فيه وهو لا يدري لماذا؛ لأن سلوكه معها لا فضل فيه إلا للفطرة الذكية، غير أن الفهم الصحيح لا يكون إلا ثمرة الدرس العلمي، وليست الغريزة النوعية في المرأة فوضى؛ فإن لها لقوانين قد يلحقها الاضطراب أحيانًا ويصيبها الشذوذ، ولكنها حتى في شذوذها واضطرابها غير مستعصية على الدرس.

أكتب هذا وقد جربت الأمر بنفسي، ووقعت في مشاكل الجهل، ولم ينجني من عواقبها السيئة إلا التوفيق إلى درس طبيعة المرأة وغريزتها، فقد تزوجت أول ما تزوجت وأنا في العشرين لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى، ولا عن الزواج إلا أنه وسيلة مشروعة لتعارف الجنسين، فقضينا ثلاث سنوات ونحن في جحيم لا تخمد ناره ولا ينقطع عذابه، فكاد يجنَّني أنَّا بدأنا متحابَّين، فما هي إلا شهور حتى صرنا إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال، وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد، وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية لولا أنه اتفق أن قرأت فصلًا في مجلة راقني يومئذ، وعرفت بعد ذلك أنه سخيف محشوٌّ بالخطأ؛ غير أنه دفعني إلى درس موضوع لم تكن لي به عناية، فأقبلت على الكتب ألتهمها، حتى الجاف الذي لا يطيقه ولا يفهمه غير الأخصائي؛ من مثل الكتب الطبية، وأذكر من بينها كتابًا ضخمًا في الإمساك، ولما شبعت من القراءة واعتقدت أني وصلت إلى نتيجة يمكن الانتفاع بها شرعت أطبق العلم على العمل وأدرس طبيعة زوجتي، وصبرت على التجريب والاختبار أكثر من عام، وعشنا بعد ذلك ستة أعوام كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات، وقبضها الله إليه بعد ذلك، فكان مما عزَّاني أني لم أقصر، وأني إذا كنت عذبتها بجهلي ثلاث سنوات فقد استطعت أن أذيقها طعم السعادة النسبية ضعف هذا الزمن.

وليست هذه الرواية نقدًا، ولقد هممت أن أجعل ختامها في بيت الزوج بعد تنفيذ حكم الطاعة على الزوجة، مع اختلاف يسير في النتيجة، ولكني خفت أن يعد نقدًا لحكم الطاعة، وليس هذا ما قصدت إليه، ولقد تحريت في أثناء الحوار أن أبين أن الزوجة لم يكن لها دفاع، ولا هي تقدمت إلى المحكمة بما يصلح أن ينهض عذرًا لها، ولو فعلت واستطاعت أن تثبت أن التفريق واجب لقُضي لها به، ولكنها فقيرة مكروبة ممزقة الأعصاب، تكتفي بالفرار مما تكره.

وأرجو أن أكون قد وُفقت في إبراز الفكرة التي وجهت الحوار إليها وشرحتها بإيجاز في هذه المقدمة، فإن ما عداها لا يعنيني لا كثيرًا ولا قليلًا، وبحسبي من القارئ أن يلتفت إلى هذا الذي أردته، وليكن رأيه بعد ذلك في الرواية وفي كاتبها ما شاء؛ فالكاتب لا قيمة له، والرواية أقل منه قيمة.

إبراهيم عبد القادر المازني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤