الفصل الرابع

(بعد بضعة شهور أخرى)، في الشتاء.

(غرفة مائدة، في الوسط المائدة، وهي بيضاوية، وعليها كسوة بيضاء، وفوق الكسوة زهريتان، وحولها أربعة كراسي، وإلى اليسار خوان على رخامة، طبقَا فاكهة فيهما تفاح وكمثرى، وبينهما زجاجتا نبيذ وكونياك، وفي الصدر نافذة عريضة عليها شَفَّان (ستران رقيقان)، وتحت النافذة كرسيان من كراسي المائدة، وفي الركن الأيمن كرسي كبير من الجلد له مسندان، يُسمع صوت المطر وعصوف الرياح من شدة هبوبها، يُفتح الباب بقوة ويدخل شاب حسن الهندام متين الأسر يحمل ليلى، تساعده فريدة ويضعانها بعناية على الكرسي الكبير، وتُرى ثيابهم جميعًا مبللة.)

(فريدة تسوي لليلى خصل شعرها وتركع أمامها وتتناول كفها.)

الشاب : لا تزال غائبة عن رشدها (يتلفت ويمضي إلى الخوان ويتناول زجاجة الكونياك ثم يردها) كلا، هذا لا يجدي الآن (يتجه إلى الباب، لفريدة) سأجيء بمنبه (يخرج).
فريدة (لنفسها) : الحمد لله، لقد نجت ولما تكد (الشاب يعود بزجاجة صغيرة ويقلبها على سدادتها ثم ينزع السدادة ويدنيها من أنف ليلى فتتحرك، ينشقها مرة أخرى فتتحرك وتئن.)
الشاب : بدأت تفيق، الحمد لله.
فريدة : ستي! ستي!
الشاب : لا تتعجلي، دعيها تفيق على مهل (ليلى تهمهم بكلام غير مفهوم ثم تفتح عينيها وتنظر وكأنها لا ترى).
الشاب (بصوت خفيت) : أحسن؟ (يراها تنظر إليه وتهم بأن تتكلم وتتحرك) ليس الآن، استوفي راحتك أولًا، ليس هناك أي داع للعجلة.
ليلى (وقد أفاقت) : ولكن … (تُجيل عينيها في الغرفة) لماذا … (ترى فريدة) فريدة، (تتناول كفها).
فريدة : الشكر لله أولًا ثم لهذا السيد، لقد كدت تقتلين نفسك.
الشاب : الحقيقة أني لا أزال ذاهلًا، لقد خيل إليَّ أنك تريدين أن تنتحري، فقد كنت مقبلة على السيارة، فلولا أني كنت سأقف حيث وقفت لدهستك بلا شك.
ليلى (بضعف) : إيه، وماذا كان يهم؟!
فريدة : لا تقولي هذا يا سيدتي.
ليلى : ريقي ناشف. (للشاب) هل تسمح بقطرة ماء؟
الشاب (يذهب إلى الخوان ويصب في الكأس قليلًا من الكونياك ويعود به) : هذا الشراب أوفق، ينعشك بسرعة.
ليلى (قبل أن تتناوله) : أي شيء هذا؟
الشاب : كونياك، إنه في مثل هذه الحالات يرد النفس ويكسب الجسم نشاطًا وقوة.
ليلى (تتناول الكأس وتنظر إليها) : هاه، أحسب أن لكل شيء أولًا (للشاب) أليس كذلك؟ (تشرب الجرعة دفعة واحدة وتعبس وتنتفض).
فريدة (تتسمع ناظرة إلى النافذة) : ألا ينقطع هذا المطر؟
ليلى (تلقي نظرة على ثيابها) : لقد تزحلقت فوقعت.
الشاب : وهذا هو الذي نجاك على الأقل من الصدمة؛ فقد كنت تجرين نحو السيارة وتتلفتين، فلولا أن تزحلقت لصدمت نفسك بمقدمة السيارة.
ليلى : نعم، كنت أفر، كان ورائي ما هو شر من الموت، فالذي أمامي لا يهم (ثم لفريدة) أتظنين أنه رآني؟
فريدة : من يدري! لقد حدث كل شيء بسرعة (للشاب) ولا أدري كيف اجترأت أن أرجو منك أن تحمل سيدتي وتدخلها في أي مكان، ولكنك كنت إلى جانبي (لليلى) لقد كان سيدي بعيدًا حين رأيناه، ولكن نظره قوي، على كل حال أرجو ألا يكون قد رآنا.
ليلى : ولكني لا أستطيع أن أخرج إلا إذا تحققت؛ فقد يكون متربصًا.
فريدة : في هذا المطر؟!
ليلى : ولمَ لا؟! هل يعدم عتبة باب يقف عليها ويتواري من المطر.
فريدة : إذن يحسن أن أنظر.
ليلى : نعم يحسن.

(تخرج فريدة.)

الشاب : إني معترض.
ليلى (بابتسام) : على …؟
الشاب : على الخروج؛ المطر شديد والرياح عاصفة وثيابك أ … أ … خفيفة.
ليلى (وهي تمسك ثيابها) : خفيفة، نعم، أليست كذلك؟
الشاب (مضطربًا ومتلجلجًا) : أ … أ … لا تصلح لهذا الجو (ثم كالمعتذر عنها) لقد فاجأك المطر بالطبع.
ليلى (بابتسام من لا يبالي) : فاجأني؟ كلا لم يفاجئني شيء.
الشاب (مرتبكًا) : أ … أ … على كل حال لا مسوغ للخروج الآن؛ فإن الليل لا يزال بعيدًا، وبعد أن تستريحي تمامًا وتطمئني كل الاطمئنان من ناحية أ … أ … ذلك الرجل.
ليلى (مقاطعةً) : زوجي.
الشاب (مرتبكًا) : لم أكن أعرف معذرة.
ليلى : غريب هذا أليس كذلك؟
الشاب (يزداد ارتباكًا) : أظن أن … أنت أدرى.
ليلى (تضحك) : هذا الشراب منعش حقيقة.
الشاب : إذا سمحتي فإني …
ليلى : نعم قطرات أخرى، هل فيها من بأس؟
الشاب : لا لا لا، مع الإقلال لا ضرر.

(يذهب إلى الخوان ويجيء بكأس.)

ليلى : ماذا يهم؟! (تهز كتفها) صار كل شيء ككل شيء (للشاب) أخشى أن أكون جائرة على ذخيرتك منه، أعني لست أحب أن أحرمك منه.
الشاب : لا، أبدًا، إن الزجاجة ملأى وأنا مُقِلٌّ، أعني في العادة (يعود إلى الخوان، تنهض ليلى بالكأس في يدها إلى المائدة وتضعها عليها وتجر الكرسي لتجلس).
ليلى : هنا أوفق.
الشاب (يضع الزجاجة على المائدة ويملأ لنفسه أيضًا كأسًا، يشربان) : لقد قلتِ الآن أن لكل شيء أولًا فهل تعنين؟ معذرة من هذا الفضول.
ليلى (مقاطعةً) : أول مرة — (تهز رأسها مبتسمة) نعم — لم أذق شرابًا قبل هذا، ولم أجالس غريبًا إلا اليوم.
الشاب : لم يخطئ ظني.
ليلى : هل تظهر عليَّ السذاجة إلى هذا الحد؟
الشاب : إنما أعني أن المرء لا يسعه إلا أن يدرك أنك سيدة.
ليلى : سيدة! أهذا رأيك؟
الشاب : رأيي ورأي كل من يراك.
ليلى : ألا يغير هذا الرأي ما أصنعه الآن؟
الشاب : وماذا تصنعين مما لا يجوز في مثل هذه الظروف؟!
ليلى : صحيح؟ (تهز رأسها مبتسمة) أتسمح لي أن أخلع معطفي؟ لا تخشَ شيئًا فلست أنوي أن أحتل البيت، ولكن الغرفة دافئة، وهذا الشراب حار، إلى أن تعود فريدة فقط.
الشاب (ناهضًا) : لقد كنت أهمُّ أن اقترح هذا.
ليلى (بابتسامة سخر) : وماذا منعك؟ هيه؟ أني سيدة؟ (تضحك).
الشاب (وهو يساعدها على خلع معطفها) : بالله لا تتكلمي هكذا.
ليلى : ولمَ لا؟! إني أتكلم كما أحس لا كما ينبغي، فهل هذا لا يجوز؟
الشاب : إني أشعر حين أسمع هذه النبرات أن الجرح الذي في نفسك عميق جدًّا، وإن كنت أجهله.
ليلى : عميق! إيه! إنك تشفق على نفسك لا على جرحي، كن صريحًا، كل الناس هكذا، وأنا أيضًا، وإن كنت لم أعد أبالي.

(تدخل فريدة وهو يضع المعطف على الكرسي فتقف فجأة.)

ليلى (دائرة تنظر إلى فريدة) : آه فريدة، لقد غبت؟
فريدة (بوجوم) : لم أرَ أحدًا.
ليلى (مقاطعةً) : أو رأيت، سيان، تعالَي خذي من هذا إذا سمح، هل تسمح؟
الشاب : أوه! طبعًا، بكل تأكيد.
فريدة (تنظر من ليلى إلى الشاب مترددة) : ألا يحسن يا سيدتي أن …
ليلى (بصوت عالٍ) : يا بلهاء ماذا يهم؟! هبيني دهستني السيارة.
فريدة : سيدتي! أرجو، أتوسل إليك، قومي.
الشاب (لفريدة) : دعيها لإرادتها؛ إنها هنا في أمان من المخاوف.
ليلى : مخاوف؟! أي مخاوف؟! إن كل شيء أهون من الرجوع إلى ذلك الرجل.
الشاب (يدنو منها) : هدئي روعك، صحيح إني لا أعلم سبب متاعبك، ولا شك عندي في أنها تثير أشجانك، ولكن ينبغي التدرع بالصبر.
ليلى : لقد صار الصبر كالجزع، والأمل كاليأس، واستوى الاطمئنان والفزع، وتعادل الهياج والسكون، كلا، لم أعد أبالي شيئًا، فليكن ما يكون.

(تشرب.)

هذا الشراب يصعد إلى رأسي مباشرة، فهل هو يصنع ذلك دائمًا؟ (تهز كتفها) ولكن لا تخشَ أن أبكي أو أغني.
الشاب (بأسف) : مسكينة.
فريدة : لو كنت تعلم يا سيدي لعذرتها؛ إنها معذبة، مطاردة لا استقرار لها أبدًا.
ليلى : هل احتجت أن تعتذري عني؟! إذن أنا مسكينة حقًّا، لا بأس (تضع رأسها بين يديها).
فريدة (للشاب) : سيدي! إن عليَّ واجبًا لا بد من أدائه، فهل أطمئن ريثما أذهب إلى ابن خالتها وأعود به؟
الشاب : علي التحقيق، ماذا تظنين بي؟
فريدة (وهي سائرة إلى الباب وراءه) : لا أستطيع أن آخذها وهي في هذه الحالة، ثم إن الجو مطير، وقد يتفق أن يرانا سيدي، فلا أستطيع أن أحميها.
الشاب : طبعًا، طبعًا، اطمئني فسأُعنى بها حتى تعودي (تخرج).

(ليلى تمضي إلى الكرسي وتعود بمنبذتها وتضعها على المائدة أمامها.)

ليلى (لنفسها) : من يدري؟! ربما احتجت، كل شيء محتمل وتجاربي لا تبعث على الاطمئنان.
الشاب (راجعًا) : معذرة يا سيدتي.
ليلى : هل تعيش وحدك؟
الشاب : نعم.
ليلى (وهي تعبث بالكأس) : ليتني أستطيع.
الشاب (مقبلًا عليها بوجهه) : تستطيعين ماذا؟
ليلى (وهي تتنهد) : أن أعيش وحدي (ثم بعد سكوت) مطمئنة.
الشاب (مصدومًا) : معذرة، ولكن هل تكرهين أهلك؟
ليلى (ضاحكة) : أهلي! أين هم؟!
الشاب (حائرًا) : ولكني سمعت الفتاة تقول إنها ذاهبة إلى ابن خالتك.
ليلى : نعم لي ابن خالة، أقمت معه لما فررت من زوجي، ولكني مطاردة، مضطرة إلى الاختفاء كل بضعة أيام في مكان لئلَّا يأخذوني إليه (بصوت متهدج) حكم الطاعة، أتفهم؛ على رغم أنفي، لم أستطع أن أسوغ فراري، ليس لي عذر، هيه! أليس هذا ﺑ … ﺑ … بديعًا.
الشاب : هذا فظيع، لماذا لا يطلقك؟!
ليلى : لماذا؟ من حقك أن تسأل.
الشاب : ربما كان يحبك.
ليلى : هو يحبني؟! (تضحك).
الشاب : لا تؤاخذيني، إن جهلي …
ليلى (جادة) : ولكن هبْه يحبني، أليس لشعوري دخل أو حساب؟! هل رغبته هو كل شيء وأنا لا شيء؟!
الشاب (مرتبكًا) : أتكرهينه؟
ليلى (بتهكم المستنكر) : إنه يسأل هل أكرهه؟! يا إلهي ماذا أقول؟!
الشاب (يمسك ذراعها تأكيدًا لعطفه) : يُخَيَّل إليَّ أن … أريد أن أقول أني …
ليلى (مقاطعةً) : لا تقل شيئًا، دعني هكذا، إني أشعر بغبطة لا عهد لي بها، أظن هذا فعل الشراب (تشرب بقية الكأس) ولكني أُحزنك، وليس من حقي أن أحملك همومي.
الشاب : لا تقولي هذا؛ فإني على العكس أكون …
ليلى (مقاطعةً) : على كل حال لست أحسها.
الشاب (غير فاهم) : لست تحسينها؟ ماذا تعنين؟
ليلى : همومي، انحطت عن كاهلي وأشعر، كيف أقول؟ أحس كأني خفيفة وأني مقبلة على سعادة محققة، على خلاص مؤكد، لم يعد يعنيني ما كان، ولست أحفل ما عسى أن يكون، وفيَّ الآن جرأة وقوة، وقد زايلني ذلك الإحساس بالتمزق، كأني مشدودة إلى جوادين يجريان في طريقين متقابلين، أتظن هذا حلمًا؟ إن يكن حلمًا فإنه لا شك جميل، فليته يطول (تتنهد) أو ليته يتكرر، إيه! حتى الأحلام عزيزة، فيا لشقاء من لا تسعده حتى الأحلام (ترفع إليه رأسها فجأة وعلى فمها ابتسامة جميلة) كلا، يجب أن لا أنغص حلمي الحاضر، وأنا مدينة به لك، فلك الشكر.
الشاب : يسرني أن أسمع هذا منك.
ليلى (مقاطعةً) : حقيقة، أحسها خفيفة، أعني همومي (تلتفت إليه) أليس عجيبًا أني لا أستغرب وجودي معك؟ وهذه الجلسة والشراب؟
الشاب : ليس في الأمر غرابة، إنها المصادفة البحت.
ليلى : أعلم أنها المصادفة، ولكني أعني أن ليس لي بك معرفة سابقة، ولا أنت أيضًا كنت تعرفني، ومع ذلك أكلمك كأني كنت أعرفك طول عمري، ومن يدري ماذا تظن بي، فهل هذه وقاحة مني؟
الشاب : وقاحة؟! إنها حالة طبيعية؛ ألسنا بعد كل ما يقال إنسانين؟! وهل كل الحد بين الأدب وسوء الأدب أن يجري بيننا تعريف رسمي؟!
ليلى : صدقت ولكني أجلس هنا في بيتك وحدي، وأشرب هذا، وأكاشفك بسر حياتي.
الشاب : ولمَ لا تفعلين؟! ألا ترينني أهلًا لهذا؟! أو دعي كوني أهلًا أو غير أهل فإنك لا تعرفينني، فهل سرُّك إلا سرُّ المرأة في كل عصر وفي كل مكان؟
ليلى (تشرد) : إنك كريم، ولكن لو رآني هنا زوجي فماذا تراه يظن؟ بل لو رآني أي إنسان.
الشاب : ولكن كيف يراك؟! إن إمكان هذا بعيد جدًّا.
ليلى : هو خاطر، من يدري؟!
الشاب : أووه! لا تفكري فيه، ستنغصين على نفسك هذه اللحظة.
ليلى : أهي لحظة سعيدة؟
الشاب (بعطف) : أرجو أن تكون كذلك، من أجلك.
ليلى : وأنت؟ هل أنت مسرور؟
الشاب : ألا بد أن أجيب.
ليلى : أرجو، من فضلك.
الشاب : إني متألم لك (ثم بحماسة) واسمعي، إذا كنت تقبلين معونتي فإني مستعد أن … (يرتبك) مستعد أن … أستطيع أن … حقيقة يجب أن تقبلي معونتي.
ليلى (باسمةً بهدوء) : من قال لك إني محتاجة إلى المعونة؟!
الشاب : أعفِني بالله واقبلي معونتي كائنة ما كانت.
ليلى : أهي ثيابي التي وشت بي وكشفت سري؟ (تلمس ثوبها).
الشاب : إنها خفيفة، هذا كل ما هناك، ولكن حقيقة يجب أن تعديني صديقًا.
ليلى : ألست أفعل ذلك؟! لم إذن أرسلت نفسي على سجيتها معك؟!
الشاب : نعم، وإني لمدينٌ لك بالشكر على هذا، غير أني أعني …
ليلى (مقاطعةً) : آسفة، ولكني لا أستطيع أن أقبل شيئًا.
الشاب : ولكن لمَ لا؟! ليكن.
ليلى (مقاطعةً) : لا يسعني أن آخذ إلا إذا كنت أستطيع أن أعطي، ماذا أعطي؟!
الشاب : لست أريد شيئًا، ثقي، تأكدي، كل ما أبغي هو أن تشعري أن الدنيا ليست كلها شرًّا وسوءًا.
ليلى : الآن لا تريد شيئًا، نعم، وأنا أصدقك وأثق بإخلاصك وصدق سريرتك، ولكن غدًا، بعد غد، إني أعلم ما سوف تريد (ثم بمرارة) ألست إنسانًا؟!
الشاب : أقسم لك أني لا أطلب ولن أطلب شيئًا.
ليلى : هذا يقينك الآن، وأنت صادق، ولكن فيما بعد؟ هل تعرف كيف تكون حالتك النفسية بعد ساعة؟! هل تضمن رغباتك وأهواءك قبل الشراب وبعد الشراب، وفي ساعة السرور وأوقات الحزن؟! وقدِّر العكس أيضًا، ألا يمكن أن تندم أو تسأم إذا رأيت نفسك تورطت في مشاكل أو متاعب أو تحملت ما لا قبل لك به ولا صبر لك عليه؟! هل تعرف ماذا يكون شعورك بعد أن أخرج وتخلو لنفسك وينتفي الجو الحاضر وتفيق من نشوة الكرم الحالي وتفتر البواعث التي تغريك بإطاعة مروءة النفس؟! لا يا صاحبي.
الشاب : إنك سيئة الظن جدًّا.
ليلى (بتنهد) : ربما كنت معذورة.
الشاب : لا أقول لا، ولكن الناس للناس.
ليلى : الناس للناس؟! كلا، بل كل شيء بثمنه في هذه الدنيا (تهز رأسها) لقد تعلمت كثيرًا في بضعة شهور (يسمعان نقرًا بعيدًا فيُنصتان).
ليلى (فزعة) : لا تفتح، انتظر، لا يمكن أن تكون هذه فريدة، لم يمضِ وقت كافٍ؛ فإن المسافة طويلة.
الشاب : يجوز أن يكون الطارق من أصدقائي، سأنظر من النافذة (يخرج).
ليلى (تنتفض واقفة) : أما لو كان هوه؟! (تضع كفيها على عنقها ثم تفتح المنبذة وتُخرج منها زجاجة صغيرة تطبق عليها يسراها.)
الشاب (عائدًا وهو مضطرب) : رجلان لا أعرفهما.
ليلى (وقد تصلبت عضلات وجهها وحال لونه وثبت حملاقها) : يجب أن أنظر، أين النافذة؟
الشاب : نافذة المطبخ، تطل على السلم، تفضلي (يخرجان، يتكرر النقر على باب الدور ويبدو كأنه أقرب).
ليلى (وقد دخلت وهو وراءها ووقفت إلى المائدة) : اذهب وأدخلهما، ولكن بغير استعجال (يتحول الشاب إلى الباب فتفتح الزجاجة وتصبها في الكأس).
ليلى (بصوت أجش) : قد كان ما خفت أن يكون (تقلب الكأس على فمها وتضعها وترتد إلى الكرسي الكبير، يسترخي جسمها شيئًا فشيئًا ثم ينثني رأسها على صدرها).

(يسمع لغط خارج الغرفة، يدخل فؤاد وخيري ووراءهما الشاب وهو يقول.)

الشاب : هي التي سمحت لكما، أمرتني أن أدخلكما.
فؤاد : أحسب أن علي أن أشكرها! (يضع يده في جيبي البنطلون) هكذا، هكذا، (يلتفت إليها وهو يهز رأسه وفي عينيه الغضب) وسكرى أيضًا؟! مخمورة، هيه؟! (يصر أسنانه من الغيظ) زوجتي.
(وهو يدير عينه في الكئوس وزجاجة الكونياك) سكرى في بيت رجل غريب، إلى هذا الحضيض انحدرت؟!
الشاب (بانفعالٍ) : أرجو يا سيدي …
فؤاد (مقاطعًا بغضب) : ما شأنك أنت؟! إنها زوجتي … زوجتي على الرغم مما انحطت إليه.
الشاب (يتقدم إليه) : ولكنها في بيتي أنا.
فؤاد (بتهكم) : أشكرك على تذكيري بهذا، ولكن العلم به لا ينقصني؛ فقد رأيتها على يديك.
الشاب : لقد كدت أدهسها فحملتها مغشيًّا عليها.
فؤاد (بمرارة) : الباقي ظاهر! أفاقت وسكرت معك وعادت إلى الإغماء، ولكن من السكر في بيت الرجل الغريب.
الشاب (بإخلاص وحرارة) : أقسم لك أنك واهمٌ، مخطئ جدًّا في كل ما تظن.
فؤاد (بتوحش) : اسكت (ينحيه بيده) سكرى؟! لا تعي؟! لو حملها ووضعها على سريره لما شعرت أليس كذلك يا هذا؟!
الشاب : إذا لم تكف عن هذا الكلام …
فؤاد (مقاطعًا بتوحش) : قلت لك اسكت (ينحني ويتناول يدها ويهزها بعنف شديد) اصحي، اصحي يا … يا … اصحي.

(تميل على الكرسي ويرتمي رأسها على مسنده.)

ألا تنوين أن تفيقي يا عاهرة؟! (يشدها فتتهافت على الأرض.)
خيري (وقد بدأ يرتاب) : إيه؟ ما هذا؟ هل يمكن؟ (يدنو منها وينتزع يدها من فؤاد فيحس بردها ولا يجد النبض، يرفع رأسها ويسنده إلى الكرسي وينظر في وجهها، ثم ينتفض واقفًا ويصرخ في وجه فؤاد) يا شقي إنها ميتة، ويحك يا شقي يا مجرم!
الشاب (مذهولًا) : ميتة!

(يلتفت فيلمح الزجاجة على المائدة فيجري إليها ويخطفها.)

أووووه! (يلتفتان فيمد يده بالزجاجة إليهما).
خيري (وهو مضطرب جدًّا ويروح ويجيء والستار ينزل شيئًا فشيئًا) : قتلها، قتلها الوحش، لو كان في الدنيا عدل …
(يتم إسدال الستار ولا تُسمع البقية.)
تمت

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤