الفصل الثاني

(غرفة أثاثها من الطراز القديم، أرضها مفروشة بحصير، وفوق الحصير بساط مخيط، وهو عتيق وقد حال لونه في مواضع شتى وذهبت ألوانه وظهرت خيوطه، وفي صدر الغرفة طَنَفٌ يرتفع عن الأرض بمقدار نصف متر ويمتد خارجًا عن البناء مثل هذا القدر، أما عرضه فمتران تقريبًا، ونوافذه مربعة، وهي ثقوب من تعارض الأعواد بعضها على بعض، وعلى الطَّنَف لَقَنٌ أو شبه طَسْت، فيه جرَّة على صورة إبريق وقلَّتان وكوز مُكفأ على فم الإبريق، وحلوقها مغطاة بشاش مبلل، وعلى الشاش ليمونات لتثبيته، وتحت الطنف، على الأرض حَشِيَّة بطوله لها مسندان، وتتوسطها وسادتان، والكسوة أحباس بيضاء تنتزع عند الحاجة للغسل، وإلى اليمين صوان (بوريه) للثياب، عليه مصباح بترول كبير وأدوات القهوة من فنجانات وموقد السبرتو … إلخ، وإلى جانبه باب، وإلى اليسار باب ذو مصراع واحد، وهو مفتوح ومثبت بمترس مما يلي النَّجْرَان (الخشبة التي يدور عليها العقب) وإلى يمين الباب عدة منافذ وإلى يساره كرسي من الخيزران.

الوقت: بعد الظهر.

حامد جالس على طرف الطنف، وساقاه ملتفَّتان، وكعب إحداهما على الحَشِيَّة، ويسراه في جيب البنطلون، وهو في حُلَّة رمادية قديمة ولكنها على هذا نظيفة، وعلى قدميه الجوربان دون الحذاء، ويُرى على عتبة الباب صندلة يلبسها في البيت بدلًا من الحذاء، وفي يسراه ورقة ينظر فيها ويقرأ بصوت خفيض لا يتبينه السامع.

تُسمع أصوات المنادين على السلع المختلفة في الحارة من مثل الخضر والفواكه وما إلى ذلك.

تدخل عليه عجوز من قريباته تقيم معه وتقوم بخدمته، وهي أقرب إلى القِصر منها إلى الطول، وإلى السِّمَن منها إلى الهزال، وشعرها أبيض، وهي تلبس ثوبًا مخططًا ولكن خطوطه تشبه أفاويق السهم، وعلى رأسها منديل، وفي عنقها خيط يجتمع طرفاه في عروة ساعة تحفظها تحت ثوبها، وفي يدها سبحة سوداء.)

الحاجة (ترفع يمناها لتخلص السبحة مما علقت به في ثوبها) : يا بني ارحم نفسك؛ بقينا العصر وانت لسه على لقمة الصبح!
حامد (يهز رأسه إلى أسفل) : حالًا، حالًا.

(ويخرج يسراه ويشير لها بأصابعه مجتمعة أن تتمهل، ويعود إلى القراءة.)

(الحاجة تجلس على الحَشِيَّة وترسل السبحة أمامها وتتمتم قليلًا.)

(حامد يمشي إلى الصوان ويفتح درجًا يضع فيه الورقات ثم يعود ويجلس، ويمد جسمه ويتمطى ويتثاءب مخرجًا صوتًا كهذا: وووواه.)

الحاجة : أجيب لك لقمة بأه؟
حامد (يضع كفه على كتفها ويردها برفق وهو يبتسم) : ليس الآن.
الحاجة (تهز رأسها) : ده موش كويس ده؛ تشتغل ازاي ويبقى فيك روح وجوفك فاضي؟!
حامد : لا أستطيع أن أشتغل إذا كانت معدتي مكظوظة.
الحاجة : لقمة خفيفة، حتة جبنة وشقة بطيخ تصلب بها روحك.
حامد : ولكني لا أستطيع الأكل الآن؛ ليس لي رغبة، حتى يزول هذا الفتور يا حاجة.
الحاجة : وبالليل تيجي وتترمي زي القتيل تقولشي إلا كان بيشتغل في الفاعل!
حامد : ليتني كنت ذاك؛ إذن لأفدت الصحة على الأقل.
الحاجة : متشوف لك يا بني شغلة ثانية، يعني جاك ايه من الهم ده كله؟
حامد : وأي عمل آخر هناك؟!
الحاجة : والله يا بني أي شغلانة أحسن من دي، لو عملت بتلاته جنيه بس تقبضهم آخر الشهر لبأت عيشتنا ندا، لكن اللي بيجيلك يركبه ألف عفريت؛ بييجي مقطَّع وكل حين ومين تلاتين قرش، أربعين قرش، خمسين، ريال، تؤ (تهز رأسها) ما يمكنش الأمور تدَّبَّر كده يا بني؛ أديني عايزة أدبَّأ إرشين أجيب بهم شوية زبدة وهي رخية أبل ما تشد، لكن منين؟! إللي باخده منك ترجع تاخده تاني: يا حاجة والنبي أنا معزوم أبصر فين، يا حاجة عايز سجاير، يا حاجة مش عارف راسي بتلف وصدري طابئ معاكيش قرشين أجيب بهم اسمها إيه؟ سفريتة.
حامد : أسبرين، أسبرين.
الحاجة : أنا عارفة؟ وايش كان درَّاني؟! لا كنا نعرف سفريتة ولا عفريتة، بس نفسي ربنا يصلح حالك ويسهِّل لك وتبأى الإرشين تدِّيهم لي مجمدين على بعض، كتار قليلين أهو على أدِّ الحال؛ علشان يا بني تيجي تلاقي لقمة كويسة، أنجِّدلك فرشك، البيت عايز كتير يا حامد ولا فيش حاجة.
حامد : أنا راضٍ يا حاجة بما قُسم لي، وكل ما أرجو هو أن يطيل الله لي عمرك.
الحاجة : عمري إيه وهباب إيه يا بني؟! وحاخد إيه من طولة العمر؟! وأنا عاملالك إيه يعني؟! غرش انا قلبي عليك، ويقول: القرش الابيض ينفع في النهار الاسود؛ أقولَّكش؟ طيب اديني كل يوم اللي تقدر عليه: إرش، إرشين، خمس أروش، الموجود، أشيلهم لك، مين عارف؟ أهو تبقى تلاقيهم إن حصل حاجة كده ولا كده، وكمان يا بني اللي معاه الإرش تبقى عينه قوية وقلبه جامد، أما اللي جيبه فاضي يا حسرة عليه؛ لا حد يقبل منه لا هنا ولا عزا؛ أهو أنا لما طلعت احج كنت وحدي، واسمي برده وليَّة، ولكن وحياة رحمة والدك كانوا رجالة بشنبات يخدموني خدمة العبد للسيد، ليه؟ علشان إرشي معاي، أُمَّال! ولما رقدت واللي جاني جاني بقوا حواليَّه، تقولشي أنا أمهم؛ سهرانين جنبي، ما فاتونيش أبدًا؛ بالدور؛ دا ينام ودا يصحى، لحدِّ ربنا ما من بالعافية، لو كنت بأه منفضة وإيدي مش عليهم دايمًا كنت زماني مت واتلقحت زي الكلبة في السكة (تتنهد) إيه! نفسي ربنا يكتب لي حجة ثانية قبل ما اموت، وأزور النبي يا رب (ترفع كفيها مبتهلة ثم تُخرج الساعة) العصر وجب، اجيب لك لقمة بقى وبعدين اصلي.

(تعيد الساعة وتنهض.)

حامد (مبتسمًا) : لا بأس.

(فتخرج)

ليلى (واقفة بمدخل الباب الآخر) : هل أدخل.
حامد (متلفتًا إلى مصدر الصوت وواثبًا على قدميه) : ليلى!
ليلى (داخلة تنساب) : وجدت بابك مواربًا فتشجعت واقتحمت الحصن.
حامد (ويداه في يدها) : الحصن يا ليلى؟! كيف تقولين؟!
ليلى (بابتسامة وضاءة) : أو فررت من الحصن هذا أصح.
حامد (رافعًا حاجبيه) : أهو ذاك؟
ليلى : نعم هنئني.
حامد : اجلسي أولًا، (ينظر إلى الباب الآخر) اسمحي لي بلحظة، حالًا، نصف ثانية.

(تشير إليه برأسها موافقة فيخرج.)

ليلى (تدير عينها في المكان) : أخشى أن أكون قد اخطأت؛ ولكنه قريبي الوحيد، وأنا أجهل الدنيا، فالطبيعي أن ألتجئ إليه أول ما أتَّجه؛ هو أولى بذاك من صواحبي — إن كان للمرأة الشقية في هذه الدنيا صواحب؛ أولى من ثريا مثلًا؛ فإن لها زوجًا هو ابن عم زوجي كما نبهتني.
حامد (داخلًا) : ألا تزالين واقفة؟!
ليلى : زيارة مباغتة، هيه؟ لم تكن تظن؟
حامد (مقاطعًا) : بل كنت أدرك أن هذا اليوم آتٍ لا ريب فيه.
ليلى (وهي تجلس) : هل سمعت شيئًا؟
حامد (يجلس أيضًا جاعلًا الكرسي بين رجليه ومتكئًا بذراعيه على مسنده) : لا (ممطوطة)، ولكن هذا الرجل، أ … أ … كيف أقول؟ أ … (رافعًا عينيه إلى السقف) إن التعبير يخونني ولكنك فاهمة، أليس كذلك؟
ليلى : لقد كنت كأني في قبو رطب تحت الأرض؛ لا نور ولا شمس ولا حرارة، سجن، وزوجي هو السجان، وياله من سجان! يحلو له أن يخايل الفريسة بالمفاتيح.
حامد : ولكنك أمكنك أن تفري.
ليلى : لم أفر، خرجت أمامه ولم يصدق أني ذاهبة إلا بعد أن رآني أجاوز عتبة الباب إلى الطريق، خرجت هكذا كما تراني (تلمس بيديها ثيابها من فوق ثدييها) فأبت له الكبرياء أن يخرج ورائي؛ كلا هذا لا يليق بمقامه، يكفي خادمة، نعم أرسل ورائي فريدة، لا أظنك تعرفها؛ هي فتاة كانت مسجونة لأنها أتهمت بخنق طفلها، فجاء بها لأنه كان يعرف أباها، فما كادت تجيء حتى انهال عليها هو وابن عمه تقبيلًا وعناقًا.
حامد : لا!
ليلى : رأيت ابن عمه بعيني، واعترف هو لي بلسانه، ومع ذلك أبى أن يطردها، ما علينا، بعثها في أثرى لا لتناديني وتردني، بل لتتعقبني ولترى أين أنا ذاهبة ثم تعود فتخبره، أليس هذا بديعًا؟ وحسنًا صنع إذ لم يطردها؛ فلولاها لوقعت في مشكل لا حل له.
حامد : آه، غريب!
ليلى : نعم كنت أكره هذه الفتاة وأحتقرها، ولكني بدأت أحبها، لما خرجت من البيت كنت أمقتها ولا أطيق أن أراها، وكانت هي في الواقع خاتمة الأسباب التي دفعتني إلى التمرد وإن لم تكن أقواها، غير أني لم أكد أقطع مائة متر حتى صفا لها قلبي وانقلبتُ مدينةً لها بجميلٍ.
حامد (يرفع حاجبيه مستغربًا) : إنه تحول سريع يا ليلى!
ليلى : ولكنه طبيعي؛ فقد أدركتني وقالت: «لقد كلفني سيدي أن أتبعك لأعرف إلى أين تذهبين»، فسألتها لماذا تخبرينني؟ قالت: إن ضميري لا يرتاح إلى هذا التكليف. قلت: وماذا تنوين أن تصنعي. قالت: «لقد تبينت في الأيام التي قضيتها في البيت أنكِ شقية وأنكِ — معذرة يا سيدتي — سجينة؛ أعني أن روحك هي السجينة المعذبة، وقد جربت السجن يا سيدتي فلك منى العطف، ولست أستطيع أن أكون معه عليك، نعم أنا مضطرة أن أؤدي واجبي لأني تعلمت الطاعة هناك، ولكني أريد أن أجعل أدائي للواجب على نحو يريح ضميري؛ وذلك بأن أقدم لك خدمة.» وأقول لك الحق يا حامد: إني لم أفهم ولم أشعر بارتياح، وأوجست خيفة من لباقة الفتاة وظننتها ماكرة؛ فقد كان كل ما أعرفه عنها لا يبعث على الثقة؛ لا تاريخها ولا سلوكها، ولكني أصغيت إليها فنبهتني إلى أني خرجت بلا ثياب غير التي على بدني، وأن الاقتصار على ذلك غير معقول، واقترحت أن تذهب بي إلى المحطة، محطة السكة الحديدية، وأن تتركني هناك في الاستراحة ريثما تعود إلى البيت وتجيئني ببعض ما لا غنى لي عنه، ألا ترى أنه اقتراح حكيم؟
حامد : بلا شك.
ليلى : نعم، فما كان يمكن أن أنتظر في عرض الطريق ولا في قهوة، وحاجتي إلى الثياب بديهية جدًّا وإن كنت من فرط اضطرابي قد غفلت عنها.
حامد : وهل عادت إليك كما وعدت؟
ليلى : نعم، غابت نحو ساعة كدت أجن فيها من القلق والوساوس ثم عادت بحقيبتين، هما هناك (تشير إلى خارج الغرفة) وقد ضحكت جدًّا، وسعني أن أضحك لما قالت لي إنها أفهمته أن هذا ضروري حتى تستطيع أن تصحبني من غير أن تثير شكوكي، وأنَّ تعقُّبي بغير ذلك يكون صعبًا وقد يفشل، وأغرب ما سمعته منها أن الرجل في ظنها لم يكد يفهم حرفًا مما قالته له، وأنها كانت كأنها تخاطب رجلًا غائبًا عن رشده. من هذه؟ (ناظرة إلى الباب).
الحاجة : ياختي بسم الله الرحمن الرحيم.
حامد : أوووه! هذه الحاجة، قريبة لي من بعيد، لا أظنك تذكرينها، ألا تعرفين من هذه يا حاجة؟ بنت خالتي، ليلى.
الحاجة (تتقدم إليها وتعانقها وتقبلها على الخدين) : باسم الله ما شاء الله، ما تأخذينيش يا بنتي، فين من أيام ما كنتي لسة عيلة أدِّ كده (تشير بيدها قريبًا من الأرض) فين الدنيا، رحتي وجه غيرك، استريحي يا بنتي، أهلًا وسهلًا، يا ألف مرحب، خدي راحتك يا حبيبتي، صدقي بالله يا بنتي روحي بتنطف عليك، ياما قلت لحامد: يا بني نفسي اطل عليها، وهو يمطوحني، وبعدين قال لي: اقول لك يا حاجة، جوزها ما بيحبش حد من ناحيتها يروح عنده، أُمت — اقول لك الحق — نفسي شالت، أنا كان قصدي اشوفك، واسمه برده ليكي أهل بيسألوا عليكي، مش مقطوعة من شجرة، لكن ما دام الحكاية كده إيه، الحكم لله! وما دام يا بنتي مستريحة ومتهنية أدي كل اللي إحنا عايزينه، الرجالة مش كلهم زي بعض، استريحي ياختي، يا حبيبتي، يا بنت الحبيبة (تربت لها كتفها) أعمل لك فنجان قهوة؟
ليلى : لا تتعبي نفسك، لا داعي.
الحاجة : قهوة العصر تعدل دماغك بعد المشوار ده. (تنظر إلى حامد نظرة لها معناها) ولا أجيب لكو لقمة، تصبيرة لحد العشا؟ مش ياختي بإذن الله ناوية تباتي عندنا الليلة.
حامد : نعم، الليلة، وغدًا، كل ليلة.
الحاجة (تنظر من حامد إلى ليلى) : مرحبا بك يا بنتي، لكن هو جوزك مسافر؟
ليلى : أخذت إجازة طويلة.
الحاجة : مش فاهمة يا بنتي، قصدك إيه؟
ليلى : قصدي، قل لها يا حامد.
حامد : مختلفة مع زوجها، ستقيم معنا.
الحاجة : بيتك يا بنتي ومطرحك، لكن جوزك؟ فيه حاجة مزعلاك؟
ليلى : هذا شيء شرحه يطول، سأخبرك بكل شيء في الليل.
الحاجة : بس يا بنتي بيتك؟ ليه ياختي تخرجي من خلف جوزك.
حامد : دعيها الآن يا حاجة.
الحاجة : يا بني قلبي عليها، تخرب على نفسها؟
ليلى (لنفسها) : آه! ماذا أقول؟ كيف أجعلها تفهم؟
الحاجة (تدنو منها وتربت لها كتفها) : لأ يا بنتي، لأ يا بنتي، خليكي عاقلة وطوِّلي بالك، صهيني ياختي، الواحدة لها مين إلا الراجل بتاعها.
ليلى : وا أسفاه! (تتنهد) إيه.
حامد : دعيها يا حاجة، إنك لا تعرفين.
الحاجة : معلهش ياختي، ما تخديش على خاطرك مني، أنا بس قلبي عليك، نهايته، إللي في علم الله يكون (تتجه نحو الباب).
حامد : لا تلتفتي إليها، ثم ماذا؟
ليلى : لا أرى أحدًا يعذر أو يفهم. (تخرج منديلًا من المَثْبَنَة تمسح به جبينها) حرٌّ.
حامد : اخلعي هذا المعطف، أو تعالَي خففي عنك.
ليلى : لا داعي لهذا.
حامد : كيف؟ أتريدين أن …
ليلى : نعم، اسمع حكايتي أولًا.
حامد : ولكن هذا غير معقول.
ليلى : على الترتيب، كل شيء في وقته؛ القصة أولًا ثم الموضوع وأخيرًا تجيء النتيجة.
حامد (يبتسم) : كما تشائين.
ليلى : أشكرك، أين بلغت في حكايتي.
حامد : جاءتك بالحقائب.
ليلى : سأختصر حتى لا أُمِلَّك.
حامد : لا، لا، بالتفصيل.
ليلى : الباقي قليل، جاءت معها بشيء من الخبز واللحم البارد، وأكرهتني على الأكل في الاستراحة وأسلمتني ما وجدته مبعثرًا من حلي، لم تستطع أن تحمل إليَّ كل الحلي؛ لأن أكثرها — الغالي منها — في خزانته هو، وسألتني إلى أين أقصد لتخبره، كان هذا شرطها، ولتستطيع أن تتصل بي عند الحاجة أيضًا، فقلت إلى بيتك أولًا ثم لا أعلم أين أذهب بعد ذلك.
حامد : أولًا وآخرًا يا ليلى، ليس لك مكان إلا هنا.
ليلى : سنرى بعد المناقشة، وإذا كنت ستبدأ بالإصرار فإن الكلام يكون عبثًا.
حامد (يضحك) : أمرك إذن، وإن كنت لا أرى نتيجة أخرى.
ليلى : المسألة هي أني لا أريد أن أرجع إليه.
حامد : أبدًا؟ في أي حال؟
ليلى : بأي ثمن لا أرجع.
حامد : ولكنه إذا لم يطلقك يستطيع إرغامك على الرجوع.
ليلى : كيف؟ وبأي وسيلة؟
حامد : له فيما أعتقد أن يطلبك إلى محل الطاعة.
ليلى : محل الطاعة؟ ما هذا؟
حامد : هو اصطلاح؛ يقيم الدعوى الشرعية عليك فتقضي له المحكمة بذلك.
ليلى (تنهض) : تُكرهني المحكمة؟!
حامد (ناهضًا مثلها) : نعم مع الأسف.
ليلى : برغمي؟!
حامد : أظن ذلك، على الأقل ما دام أن ليس لك دفاع وجيه مقبول شرعًا.
ليلى : أهو ظن أم أنت واثق؟
حامد : الحقيقة أني لا أعلم، سأستشير عالمًا أو محاميًا ثم أخبرك.
ليلى (وهي تتلفت) : يجب أن أختفي، حالًا.
حامد (ضاحكًا) : أوهوووو! هذه قضية تستغرق شهورًا إذا لجأ إلى هذه الطريقة، وأظنه من الطراز الذي لا يُحجم عن هذا.
ليلى (كالمفكرة) : محل الطاعة! وأين يكون هذا؟
حامد (ضاحكًا) : بيته مثلًا إذا كان مستوفيًا ما يشترطه الشرع، ولكن يجب أن تتناسي هذا الآن؛ لا تدعي التفكير فيه ينغص عليك السرور بخلاصك مؤقتًا.
ليلى : نعم، ولكن محل الطاعة! إني أكرهه، أمقته.
حامد (مداعبًا) : تكرهين محل الطاعة؟
ليلى : هو، هو.
حامد : لا تفكري فيه، سنرى ماذا نستطيع، كل شيء له وقته كما تقولين، والآن سأدخل هذه الحقائب (يلبس الصندلة ويخرج).
ليلى (لنفسها) : محل الطاعة؟! أيمكن أن يلزمني القضاء ﺑ … ﺑ … بمعاشرة من أمقت؟! وأي دفاع عندي غير أني أكرهه؟! هذا غير معقول، لا يمكن، لا يمكن، ولكن إذا أمكن، ماذا يكون العمل؟ هل أعود إلى ذلك السجن؟ سجن الروح والجسم معًا، مستحيل، مستحيل، الموت ولا هذا، نعم الموت أفضل وأرحم.
حامد (داخلًا بالحقائب وماضيًا بها إلى الداخل) : سيوجعك رأسك إذا فكرت في هذا، دعيه إلى أوانه (يخرج).
ليلى : مستحيل أن أرجع إليه مهما حدث، مهما لاقيت.

(تدخل فريدة بسرعة وهي تلهث وتتلفت.)

فريدة : سيدتي!
ليلى (مقبلة عليها) : ماذا جدَّ؟ ما لك؟
فريدة (وهي تلتفت كالمحاذرة) : لقد جاءوا، ورائي.
ليلى (بفزع شديد) : ويحي! (ترى حامدًا داخلًا فتفزع إليه محتمية به) احمني، أسرع، لقد جاءوا.
حامد (وذراعه حولها، موجها الخطاب إلى فريدة) : عفوًا لم أكن أدري أن هنا غيرها. (لليلى) لا تخافي، فلن يخطفك أحد.

(يسمعون وقع أقدام فيربت لليلى كتفها، فريدة تتراجع حتى تلصق بالحائط.)

حامد : شدي أعصابك، لا تخافي شيئًا (يخطو نحو الباب ثم تقف ليلى تلمح الداخلين فتتماسك).
ثريا (داخلة) : لقد قطعت السلالم قلبي، أعوذ بالله من علو درجاتها.
خيري (داخلًا في أثرها) : معذرة يا ليلى، ليس لهجومنا هذا مسوغ في الحقيقة، ولكن الرجل جن، لم يعد في رأسه عقل، هذا رأيي.
ثريا (لزوجها) : ألا تحتفظ برأيك حتى يُطلب منك إبداؤه.
خيري : ولكنه مجنون، وليس هذا رأيا في الحقيقة إنما هو الواقع.
ثريا : ألا يمكن أن تدعني أتكلم، هل جئنا هنا لنتيح لك فرصة لإبداء رأيك في ابن عمك، شيء غريب والله (تلتفت إلى ليلى) كل هذا بسببك.
ليلى (بجفوة) : لماذا جئت.
ثريا (مصدومة من سوء المقابلة) : ألا يمكن أن نكلمك وحدك.

(حامد يبدأ يتحرك.)

ليلى (تشير إلى حامد بيدها ناهية له عن الخروج) : كلا.
ثريا : قد يقال ما لا يَحسن أن يسمعه.
ليلى : إذن لا تقوليه.
ثريا : ولكن يا ليلى …
ليلى (منفجرة) : إنه ابن خالتي وأولى بالحضور من زوجك.
خيري : هذا حق، وإذا كان أحد لا محل له هنا، فهو أنا، ولقد عارضت في هذه الحملة ولكنها جرَّتني، ولا أدري ما شأنها في الحقيقة.
ثريا (لخيري) : ألا يمكن أن تسكت.
خيري : أسكت كيف وأنا أراكم جميعًا مجانين؟ ثم إنكم تجرُّونني معكم فيجب أن أتكلم.
ليلى (لثريا) : لماذا جئت؟ ماذا تبغين مني؟
ثريا : أن تعودي.
ليلى : إلى ذلك الرجل؟
ثريا : الرجل؟! إنه زوجك يا ليلى.
ليلى : وإذا لم أعد.
ثريا : لا تكوني حمقاء، إنه زوجك وليس لك سواه.
ليلى (بأسف ومرارة) : زوجي؟! (تهز رأسها).
خيري : تعالَي يا ليلى، ما هي شكواك؟
ليلى : لست أشكو شيئًا.
خيري (مخدوعًا) : هذا حسن، لقد بدأنا نتفاهم. (لثريا) لا يمكن أن تتفاهم المرأة مع المرأة. (لليلى) إذن ماذا يمنعك أن تعودي؟
ليلى : إني أريد أن أتنفس.
خيري : لا شك، لا شك، شيء طبيعي، وكلنا نريد ذلك، ولكن ألا يمكن أن تتنفسي هناك؟ أعني ألا يوجد سبب آخر؛ سبب يكون أقوى، سبب يقنع؟
ليلى : لقد قلت لك إني لا أشكو ولا أتعتب، وما الفائدة من الشكوى أو العتاب؟! هو نفسه يعترف بأن لا فائدة، كل ما أبغي هو أن يدعني وحدي، فليطلقني.
ثريا : كلام فارغ! ألا …
خيري (مقاطعًا زوجته) : تمهلي يا ستي، إن الله مع الصابرين، ولكن إذا لم يكن لك شكاة معينة فأنى أخشى أن يقال إن هذا طلب غير معقول، وأنك متعنتة، أو أن لك بواعث أخرى لا علاقة لها بزوجك، معذرة؛ فإني إنما أنبهك إلى الحقائق التي يجب أن نواجهها.
ليلى (بابتسامة) : الحقائق؟!
خيري : نعم فإن الناس لا يعبئون إلا بها، ولا ينظرون إلا إليها.
ليلى : أليس سببًا كافيًا أننا غير متحابين ولا متآلفين؟
خيري : ولكنه هو لا يبدي ملالًا أو …
ليلى : هو؟ آه طبعًا، أما أنا (تهز رأسها) فلا أُهم.
خيري : أنت مخطئة، إنه على أتم استعداد لأن يُجيبك إلى أية رغبة.
ليلى : أية رغبة؟
خيري : نعم.
ليلى : ما أكرمه! ولكني ليس لي سوى رغبة واحدة.
خيري : وما هي؟
ليلى : أن لا أرى وجهه.
خيري : أوووه!
ثريا : ألا تقولين كلامًا معقولًا؟
ليلى : أليس كلامي معقولًا؟!
ثريا : لم أعد أدري ماذا أقول.
ليلى (ببرود) : إذن لا تقولي شيئًا (ثم بحرارة) إنك سعيدة تنعمين بحب زوجك، فكيف تستطيعين أن تعذري أو تفهمي.
الحاجة (تطل برأسها) : يا نهار! ودول إيه كمان دول! (تختفي بسرعة).

(يلتفتون إلى مصدر الصوت فلا يرون شيئًا.)

(حامد وليلى يبتسمان.)

ليلى (بابتسام المتهكم) : هل تريدون أن تقولوا شيئًا آخر؟
ثريا : إنه مستعد أن يتناسى ما كان.
ليلى : يا له من كريم طيب القلب!
ثريا : تناسي أنت أيضًا.
ليلى (بتنهد) : أتناسى أني أموت شيئًا فشيئًا؟! أتناسى أني كالشجرة التي لا تجد من يسقيها أو يرويها، والتي تذبل وتذوي وتموت منها كل يوم ورقات؟! أتناسى أن لي حياة واحدة لا ثانية لها؟! ليت لي حياتين، إذن لضحيت بواحدة، إذن لجُدت عليه بالأولى على رجاء أن تكون الثانية أسعد وأرغد، ولكن حياتي الواحدة تتمزق، وليس للعمر من يرفوه كما تُرفى الثياب القديمة، ليس للحياة من يرقِّع فتوقها كما تُرقَّع الأحذية البالية، أتناسى؟! ألا تفهمين؟! إني أقسم أني لو اعتقدت أن هناك طيفًا من الأمل، ظلًّا من الرجاء في ذرة ضئيلة من الوفاق — ولا أقول من الحب — لعدت الآن، وهل تظنين أنه يسرني أن أهدم بيتي على رأسي؟! هل تتوهمين أني أغتبط بأن تتقوض حياتي؟!
ثريا : ولكن يجب أن تفكري؛ ليس لك مورد للحياة، ماذا تستطيعين؟! كيف تعيشين؟! إني أدرى منك بالدنيا، ويشق عليَّ أن أتصور ما قد يصيبك، بل ما لا بد أن يصيبك.
حامد (يتقدم خطوة) : سيدتي، اسمحي لي أن أقول …
ليلى (تقاطعه وتشير إليه أن يسكت، فيتراجع) : وإذا عدت؟
ثريا : عين العقل، فكري قليلًا يا ليلى، لا تندفعي.
ليلى : أهذا تقديرك؟
ثريا : تقديري وتقدير كل عاقل.
ليلى : آه يا ثريا، إنك معذورة إذا لم تعذري؛ أتدرين كم عمري الآن؟
ثريا : أنك ما زلت صغيرة وللشباب جمحاته، أنا أكبر منك فصدقيني أو استمعي لنصحي.
ليلى : إني في السادسة والعشرين وهو في الخامسة والثلاثين.
ثريا (غير فاهمة) : ليس بينكما تفاوت كبير، كلاكما في عنفوان شبابه.
ليلى (كالناظرة إلى المستقبل) : الآجال غيب.
ثريا : لماذا تتكلمين هكذا؟ أأنت مريضة؟
ليلى (مستمرة) : نعم الآجال غيب، أستار غيب الله كثيفة، ولكنا قد نعيش عشرين أو ثلاثين سنة أخرى، لمَ لا؟! هذا ممكن.
ثريا : لا أدري ماذا جرى لك.
ليلى (تهز رأسها) : عشرون أو ثلاثون سنة على منوال الثلاث الماضية، فكِّري في هذا يا ثريا، ثلاثون سنة من الشقاء معه.
خيري (بتأثر شديد) : إن هذا مؤلم، مؤلم جدًّا، ولست أستطيع أن أحتمل أكثر من هذا.

(فريدة تكفكف عبرتها.)

ثريا (لزوجها) : ألا تسكت؟! لماذا تأبى إلا أن تحشر نفسك؟!
خيري : أسكت كيف؟! ألا تسمعين؟! ألا تبصرين؟! أليس لك خيال؟! إن قلبها يتمزق من هول ما يقاسي ومن هول ما يتوقع أن يقاسي أيضًا، لقد كنت أظنك كامرأة أقدر على فهم موقفها وتقدير شعورها.
ثريا (لزوجها) : لقد عاشت معززة مدللة في كنف زوجها، فكيف تعيش الآن؟ كيف يمكن أن يُسمح لها بأن تمرغ نفسها واسمها واسم زوجها في حمأة الفاقة والهوان؟! ألا ترى هذا المكان؟! ألا تستطيع أن تدرك أنها الآن عند مفترق الطرق وأن إحداها يؤدي إلى الوبال.
ليلى (بمرارة) : إحداها يؤدي إلى الوبال؟ أيها من فضلك؟
ثريا : ارجعي يا ليلى، إنك غريرة لا تعرفين الدنيا.
ليلى (لحامد) : بأي شيء تفتدي كرامتي وتصونني من الوبال الذي تنذرني إياه ثريا؟
حامد (يتنحنح) : كأنك لا تعرفين.
ثريا (منفعلة) : أهذا مكان يليق أن تعيش فيه زوجة فؤاد بك؟!

(حامد الذي كان مستندًا إلى الصوان يعتدل، خيري يشور بيديه ساخطًا.)

ليلى : لا تقولي: زوجته، ولكن قولي: امرأته.
خيري (لحامد) : آسف وأعتذر.

(حامد يُنغض رأسه بلا كلام.)

ثريا (غير ملتفتة إلى ما تُبودل من الاعتذار والقبول) : هل جننت؟ هل فقدت كل إحساس بالكرامة والواجب؟

(ليلى تنفجر بضحكة عصبية.)

خيري : أعوذ بالله! إنك تقطعين قلبي.
ليلى (تكف عن الضحك) : الإحساس بالواجب! ما أبدع هذا! عليَّ واجب لكل إنسان، وليس عليَّ واجب لنفسي؟! هذا بديع، أنا ليس لي قيمة ولا حق، أطالَب بكل شيء، ولا يطالَب هو بشيء؟! ولكني لست دمية، لست منحوتة من الحجر، إنما أنا امرأة حية، امرأة لا تطمع في أكثر من أن تحيا كامرأة، لا تستطيع أن تغير أنوثتها.
خيري : بالله، لقد خنق الرجل قلبها.
ثريا : خيري! خيري!
خيري (ثائرًا) : خيري! خيري! ماذا تبغين من خيري؟! هل عليك عفريت اسمه خيري؟! قطع الله دابر خيري وابن عم خيري، ألست أنثى مثلها؟! دعيني أتكلم، لا بد أن أتكلم، نعم فليس يسعني إلا أن أقول أ … أ … أ … لقد انعقد لساني، ولا أستطيع أن أقول شيئًا (يُشوِّر بيديه ساخطًا ويهز رأسه ويخرج).
ثريا : لم تبقَ لي حيلة؛ وأنت عنيدة وستندمين.
ليلى (تستعيد تماسكها) : أهذا رأيك؟
ثريا : أرجو ألا تنهمكي (مشيرة إلى الباب) هذا زوجك، شأنك معه (تخرج).
فؤاد (واقفًا في مدخل الباب) : ليلى!
ليلى (ترفع حاجبيها) : ها!
فؤاد (داخلًا) : إنك لا تدركين ما تصنعين؛ تعرضينني للفضيحة.
ليلى : طلقني؛ فلا يبقى لك بي شأن ولا يلحقك مني عار.
فؤاد : هل تتوهمين أني مستعد أن أتركك تغيبين عن عيني؟!
ليلى (متهكمة) : عن عينك؟! يا للمحب المشغوف!
فؤاد : إنك زوجتي.
ليلى : ليس أمام الله.
فؤاد : ما جئت لأناقش في هذا؛ فإنه فوق المناقشة، بل لأنذرك سوء العاقبة.
ليلى : تالله ما أرقَّ قلبك!
فؤاد : نعم سوء العاقبة، وقد كنت أنتظر من هذا الرجل أن يرد إليك عقلك.
ليلى : ابن خالتي من فضلك.
فؤاد : لا تنقصني معرفته، وقد كان يجدر به أن يكون له موقف آخر، كان ينبغي أن يقنعك بأنك ترتكبين حماقة وأن الذي تقدمين عليه جنون.
حامد : أرجو المعذرة، ولكن يجب أن تكون منصفًا يا فؤاد بك.
فؤاد : منصف يعني ماذا؟ هل تريد أن تقول إن عملها هذا يجوز؟! أن لها أن تهجر بيتها وتهدم حياتي وتفضحني وتجعل أمرنا أحدوثة؟!
حامد : إنما أريد أن أقول إن كليكما الآن مهتاج مضطرب الأعصاب، فمن الحكمة أن تدع لها ولنفسك أيضًا وقتًا للتفكير الهادئ، اتركها يومًا أو أثنين، لا ضرر من هذا مطلقًا، ثم بعد ذلك؛ بعد أن تهدأ الأعصاب وتسكن النفوس وتخمد الثورة يمكن أن تتكلم، وستكون هنا كأنها في بيتك تمامًا، بل أكثر.
فؤاد (مندهشًا) : أتقول: اتركها؟! أتركها في بيت رجل كان يطمع أن يتزوجها ولكن التوفيق أخطأه؟!
حامد : ماذا تقول؟
ليلى (لزوجها) : أشكرك على هذا الأدب.
فؤاد : إنه عرضي، وأنا رجل صريح.
ليلى : لي أنا هذا الكلام؟!
حامد : إنك زوجها أما أنا فابن خالتها، كلمة جمعتك بها وكلمة تفصلك عنها، ولكني أنا من لحمها ودمها؛ فهو عرضي قبل أن يكون عرضك.
ليلى : لو أني كنت كغيري من النساء لمزقت لك عرضك وأنت جاهل وراضٍ أيضًا، وما أكثر النساء اللواتي يفعلن ذلك وأزواجهن في غفلة! وأنا أحفظ عفتي وأصونها وهذا جزائي؟! طبعًا، من يدري؟! لعلك رأيت خادمًا يقبلني (تضحك) ربما.
فؤاد : ألم تشبعي من الكلام في هذه الحكاية؟
ليلى : أنت الذي يخطئ، ويزلُّ، ومع ذلك تجيء وتملأ فمك بالكلام عن العرض؟! ألا تخجل من نفسك؟!
حامد : يا سيدي اسمع نصيحتي، دعها أيامًا حتى تقرَّ هذه الفَورة.
فؤاد : لا أستطيع أن أترك زوجتي تلقي بنفسها إلى التهلكة وأنا واقف أتفرج.
ليلى : ما أعظم هذه الرجولة التي لا تستنكف مع ذلك أن تحاول أن تجر امرأة على رغم أنفها!
فؤاد (منتفضًا) : ألا تكفين عن هذا التهكم؟!
ليلى : إذا كان يسوءُك كلامي فاذهب وعد من حيث أتيت.
فؤاد : تعالَي معي.
حامد : يا سيدي إن هذه الطريقة لا تجدي، بل أخلَق بها أن تزيد الحالة سوءًا، فدعها أيامًا.
فؤاد : إنها زوجتي ولي عليها الطاعة.
حامد : ولكن هذا العنف لا لزوم له، من الممكن أن يحدث التفاهم بهدوء في وقت آخر.
فؤاد : قلت لك إنها زوجتي، وإذا كنت ألجأ إلى هذا الذي تسميه عنفًا فإنه لخيرها؛ القسوة لازمة أحيانًا، ماذا يكون مصير الأسرة إذا سمح الرجال لزوجاتهم أن يخربن البيوت لغير علة مفهومة، ضع نفسك مكاني.
ليلى : لو كان مكانك لما حدث شيء من هذا، إذن لعشنا سعيدين على الرغم من الفاقة.
فؤاد (يهيج ويضطرب) : ألا تنوين أن تقفي عند حدٍّ في هذه المكايدة؟ إنك تدفعينني إلى الالتجاء إلى أقسى الوسائل، وهذا إنذار مني لك، وأقسم بالله لئن لم تطيعي وتعودي من تلقاء نفسك وحدك، فلأعيدنَّك بكرهك مسحوبة على وجهك.
ليلى : افعل ما بدا لك.
خيري (في مدخل الباب) : ألم تفرغ بعدُ؟! هل تريد أن نظل ننتظر طول النهار في الطريق تحت الشمس المحرقة حتى تتعب حضرتك من الكلام؟
فؤاد : لقد فرغت.
خيري (مقاطعًا) : الحمد لله، لعلك استرحت، تفضل.

(يخرجان.)

(ليلى تقف ناظرة إلى الباب الذي خرج منه ثم تهتز بحزن وتبدو للناظر كأنها تهم بأن تسقط على الأرض من فرط الأعياء والتداعي. حامد يلحظ ذلك فيدنو منها ويحيطها بذراعه فتستند عليه وتغمض عينيها مستريحة إلى حنوِّ لمسته، وبعد هنيهة تتماسك وتتشدد.)

ليلى (بتنهد عميق) : إيه!
حامد (وهو لا يزال يطوِّقها) : تشجعي.
ليلى (ترفع إليه عينها في بطء) : تعبت يا حامد.
حامد : طبعًا، ولكن تصبري.
ليلى : لقد أنصفني خيري، أليس هذا منه كرمًا؟
حامد : ومن الذي لا ينصفك من هذا الجنون؟!
ليلى : وبكت فريدة عطفًا عليَّ، ألم تلحظ ذلك؟
حامد : لم يكن بالي إليها، ولكن لا غرابة؛ فإن اللص كثيرًا ما يكون كريمًا وقاطع الطريق شهمًا ذا مروءة، والقاتل رحيمًا، وليس في الدنيا نفس كلها خير أو كلها شر.
ليلى (ترفع إليه وجهها) : لو كنت مكانه يا حامد أكنت تفعل فعله؟
حامد (تعلو وجهه سحابة) : يا له من سؤال!
ليلى : لا تهرب من الجواب.
حامد : أوَبكِ حاجة إلى السؤال يا ليلى؟!
ليلى : معذرة يا حامد، لم أكن أقصد أن أنبش آمالك المقبورة، ولكن قل إنك تفهم وتعذر.
حامد : ليلى!
ليلى : نعم قل إنك تعذر، فقد مات قلبي تحت الضلوع؛ هنا (مشيرة إلى قلبها) لا شيء؛ فراغ.
حامد (وقد نسي نفسه) : آه لو كان الحب يحيي الموات (يهز رأسه ثم يتنبه) تشجعي، لن تكابدي مثل هذا مرة أخرى.
ليلى : هي جناية أبويَّ، ليس لي فيها ذنب؛ هما زوجاني منه، ومع ذلك أنا وحدي أتحمل النتيجة.
حامد : لا تفكري في هذا؛ فإنه عبث.
ليلى (مسترسلة في تفكيرها) : أما هو فلا يخسر شيئًا، يستطيع أن يتعزى بألف امرأة، يستطيع أن يتزوج الآن، يخرج من هنا ويعقد لنفسه على غيري إذا شاء، أما أنا … إيه!
حامد : دعي هذا يا ليلى؛ إنك لست المرأة الوحيدة في هذه الدنيا، ومن أدراك أن ليس بين الرجال من هم أشقى من النساء؟! إن السعادة حظوظ يا ليلى؛ قِسم وأرزاق.
ليلى (تنظر إليه متأملة كأنها تذكرت شيئًا) : حامد!
حامد (يرفع حاجبيه مستغربًا نظرتها) : نعم.
ليلى (بحنوٍّ وأسف) : ألا تزال تحبني؟
حامد (متجلدًا ومغالطًا) : يا فتاتي المسكينة، حتى هذا المجنون يحبك وهو لا يدري.
ليلى (مطرقة كمن تحدث نفسها) : كنت أخشى.
حامد : ماذا؟
ليلى (مشيرة إليه بعينها) : هذا.

(حامد يهز رأسه كأنه لا يفهم.)

ليلى (شارحة) : إنك لا تزال تحبني، كنت أعتقد أنك سلوت، تلهَّيت.
حامد (متشددًا على الرغم من اضطرابه) : أوووه! دعي السرور بنجاتك ينعشك ويشبع في كيانك الشعور بالحياة والشباب.
ليلى : مسكين.
حامد : من؟
ليلى : أنت.
حامد : لماذا تقولين هذا؟
ليلى (مواصلة تتبع خواطرها) : مسكين، فقدت جنَّتك وفقدت حواءك، وحواء ماذا كسبت؟! كسبت هذا الهم الثقيل، هذا العقم في الشباب، هي أيضًا خرجت من الجنة، ولكنها لم تخرج إلى الأرض، بل انتقلت إلى الجحيم، ولعل هذا يعزِّيك.
حامد (مضطربًا) : ليلى!
ليلى : إني شقية، أُشقي حتى الذين أتصل بهم، أنكأ لك الجرح ثم أتركه ينزف، (ترفع رأسها فجأة) هل اندمل قطُّ؟!
حامد (يغالط ويحيطها بذراعه) : تعالَي أريحي رأسك المتعب.
ليلى (بشرود) : كلا.
حامد : كلا! ماذا تعنين؟
ليلى (وهي لا تزال شاردة) : لو كنت رزقت منه طفلًا (ترفع رأسها فجأة إلى حامد) حامد! أتظن أني جديرة بشكر الله أم بندب حظي؟
حامد : عن أي شيء تتكلمين؟ (يضع كفه على جبينها) أوووه! يجب أن تستريحي حالًا.
ليلى (وهي لا تزال شاردة) : لا أدري، ومن أين لي أن أعرف؟ (ترفع عينها إلى السماء) لماذا حرمتني هذا العزاء … المحتمل، العزاء الذي تفوز به كل امرأة، أحط امرأة؟
حامد : ماذا أصابك؟ هل جننت؟
ليلى (تقهقه) : هل جننت؟ إنك تذكرني به، هذه ألفاظه بعينها.
حامد : إني آسف ولكني أعني …
ليلى : أعرف ما تعني، دعني وحدي، ولكن كيف؟ كيف؟ أنَّى يتاح لي هذا؟
حامد : إن هذا جنون مطبق، ليس لك مكان إلا هنا.
ليلى : أعرف هذا، ولكني أحب أن أكون وحدي، أحب أن أشعر أن المكان كله لي؛ أني حرة، أفهمت؟
حامد : بالطبع أنت حرة، من الذي يقيدك؟! ولكن هذا بيتك.
ليلى (بضعف وتهافت) : تعبت، ولم تبقَ فيَّ ذرة من القوة، ولكن إذا جاءوا ليأخذوني؛ أعني، أ … محل الطاعة.
حامد (ضاحكًا بتكلف) : أوووه! تعالَي، أين نحن من هذا؟
ليلى (وهو يسير بها نحو الباب) : حامد!
حامد (يقف) : ماذا يا ليلى؟
ليلى : هل تستطيع أن تحميني منه؟
حامد : الله معنا، تعالَي.
ليلى : يا مسكين، يا مسكين، لم يكن ينقصك هذا العبء.
حامد : بالله عليك لا تتكلمي هكذا.
ليلى : دعني أقبلك، ولمَ لا؟! ألست ابن خالتي؟!
حامد (يعطيها خده) : بالطبع، إنك أختي.
ليلى (تقبله) : يا محروم.
حامد : ليلى، بالله عليك.
ليلى : كم سنة؟ وما حاجتي إلى السؤال؟!
حامد : أوووه!
ليلى : قبلني أنت أيضًا كما قبلتك.

(حامد يحنو عليها ويهم بتقبيل جبينها ورأسها بين يديه.)

ليلى : لا لا لا، من فمي يا محروم.
(يسدل الستار وهما متعانقان.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤