الفصل الأول

(حجرة مستطيلة تتَّصل بشرفة مؤدية إلى الحديقة ببابين من الزجاج، وإلى اليسار باب واسع يفضي إلى غرفة المائدة، والستار مشدود على بكره إلى اليمين بحيث يرى المرء الغرفة وبابها على الشرفة، وفي الركن مما يلي الباب مكتب دقيق الحجم عليه زهرية، وفوقه صورة زيتية لمنظر، وبين بابي الشرفة كرسي فوقه على الجدار صورة «رأس» بالباستيل، وإلى يمين الباب الثاني كرسي كالأول، وفوقه صورة مائية لمنظر ريفي، وفي الركن مما يلي الكرسي حمالة خشبها من نوع خشب الكرسي، وفوقها زهرية من الصيني بلون السماء تسبح فيها السحب وفيها شجيرة، وإلى اليمين باب آخر يُفضي إلى المكتبة، والسجادة في وسط الغرفة، والأرض خشب مصقول كما يبدو من حولها، وثم بضعة كراسي أخرى، والطابع العام هو الأناقة مع البساطة واجتناب الكظِّ، وحسن الجمع بين الضوء والألوان.)

الوقت: قبل الظهر.

يرفع الستار عن الخادمة الجديدة «فريدة»، وهي فتاة مشرقة الديباجة سوداء الشعر، وعيناها كالمخمل الأسود، وتحت إبطها منفضة صغيرة من الريش الناعم، وهي تغني بصوت خفيض؛ فِعل الآمنِ أنه لن يُفاجأ، الضامنِ العطفَ إذا فوجئ، وهي تظهر — حين يرفع الستار — خارجة من حجرة المكتبة متجهة إلى المكتب الصغير.

ويدخل وراءها على أطراف أصابعه كأنما كان متربصًا «خيري»، وهو شاب يبلغ الثلاثين من عمره، مديد القامة، قوي البنية، رشيق الحركة، أسمر اللون، يلبس حلة صيفية رمادية محبوكة التفصيل، ثم يقف وراءها.

خيري : صباح الخير يا فريدة.
فريدة (تفزعها المفاجأة فتندَّ عنها صرخة خافتة) : آه! سيدي خيري بك.
خيري (مسددًا نظره إليها وعلى فمه طيف ابتسامة) : وحدك يا فريدة؟
فريدة (تبدأ يداها تعبثان بالمريلة) : آه.
خيري (بابتسامة عريضة) : حسن؛ إني أريد أن أتحدث إليكِ قليلًا.
فريدة : تحدثني أنا؟
خيري : نعم أنت، ولمَ لا؟ ألا تعرفين أني غمزتك بعيني ثلاث مرات على العشاء أمس وأنتِ تتظاهرين بعدم الالتفات؟
فريدة (متظاهرة بالدهشة) : غمزتني يا سيدي! لست أفهم مرادك.
خيري : كلام فارغ، هل تريدين أن تقولي إن فتاة رشيقة زكية مثلك لا تدرك لغة العيون الطبيعية التي كان أدم وحواء يتناجيان بها؟! هل تطلبين مني أن أصدق أنك لم تفهمي غمزتي وأنتِ تضعين الشواء؟! لقد قلت لك بأفصح لسان وأقوى بيان إني أريد أن أكون لك كروميو، ألم تسمعي به. (تهز رأسها) مستحيل؛ إن كل رجل روميو، وكل امرأة جولييت، والبارحة بعد أن رقدوا جميعًا انتظرتك تحت، في المطبخ، في الظلام وحدي؛ لعلك تنزلين إليَّ، لشدَّ ما خيبت أملي يا فتاتي الجميلة! انتظرت، وانتظرت، ساعة كاملة، وأنتِ لا تجيئين، ذهب تعبي ووقتي سدًى، وكلَّت أعصابي بلا طائل واتسخت ثيابي بلا مقابل.
فريدة (بخبث) : هل كنت جوعانًا؟
خيري (يزوم) : اممم، نعم جوعان، بل قولي: ظمآن إلى حسنك.
فريدة : أوه يا سيدي! لم أكن أعرف.
خيري (مقاطعًا) : حسن هذا.
فريدة (متممة كلامها) : إنك رجل، رجل، نعم رجل تاجر؛ ثم إنك متزوج.
خيري : ليس لي حيلة يا فريدة، فإنك جميلة، وأنا … أنا … أنا شاب وإن كنت متزوجًا، وفي عروقي دماء حارة لا ماء بارد، والزواج لا يُعمي عن الجمال الذي في الدنيا، ولست أرى الزواج على كل حال يعصمني من فتنة هذا الحسن.

(يمد ذراعيه إليها فتتراجع نحو باب الشرفة، ولكن ببطء.)

فريدة : لا، لا، لا يا سيدي أرجوك.
خيري : قبلة واحدة يا فريدة، قبلة خفيفة من هذا الفم الحلو كعربون للصداقة.

(يطوقها ويطبع على فمها قبلة طويلة وهي مستسلمة مجاوبة، وفي أثناء ذلك، وبينما هو حانٍ عليها وهي كالسكرى مغمضة العين تمر ليلى على الشرفة فتراهما في عناقهما فتنحدر إلى الحديقة.)

فريدة (ترده عنها في رفق) : ألا تشبع؟! قلت واحدة وهذه عشر.
خيري : أتكرهين أن تكوني محبوبة؟!
فريدة (بخبث ودلال) : وهل أنت تحبني؟!
خيري : ألم تخبرك شفتاي؟!
فريدة (وهي تحاوره ضاحكة) : والشفاه أيضًا لها لغة؟! كلا لم تقولا شيئًا.
خيري (يدنو منها) : لقد قصرتا إذن، فلنعد الكرة، وأنا الضامن في هذه المرة حسن أدائهما للرسالة.

(يطوقها ويجذبها إليه فتلين له، وينظر في عينها ثم يهم بتقبيلها وقد اطمأن إلى استجابتها، ولكنها تلمح سيدها داخلًا فتدفعه بعنف وتنزع نفسها من عناقه وتلطمه على خده.)

فريدة (بصوت عالٍ) : هذا جزاؤك وأنت المسئول.
فؤاد (مقهقهًا) : برافو فريدة سأزيد مرتبك نصف جنيه من هذا الشهر مكافأة لك.
فريدة (وهي تخرج من باب غرفة الطعام) : أشكرك يا سيدي.
فؤاد (يدس يديه في جيبي البنطلون) : لم أكن أحسبك لعينًا إلى هذا الحد.
خيري (يتحسس خده بكفِّه وهو يزوم ويقول لنفسه) : وبعد أن تهيأت للتقبيل، إن حظي اليوم سيئ.
فؤاد : اسمع يا صاحبي، لست أحب أن ألقي عليك درسا ولكنك أ … مستحيل، حاول أن تضبط أعصابك داخل البيت على الأقل.
خيري (يجلس بفخذ على حافة المكتب ويخرج سيجارة) : اسمع أنت، إن لك بيتًا جميلًا، وأنت ابن عمٍّ كريم، ولكني لن أستطيع أن أبقى هنا يا فؤاد؛ لأنه ينقصني ألزمُ ما يلزم لحياتي وهناءتي.
فؤاد : وما هذا.
خيري : امرأة أغازلها (ويمد يده بعلبة السجائر).
فؤاد (وهو يتناول سيجارة) : ولكن لك زوجة، فماذا تروم فوق ذلك؟ أليست امرأة؟
خيري : لا تتهكم، إن زوجتي هي زوجتي، أعرف ذلك، ولكن المصيبة أن لي مزاجًا. فلست أستغرب أن لا تفهم، (يهز كتفه) بل لك العذر إذا لم تفهم، غير أني أصارحك بأن مجالسة النساء ضرورية لي؛ إني أشعر حين أحدق في عيونهن وأشرب بلحاظي الخمر التي في خدودهن أن روحي تربو وتهتز وتتسع آفاقها وأصبح إنسانًا آخر.
فؤاد : ولكن ألا تفكر في شيء آخر؟
خيري : أي شيء آخر هناك يستحق التفكير؟ هيه، إن المرأة هي قوام الحياة، والحب هو المحور الذي تدور عليه الدنيا، لا تصدق الجغرافيا، ولكن صدق التاريخ، ألم تسمع بأنطونيو وكليوباترا، وباولا وفرانشسكا، وروميو وجولييت، وليلى ومجنونها؟
فؤاد : أظن ليلى آتية.
خيري : من الحديقة؟ (ناهضًا).
فؤاد : نعم، لا، لقد عادت، وقفت وتلفتت ثم عادت، أظن ثريا نادتها.
خيري : لا تطمئن يا صاحبي، ستعودان معًا.
فؤاد : أتكره أن تراهما.
خيري : أكره؟ من الذي قال إني أكره، إني أحب ولا أكره خلقت لهذا دون ذاك، وهل فرغت من الحب حتى أحتاج أن أكره؟! إن ألسنة الجمال لا تنفك تناديني وتهتف بي وتدعوني إليها، وقد تلح أحيانًا في الدعوة فلا يبقى لي مفر من الإجابة (تشرد نظرته) وإنها الآن لتدعوني بقوة.
فؤاد (بتهكم) : من عسى تكون هذه السعيدة؟
خيري (كاليائس) : أووووه! لست أراك تفهم، إنه الجمال في حيثما يكون.
فؤاد : وما يمنعك أن تذهب إليه.
خيري (يهز رأسه) : لا أستطيع؛ أصبحت ثريا كالشرطي في ثوب امرأة، شارلوك هولمز لا يُذكر بالقياس إليها.
فؤاد : اخترع سببًا.
خيري : قد استنفدت أعذاري جميعًا ونضب معين اختراعي.
فؤاد : مسكين.
خيري : أتذْكر يومًا سافرت معك إلى ضيعتك وأفلتُّ منك في المحطة؟ هيه، هذه هي المرة الوحيدة التي نجوت فيها من رقابتها (يُطرق وينفض السيجارة)، ومع ذلك من يدري؟! إني لا أعرف أبدًا أين أنا منها. (يسمعان حفيف أثواب ولغطًا قريبًا فيلتفتان.)
خيري : ألم أقل لك؟!

(تدخل ثريا وليلى، وليلى تبلغ الخامسة والعشرين، وهي معتدلة القامة ممشوقة القد هادئة الخطى متزنة الحركات ذهبية الشعر بارعة الوجه، ولكنها تبدو في هذه اللحظة باهتة اللون وفي محياها سهوم، وفي نظرتها إصرار وعلى شفتيها زمَّة كأنها تريد أن تكبح شيئًا يعالج أن ينفجر، ومما يزيد ذلك تأكيدًا أنها في ثوبٍ من الفوال قرمزي اللون مشدودٍ إلى خصرها بحزامٍ فضيٍّ على صورة أفعوان. أما ثريا فأطول منها قليلًا وأكثر امتلاءً، وشعرها بلون القمح الناضج، وعيناها زرقاوان، وحاجباها أسودان، وهما خطان دقيقان، وفمها صغير وعليه ابتسامة المستخفِّ، يتقدم خيري إلى زوجته ثريا بذراعيه ويقبلها بحرارة.)

ثريا (تتلقى عناقه بهدوء وبنفس الابتسام) : يا زوجي العزيز أتراني الأولى؟
خيري : أي لغز هذا يا ثريا؟
ثريا : التي قبلتها اليوم؟
فؤاد (ضاحكًا) : أو! هوهوهوهو!
خيري : ثريا، كيف يدور برأسك الصغير خاطر كهذا؟!
ليلى (لنفسها) : يا للرجال!
ثريا (لفؤاد) : ماذا كان يقول لك، أراهن أنه كان يفضي إليك بآرائه فينا، أعني في النساء.
فؤاد (مرتبكًا) : هذا يا ثريا موضوع. أ … أ … (يلتفت إلى زوجته ليلى فيرى جمودها فيزداد ارتباكًا) أ … لا يليق، أ … أ …
ثريا : أعرف أنك رجل جاد.
ليلى (لنفسها) : جاد، لو تعرف.
ثريا (مستمرة) : وأن لك مشاغل أخرى، أما هو فليس بشيء إن لم يكن زير نساء.
خيري (متكلفًا الحدَّة وإن ظل يبتسم) : كيف يطاوعك قلبك على اتهامي ونعتي بمثل هذه الصفات؟!
ثريا : لأنها الحقيقة.
ليلى (لنفسها) : وأنا أشهد.
ثريا (مستمرة) : أنك رجل لا غرض لك من الحياة إلا المرأة.
خيري (مغالطًا برقَّة) : المرأة؟! صدقت، ممثلة فيك.
ثريا (بابتسامة لليلى) : يقولون في أمثالنا أن «اليد البطالة نجسة» (ثم لزوجها) وما أظن بيدك إلا أنها … أ … أ … ساعديني يا ليلى.
فؤاد (وهو يتناول يد خيري) : في يد إبليس.

(يضحكون فيفطن إلى ما وقع فيه ويسرع فينزع يده ضاحكًا.)

هاتِ سيجارة وتعالَ ندخن في الحديقة.
ثريا : نعم، انجُ بجلدك.
خيري (يلتفت ويتلكأ وينظر إليها عاتبًا) : كيف؟
فؤاد (يتناول ذراعه) : أطعها.

(ويجره فيخرجان.)

ليلى : ثريا، (تمسك ذراعها) هل تعنين ما قلت الآن عن زوجك؟
ثريا : أعني كل حرف.
ليلى : ولكن هذا … فظيع.
ثريا : لا تُراعي؛ فإني أعرف كيف أنتقم.
ليلى (مترددة) : هل … هل … هل … أعني هل تحذين حذوه؟! معذرة.
ثريا : لا، لا، لا، إني أعرف وسيلة للانتقام أنجع وأوجع، إذا رأيت عينه تزوغ عمدت إلى جيبه.
ليلى (وهي لا تفهم) : يظهر أنها طريقة دقيقة فإني لا أكاد أفهم.
ثريا (ضاحكة) : إذا كان الخطب هينًا؛ مجرد مغازلة، أو حتى قبلة، طلبت منه فستانًا، وتارة يكون خاتمًا من ألماس، وتارة أخرى سوارًا، وهكذا تبعًا لدرجة الخيانة.
ليلى (بابتسامة خفيفة من الفم دون العين) : ما أبدعها من طريقة!
ثريا : لقد اضطررت إلى ذلك؛ لأنه إذا كان الرجل لا يشعر بواجبه عن طريق قلبه فأن من الممكن أن يشعر بذلك عن طريق جيبه.
ليلى : ما أذكاك يا ثريا! وهل نجح العلاج؟
ثريا : يا حبيبتي كيف يمكن أن ينجح؟! ألا ترين أني ما زلت من أحسن النساء ثيابًا وأكثرهن حليًّا؟!
ليلى (تهز رأسها) : صدقت، ولكني آسفة، حقيقة.
ثريا : غير أنه ينقصني شيء واحد، معطف من الفرو رأيته في البون مارشيه وأرجو أن يتيح لي فرصة قريبة للفوز به.
ليلى (حائرة) : بودي أن أساعدك، ولكن، ولكني، لا أقدر، كلا، لا أقدر على شيء.
ثريا : طبعًا، طبعًا، أشكرك.
ليلى : ولكن افرضي أنه لم يتح لك الفرصة فهل تنوين أن تقضي الشتاء كله مقرورة محرومة من فرو البون مارشيه.
ثريا : لا تخافي عليَّ ولا تثقي به، سأفوز بالمعطف قبل الشتاء بزمان طويل.
ليلى (بمرارة) : ما أقسى هذه الحياة!
ثريا : تعالَي، تعالَي، ما هذا الوجوم!
ليلى : برغمي يا ثريا، لم أعد أطيق.
ثريا : ولكن فكري، إننا أحوج إلى الصبر من الرجال، وعلينا يقع عبء الاحتيال لتظل حياتنا محتملة.
ليلى : أعرف هذا، وإن كنت لا أدري لماذا ننفرد بالعبء ولا يحمل الرجال منه شطرًا؟! وليس يغيب عني أني … أني … أني متسولة، لقد قلتها وأرحت صدري، ولكن هذا كله لا يصدني ولا يعزيني؛ لأن الحالة بلغت من السوء حدًّا صار كل شيء بعده يزيدني جنونًا ونزوعًا إلى التمرد.
ثريا : مهلًا، ألا يمكن أن تكوني مخطئة؟! إنه احتمال قد يتوقف عليه كل شيء.
ليلى : هل أنت مخطئة؟
ثريا : أنا على خلافك؛ أتلقى ما يكون بابتسامة المتسامح؛ ليس لي إلا حياة واحدة، وقد ارتبطت به، ومع كل عبثه لا أراني أخسر حبه ورعايته. بل لعلي حفظت حبه لي بهذا التسامح.
ليلى : ولكن أمرنا مختلف جدًّا يا ثريا؛ أنتما متحابان، أما نحن فلم يبقَ بيننا حب، ولا ذرَّة، وقد صرت أشعر أنه مسئول عن تلف أعصابي، لا أدري لماذا، ولكني إذا رأيته مقبلًا عليَّ أحس كأن شيئًا يجثم على صدري، وكأن حياتي رهن باطِّراح هذا العبء، ويُخَيَّل إليَّ حين يكلمني أن عقلي سيطير، وإذا ابتسم لي كما يفعل أحيانًا، شعرت كأن يدًا تقبض على عنقي وتأخذ بمخنقي ويكفي أن أراه قبل النوم ليجفوني الرقاد ويصيبني الأرق إلى الصباح، وإذا قبلني جمد الدم في عروقي ولا أدري كيف يقوى، لا شك أنه يتحامل على نفسه ويُكرهها على التودد. كلا، لا أطيق أن أراه، ولا أريد أن أشعر أنه يلازمني في حياتي وأني مرتبطة به، ثلاث سنوات طويلات يا ثريا ونحن هكذا؛ لا تجمعنا صلة إلا صلة الورقة الرسمية، ولا يؤلف بين قلبينا تعاطف، ولا يدور في نفسينا خاطر واحد مشترك؛ كل رغبة لي تصادمها رغبة منه، وكل حال لي أو مزاج أو أمل يصادف نقيضه عنده، (تطرق) لو كنت رُزقت منه طفلًا لأمكن أن أتعزَّى ولكن … (تتردد ثم تهجم) من أين أجيء به؟! أأشتريه؟
ثريا : ما أراكِ إلا مبالغة يا ليلى، لا تدعي الخيالات تؤثر في عقلك، فإن الحياة لا تجري على هذا المنوال، ولو ترك كل امرئ خياله يجمح به ويهول عليه ويجسم له الأوهام لما استقام عيش ولا بقي بيت قائمًا.
ليلى : ألا تصدقين؟! إني أقول لك إن لي ثلاث سنوات لا أبتسم إلا تكلفًا، ثلاث سنين لم يخفق فيها قلبي خفقة الغبطة؛ لأن أعصابي تتمزق وكياني يتهدم، نسيت سرور النفس حتى لأنكره في وجوه الناس، وإني لأجيل عيني في حياتي فلا أرى إلا رسومًا داثرة؛ كل آمالي قد ذبلت وتساقطت أوراقها وتناثرت أزهارها، وعفى الألم المخامر على نضرة الصبا، أين زهور الحب؟! أين أزاهير الشباب النضيرة؟! أين زهور الصبر والرضا والأمن والأمل؟! وفي كل يوم تموت لي زهرة جديدة، فأبكيها بقلبي لا بدموعي؛ لأنها جففت، ونشفت، وفي كل ليلة تتساقط حولي أوراق حياتي، لم يكد شبابي ينور يا ثريا حتى عاث فيه هذا الوباء الماحق، وأي خير في عيش مجدب الظاهر والباطن، مصفر القلب والوجه؟!
ثريا (مضطربة) : مسكينة، مسكينة.
ليلى (بحدَّة) : أنت تحتملين في سبيل حبه المضمون، وإن كنت تخسرين بعض لهوه وعبثه، ولكن أنا؟! أنا؟! أحتمل من أجل ماذا؟! من أجل أنه يطعمني ويكسوني؟! كفى، كفى.
ثريا : معذرة يا أخت؛ لم أكن أدري. ليس لي حق.
ليلى (تضبط نفسها) : أنا آسفة يا ثريا، لم أكن أود أن أنفجر، ولكن أرجو ألا يكربك ما سمعت، (ثم بمرارة) على كل حال أنت في بيته هو، لا في بيتي أنا، وعلى أنه ليس لي بيت.
ثريا (بحنوٍّ) : ثقي يا ليلى أني أكون سعيدة لو كان في وسعي شيء.
ليلى (مفترة) : إني أعلم أنك كالأخت، وأن لي أن أعتمد عليك.
ثريا : كل الاعتماد يا ليلى.
ليلى : وقد أضطر أن أفارقه، نعم هذا ضروري، لم يبقَ منه مفرٌّ، وإن كنت لا أعلم أين أذهب، ولكني سأدبر أمري على نحوٍ ما.
ثريا : ليت زوجي لم يكن ابن عمه.
ليلى (بزراية) : لم يخطر لي هذا يا ثريا، فما زال لي في هذه الدنيا قريب، وإن كان قريبي الوحيد — الأصل الذي نماني لا يزال باقيًا منه فرع.
ثريا : إنما أعني أنه ليس هناك سبب ملجئ، أو ضرورة قصوى، والتأني على كل حال محمود العاقبة وليس منه بأس، وما لا يُصنع اليوم يمكن أن يصنع غدًا، ولكن دعي للتفكير الهادئ وقتًا.
ليلى : التفكير الهادئ؟! وأين السبيل إليه إذا كانت النفس مزلزلة وبركان الصدر منفجرًا يقذف بالحمم ويطيرني أشلاء؟! التفكير الهادئ لكأني بك تظنينها عملية حسابية، ولك العذر فإن القبلة عندك يعد لها فستان، والضمة بسوار، والعناق بخاتم من الماس أو الفيروز، واﻟ … واﻟ …
ثريا (مصدومة) : ماذا جرى لك؟
ليلى : نعم ولكني لست كذلك؛ لست أضع خسائري في كفة وثيابي وزينتي في كفة؛ ثيابي وزينتي! لو تعريت من كل ذلك ورضيت نفسي لكنت الرابحة، خذي كل ما عليَّ، وهاتِ لي رضا النفس وراحة الأعصاب، ألا تفهمين؟ إني متعته ولكني أنا ليس لي متعة، ليس لي حساب، لا يدرك أنه هو أيضًا ينبغي أن يكون متعتي، إيه! دعينا بالله يا ثريا.

(يسمعان خيري يناديهما، وتدخل فريدة في طريقها إلى حجرة الطعام.)

ثريا : خيري ينادينا، تعالَي، على كل حال نصيحتي لك، وأنا أكبر منك، ألا تتهوري (يخرجان).

(يدخل فؤاد من باب المكتبة فيصادف فريدة عائدة من حجرة الطعام.)

فؤاد (وهو مطرق) : أقول يا ثريا، آه، أين ذهبت يا فريدة.
فريدة : كانت هنا الآن يا سيدي (تذهب إلى النافذة) إنها نازلة إلى الحديقة مع ستي.
فؤاد (يداه في جيبي البنطلون وهو يتمشى مفكرًا) : أووه!
فريدة (تقف بعد أن كانت خارجة) : سيدي!
فؤاد (مفيقًا) : لا شيء؛ إنما أردت أن أسأل هل سيدتك تثير أ … أ … ذلك موضوع.
فريدة : لا، أبدًا.
فؤاد : لا أعني بالكلام؛ فليس هذا ضروريًّا، ولكن بالإشارة، بالمعاملة.
فريدة : إن سيدتي لا تكاد تشعر بما حولها، عيناها تتخطياني ولكنها تتخطى كل ما تراه أيضًا.
فؤاد (يمط شفتيه) : ربما، بل صدقت، على كل حال، (مترددًا ولنفسه) لا أدري أينا المسكين في هذا البيت؟ لم يعد هذا بيتنا، ولم أعد أعرف ماذا أصنع (يلتفت إلى فريدة ويواجهها) لا تظني أن السجن وحده هو الذي يسحق الروح، أوه! لا.
فريدة (مقبلة عليه ولكن بشيء من الاحتشام) : أصحيح هذا يا سيدي؟
فؤاد (مستغربًا شكَّها) : صحيح، كل الصحة، ألا تحسين دنياي المتحجرة؟ أتظنين جدران السجن أكثف مما يحيط بي، هنا، في بيتي؟! إن حولي سورًا من النار، من العذاب، في حيثما أمدُّ يدي أشعر بكيِّ النار، وفي حيثما أتلفت يلفحني سعيرها. أوه! السجن! (باستخفاف) ما السجن؟ عزلة، بعد عن المنغصات، راحة من المتعبات، ارتفاع التكاليف، انتفاء التعبات، اطِّراح الهموم، إجازة من الحياة، هذا هو السجن. (يتمشى ويضبط نفسه) ولكنك لا ينقصك أن تحملي همومي أيضًا، تعالَي حدثيني عن نفسك، قولي كيف تجدين الحياة بعد خروجك.
فريدة (منساقة مع التيار) : أنا؟ إن الدنيا منذ خروجي تبدو لي جديدة، إلا أنها مرعبة، وكثيرًا ما تنازعني نفسي أن أطلق صيحة في الهواء، صيحة طويلة قوية، وأن أثب وأقفز من فرط سروري بالخلاص وفرحي بالحرية الجديدة.
فؤاد (وهو لا ينظر إليها) : مسكينة، مسكينة. (يصوب إليها عينه) قولي، تكلمي؛ فإن الكلام يرفه عن القلب، واستماع مثلي إلى البث راحة، أنا وأنتِ تعذبنا، ولكن، ما علينا، قولي.
فريدة (ببساطة) : لا أدري ماذا أقول؛ لساني لا يجري بسهولة.
فؤاد : كيف؟
فريدة : اعتدت الصمت الطويل.
فؤاد : وفيم كنت تفكرين؟
فريدة : أفكر؟ أفكر؟ كلا إنما كنت أتألم.
فؤاد (مصدومًا) : هم، أ … ذكرى مؤلمة، ولكن ماذا جرى لذلك الفتى؟
فريدة : لقد مات.
فؤاد (مصدومًا، ومحاولًا أن يعدل بالكلام إلى مجرًى آخر) : أوه! هم، صحيح. (لنفسه) الحمد لله على أن لم نرزق أطفالًا، نعم لو كنت رزقت نسلًا لتضاعف البلاء، وماذا أصنع بالنسل؟! إن تجربتي تزهد في الحياة وكيف يكفل الشقي من الناس السعادة لأبنائه؟! (يلتفت إليها) اسمعي يا فريدة، إنك سعيدة الحظ؛ فقد ذهب ابنك، واسترحت منه، ولو عاش لكان مصابك به أعظم وشقاؤك أتمَّ. حسنًا صنعتِ.
فريدة : معذرة يا سيدي ولكني لم أرد قتله، وأقسم لك.
فؤاد : طبيعي، طبيعي.
فريدة : لقد كنت نائمة مهدودة القوى، وكان هو إلى جانبي، كان له في الحياة يومان فقط، ولم أكن قد أرضعته من ثديي ولا قطرة واحدة لأن لبنى لم يكن قد تحدر، وأظنني تقلبت عليه وأنا نائمة، وإذا بالقابلة تصيح فوق رأسي في الصباح: «لقد خنقت الطفل يا شقية»، فنظرت إليه وصرخت. (ترفع كفيها إلى وجهها) لا، لا، لم أرد أن أقتله، وكيف يمكن، كيف يمكن؟! ولكنهم لم يصدقوني؛ لأن الشواهد المضللة كانت أقوى من الحقيقة.
فؤاد (وهو شارد) : لماذا ينبغي أن يبقى هذا الجنس الإنساني؟! ماذا يصنع في الدنيا؟! أية غاية يخدمها بوجوده وبقائه؟! ماذا تخسر الدنيا إذا خلت رقعة الأرض من هذا الإنسان؟! هل تكفُّ الأرض عن الدوران؟! هل يقف الفلك؟! هل تخبو الشموس ويظلم الكون؟! وهؤلاء الذين يسنون الشرائع أو يضعون القوانين باسم الجنس الإنساني ألا ينبغي أن يثبت لهم أن الجنس الإنساني الذي يريدون أن يحافظوا عليه يريد البقاء الذي يرغمونه عليه، ولكن هل هم يرغمونه على البقاء بقوانينهم؟ لا أدري، لا أدري (يلتفت إليها) فريدة، أتفضلين أن تظلي حية ولو معذبة أو أن تموتي؟
فريدة (مذعورة) : أريد أن أحيى. (ثم باكتئاب) ولكني أتمنى أن يردَّ إليَّ طفلي، فإن التفكير فيه مؤلم … عذاب.
فؤاد : لا شك وخير ألا تفكري، إن التفكير عبث.
فريدة : برغمي يا سيدي، وفيمن أفكر إذا لم أفكر في طفلي؟! لقد كدت أموت من أجله، وفي سبيله احتملت الفضيحة … ثم السجن، ظلمًا والله، ليته مع ذلك عاش.
فؤاد : إن الدنيا قاسية يا فريدة.
فريدة : لقد كنت أبكي كل ليلة في محبسي، ليلة بعد ليلة (ثم بابتسام) من لا يريد أن يؤخذ قوله على ظاهره، بكيت حتى جفت دموعي، ونقمت على الدنيا وعلى الناس.
فؤاد : لقد كنت سعيدة الحظ؛ فقد كان من الممكن أن يحكم عليك بالإعدام.
فريدة : لم أكن أبالي.
فؤاد : هذا فعل الوحشة ولا شك.
فريدة : معذرة يا سيدي، ولكني لا أظن.
فؤاد : بل هي الوحشة، صدقيني.
فريدة (بسذاجة) : هل جربت السجن يا سيدي؟
فؤاد : أعوذ بالله، لا، لا، لا.
فريدة (تقبل عليه) : إذن لا تستطيع أن تدرك؛ إنه مرعب يا سيدي، يقبض القلب، يعصره، كنت في الشتاء أوحوح وأنفخ في يدي (تنفخ) ولكن بلا جدوى، وكم وقفت في الليل البارد والباب لا يفتح إلا في الصباح ولو مات السجين؛ يمرض، يبكي، يصرخ، يتألم، يضرب الحائط برأسه، يموت، لا فائدة، لا يُعنى به أحد، في الصباح فقط يذكرون أن هناك أحياء داخل المحابس. أما في الليل البهيم فلا، وكان معي في محبسي أربع، أنا خامستهن، وكن بعد العشاء ينمن كل واحدة في حضن صاحبتها ولا يبالينني، ينمن وأنا مؤرقة مسهدة، وكم صرخت وناديت السجانة فكانت تشتمني وتأمرني أن أصنع مثلهن؛ كما يكنَّ ينبغي أن أكون، وكم وقفت وراء الباب أنصت وأرهف أذني، غير أن الأصوات في السجن جوفاء يا سيدي، وقد قالوا لي إني سأعتاد ذلك كله، ولكني لم أفعل، لم يكن هناك حتى ولا نافذة قريبة أرى منها الدنيا الحية وأحس بذلك أني أنا أيضًا حية.
فؤاد (يمسك ذراعها بانفعالٍ) : انسي هذا الماضي، امسحيه من لوح الذاكرة، كأنه لم يكن، سأعيد إليك هنا الشعور بالحياة (ثم لنفسه) ولكن كيف؟ كيف؟ لقد كانت زوجتي — بل أنا — أولى بهذه القدرة.
فريدة : إني الآن أحب الشوارع والسير فيها، والنظر إلى الرائحين والغادين، ولا سيما في الليل والأنوار تلمع وتخطف، أحب الليل على الخصوص بعد الحرية؛ لأنه كان في السجن رهيبًا.
فؤاد : لا تأسفي، إنك ما زلت صغيرة والدنيا كلها أمامك والحياة كلها احتمالات، ولعل السعادة مدخرة لك بقدر ما شقيت. (تميل عليه قليلًا كأنها غير عامدة) وأنا على الأقل مستعد أن أبذل ما يدخل في وسعي.
فريدة (بسرور) : أتعني ما تقول يا سيدي؟

(فؤاد يضع ذراعه حول كتفها ملاطفًا، ويميل بوجهه لينظر في وجهها.)

فريدة : أتعدُّني مجرمة يا سيدي كالذين حكموا علي؟
فؤاد (مترددًا) : مجرمة؟! يظهر أن القرائن كانت ضدك، ولهذا حكموا عليك، ولكن أنسى هذا كله، لقد مضى وانقضى، وأنتِ الآن حرة.
فريدة : ولكن الزلَّة التي جرَّت كل هذا هل هي في رأيك يا سيدي … أعني هل تعدُّني فتاة فاسدة؟
فؤاد : هي زلة الشباب، وجريمة ذلك الوغد إذا كانت هناك جريمة، على أنه معذور؛ فإنك جميلة.
فريدة (بابتسام) : أصحيح هذا يا سيدي؟ ألا أزال جميلة حتى على الرغم من سجني؟
فؤاد (مربتًا كتفها) : كالزهرة.
فريدة : أتظن أن لي أملًا في الحياة بعد الذي كان؟
فؤاد : أمل؟ لمَ لا؟ تعالَي، لا تدعي طيف الماضي، ظله الأسود يرتمي على نور الحاضر (يربت لها كتفها) الأيام قُلَّبٌ يا فريدة؛ هذا أنت كنت بالأمس سجينة، معذبة، مقيدة وأنتِ اليوم تنعمين بالحياة والحرية والعطف والشباب.
فريدة : ولكني خادمة يا سيدي.
فؤاد : تعالَي يا فتاتي المسكينة، لا يشق عليك أنك … أ … خادمة، هذه خطوة، وبعدها تتفتح الدنيا، تتزوجين وتسعدين وتصبحين سيدة لبيتك، ولا يبقى شيء ينغص عليك، أليس كذلك؟
فريدة (وهي تميل عليه) : شكرًا لك يا سيدي.

(يقبِّلها قبلة طويلة.)

فؤاد (مضطربًا) : إني آسف، لم يكن ينبغي … تناسي ما حدث.
فريدة : لماذا؟ ألم تعجبك قبلتي؟
فؤاد (يضحك ضحكة عصبية) : لهذا أخاف.
فريدة : لقد قلت أني جميلة، أليس كذلك؟ أم ترى كان هذا …
فؤاد (وقد سمع أصواتًا) : هذه ليلى، أذهبي الآن، من هنا (مشيرًا إلى الباب).

(فريدة تتلفت وتخرج.)

فؤاد (يمسح فمه بمنديل ويسوي ثيابه) : هذا لا يليق، ويحسن ألا يتكرر، لئلَّا تسوء العاقبة، وخصوصًا بعد سجنها الطويل، على كل حال، يجب أن نتقي أن نقع في حبائلها، نعم، فإن لها لحبائل، وأن خيري لمعذور، فإنها تحسن التقبيل، تضع روحها في فمها. (يتلمظ ثم يمسح فمه بمنديل) على أني لا أظنها تتعمد إيقاعنا في شركها، كلا، إنها مدفوعة إلى ذلك بغريزتها التي سُجنت ثلاث سنين، نعم وأظن أن هذا تعبير دقيق، غريزتها هي التي حُبست، فهي الآن تنفجر لأدني مس، وهذا يضاعف وجوب الحذر.

(تدخل ليلى وتغلق باب الشرفة وراءها.)

فؤاد (لنفسه) : هذا نذير.
ليلى (بلهجة جافة) : سأطلب إلى هذه الفتاة أن تفارقنا.
فؤاد (ملاينًا) : تفارقنا؟ أليست هذه مفاجأة؟
ليلى (متهكمة) : طبيعي أن يشق عليك فراقها فجأة! ولكنها هي أيضًا فاجأتنا.
فؤاد (موجسًا) : ولكن مستقبلها …
ليلى (مقاطعةً بلهجة الزراية) : أحسب مستقبل سواها لا يهم.
فؤاد (محاولًا الابتعاد بها عن الخطر) : ولكن طردها معناه إلقاؤها في الشارع؛ فما لها أحد كما تعلمين، ومن الذي يقبل سجينة اتُّهمت بقتل طفلها؟!
ليلى (ساخرة) : صحيح، صدقت، من ذا يمكن أن يقبلها غيرنا؟!
فؤاد (بلهجة المعلم) : إذا كانت قد أخطأت أو أساءت أفلا يَحسن أن تعطيها فرصة؟ كلميها، انصحي لها؛ إنها فتاة مستعدة.
ليلى (باحتقار وصوت عالٍ) : أنصح لفتاة لا تزال شفتها متقدة من حرارة التقبيل؟!
فؤاد (يضطرب جدًّا) : أ … أ … أ … أ … أظن أن هذا أ … أ … (ويعجز).
ليلى (بلهجة مُرَّة عميقة) : لقد رأيت بعيني هذه (تشير بإصبعها إلى عينها وهي تحدق في عينيه).
فؤاد (وهو فزِع لاعتقاده أنها رأته هو) : لقد كان هذا يا ليلى بدافع من العطف لا اﻟ … لا اﻟ … وأقسم لك.
ليلى (صائحة) : أووو! وأنت أيضًا؟! (تضحك ضحكة عصبية).
فؤاد (يسخط على نفسه ويدرك أنه اعترف فيتمشى بسرعة وهو يقول لنفسه) : غبي سخيف، هذا أنا.
ليلى (تجرُّ كرسيًّا وتضعه له في وسط الغرفة وتستند إلى ظهره) : يحسن أن تجلس، ماذا يهم؟!
فؤاد : إني أعترف أني أسأت السلوك، ولكن هذا كان برغمي.
ليلى (ساخرة) : قبَّلتها مرغمًا؟! هذا جديد (تضحك).
فؤاد (بشيء من الغضب) : هل من الضروري لسعادتك أن تمزقيني، إني أؤكد لك أني آسف ولم أكن أقصد.
ليلى (تتنهد وتقول جادة) : لقد حرصت دائمًا في الثلاث سنوات الماضية ألا أُشعر أحدًا من أهلك أو من معارفنا، أننا على غير وفاق، ولست تستطيع أن تُحصي عليَّ زلة واحدة، يجب أن تعترف بهذا، وأنت تتغفلني دائمًا وتدور من وراء خديعتي، وأخيرًا تجيء بقاتلة وترغمني على قبولها، وتكرهني على إحسان معاملتها كأنها سيدة شريفة، وتدعي أنها كانت تتأهب لأن تكون معلمة، وأن أبويها ماتا وهي في السجن، والباقي أنت تعرفه، قتلت ابنها، تصور هذا! آه لو كان لي ابن! إذن لما حفلت لنفسي شيئًا.
فؤاد : ألا تدعين هذا الكلام الفارغ، ثم إنها لم تقتل ابنها، وأنت تظلمينها.
ليلى : طبعًا طبعًا، ومن أولى بأن يدافع عنها منك.

(يهم فؤاد بالكلام فتشير إليه بكفها وتستمر بصوت هادئ.)

تعبت ولم يبقَ لي جلد على الاحتمال، ثلاث سنين على هذا النحو، أظنني استوفيت نصيبي.
فؤاد : إن هذا …
ليلى (مقاطعةً) : دعني أذهب في سكون وسلام؛ فلن تنقصك النساء كما أرى.
فؤاد : هل جننت؟
ليلى : إني جادة وأعتقد أني لن أموت جوعًا، (تزم شفتيها وتضغط أسنانها) نعم لن أعدم وسيلةً للعيش.
فؤاد : وسيلة؟ وسيلة؟ أي وسيلة؟!
ليلى : أو … و… أعيش على نحوٍ ما. أتظن أني سأتسول أو أحتاج لي العمل (تهز كتفيها) ولمَ لا؟ أي حالة خير من هذه.
فؤاد : لقد جننت على التحقيق.
ليلى : للضرورات أحكامها، وماذا يهم ما دامت اليد نظيفة، والقلب طاهرًا والنفس سليمة؟!
فؤاد : أنت تكسبين رزقك؟! كيف؟ ماذا تعرفين؟ ماذا تستطيعين؟
ليلى : أحاول.
فؤاد : هراء، أتتوهمين أني يمكن أن أسمح لك بأن تعرضيني لهذا الهوان، بأن تفسدي حياتنا كلينا، كلا، (يشور بيديه وهو يمشي بسرعة وهو يقول): زوجتي تعمل؟! تشتغل؟! أو هوهو!
ليلى : لن أكون زوجتك، وماذا يعنيك من أمري بعد أن تطلقني؟!
فؤاد : أطلقك؟
ليلى : نعم ونقطع كل صلة، وتنبتُّ كل رابطة، ولو وقفت ببابك مبسوطة اليد أستجدي اللقمة لوسعك حينئذٍ أن تأمر بطردي من غير أن تخجل.
فؤاد (مذهولًا) : ماذا جرى لك!
ليلى : حقيقة أني أتكلم جادَّة؛ فليس لنا أطفال، ليس هناك من يخجله أن له أمًّا فقيرة، لو كان لنا أطفال لاختلف الحال، كنت حينئذٍ أضطر أن احتمل من أجلهم وأتعزى بهم، وأنصرف عنك إليهم، ولا أبالي كيف تكون أنت، ولكن حياتنا لم تثمر، ولن تثمر، والصبر على هذا محال، وسيكشف المستور من أمرنا ويعلم به القاصي والداني.
فؤاد (مقاطعًا) : ليس هذا رأيي ما دمنا نحسن السلوك.
ليلى (متهكمة) : ما دمنا نحسن السلوك؟! (تضحك) كما تحسنه أنت؟
فؤاد : اسمعي، لقد قلت إني آسف، ولا أزال آسفًا، فدعينا من هذا، دعينا مما مضى.
ليلى (متهكمة) : طبعًا، وماذا يهمك من هذا الذي مضى؟! ماذا تبالي أنتَ كيف تعذبتُ، أو أتعذب؟! أدَع ما مضى؟! وأي أمل هناك في المستقبل حتى أدع ما مضى، وكم ماضيًا في العمر؟! (تهز رأسها وتتنهد) لا يا صاحبي، لقد قُضي الأمر بيننا.
فؤاد : ألا تسمعين لداعي العقل؟!
ليلى : داعي العقل! يا للسخرية! داعي العقل أن أبقى في بيتك ضحية لك لينشرح صدرك؟! من تمام معنى الحياة أن تكون لك فريسة؟! من كمال النظام في حياتك أن تكون في بيتك امرأة تتلقى قضاءك فيها بالصبر عليه والشكر لك؟! بقائي معذبة زينة لك؟! مفخرة؟! دليل على أنك رجل؟! أنك سيد، آمر، مطاع، تُشقي من تشاء وتُسعد من تشاء، ولا معقب لحكمك، ولا رادَّ لأمرك، وسبحانك وتعاليت؟!
فؤاد (مبهوتًا) : لقد جننت بلا شك.
ليلى : ألست معذورة إذا جننت؟! ألست من لحم ودم؟! هل أعصابي من الحديد؟! أكنت تظن أن لي كيانًا من الحديد، وأني مبنية من الصخر؟!
فؤاد : لا أدري ماذا أصابك، لم أعد قادرًا على الفهم، إن هذه نوبة جنون ولا شك، ومن أجل حادثة، حادثة تافهة أيضًا، ولكني لم أكن أتصور أن تفعل الغيرة كل هذا.
ليلى (ضاحكة بصوت عالٍ) : غيرة؟! أتقول الغيرة؟! من أي شيء بالله؟! هيه!
فؤاد : لست أريد أن أكون فظًّا، فإني أعلم أنك غير سعيدة كائنًا ما كان السبب.
ليلى : لماذا لا تسرحني؟ ماذا تصنع بي؟ أي سعادة لك واقعة أو مأمولة؟! أي خير تفوز به أو ترتجيه من بقائنا هكذا؟! أهذه حياة؟!
فؤاد : ولكن يا ليلى …
ليلى (مقاطعةً) : اسمع أنت لداعي العقل، إن حياتنا معًا عقيمة، لا تثمر إلا هذا النزاع المستمر، لا أنت راضٍ عني ولا أنا راضية بك، وليس لبقائنا هكذا أية نتيجة، غرق الزورق وانتهى الأمر.
فؤاد : لا، لا، إني ما زلت …
ليلى : هذا عبثٌ، تعامٍ عن الواقع، ماذا أجدت حياتنا هذه السنين الطويلة؟! أين ثمرتها؟! التعاسة المستمرة، العقم، شقاء كل منا بصاحبه، ألهذا ينبغي أن نبقى؟! أهذه هي الغاية المنشودة؟! كنت أفهم أن أظل أحتمل لو كان هناك عوض عما أقاسي، وأي عوض هناك؟! وأنت لماذا تمسكني؟
فؤاد : إني ما زلت يا ليلى …
ليلى : ما زلت، إن هذا تودد رخيص جدًّا، ثم إنه تكلف ثقيل لا يليق أن تكره نفسك عليه.
فؤاد : ولكن يجب أن تواجهي الحقائق.
ليلى : ألا تراني أواجهها؟ ألست أحاول أن أفتح عينيك عليها؟ ألست أسألك: في أي سبيل ولأية غاية أحتمل أنا هذا العذاب الدائم، وأصبر على هذه الحياة العقيمة؟ وليتها عقيمة فقط، ليتها فوق ذلك، لم تكن حافلة بما يمزق الأعصاب ويتلف النفس ويعصف بالعقل، وأنت لماذا تحتمل وتتشدد؟
فؤاد : لأن هناك حقائق أولية يجب أن نواجهها، حقائق لا يسعني كرجل رشيد يقدِّر التبعات التي في عنقه أن أغفلها، نحن زوجان يا ليلى، ألا تدركين ما تنطوي عليه هذه الحقيقة الضخمة، زوجان، ألا تفهمين؟
ليلى : نعم، ولكن كلمة واحدة تخرج من فمك تحل العقدة وتفصم الرابطة وتصدع القيود وتحط التبعات عن كاهلك، وإذن أنت حر وأنا حرة، وإذن أنت تستطيع أن تلتمس السعادة في حيث ترجوها، وإذن أنا أخطو بلا ألم وأحيى بلا عذاب حتى مع الفقر.
فؤاد : أنت مسئولة مني ولا سبيل إلى الإغضاء عن هذا فاعرفيه جيدًا.
ليلى : نعم ذكِّرني بأني يتيمة، وأني فقيرة معدمة، وأني محتاجة إليك، وأنك تمسكني لتحميني من الموت جوعًا.
فؤاد : لا أقصد هذا، اسمعي يا ليلى.
ليلى : حقيقة، أني أتكلم جادَّة، أواجه الحقائق كما تريد، أليس كذلك؟
فؤاد : إن هذا كثير.
ليلى : ولكنه الحقيقة، حتى ابن خالتي وهو قريبي الوحيد الباقي لا تسمح لي أن أراه، منعتني من رؤيته لأنه كان … هيه! كان … كان ونحن في صبانا يحبني ويرجو أن يكون لي زوجًا (بأسف) ليتني تزوجته.
فؤاد (ينتفض) : اسمعي يا ليلى إن هذه مكايدة لا تطاق.
ليلى : أظننا تكلمنا كثيرًا (تتجه نحو الباب).
فؤاد : يجب أن نتفاهم، هل تظنين أننا أول زوجين لم تثمر حياتهما ما كانا يرجوان من السعادة والنسل؟
ليلى (باستخفاف وضعف) : لا إذا كان كل الأزواج مثلنا فما أخيب آمالهم!
فؤاد : ولكنهم يصبرون ويحتمل بعضهم بعضًا، فلماذا؟
ليلى (بتهكم) : علِّمني!
فؤاد : إنه الشعور بالواجب.
ليلى : آه! لقد كنت ناسية.
فؤاد : إنك تستفزِّين الحجر.
ليلى : هل تطلب مني أن أظل أحتمل هذا الموقف، موقف امرأة لا هي متزوجة ولا هي غير متزوجة، ولا أمل لها في أكثر من ذلك، إن هذا جحيم، ويجب أن نعترف بذلك.
فؤاد : أظن أني بعد أن اعتذرت أستحق أ … أ …
ليلى : وأنا؟ لا استحق شيئًا لأني امرأة؟!
فؤاد : لقد قلت لك أن الأمر إنما كان …
ليلى : أو … و… إن هذه الفتاة إنما كانت القشة التي كسرت ظهر البعير، قشة لا أكثر.
فؤاد : ولكن يا ليلى لا شك أن في وسعنا بعد أن تفاهمنا بصراحة أن نجعل حياتنا أصلح وأهنأ.
ليلى : لا فائدة (تهم بالمضي).
فؤاد : انتظري، إن هناك تبعات جسيمة (تدور على عقبيها وتقف مواجهة له) إنكِ في عنقي وأنا مسئول عنكِ.
ليلى : ألا يمكن أن تطرح هذه التبعة؟ ماذا يربطك بي؟! هيه؟ ليس لنا أولاد، أم ترى ينقصك العلم بهذا؟
فؤاد : ولكن المسألة ليست هذه …
ليلى (مقاطعةً) : المسألة؟ ما أكثر مسائلك وأقل جدواها!
فؤاد : اسمعي يا ليلى، إني مستعد … (يضع يده على كتفها).
ليلى : لا، لا (ثم بعنف وهي تنزع نفسها) لا.
فؤاد : إذن أنتِ مصرَّة؟
ليلى (تلتفت إليه وهي خارجة) : أولم تدرك هذا إلى الآن؟ (تخرج).
فؤاد : إني أنذركِ، لست أنوي أن أحتمل أكثر مما احتملت (خرجت ولم تعبأ به).

(يقف مبهوتًا يفكر هل يتعبها أم ماذا يصنع، يتردد بين الأبواب ثم يعدل ويتحول إلى باب المكتبة وينحي الستار وينادي.)

فؤاد : فريدة! فريدة! تعالَي بسرعة.
(ينزل الستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤