المقدمة

ليس في التاريخ كله أمَّة أشد صلابة وتماسُكًا مثل الأمة الصينية، كما إن التاريخ كله لم يشهد أمَّة طالت بين أهلها النزاعات والحروب مثل الأمَّة الصينية أيضًا. فالعبارة الأولى صحيحة برغم الثانية، بمثل ما أن العبارة الثانية سبب ونتيجة للأولى، ولا تناقُض هناك أو تضاد، بل مجرَّد تعيين لقاعدة من قواعد الفِكر الفلسفي في الصين القديمة ترى أن الأضداد يمكن أن تخلق تجاذبًا أو تنافرًا بين حدود متقابلة مثلما يمكن أن تراوح بين أطراف متعادلة تحفظ للأشياء والناس حركة دائمة ومتصلة، وتحافظ على طبيعة متأصِّلة في الحياة الصينية الاجتماعية والفكرية. ترى في الثنائيات المتقابلة أساسًا راسخًا من أسس البقاء، فمن لقاء الأرض والسماء يأتي الملوك، أبناء السماء، لكنهم ليسوا من الآلهة ولا هم على شاكلة البشر، ومن رحم الجبال والأنهار تولد الطبيعة، وبين الملوك والدهماء يكتب التاريخ الصيني صحائف بقائه ملء الزمان. وكانت مخططات الفكر الكونفوشي تنتظم ثنائية طرق وأساليب التعامل بين الآباء والأبناء، والإخوة الكبار والصغار، والرجال والنساء، والحكَّام والمحكومين … إلخ.

بين الحرب والسلام قامت التسويات، وبين كل ألوان الصراعات قامت حدودٌ وسطى للتسوية، بل إنك تستطيع القول بأن التسوية هي جوهر الفكر الصيني كله. وليس غريبًا أن يزعم دارسو الفلسفة بأن السِّمة الغالبة على الثقافة الصينية طوال عهودها هي «الوسطية»؛ فتاريخ الصين عبارة عن حركة جدل بين متناقضات متقابلة تنتج دائمًا تسويات مؤقتة لا تلبث أن تسلم قيادها إلى طرفَي صراع جديد. كان ذلك حال الفكر في الصين حتى قبل أن تفد إليها «المادية الجدلية» في العصر الحديث.

«الوسطية» إذَن هي طبيعة الفكر الصيني، و«التسوية» بين طرفَي نقيض أو أطراف متنازعة هي جوهر التاريخ الاجتماعي والفكر الفلسفي في الصين (هذا إذا تجاوزنا عمَّا يُثار أحيانًا ومن مفكِّرين ومحلِّلين هنا وهناك من أنه لم يكُن لدى الصين، يومًا، فلسفة على أي نحو!) تاريخ الصين هو حكاية التسويات لنزاعات متواصلة، فالصراعات، في حقيقة الأمر، مجرَّد آراء متضاربة بين أبناء بيت واحد، والبِنية الفكرية (أو «البيت الذهني») للصين على حدِّ تعبير صحيح وواعٍ للمترجم القدير الأستاذ شوقي جلال، اعتادت المواءمة بين أطرافه المتصارعة بتسويات متجدِّدة، حتى لقد يحار المرء متسائلًا عمَّا يسبق الآخَر في أحوال تاريخ الفكر في الصين، هل هو النزاع أم التسوية؟

خرج الفكر الفلسفي الصيني من قلب الصراعات، وعرف كيف يتعامل معها وكيف يحترم شئون البشر بكلِّ ما فيها من تناقضات، فتاريخ الفكر في الصين غارق حتى أذنَيه وسط حشود البشر، يعيش بينهم ويكتب سجلَّ الحياة بأيديهم، ويصوغ مقولاته فلاسفة لا يعلم أحدٌ أين عاشوا بالضبط، ولا متى وكيف وُلِدوا وماتوا. والفلسفة الصينية، على عكس مثيلتها في اليونان، لم تتعالَ على الناس ولا سخرت من الدهماء، ولا اعتبرت الفكر ترفًا للسادة المهذَّبين أو حكرًا عليهم وحدهم دون العبيد، ولا وَضعت فوق البشر مثالًا أرفع وأكمل، ولا سبحت في غياهب ما وراء الطبيعة.

قامت الفلسفة الصينية على أساس الصيغة الوسطى، والتسوية بين أطراف المتناقضات، والاعتداد بشئون البشر وسياسة أحوالهم. ﻓ «السياسة» بمعنى تدبُّر أمرٍ ما ينشأ بين الناس والمجتمعات والدويلات من نزاع أو تعارض والالتفات إلى ما يتصل بمعاشهم وعلاقاتهم الاجتماعية من مصالح وتعيين الحدود «الوسطى» العادلة فيما يتوجَّب عليهم من قواعد معاملات. كل ذلك يمثِّل العنصر الأساس في الفكر الصيني. ولطالما انشغلت الفلسفة الصينية بما هو قائم في هذه الدنيا دون أن تتطلَّع إلى ما هو أبعد من حدود المجتمع الإنساني، وإذا كان صحيحًا أن حدود اهتمامها بالإنسان لم تتطابق كثيرًا مع الشروط الواجبة لمراعاة حقوق أفراده من منظور الفلسفة الأوروبية، فقد كانت النزعات الفردية وجموح الجماعات القليلة الخارجة عن نمط الثقافة السائد والأعراف الاجتماعية تؤدِّي دائمًا إلى الفوضى، وتبدد قيمة الحياة في مجتمع لم يعرف لبقائه قيمة إلا في حياته؛ فلم يكُن لدى الصينيين مثالٌ أفلاطوني خارج وجوده، متعالٍ عليه، ولا جوهر أرسطي (شبيه بالمثال في تعاليه) يتجاوز قيمته وتمثيله لحقائق حدود المجتمع الإنساني، وإنما كانت الصين ترى في الناس وحياتهم ومجتمعهم الكبير أكبر قيمة وأهم وجود، بالدرجة التي يتضاءل معها أي وجود آخَر غيره، من ثَمَّ لا نستغرب ما يُبديه الصينيون من استنكار عندما تُوصَف سياسة بلادهم بأنها تنتهك حقوق الإنسان، فالتجربة التاريخية والحضارية استوجبت تنوعًا في رؤيتها لقيمة الوجود الإنساني، ولا يبدو غريبًا لدارس الثقافة الصينية أن يرى ثمَّة فرقًا بين من يعد مثال الفرد الأقرب للمثال/الحقيقة هو النموذج المكتمل لمعنى الإنسانية مقابل تصوُّر آخَر يرى في الحشد الاجتماعي أو الكتلة الحضارية الهائلة المتحرِّكة عَبْر التاريخ مشهد حقيقة كاملة.

كثيرًا ما كانت الحقائق في الصين تسكن وسط حشود البشر، الذين لم يحدث قطُّ أنْ جاءهم مبشر بمثال ولا بعالم وراء هذه الدنيا (ولا كانت الدنيا دنيئة بهذا اللفظ!) بل إن كونفوشيوس نفسه كثيرًا ما كان يقرر لمستمعيه أنه لم يأتِ بقواعد أو تصورات أو أنماط أخلاقيات من عنده، بل هو مجرَّد ناقل للتراث، ولطالما أكَّد على ذلك المعنى في تحقيقاته للكتب القديمة، وقصارى ما كان يمكن أن ينسبه لنفسه هو أنه مجدِّد لقيم المجتمع القديم!

غريب حقًّا أَمْر أولئك الذين يشايعون تصورات لحقوق الإنسان القائمة، في حقيقتها، على مقولات مُستمَدة من مجتمع كانت مواريثه تنتقص من كمال الوجود الإنساني لصالح مثال ضبابي غائم هو أكثر من رمز متعالٍ، وأغرب منه هو محاولة فَرْض ذلك التصوُّر بشيء أقرب لما كان يفعله أحد المهرجين في الأساطير الصينية القديمة، ممَّن كانوا يبيعون الأحذية للغرباء ويطالبونهم — عندما تضيق على أقدامهم مقاسات الأحذية فتبرز منها رءوس أصابعهم — بأن يقطعوا الأصابع بالمقص لعلها تنضبط مع قالب الحذاء!

ليس في نماذج الفكر نمط أفضل، لكن التصورات المقتطعة من سياق تجعله يبدو كذلك، والمفارقة أن مشاهد الحياة في المجتمع الإنساني — الصيني — كانت تنفر من التجريد وتتأبَّى على الخضوع لمثال متجاوز حدود الملموس في علاقات الناس بعضهم ببعض، ولم تستدعِ تعقيدات الواقع مثالًا أرفع وأكمل بقَدْر ما استدعت مفاهيم تقوم على قواعد للسياسة والأخلاق.

فالسياسة والأخلاق هما أركان البناء التقليدي في الفلسفة الصينية، ومن عباءتهما خرجت كل الأفكار والفلسفات الصينية، على أن أهم المدارس الفكرية ظهرت في فترة اصطبغت بالصراع الدامي بين أجزاء الوطن الذي انقسم إلى دويلات تناوئ بعضها بعضًا، تتحارب تارة وتتصالح أخرى، حتى قام بين حدودها جدار دفاعي عظيم، وتاريخ الأمة الصينية شاهد على أن النزاع — حتى العسكري منه — بين أقاليم يضمها تاريخ مشترك وثقافة واحدة ولغة ووجدان ومصير واحد يمكن أن يكون عرضًا لتقلبات كيان تاريخي تعتريه التقلُّبات والهزات وتقع بين قطاعاته من آنٍ لآخَر شقوق غائرة، وتدمي أطرافه الجروح النازفة ثم لا تلبث أن تلتئم، خصوصًا أن الحروب التي جرت سجالًا بين الأقاليم كانت تنبع أصلًا من قاعدة في الأخلاق والسياسة الصينية ترى بأن هدف الحرب هو الوصول إلى الحل السياسي، وقصارى ما يسعى إليه المقاتل هو التسوية بإخضاع الأطراف المناوئة للقبول من بين اختيارات متاحة، وليس بالإبادة أو التفرقة أو الاستغلال أو الاستعباد، فقد كانت الحرب، في الفكر الصيني، هي السياسة بوسائل أخرى، حتى قبل أن يقرر تلك المقولة «كلاوزفيتز» بما يقرب من ألفَي عام، لكن كيف؟

مَن يقرأ التاريخ الصيني القديم يلاحظ أن معظم المدارس الفكرية نشأت — أو نشطت، في الواقع — في فترة من أكثر فترات التاريخ اشتعالًا بالحروب والمواجهات بين الدويلات الصينية القديمة، حتى لَيُقال بأن «المائة مدرسة فكرية» التي ترمز إلى التنوُّع الهائل في ساحات الجدل الصيني القديم بين اتجاهات الفلسفة المختلفة، تشكَّلت كلها على وجه التقريب، في الفترة الممتدة من العصر التاريخي المسمَّى ﺑ «الربيع والخريف» (٧٧٠ق.م.) إلى العهد الذي يُطلَق عليه «الدول المتحاربة» (٤٧٥–٢٢١ق.م.) وهي الفترة التي تحقَّقَت في نهايتها وحدة الصين الكبرى في كيان شامل إبَّان عهد تشين (٢٢١–٢٠٦ق.م.). ليس صحيحًا، تقريبًا، أن اشتعال الحروب بين دويلات أمة واحدة كان سببًا لفنائها، ولم يحدث على مرِّ التاريخ في الصين أن تبدد الإيمان ببقاء الأمة أو باستمرار الكيان الحضاري الذي صنعته الأجيال، لم يكفر أحد بمواريث الوحدة ولا بهُويته برغم عهود النزاع والصراعات الطويلة، لم يكفر أحد بالأمة ولا صالح أعداءه عبثًا في لحظة طيش، وأقصد هنا أعداء وحدته ومسيرة حياته (أعداء الخارج، كان لهم شأن آخَر) صحيح أنه كان هناك على الحدود أعداء من القبائل المتاخمة، وكانت الصين، بكل ما هو راسخ في أعماقها من إحساس بالتفوُّق على كل ما هو خارج تلك الحدود، تنظر إليها في إباء وشموخ، فمن ثَمَّ لم يكن ممكنًا لها أن تصالح أحدًا من أولئك الأدنى منزلةً وحضارة، وكانت لحظة الطيش الوحيدة التي ارتكبها أحد الأباطرة القدِّيسين — ولم يسامحه فيها المؤرخون — هي ارتداؤه زيَّ إحدى تلك القبائل الهمجية، أثناء حفل عشاء أُقيمَ احتفالًا باتفاقٍ تم توقيعه بين كل الأطراف ضمانة لاستقرار الأحوال.

كانت الصين، وقبل أن تتمخَّض نزاعاتها عن تسوية كبيرة بحجم الوحدة الكبرى بين دويلاتها، قد مرَّت بفترة تألُّق فكري ازدهرت فيها العلوم ونهضت ثقافة «المائة مدرسة فلسفية» التي تنتسب إليها ركائز الاتجاهات الفلسفية الكثيرة التي اشتهر بها تاريخ الفكر الصيني طوال عهوده وحتى اليوم، وأشهرها أربعة مذاهب كبرى صارت علامات على مذاهب في الفكر ولخَّصَت حوارها الحضاري كله في اتجاهاتها الفلسفية الأربعة: الكونفوشية – الطاوية – الموهية – القانونية. وبالطبع فقد بقي منها فَرَسان اثنان ما زالا يتنازعان حلبة السباق حتى الآن، وهما: الكونفوشية والطاوية.

وعلى أساس هذه القاعدة الفلسفية أسَّس المفكِّرون العسكريون — الذين دأبت التصنيفات المذهبية على استبعادهم من السياق الفكري الكبير — أصول أفكارهم وتصوُّراتهم ومنطلقاتهم النظرية، برغم براعتهم في بلورة قواعد وأصول الفكر السياسي والعسكري، مما تميزت به الحضارة الصينية دون غيرها من سائر حضارات العالم القديم، وهي الأفكار التي كُتِب لها الرواج والانتشار فيما بعد، خارج إطار إقليم الحضارة الصينية ليشمل معظم مناطق شرق آسيا: اليابان، كوريا، الهند الصينية … إلخ.

قد يمكن القول بأن رجال العسكرية جزء لا يتجزَّأ من البناء الفلسفي الصيني، سواء بما هو مقرر من الخصائص العامة للأصول الفكرية التي استندوا إليها في إقامة نظرياتهم، أو فيما قرَّروه هم بأنفسهم أو ابتكروه من مقولات عامة، مثلهم كمثل الفلاسفة القدماء في استخدامهم للأفكار وسيلة لبناء الدول والإمبراطوريات، وفي الحفاظ على الكيان الوطني، إذ بقيت العسكرية الصينية — تقليديًّا وعلى مرِّ التاريخ — أعظم عنصر في منظومة الخدمة الوطنية الصينية بما رأته من توظيف للسلاح يستهدف غايات سياسية بالأساس [وبالطبع فهذا يقود إلى استنتاج بأن الفلسفة الصينية، هي الأخرى، كانت ابنة بيئتها الضيِّقة، لصيقة موطنها بالدرجة الأولى، مع موجة انتشار ضئيلة في الجوار المتاخم] ويمكن ملاحظة ذلك من مقولة يعدُّها النقاد استقراءً عامًّا أو حكمًا شاملًا، في حين أنها تتعلَّق بخصوصية الداخل الصيني أكثر من أي معنًى آخَر. تلك هي مقولة سونزي التي فحواها «إن الحرب مسألة ذات شأن بالنسبة للدولة، وهي تتعلَّق ببقاء وبناء الأمم (اقرأ الدويلات).»

وفي تقديري — وقد أكون مخطئًا — فإن أهم أركان الفكر الاستراتيجي الصيني القديم يتركَّز فيما قامت عليه أفكار مدرستين اثنتين لا ثالث لهما:

  • أولاهما: مدرسة رجال الفكر المعروفين باسم «تسونغ هنغ» أي: «مدرسة المناورات السياسية» وهم رجال التخطيط السياسي والعسكري الصيني القديم [وقد قدمت لهم في ترجمة كتاب «سياسات الدول المتحاربة» الجزء الأول، الصادر عن المركز القومي للترجمة، وزارة الثقافة، القاهرة] وكانوا قد لعبوا أدوارًا مهمة في الصراع الدائر بين الدويلات الصينية إبَّان فترة الدول المتحاربة.
  • ثانيتهما: مدرسة المفكِّرين العسكريين الذين صاغوا نظرياتهم في مؤلَّفات نظرية وكانت لهم إسهامات بارزة في مجال التطبيق الفعلي لآرائهم بحُكم ما تولوه من وظائف عسكرية أو سياسية في فترات مختلفة، وهم أولئك النفر الذين استبعدتهم تصنيفات النقاد من خانة الفلاسفة لتضعهم في صفوف الإدارة، باعتبارهم موظفين رسميين لا أكثر، في حين أنهم بمنطلقاتهم النظرية كانوا أقرب للفلاسفة والمنظِّرين منهم لرجال الحرب المحترفين.

وبهذا المعنى أقدِّم لهم، هنا، وأترجم محتويات هذا الكتاب الماثل بين يديك، سيدي القارئ، بوصفه نصًّا فلسفيًّا لمفكِّر عاش في العصر القديم، كغيره من الفلاسفة، بغير اسم معروف ولا تاريخ ميلاد أو وفاة، ولا حتى قبر يضم رفاته، للدرجة التي حدت بكثير من الدارسين إلى التشكيك في وجود مثل هؤلاء العباقرة أصلًا.

على رأس كوكبة من رجال العسكرية الصينية يبرز خمسة من هؤلاء الفلاسفة (كعدد عناصر الكون في الفكر القديم!) وهم: سونزي [أو: سون تسي، أو سون تزي .. لا يهم، فالترجمات صوتية، ومعظمها يقترب بدرجات من النطق الأصلي] وهو الأكثر شهرة، في العصر الحديث، بعد ذيوع ترجمة كتابه «فن الحرب»، ويأتي بعده الفيلسوف الرائع «سمارانجيو»، ثم «أو تشي»، ﻓ «سونبين» (صاحب الكتاب الذي بين أيدينا)، وأخيرًا وليس آخرًا، بالتأكيد «ويلياو»، صاحب أهم كتاب في التراث العسكري الصيني، وهو الكتاب الذي يحمل اسمه «ويلياو تسي»، علمًا بأن مقطع أو كلمة «تسي» أو «تزي» أو «تزو»، يعني — في الصينية القديمة — «السيد»، «الأستاذ»، «الشيخ»، واللقب يأتي في الصينية الكلاسيكية، على غرار الخواص التركيبية للغة التركية، في باب المناداة، بحيث يتم إطلاق اللقب على الشخص بعد ذكر الاسم الأول مباشرة، فلفظة «سونزي» تعني: الشيخ سون تقريبًا، أو تعني: سون أفندي، سون بك تحديدًا! أما لفظة «كونفوشيوس»، أو «منشيوس» فهي تسميات جرت بمنطق الاستدخال ضمن ثقافة النخبة، حيث كان المبشرون الأوروبيون بخلفيتهم الثقافية وتفضيلاتهم للنمط اللاتيني في التسميات هم الذين أضافوا إلى أصل الكلمة لواحق تجري مجرى اللاتينية في تسمية تنطق بعلامات دالة على المذكر في أسماء الأعلام، ومثلًا فكونفوشيوس يعرف في الأصل الصيني، قديمًا وحديثًا أيضًا، باسم «كون تسي»، مثلما يُشار إلى منشيوس في الصينية باسم «منغ تسي»، لكن تلك مسألة أخرى.

المهم في هذا الصَّدَد ملاحظة أن معظم هؤلاء الفلاسفة (وبرغم أنهم، مثل الكثير من الفلاسفة القدماء، ظهروا وكأنهم طلعوا من رحم الغيب فجأةً مثلما ماتوا وقبروا غفلة وفي منتهى الغموض، إلا أنهم …) قدموا إسهاماتهم تلبية لمهام تاريخية ألقيت عليهم أعباؤها، بحكم ما شهدته عصورهم من حروب ونزاعات قتالية بين الدويلات الصينية، مما تطلب منهم النزول إلى معترك الفكر بكل ما لديهم من رصيد في الفكر، وذهب بعضهم إلى جبهات القتال، مثل سونبين صاحب هذا الكتاب، وبقي آخَرون داخل ردهات القصور الإمبراطورية يشرفون على سير القتال، لكنهم جميعًا كانوا يسعون وراء غاية سياسية غلبت ما عداها، وهي: «إصلاح أحوال البلاد، كمقدمة ضرورية لكسب المعارك على الجبهات»، حتى لقد يُقال بأنهم كانوا عسكريين ذوي رءوس سياسية؛ لأن اهتمامهم الأساسي كان يكمن في البحث حول الكيفية التي يمكن بمقتضاها استخدام السياسة في حل النزاعات العسكرية، فكان سونزي، على سبيل المثال، يقول في كتابه «فن الحرب» (باب التخطيط للهجوم): إن أعظم إنجاز يمثِّل قمة الوعي والحكمة هو إخضاع العدو بغير حرب، والخطة الممتازة هي تلك التي تهدف، أولًا إلى إحباط خطط العدو ونزع أفكاره وقناعاته، ثم تسعى في النقطة الثانية إلى هدم صرح علاقاته الخارجية، وفي الخطوة الثالثة تستهدف هزيمة قواته العسكرية واحتلال مدنه الحصينة (… عند الضرورة).

فأنت ترى أن تلك كلها دلالات تصطبغ بألوان مستمَّدة من أجواء الفكر السياسي، وهو ما منح أفكار ذلك الصنف من العسكريين الطابع الذي يُميِّز الرؤى (الاستراتيجية) التي تتعامل مع القضايا من زاوية أكثر شمولًا، اهتداءً بمبادئ أساسية. ثم إن الكثير ممَّا قاله سون زي — وغيره — يمكن الْتِماس وجه الإبداع فيه، من تلك الزاوية. خُذ مثلًا عبارة «الانتصار بغير حرب»، ألستَ تجد فيها توسُّلًا بنهجٍ يتجاوز المفاهيم الفنية الجامدة في إدارة المعارك على ساحات القتال؟

إن مَن يُطالع النصوص الأصلية لمؤلفات الحرب القديمة في التراث الصيني، يصادف الكثير من الرؤى والصياغات الفلسفية، من ذلك مثلًا أنه يطالع باستمرار مصطلحًا مشهورًا في الفلسفة الطاوية، وهو «الطريق»، ولا يخفى ما له من ظلال في الفكر «الطاوي»، لكنه أيضًا يشير في اصطلاح الفكر العسكري إلى «السياسة». اقرأ أي كتاب تصادفه في المكتبة العسكرية القديمة، تجد هذه الكلمة أمامك، عند السطور الأولى، وهي من مشتقات الأهمية المعطاة لوسائل الحل السياسي، وكان أول مَن اتضحت لديه ملامح تلك التصورات الفلسفية هو سونزي نفسه، ثم جاء من بعده نفر من المفكرين العسكريين الذين تأثروا بهذه التأملات الفلسفية، منهم: «أوتشين» الذي راح يؤكد في مؤلفاته، قائلًا: «من المهم لبلدٍ يرغب في تحصيل عناصر القوة والاستقرار أن يدعم سياساته داخل حدوده، في الوقت الذي يعد فيه قواته على جبهات المواجهة»، هذا بالإضافة إلى أنه اهتم بتناول الأصول الاجتماعية للحرب في موضع آخَر — وقدَّم أفكارًا قيِّمة حول الفرق بين الحرب العادلة والجائرة متعمِّقًا في فَهْم طبيعة الصراع من الناحية العسكرية (وهو الجانب الذي لم يلقَ اهتمامًا كافيًا، في التراث الصيني القديم؛ لأن غلبة التناول التطبيقي/العملي لمفاهيم القتال أقصَتْ جانبًا التأمُّلَ في طبيعة الحرب، هذا من ناحية) ومن ناحية أخرى، فلا بدَّ أن نتذكر طوال الوقت أن الفكر الصيني لم يتطرَّق إلى التساؤل حول الميتافيزيقيات، وبالتالي فلم ينشغل بالبحث في صور أو مثال أو جوهر يستصفي السمات أو الطبائع الأصيلة للظواهر المختلفة، ومن ثم فلم يجتهد المفكِّرون العسكريُّون في تحديد أو مناقشة طبيعة الحرب، فتأمل ذلك. ونلاحظ أن سونبين يردِّد الكثير من النصائح التي تستلهم تلك الرؤية كذلك، فاقرأ له وهو يقول: «من الأمور ذات الأهمية القصوى للدولة أن تكتسب القدرة على إحراز النصر في المعارك، وقت الحرب، وأن تحافظ على قدراتها العسكرية، وقت السلم؛ فتلك هي الوسيلة لتحقيق النفوذ والهيمنة وسط الممالك.»

وكما هو مفهوم في الفكر الصيني، فالدولة هي أحد مرتكزات البناء الكونفوشي (بل هي قاعدته الأساسية) وبالتالي، فقد كانت تلك الاجتهادات الفكرية لفلاسفة الحرب، تراعي خصوصية مجتمعها ودواعي بيئتها الاجتماعية وسماتها الأصيلة، ولم يكُن ممكنًا لأي نظرية أو اجتهاد بالفكر أن ينأى بعيدًا عن ساحته الحضارية، حتى أكثر الاتجاهات الفلسفية تمردًا (الطاوية، مثلًا) لم يكُن لها أن تخرج عن إطار مفهوم في صياغة صينية تقليدية، غير أنه من اللازم أن أشير هنا إلى أن تلك التوجهات السياسية للفكر الصيني، لم تكُن مخلصة — طوال الوقت — لقواعدها المذهبية، فكانت الأعمال النظرية — أحيانًا — (وبرغم ابتكاراتها وجوانبها الإبداعية) كانت تبالغ في تقدير أهمية دور القائد — بالمعنى الحرفي — دون مجموع الجنود وحشود التشكيلات، فقد لوحظ أن عددًا لا بأس به من الاجتهادات النظرية العسكرية في التراث الصيني تحرص على وضعية أدنى للمقاتلين والجنود، بالنسبة إلى قادتهم، وفي حين أوصَتْ ببذل كل جهد مُمكِن لتوعية القادة وتنمية قدراتهم المعرفية، نراها حريصة — للغرابة — على تعمية أذهان الجنود، بحرمانهم من فرص الوعي والنبوغ والترقِّي، ومن ثَمَّ فقد أقرَّت مفهومًا خرافيًّا للتاريخ القديم يقوم على الزعم بأن حفنة من الأبطال هم وحدهم الذين صنعوا المصير وسطروا صفحات من البطولة والمجد، ولو أن سونبين — صاحب الكتاب الذي بين أيدينا — يقرُّ في غير موضع من مؤلفه المشهور بأهمية الدور البشري في الحرب (في زمن لم يكُن يعتد فيه كثيرًا بهذا الجانب)، وكان قد طرح عناصر ثلاثة ذات أهمية كبيرة في حسم الحرب، وهي: المكان الملائم، الزمان المناسب، العنصر البشري.

لكن سونبين — في معرض تأكيده لقيمة البشر في المعارك — يبرز تأثُّره بما نقله عن كتاب «سيما فا» (أحد النصوص العسكرية التراثية) خصوصًا في الجانب الذي يتعلَّق بمبادئ الإنسانية والعدل (على النحو المفهوم فيما تقرره الأفكار الكونفوشية).

واحد آخَر من المفكرين العسكريين ذوي الاتجاه الفلسفي، مثل «ويلياو تسي»، كان ينطلق فيما وضعه من نظريات بوجهات نظر متأثِّرة برُؤًى اجتماعية، ففي آرائه التي يعرض لها في كتابه المشهور باسمه — وهو بالمناسبة أحد أهم المؤلفات السبعة في التراث العسكري الصيني — يؤكد أن الحرب إحدى وسائل إدارة الشأن الاجتماعي الداخلي في البلاد، وأنها تتميَّز بطابع خاص في النهوض بالاقتصاد (وأفكاره في هذا الصدد تبدو مشايعة لمذهب فلسفي متفرِّع عن الكونفوشية، تُمثِّله مدرسة فلسفية تُسمَّى ﺑ «القانونية») وفي تصوُّره للأسس التي يقوم عليها إصلاح البلاد وتنظيم شئونها، فهو يطرح قاعدة من ثلاث نقاط، على النحو التالي:

  • أولًا: الأرض، وهي أصل معاش الناس وكسب أقواتهم.
  • ثانيًا: أسوار المدن باعتبارها الدرع الواقي.
  • ثالثًا: الحرب بوصفها وسيلة الدفاع عن المدن.

وهكذا، فهو يرى «أن تطوير أدوات الزرع والحصاد، يضمن أسباب العيش، وبفضل أسوار المدن تبقى الأرض مَصونة، والتمرُّس في الحرب والقتال يحمي المدن من مخاطر الوقوع تحت الحصار.»

فهذه النقاط الثلاث ركائز مهمة في سياسات إصلاح الوطن الصيني القديم ومعالجة شئونه الداخلية على ما يقرِّر هذا السيد ويلياو تسي، ثم إنه يعد الحرب أهم هذه العناصر (وبالطبع، فالأكفاء والمؤهلون هم وحدهم الذين تنصلح على أيديهم شئون البلاد، وعلى رأسهم أمراء الدويلات باعتبارهم الذين يملكون سلطة تعيين النظريات المفيدة والصحيحة في هذا الشأن، ولطالما كان كبار العسكريين والقادة والفلاسفة رهن إشارة هؤلاء إذا ما لزم الأمر … إلخ.)

هذا فيما يتصل بالخلفيات الفكرية والمذهبية التي تصنف انتماء أولئك النفر من الفلاسفة، لكن ماذا عن الاعتبار الأول الذي ظهروا به على مسرح التاريخ، أقصد بذلك طبيعة ما تخصصوا به في نظر الناس جميعًا، بوصفهم رجال حرب، سواء على مستوى التنظير أو في الممارسة الفعلية لمهام أُنيطَت بهم كقادة عسكريين في ميادين المعارك.

ولنتناول أبرز أولئك القادة بشيء من الإيجاز، وبترتيب أهميتهم وشهرة آرائهم في مبحث التراث العسكري وثقل ما قاموا به من أدوار ساهمت في صياغة ملامح الفكر العسكري الصيني على مرِّ التاريخ:
  • (١)

    «سونزي»: وهو من مواطني دولة تشي القديمة، عاش في نهاية الفترة التاريخية التي تُسمَّى ﺑ «الربيع والخريف» (٧٧٠–٤٤٦ق.م.)، ويُعدُّ مؤسِّس العسكرية الصينية، وكان قد هاجر إلى دولة «لو» [تنطق كما في: «لوركا»]، والْتَقى بحاكمها ولقي منه التشجيع والتقدير لمواهبه العسكرية فعيَّنه قائدًا عامًّا للجيش، فأبلى بلاءً حسنًا في الحرب ضد دولة تشو، إذ تغلَّبَ على قواتٍ تعدادها مائتا ألف مقاتل بجيش لا يزيد عدد أفراده على ثلاثين ألف جندي، ووصل به الأمر أن استطاع اقتحام عاصمة تشو، ويهدِّد الدولتين المتاخمتين «تشي»، «جين» فذاعت شهرته، ونعمت دولة لو بزمن من المجد والقوة. أما هو فقد ترك للتاريخ واحدًا من أهم الكتب العسكرية — ليس فقط في تاريخ الصين بل أيضًا في تاريخ الإنسانية كلها — وهو كتاب «فن الحرب» [مع ملاحظة أن الكتب التي تحمل مثل هذا العنوان، وهي كثيرة، تنسب الفن لصاحبه، فيقال: «فن الحرب عند سونزي»] وهو أشهر الكتب القديمة في موضوعه ويبلغ محتواه ثلاثة عشر فصلًا، بالإضافة إلى عدة فصول أخرى تم اكتشافها أثناء أحد الحفائر الأثرية بإقليم شاندونغ (الصين الشعبية) عام ١٩٧٢م.

    كان سونزي هو القائل بأهمية استغلال المواقف الطارئة، وهو ما أحسن الاستفادة منه خليفته (وربما كان في الوقت نفسه، أحد أحفاده) سونبين الذي جاء بعده بنحو قرن كامل من الزمان، حيث أخذ على عاتقه تطبيق مقولة مفادها إنه «من اللازم جعل الموقف الواحد مفيدًا لقواتنا، وضارًّا بالعدو»، كما يُعزى إليه إرساء مبدأ «هزيمة العدو بالهجوم المباغت». صحيح أن سونزي كان يؤكِّد على أهمية الهجوم، لكن سونبين استطاع تطوير تلك النقطة في مقولته الشهيرة: «كُن دائمًا المهاجم، ولاتكُن الطرف المدافع أبدًا.» وقد يمكن فَهْم الفارق في هذين الاتجاهين على خلفية التطوُّر التاريخي الذي شهد أيام سونبين، أحوال مجتمع تصدَّرَتْه قُوًى وشرائح اجتماعية وأجيال طامحة إلى النفوذ والسيطرة بدرجةٍ فاقت ما كان سائدًا زمن فيلسوف الحرب الأول سونزي، واستطرادًا من هذه النقطة فقد كان سونبين يؤكِّد على أهمية حصار المدن، على عكس سونزي الذي رأى في مثل هذا التصرُّف تبديدًا للجهد وتجاوزًا للحنكة وأصول المهارة، والفارق هنا يرجع، بالطبع، إلى ما شهدته الفترة الوسطى — زمن الدول المتحاربة — من انتعاش أحوال وازدهار اقتصادي ضاعف من أهمية المدن، وبالتالي فقد تبدَّت ضرورة حصارها وقت الحرب، لا سيما أن التقدم في الوسائل الفنية بفضل درجة متطوِّرة من الصناعة وطفرة في وسائل التسلُّح عالية الكفاءة، جعل الفرصة مواتية لاقتحام المدن الحصينة، في ذلك الزمان البعيد … إلخ.

    ويُنسب إلى سونزي الفضل، كذلك، في إرساء مبادئ أساسية في فنون القتال ألهمت الأجيال اللاحقة بإمكانات مبدعة للتطور، فهو حين قال بضرورة جذب انتباه قوات العدو بانطباعات زائفة، تمهيدًا للقضاء عليها، كان يمنح تابعيه فرصة هائلة للإبداع، فهذا «أوتشي» — أحد أخلَص التابعين — يطبِّق تلك المقولة بتطوير ملائم لظروف معركة «مالين» — أشهر معارك العصر القديم — فيوقع بأعدائه في شر هزيمة، كما استفاد سونبين من فكرة سونزي حول تجنُّب قوات العدو القوية، وقدَّم رؤية متطوِّرة لها في مبدأ جديد يقوم على «العمل بكل وسيلة على تشتيت قوات العدو، في الوقت الذي يجري فيه الحفاظ على تماسك قواتنا بهدف مهاجمته.»

    كان سونزي قد أشار إلى ضرورة الحصول على معلومات موثوق بها عن العدو، دون اللجوء إلى الكهانة والعرافة، وإنما عَبْر العالمين ببواطن الأمور، وهو اتجاه يعكس رؤًى متحرِّرة من جمود الكهنوت الفكري السائد، وقتئذٍ، ومن بعده جاء «أوتشي»، ليركِّز على أهمية إلمام القائد بشتى ألوان الفنون الحربية؛ للتعامل مع مختلف الظروف تفاديًا للهزيمة، وهو نمط من التفكير يختلف تمامًا عن الأعراف المستقرة في زمانه، والتي كانت تعزو النصر أو الهزيمة إلى أقدار السماء التي لا يمكن تجنُّبها بأي حال.

  • (٢)

    «أوتشي»: (تقريبًا ٤٤٠–٣٨١ق.م.) من مواطني دولة «وي»، عاش في بداية عصر «الدول المتحاربة»، وكان قد هاجر إلى دولة «لو»، وتحوَّل عن دراسة الفلسفة الكونفوشية إلى التخصُّص في فن الحرب، وتولَّى قيادة قوات دولة «لو»، واستطاع التغلُّب على جيش «تشي»، ثم عاد إلى «وي» ليبقى فيها مدة سبعة وعشرين عامًا في منصب المحافظ، حيث أجرى العديد من الإصلاحات العسكرية والسياسية والاقتصادية؛ ردعًا لدولة تشين عن مدِّ حدود أطماعها صَوْب «وي»، وإعلاءً لمكانة البلد بين جارتيها القويتين «هان»، «جاو»، مما مكَّنَ ﻟ «وي» أن تمدَّ نفوذها وتفرض سيادتها فوق أراضيها المترامية، لكن — ولسوء حظ الرجل — فقد حاصرته الوشايات، ليلقى مصيره في المنفى بعيدًا (في دولة «تشو») حيث عيَّنَه حاكمها في منصب رسمي رفيع، يشرف من خلاله على إصلاحات عامة بالبلاد، وفجأة، يتم اغتياله على يد أحد نبلائها، بعد أن وضع كتابه «فن الحرب عند أوتشي»، ملخِّصًا آراءه وتجاربه في ستة فصول كاملة.

  • (٣)

    «سونبين»: من مواطني إحدى الدويلات الصينية القديمة التي كانت تُسمَّى ﺑ «تشي»، قيل إنه أحد أحفاد المفكِّر العسكري الأشهر «سونزي»، بيد أن الفارق بين الجد والحفيد — إذا كان هذا الزعم صحيحًا — بلغ مائة سنة تقريبًا، وقد درس سونبين في سن مبكِّرة كتاب «فن الحرب» وتردَّد على الفيلسوف المشهور [أحد أعلام السياسة الصينية القديمة] «كويكوتزي»، وتعلَّم على يدَيه وكان يحضر معه حلقات الدرس فتًى صغيرٌ في مِثل سنه، اسمه «بانشيوان»، وتصادف أن زميله هذا استطاع الحصول على وظيفة مرموقة بالجيش، في دولة «وي»، وذلك بفضل جهود حاكمها الملك «هوي»، الذي أبدى استعدادًا لتأهيل ورعاية كل صاحب موهبة، تحت إشرافه الشخصي، وبرغم ما وصل إليه بانشيوان من مركز رفيع وما بلغه من منصب قيادي، فإنه ظلَّ يحمل في طيات نفسه شحنات من الغيرة والكراهية المكبوتة ضد زميل دراسته القديم سونبين الذي أبدى، منذ وقت مبكِّر، نبوغًا لا حدود له في فنون القتال، وخشي بانشيوان أن تُتاح لزميله النابغة فرصة مزاحمته، لا سيما أن ملك البلاد لا يدخر وسعًا في استقصاء أحوال النابهين، متعهدًا بحسن رعايتهم وكفالة ترقيتهم، فسارع إلى استدعائه، بالخديعة، وأقنعه بضرورة القدوم إليه، سرًّا، دون أن تشعر به عيون الملك؛ لئلَّا يحولوا بينه وبين ما قد هيَّأه له من فرصة اللقاء بجلالته، عساه أن يقرِّبه إليه أو أن يتخذه مستشارًا له، فاغتبط لذلك صاحبه الذي لم يكذب خبرًا، وأسرع يطوي المسافات إليه، فلما انتهى به المطاف عنده، فوجئ بحرس الملك يطوِّقونه، ويزجُّون به في غياهب السجن، وما كاد يفيق من ذهوله حتى فوجئ بأشنع آلات التعذيب تمزق أوصاله (… قيل في الحوادث إنهم قد نزعوا ركبتَيه — حسب طريقة صينية قديمة في العقاب البدني — ووسموا وجهه بميسم يلاحقه أينما حلَّ، بوصفه من «معتادي الإجرام»، تجنيًّا وافتراءً على ماضيه ومستقبله معًا) ثم لمَّا أدرك أنه يمكن أن يلقى مصيرًا أسوأ من هذا بكثير، تظاهر بالجنون، فتغافلت عنه العيون المترصِّدة، فانتهز الفرصة واتصل، سرًّا، بمَن أتاحوا له الالتقاء خفية، برسول من دول تشي، كان يزور البلاد في تلك الأثناء، فتحادث وإياه تحت جنح الليل، وقام المبعوث بتهريبه إلى دويلة تشي، فلقي فيها منتهى الترحيب، واستقبله القائد العام هناك، والملقَّب ﺑ «تيانجي» وأحسنَ استقباله وأكرمَ وِفادَتْه، واحتفى به للغاية، حتى كان يلازمه في رحلات الصيد بصحبة بعض الأمراء والنبلاء، وقيل إن سونبين — لفرط ذكائه — كان يقترح عليه ما يتفوَّق به على سائر رجال المعيَّة في القنص، بل إن نصائحه العابرة أثناء حفلات القمار كانت خير مغنم لأسعد حظوظه، فلم يسَع «تيانجي» إلا أن قدَّمه إلى جلالة الملك الذي تحادث معه مستفسرًا عن الكثير من أمور الحرب، فحاز إعجاب جلالته، فتكرَّم عليه بتعيينه مستشارًا في الشئون العسكرية، وفي الفترة من ٣٥٤ إلى ٣٥٣ق.م. شنَّت دويلة وي الحرب على دولة جاو التي طلبت المساعدة العاجلة من تشي، وأراد الملك أن ينصِّب سونبين قائدًا عامًّا لجيش بلاده (دولة تشي) لكنه اعتذر بأدبٍ، متذرِّعًا بما أصاب وجهه من آثار التجريس على إثر ما تعرَّض له من الوسم المشين، فاختير تيانجي بدلًا منه، على أن يبقى سونبين مستشارًا له أثناء المعارك، فذهب وعمل جهده، من وراء ستار، على متابعة سير المعارك من البدء إلى المنتهى، لكن لوامع شهرته الحقيقية تألَّقت إثر أحداث عام ٣٤٠ق.م. عندما اتحدت كلٌّ من دولتَي «جاو»، و«وي» لضرب دويلة «هان» التي طلبت مساعدة تشي، فأرسل ملكها جيشًا تحت قيادة تيانجي لمهاجمة وي التي فزع قائد جيشها «بانشيوان» (زميل سونبين القديم، الحاقد عليه) وكان شديد الاحتقار والاستهانة بقوات تشي، فنصح سونبين لهذه الأخيرة بخطة ماكرة أوقعت بغريمه بانشيوان تحت الحصار، فاضطر إلى الانتحار، بعدما سقطت عاصمة بلاده، ومن ثَمَّ ذاعت شهرة سونبين حتى فاقت حد الأسطورة، وتواترت عنه الحكايات التي ردَّدَت صِيته في المعارك؛ إذ وصفَتْه بأنه الرجل ذو الخطط الماكرة («الذي أجبرَ خَصْمه العنيد على الانتحار» هكذا قالوا!) وجاء عنه في سجلات ما سُمِّي ﺑ «أرشيف دولة هان» [إحدى حوليات التاريخ القديم] ما مفاده: إن كتاب — فن الحرب — الذي ﻟ «سونبين»، كان مشتملًا على تسعة وثمانين فصلًا، فُقدت كلها إبَّان عهد أسرة «سوي» الملكية [القرن ٦ إلى ٧ الميلادي، وهو أيضًا القرن الذي شهد — بالمناسبة — تألُّق العلاقات العربية الصينية، في العصر القديم] وضاعت الكثير من مواريث ذلك الفيلسوف، المحارب، السياسي القديم، ومضت مئات من السنين قبل أن تظهر نسخة مهلهلة من الكتاب أثناء إحدى الحفائر الأثرية في ١٩٧٢م وكان قد مضى سونبين قبلها، بعد أن تحقَّقَت لدولة تشي القديمة أسباب القوة والازدهار على يديه. وما زال المؤرخون، حتى الآن، لا يهتدون إلى تدوين معروف لسيرة حياته، فلا أحد يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته، ليس سوى ما تذكره السجلات التاريخية المتاحة من أن القائد تيانجي «اعتزل الحياة العامة، ولحق به سونبين، وقد دأب على العزلة آخِر أيام حياته» لا أكثر ولا أقل.

    الأغرب من ذلك كله هو أن اسمه الحقيقي مجهول، فالمعلوم من لقبه الأول «سون» أنه يمكن أن يكون سليل عائلة اشتهرت على مرِّ التاريخ بإنجاب العسكريين، أما المقطع الثاني من التسمية «بين» [تنطق كما في قولك «موبينيل»] فهو ليس من الأسماء في شيء، بل هو لقب آخَر معناه «الأعرج» كما هو مفهوم مما يمكن أن يكون قد ألصق به بسبب عاهته التي تمثَّلَت في عرج دائم نتج عما تعرَّض له من تعذيب وحشي، ظلَّ يُعاني من جرَّائه تشوهات أصابت قدمَيه، طوال حياته، وعلى هذا يكون معنى اللقب حرفيًّا: «سون الأعرج»، أو بمعنى أدق: «حفيد آل سون الأعرج»، أو هكذا يمكن الزعم، فيما بلغنا من التقديرات التي لا تتعدى أشباه الحقائق!

    ولما كان سونبين قد أصاب من المجد مثل حظ رفيقه ومُعاصِره «أو تشي» (الذي قدَّمنا له فيما مضى) فقد أُطلق عليهما، معًا، لقب «سون أو». وبمناسبة حكاية الألقاب والتسميات هذه، فإن تسمية الفيلسوف العسكري الأول «سونزي» أو «سون زي» أو «سون تزو» — أيًّا ما كان — لا علاقة لها باسمه الأصلي، في واقع الأمر، وإنما يُقرأ لقبه في الكتب القديمة، وفي سجلات التاريخ هكذا «سون وو»، ومعناه («سون» المنتسب إلى دولة «وو») أو بصيغة مفهومة عربيًّا «سون ابن البلد وو» (سون الويهي — إذا جاز التعبير — كتسميتك الفقيه المولود ببخارى «البخاري»، وبالمثل «القرطبي»؛ بنسبة الرجل إلى موطنه الذي عاش، أو ولد فيه)؛ وذلك لأنه هرب من دولة تشي، مسقط رأسه، إلى دولة «وو» [تنطق كما في: «داوود»] حيث نبغَ وذاعت شهرته، وعلى النحو نفسه تمَّت تسمية سونبين، أحيانًا، وفي أماكن متفرقة من سجلات التاريخ القديم (وأنا هنا أتحدث إلى مَن يعنيهم أمرُ ملاحظة طرق تدوين الأسماء في التراث الصيني القديم، وهي أعقد من أن تُحصى، ويدق فهمها على المتخصِّص، فما بالك بالجمهور؟! لكن ما يعنينا منها — هنا — هو ما يمكن أن نصادفه في ترجمات سابقة أو لاحقة لمدونات تراثية.)

    أقول إن سونبين يَرِد اسمُه أحيانًا في صيغة مختلفة، إذ يطلق عليه «سون تشي»، والسبب مكرَّر والعِلَّة مستعادة، فالكل يهرب من موطنه ساعيًا إلى جوارٍ أكثر كرمًا، والكل ينبغ ثم يلمع نجمًا ساطعًا في سماء المجد، ثم يتحوَّل إلى أسطورة، ومثل كل حكايات الأساطير، تتعدَّد الأسماء للبطل الواحد، وتسقط ساعة الميلاد والوفاة، لتسقط معها حسابات الزمن بالأيام والسنين، ويحتوي الدهر الداهر بقاء الجميع في تحدٍّ مع النسيان إذا طغى، وقد ينكر وجود السابقين جملة، عندما يسخر من ذاكرة التاريخ الكهل ليفضح عبث التدوين واهتراء الأوراق وصحف الماضي وفوضى التراكم في جعبة التواريخ. فنحن أمام رجلين تنحصر بينهما جملة اعتراضية مقدارها مائة سنة كاملة، لكنهما صنوان في لعبة المصير، ذلك أن سونزي — وبالقدر نفسه — كان قد هاجر إلى بلد الجوار وترقَّى حتى اقترب من تخوم المناصب العسكرية العليا، وحقَّق انتصارات هائلة بفضل خططه الموضوعة لقوات دولة وو، حتى استطاعت أن تتوغَّل مسافة ألف «لي» في أرض غريمتها «تشو» إثر هجوم مباغت وفي العام الثاني عشر من حكم الملك «فوتشاي» (٤٨٤ق.م.) أحرزت وو بفضل سونزي النصر على دولة تشي، لتتسنم بذلك ذُرى المجد وتبلغ آفاق الإمبراطورية فوق الممالك، وبرغم كل سجلات الانتصار، يضيع أثر سونزي وسط الزحام ولا يعرف أحد ما الذي حدث له بعد كل ما ناله من رِفْعة شأن وذيوع صِيت، ليس هناك سوى اضطراب الرواية وحيرة المؤرخين «لا أحد يعرف إنْ كان قد مات بعد ذلك مباشرة أو أنه اغتيل أو أُحِيل إلى التقاعد، أو حتى إذا كان قد عاش في عُزلة بمحض إرادته!»

وبعد، فلم يعُد سوى الأقلام والصحف، هي التي استطاعت أن تصمد للبقاء طويلًا، أطول من عمر أصحابها، ومع ذلك، فلم تسلم مصادر التراث من التشكيك بسبب تلك الغلالة الضبابية التي تلف سيرة الماضي وأهله، وعلى سبيل المثال، فقد ظلَّ كثير من الدارسين وكبار المتخصِّصين والثقات في العلوم العسكرية على مدى ألف عام، ومنذ بداية عصر دولة سونغ (٩٦٠–١٢٧٩م) يعتبرون كتب التراث العسكري الكبرى، مثل: «ليو طاو» [أي: الفنون الستة (فنون الحرب الستة)]، «فن الحرب عند سونزي»، «ويلياو تسي»، «قوان تسي»، «يان تسي»، وغيرها من المدونات الحربية القديمة مجرد محررات مزيفة لا ترقى إلى مرتبة التراث الذي يستحق الاعتبار والتقدير، ثم ذاعت في فترة من ذلك العهد نفسه آراء بين الدارسين لعلوم الحرب تقول بأن كلًّا من سونزي وسونبين لم يكتبا عملَين مُنفصِلَين عن الحرب، بل هو كتاب واحد بعنوان «فن الحرب»، وظلَّت تلك الظنون تراود أذهان الدارسين حتى اكتشفت نسخة تامة ﻟ «فن الحرب عند سونزي» ونسخة ناقصة ﻟ «فن الحرب عند سونبين» في حفائر إقليم شاندونغ سنة ١٩٧٢م.

كثيرة جدًّا هي الكتب التي تحمل عنوان «فن الحرب» في المدونات العسكرية الصينية، وفيما عدا الكتاب المشهور ﻟ «سونزي»، فهناك «فن الحرب عند سيمافا»، «فن الحرب عند كونمين»، «فن الحرب عند ليجين» ولولا خشية الإطالة والملل الذي قد يصيب حضرات القرَّاء، لمضيتُ إلى آخِر هذه التَّقْدِمة في ذِكر كتب ومذاهب فنون الحرب والاستراتيجية الموروثة عن الحضارة الصينية القديمة، حتى لنكاد نقرِّر بأن التراث الصيني لم يبدع سوى فنون القتال أو نصل إلى انطباع بأن الصين هي أمة الحرب والقتال، وليس عجيبًا في تاريخ أمة أن تشتهر بالقتال (الحضارة الرومانية انتشرت بحدِّ السيف!) لكن الحق أن الحرب هنا جزء، كما سبق وأشرت، من فلسفة سياسية واجتماعية شاملة تهدف إلى التسوية، وانظر مثلًا لكل تلك الفترة المشتعلة منذ عصر «الدول المتحاربة» وصولًا إلى زمن أسرة تشين، تلك السنين التي بلغت أكثر من مائتي سنة أو تزيد (تقريبًا، من ٤٧٠ إلى ٢٠٦ق.م.) وتأمل، ألا تجد أن صيغة الوحدة الصينية الشاملة هي التي كانت النتيجة الخاتمة على الإمبراطور تسين شيهوانغ؟ حتى إنك لتقول بأن الصين مرَّت بالحرب بحثًا عن تسوية لنزاع انتهى في المطاف الأخير بالوحدة الأولى على مرِّ تاريخها الطويل، لم تأتِ أعظم وحدة إلا بعد أطول صراع (بين جنبات الأمة الواحدة) أو هكذا تبدو المسألة باختصار شديد.

أغرب وأعجب شيء هو أن كل المدارس الفكرية والفلسفية التي تميز الصين عن غيرها من الأمم هي تلك التي تمخض عنها ذلك الزمان البعيد «زمن الدول المتحاربة»، وقد ترافق الإنتاج الفكري في المجال العسكري مع النظر في شئون المجتمع على المستوى النظري التأملي في الإنتاج الفلسفي، وكان رجال الحرب جزءًا من التركيبة الثقافية والإبداعية، والفارق بين المفكِّر والمثقِّف والشاعر والمفكر الاستراتيجي والمنظر الحربي، ليس كبيرًا للدرجة التي يمكن أن تبدو للوهلة الأولى [كان «ماو تسي تونغ» أشهر رجال القرن العشرين، مثقَّفًا، وسياسيًّا، وزعيمًا، وشاعرًا (له إنتاج أدبي متميِّز) وناقدًا للكتب الكلاسيكية — بحكم قراءاته الواسعة منذ أنْ كان يعمل أمين مكتبة عامة أول حياته — وكانت كتاباته العسكرية تمثِّل قِمَّة نضجه، بل إنها تأتي في الصدارة من بين أهم الكتابات والتحليلات العسكرية، خصوصًا كتاباته حول «حرب العصابات» … إلخ، ولا غرو فهو في جزء من تكوينه الفكري، نتاج ثقافة صينية تقليدية — لنتفق على ذلك، بدون كبير اعتراض — تعتد كثيرًا بالكتابة في نظريات الحرب، بوصفها إبداعًا ذا درجة عالية من الرقي، لكن تلك مسألة أخرى.]

أقول: إن كتب التراث العسكري أدخل في نطاق الفلسفة الاجتماعية منها في حساب مهارات الحرب وتكتيك القتال، وبرغم كثرتها، فلم يكُن مقرَّرًا منها على المشتغلين بمهام التخطيط، سوى سبعة فقط، وهو تصنيف كان ساريًا منذ عهد أسرة سونغ، برغم شكوك النقاد حول صحة نسبة بعض هذه المؤلفات إلى أصحابها، أما تلك المؤلفات المعتبرة، فهي — على سبيل الحصر —: (١) «فن الحرب عند سونزي»، (٢) كتاب فنون الحرب الستة (ليو طاو)، (٣) «كتاب أوتسي»، (٤) «كتاب ويلياو تسي»، (٥) كتاب الخطط الثلاث (سان لو)، (٦) «كتاب سيما فا»، (٧) «كتاب محاورات لويقون».

ويظلُّ كتاب «فن الحرب» ﻟ «سونزي» أشهرها جميعًا، ولو أنه ليس أشملها معرفة ولا أعمقها تناولًا أو أكثرها وعيًا، من الجائز أن تكون سيرة كاتبها الشخصية بأحداثها المأساوية، التي تشابهت مع سيرة الملوك القديسين وقصص نبوغهم وكفاحهم وإسهامهم في خدمة الوطنية الصينية بمعناها المستمد من قواعد الفكر الكونفوشي، هي التي ساهمت في إبراز أهمية محتوى كتاباته، وعلى كل حال، فلم يكُن كتاب «فن الحرب» الشهير، يخلو من مثالب — حسب ما يردِّد بعض النقاد — فممَّا يُؤخَذ على اجتهاداته النظرية أنها:

  • أولًا: وبرغم تناول سونزي للعلاقة بين الحرب والسياسة، فهو لم يتطرَّق إلى تحليل طبيعة الحرب (صحيح أن المؤرِّخين اتفقوا على أن حروب فترة الربيع والخريف لم تكُن لتوفر الأساس لمناقشة مفاهيم حرب طبيعية وعادلة) لكن يبقى أن نظرية سونزي، كما عبَّر عنها في كتابه، يشوبها ذلك المأخذ.
  • ثانيًا: فقد يُؤخَذ على سونزي أنه رفع من قيمة القائد وأكَّد على أهمية دوره — أكثر ممَّا يمكن تبريره — معتبرًا إياه، وعلى حدِّ تعبيره «سيد حياة الممالك وسبب أمنها أو ترويعها» بينما احتقر شأن الجندي المقاتل، مما يُعَد خطيئة لا تُغتفَر، وليس مُجرَّد سوء تقدير.
  • ثالثًا: ممَّا يُعاب على سونزي أنه، وكنمط عام في كتاباته، يصدر أحكامًا مُطلَقة فيما يتصل بمبادئ الحرب، دون تخصيص يستند إلى حكمة ورؤية التجربة الشخصية التي عاشها بنفسه.

وبرغم كل شيء، فقد كان — وسيظل — كتاب فن الحرب لسونزي هو الكتاب العمدة في تراث الفكر العسكري الصيني بل العالمي، وتشهد سجلَّات التبادل الثقافي بين الصين والعالم الخارجي أن أول محاولة لنقل الكتاب إلى لغة أجنبية كانت إلى اليابانية، وذلك في عهد أسرة طانغ الملكية (٧٣٤م) على يد طالب ياباني كان في رحلة دراسية، وحاول نقل الكتابين العسكريين: «فن الحرب عند سونزي»، «أوتزي» إلى بلاده، وذلك بعد أن قام — في زمن بعيد كانت تحكمه مفاهيم في نقل الأفكار وتقاليد مختلفة — بإخفاء المدونتين في لوحات مصورة؛ اتقاء للظنون التي كان يمكن أن تتوصل لكشف محاولته السرية. وفي عام ١٧٨٢م تُرجم الكتاب إلى الفرنسية على يد «أميوت»، عضو الجمعية التبشيرية، والمترجم المشهور، ثم تُرجم إلى الإنجليزية، لأول مرة في عام ١٩٠٨م بقلم أحد الدارسين البريطانيين من المبعوثين إلى اليابان (وهو الرائد البحري: «كالثروب») وجرت ترجمته للمرة الثانية وعلى نحوٍ أكثر دقة في سنة ١٩١٠م على يد «ليونيل جايلز» المتخصِّص في الدراسات الصينية، وتلك هي النسخة المعتمدة في الترجمة الإنجليزية — حتى اليوم — ثم جاءت ترجمة الأمريكي «غريفيث» — في عام ١٩٦٣م — لتسد النقص الذي وقع فيه «جايلز» وتنتج نصًّا سليمًا، ولا غرو، فقد أنفق المترجم سنوات طويلة من عمره في مراجعة نصوص «فن الحرب» وشروحه، بل كان هذا الكتاب وحده هو مجال تخصصه حينما عكف على دراسة الثقافة الصينية القديمة، هذا بالإضافة إلى ما حظي به الكتاب من ترجمات إلى لغات عدة من بينها اللغة العربية، لا سيما ما صدر فيها عن المركز القومي للترجمة (وزارة الثقافة، القاهرة) على يد الأستاذ الدكتور هشام المالكي، وهي واحدة من أفضل الترجمات الصادرة حتى الآن في اللغة العربية إن لم تكُن أشمل وأوفى الترجمات على الإطلاق — في العربية أو غيرها — فهي قد شملت بجانب النص الأصلي ترجمة الشروح المصاحبة وأضافت إليه هوامش وإحالات توضِّح مختلف الظروف والأحوال التي تنعكس فيها تطبيقات النصوص الواردة في الكتاب، مستعرضًا في ذلك مجالات متعدِّدة، تتجاوز مجرَّد الاقتصار على الجانب العسكري وحده، لتشمل ميادين تبرز فيها نماذج الصراعات أو المنافسات كالتبادل التجاري أو العلاقات الدبلوماسية أو أنشطة المال والاستثمار وفنون إدارة الأعمال، مما يمكن أن تكون موطن احتدام لإرادات متنافسة … إلخ، فهي ترجمة ذكية أدركت مغزى النص في محتواه اللغوي المباشر — وإشاراته التي تنطوي على إحالات مرجعية مُحتمَلة — وهذا ليس غريبًا على مترجم يملك أدوات الاقتراب من نص في معجمه اللغوي والثقافي بحكم أستاذيته، فقط أرجو أن يستكمل سيادته ترجمة باقي أجزاء الكتاب الذي لم يصدر من ترجمته سوى الجزء الأول.

وبالطبع فإن باقي الترجمات، ولو أنها عن لغات وسيطة، أسهمت في إضاءة الوعي بقيمة هذا الكتاب، ولطالما كنت أعتقد — بمناسبة الكلام عن الترجمة غير المباشرة — بأن التصوُّرات الكهنوتية الجامدة التي تتبنَّاها دوائر الترجمة حول القيمة (المبالغ فيها) للترجمة عن لغات أصلية، بالإضافة إلى كثير من المفاهيم الأخرى المتحجِّرة عن النشاط الترجمي، يمكن أن تتسبَّب في تراجع عملية الاتصال الحضاري بصورة خطيرة، فلماذا الإصرار على تفضيل الترجمة عن لغة مباشرة؟! ألا يعلم أولئك المتشددون أن الكثير من روائع الفِكر والأدب في مختلف ثقافات العالم عرفناها أولًا عَبْر تلك اللغات الوسيطة، ولولا الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية لما عرفنا مثلًا قيمة كتاب مثل «الطاو» أو «محاورات كونفوشيوس» في التراث الصيني، لولا الترجمة الإنجليزية ما كنا لنقف على روعة رباعيات الخيام في الفارسية، ولا الكاماسوترا الهندية، ولا كنَّا عرفنا أنَّ كتبًا مثل «كوليانمول» في الهندية أو «ليتزو» — في الصينية — يمكن أن تحمل قيمة تتوازى مع «ألف ليلة وليلة»، و«المواقف والمخاطبات» في التراث العربي. إن كتابًا مثل «فن الحرب» عرفته أوروبا أولًا عن لغة وسيطة هي اليابانية — أول الأمر — وكانت اليابانية أيضًا، وللغرابة، هي اللغة التي قدمت إلى الصينيين أحد أهم عيون التراث العربي «ألف ليلة وليلة». إن الترجمة عن لغات وسيطة، في رأيي، يمكن أن تكون وسيلة لاكتشاف أهمية نص لم يقرأ أو لم يعرف في لغة الأصل، أقول هذا، وأنا أحد الذين يقدمون أنفسهم للقارئ العربي باعتبار التخصُّص في الترجمة عن لغة أصلية هي الصينية، لكن المسألة، هنا، لا تتصل بما يراه فرد واحد من قيمة لما يملك من مؤهلات، وإنما يرتبط بما ينبغي أن تملكه أمة كبرى من جسور اتصال ثقافي مع الدنيا من حولها، لكن تلك قضية أخرى.

ولنرجع إلى ذلك العبقري الصيني، العسكري الداهية سونزي، ولو أن حفيده سونبين هو مدار بحثنا موضوع هذه المقدمة والكتاب كله، لكن نبذة عن الرجل الأول يمكن أن تفيد في فهم أفكار الثاني، خصوصًا أنه ترسَّم خطاه وسار على نهجه. وقد قيل في مجال تبيان أهمية كتاب «فن الحرب» التي تأكَّدَت بكثرة وتعدُّد ترجماته إلى اللغات الأوروبية [ترجم إلى ٢٩ لغة أوروبية] إن مقدمة إحدى الترجمات (عن الإنجليزية) كان قد قدم لها «ليدل هارت» وهو أحد أشهر المفكرين العسكريين في القرن العشرين. وقيل إنه اقتبس الكثير من كلمات سونزي وهو يضع مقدمة مؤلفاته العسكرية، وقيل كذلك إن القادة العسكريين الأمريكيين إبَّان حرب الخليج كانوا يحملون في جيبهم نسخة منه وهم في قلب ميادين القتال إلى آخِره، وهي حكاية تثير التأمل في طريقة استقبال نصوص في وسط ثقافي مغاير وزمن استدعاء له طرق إدراكه وأهدافه وتأويله، وقد يكون فن الحرب الذي كتبه سونزي سعيًا للتصالح مع مفهوم جمعي لبيئة حضارية هددتها النزاعات الدامية في مقتل وأوشكت أن تضيع مواريثها الفكرية المقدسة (لاحظ أنه لم يكُن مشايعًا للخطط الهجومية)، مختلفًا عن فن الحرب الذي قرأه ليدل هارت وسط ظروف غابت فيها فكرة البيت الصيني الواحد الذي يدرك أزمته بوعي تاريخي وليس من منظور جغرافي (الصين صيغة تاريخية أساسًا في حين أن بريطانيا كيان جغرافي رغم أنفه)، لكن تلك مسألة ثانية، على كلِّ حالٍ، وعمومًا فلا بدَّ من الإشارة إلى أن ظروف التدوين التي صاحبت عهود التوثيق التراثي في الصين كانت تضع نصوصًا مكتملة هذا صحيح، لكنها أيضًا نصوص متحرِّكة غير ثابتة في أُطُر تصنيفية مُحدَّدة، فأنت تجد شيئًا من فن الحرب في كتاب الطاو، وهو مدوَّنة فلسفية، بالدرجة الأولى، ثم تجد فصولًا بحذافيرها من كتاب منشيوس واردة في كتاب «حدائق الكلمات» للمؤرخ الأديب «ليو شيانغ»، وتجد في كتاب سونبين اقتباسات مطوَّلة من كتاب «أوتسي»، ومعظم الكتب لا يُعرف أصحابها الحقيقيون؛ لأنها من وضع التابعين والدارسين، كلها تقريبًا، وهكذا تلاحظ أن الكتب تبدو انعكاسًا للمشهد الطبيعي والتاريخي للصين، هي أيضًا جزء من ملامح موطنها الثقافي، ممتدة في الزمان بشكل رأسي وفي المكان، متنوِّعة الخصب والأقاليم، تنتظمها هياكل من تصوُّرات تضع لكل منطقة خصائصها وقد تحيطها بسياج شاهق في ارتفاع السور العظيم، لكنها في نهاية المطاف مجرَّد حدود وهمية، تخلي مكانها لروابط المتصل التاريخي الكبير. نعم، قد نكون أمام كتاب واحد في التراث الصيني، لكن من الصحيح أن ندرك أننا لسنا أمام نص واحد بأي حال. وكان المترجمون اليابانيون هم الذين أدركوا هذه السمة، فحرصوا على نقل مجموعات من الكتب التي تتناول موضوعات قائمة بذاتها، ففي الموضوع العسكري مثلًا نلاحظ أن كتابًا مثل «ويلياو تسي» — بموسوعيته وشموله — قد استحق ترجمات بلغ عددها الثلاثين. من هنا، فقد رأيت أنه قد يكون من المفيد أن نطالع مع القرَّاء العرب أكثر من كتاب في فنون الحرب الصينية (وما هذا الكتاب الذي تقرأه الآن إلا بداية لمشروع ترجمة الكتب السبعة الرئيسة في هذا المجال) ليس فقط لأهميتها بالنسبة للدارس المتخصِّص في تاريخ الفكر العسكري، وإنما أيضًا للقارئ في الثقافة الصينية، بل الكتلة الحضارية الكبرى في منطقة أقصى شرق آسيا (فالتراث الصيني مؤثر، بقوة ووضوح، في اليابان وكوريا وغيرهما).

أما عن كتاب سونبين في فن الحرب، فهو ليس كسابقه العظيم سونزي؛ ذلك لأن نسخته الأصلية كانت قد فُقدت تمامًا في أواخر عصر أسرة هان الشرقية (٢٥–٢٢٠م) حتى تشكَّك الناس في العصور اللاحقة في وجود من يحمل هذا الاسم «سونبين» وظنوا أنه يمكن أن يكون مجرد شخصية خيالية، بل نسبوا هذا اللقب إلى سونزي، باعتباره أحد التسميات التي أُطلقت عليه معتقدين أنه ليس هناك سوى كتاب واحد فقط، ورثوه عن الأقدمين، بعنوان «فن الحرب» وأن مؤلفه هو سونزي وليس هناك لا كتاب آخَر ولا مؤلِّف غيره، أو بمعنى أدق صادروا على فكرة وجود سونبين وكتابه من الأساس.

وفي السابع من فبراير عام ١٩٧٢م، وأثناء البحث في إحدى الحفائر الأثرية، بمنطقة «شاندونغ» في الصين، عُثر على نسخة من كتاب «فن الحرب لسونبين» وُجد على هيئة ثلاثمائة وأربع وستين قطعة من رقائق الخيزران، مقسمة محتوياتها إلى بابين كبيرين، في كلٍّ منها خمسة عشر فصلًا، وبرغم ذلك، فلم يسلم الكتاب المكتشف من الشك والمزاعم التي لم تدع فيه شيئًا إلا اتخذته ذريعة لإثارة الريبة حول صحته، فمن قائل بأن الباب الثاني من الكتاب مقحم على المتن، وآخَر زاعم بأن هذا الباب مجرد جزء هامشي من الملاحق المضافة إليه، وثالث يرى بأنه فصل زائد على النص الأصلي، مقتبس من كتاب آخَر، وتعليل ذلك أن هذا الباب ليس كسابقه الذي كان يورد في أول كل فصل عبارة «قال سونبين: …» أو «قال ملك وي: …» إلخ. وهو الزعم الذي لاقى اقتناع الكثير من الباحثين والدوائر العلمية ذات الصلة، وبناءً عليه فقد صدرت طبعة ثانية منقحة في ١٩٨٥م مشتملة على الجزء الأول فقط بعد أن حذفت الجزء الثاني بفصوله جميعًا، إلا فصلًا واحدًا رأت إضافته إلى الجزء الأول باعتبار أنه صحيح النسب إلى الكتاب، وتصورت أن ما اتخذته من تعديلات هو عين الصواب، بحُجة أنها بذلك تكون قد انتهت إلى إقرار نسخة ذات مادة موثوق بصحتها، ومنذ ذلك الوقت توالى صدور طبعات جديدة من الكتاب تنحو هذا المنحى، في الوقت الذي أصرَّت فيه دور نشر أخرى على تقديم الجزءين معًا، اعتمادًا على ما تمخَّضت عنه جهود الكشف الأثرية من نتائج، وهو الاتجاه الذي انحزت إليه منذ البداية، مقتنعًا بأن من حق القارئ العربي أن يُطالع نسخة تجمع الجزءين، ولتختلف مدارس النقد وتحقيق التراث الصيني ما شاء لها أن تختلف، هي أدرى بما تدركه وتحتاجه من معالجات لهذا النص، لكن حين يتقرَّر حذف جزء كامل من كتاب مهم بهذا القَدْر، فليس أقل من أن يعرف قارئنا ما هو ذلك الجزء الذي يُراد له الاستبعاد، ولماذا؟ وربما كان التقدير الصحيح يفرض عليَّ أن أُلحق هذا الجزء بالهامش بدل المتن، لكني عدلت عن هذه الفكرة بسرعة، ما دامت بعض دور النشر الصينية قد سبقت إلى احتواء ذلك الجزء داخل النص الأصلي، هذا بالإضافة إلى أن مثل هذا التصرُّف قد يُعَد إملاء لقيمة محددة يجري إقحامها على النص من خارجه، والأسوأ أن يتم ذلك على يد المترجم، وبالتأكيد فهناك من المترجمين مَن يملكون هذا الحق بحُكم التخصُّص أو الأهلية التي يكتسبونها لكَوْنهم متضلِّعين أو خبراء في المادة موضوع الترجمة، ولست واحدًا من هؤلاء، ثم كان الأمر يتطلب، قبل الإحالة إلى هوامش، أن أقدِّم موضوع الكتاب في إطار خطة بحثية أطرح فيها ما يبرِّر التصرُّف في النص على أي وَجْه كان، باعتباري باحثًا أو مصنفًا، قبل أن أكون مترجمًا، وهو ما لم أقصد إليه بأي حال، بل اجتهدت دائمًا ألَّا أتجاوز حدودي كمترجم ناقل، لا مترجم متصرِّف، أو حتى مفسِّر أو شارح.

وعمومًا، فقد استبدَّت بي روح النقل المباشر، حتى إني — ولا أدري إن كان ذلك مفيدًا في شيء — حرصت على ترجمة بعض ما ورد من فقرات قليلة بين الفصول، قيل إنها وجدت منبثة بين ثنايا الفقرات والأبواب، دون أن تكون جزءًا مكملًا للمتن، ولم يترجمها المحقِّقون إلى الصينية الحديثة (التي أترجم منها أساسًا) فعمدت إلى ترجمتها معتمدًا على ما لحق بحواشيها من تعليقات وشروح، وما توافر لي من معرفة — ضئيلة — بالصينية الكلاسيكية (هل النسبة إلى «كلاسيك» هكذا، ممكنة دون لفظ «كلاسي»؟)

ومفهوم، طبعًا، إحجام المحقِّقين عن ترجمة تلك الفقرات وغيرها، ومفهوم أكثر ما قامت به كثير من الطبعات من حذف لفقرات مطوَّلة أو أبواب كاملة لأن المستقرَّ في ذهن النقاد والدارسين أن الكثير من نصوص كتاب فن الحرب لسونبين، تمَّ تدوينه على يد تلاميذه. الكل متفق على ذلك، الاختلاف ينشأ، فقط، حول تقدير الوقت أو الفترة الزمنية التي شهدت تلك الإضافات.

النص نفسه يحمل السمات الفكرية لسونبين، بطبيعة انحيازه إلى الكونفوشية، فكثيرًا ما طرح وجهات نظره من زاوية مراعاة مبادئ «العدل والاستقامة»، على النحو الذي أقرَّته الفلسفة الكونفوشية؛ ولأنه فيلسوف سياسي أكثر منه مفكِّر عسكري فقد كان يؤكِّد على أن «الانتصار هو أهم دعامة للقوة والمجد [مجد الدولة يعني]»، ثم يقترح في موضع آخَر من الكتاب بأن تكون الحرب وسيلة لتحقيق وحدة الأمة؛ لأنها (أي الحرب) هي الطريقة المُثلى لإخضاع الممالك، ثم ما يلبث أن يفطن إلى ما تنطوي عليه الحرب من سلبيات تحول بينها وبين إيجاد الحلول لمختلف المشكلات، فيوصي القادة والأباطرة بضرورة التعمُّق في فهم ما تُمثِّله الحرب من وسيلة مهمة لتحقيق السيادة للممالك.

وقد تطرَّق نَفَر من النقاد، أثناء عكوفهم على استكشاف الخصائص الفِكرية والفلسفية لنصوص الكتاب إلى فِكرة أن سونبين — وفي أنحاء متفرِّقة من كتابه — كان يتناول، وبشكل بدائي أو بصورة جنينية ملامح قريبة الشبه بالمادية الجدلية — أو قُل إنها أقرب ذات مضامين جدلية وإن لم تنهض بطريقتها في التحليل — إذ يقرِّر، مثلًا، في موقع ما من النص بأنه «لا بد من فهم طرق السماء وطبائع الأرض، ولا بد من ضمان تأييد الأهالي في الداخل، والتأثير في مشاعر الأعداء في الخارج، والإلمام بالطرق الثمانية، على النحو الذي يحقِّق النصر وقت الحرب، والاستقرار زمن السلم …»

وفي تناوله لفكرة أهمية الهجوم، وحسب سياق محدَّد أثناء عرضه لأفكاره في الكتاب، راح سونبين يتقدَّم خطوات أبعد وأكثر تطوُّرًا مما عرض له الفيلسوف العسكري الأول سونزي؛ إذ إنه يؤكِّد على أهمية الهجوم على نحو مُطلَق، بل إنه يضع لهذه الفكرة/القاعدة مكانًا بارزًا في فلسفته، ويعدُّها الأساس النظري والمبدأ الأول وأهم ركن في أي بناء فكري لفن القتال. وتلك النقطة التي يختلف فيها عن الكتاب العمدة (فن الحرب لسونزي) بما يحقِّقه من طفرة أو درجة عالية من التطوُّر بذلك الطرح النظري.

ميزة ما يُقدِّمه سونبين في كتابه هو أنه يلخِّص تجارب سابقة على درجة عظيمة من الأهمية، على ضوء ما خاضه هو نفسه من معارك، ومثلًا ففي فصل بعنوان «أحوال الجيش»، يتحدَّث عن أسباب النصر والهزيمة ويرى أن الحرب ليست هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن الارتكان إليها ولا هي الطريقة التي يمكن تجنبها بالمرَّة. أما الأساس الذي تتحدَّد عليه أسباب النصر أو الهزيمة فهو مدى توافر الاحتياطي والمؤن وعدالة الحرب. وفي فصل «التشكيلات القتالية العشرة» يتحدَّث عن أهمية الاستعداد القتالي ويتناول، بالتفصيل، أنماطًا متباينة من التشكيلات القتالية. ولما كانت الظروف قد اقتضت، زمن الدول المتحاربة، اتخاذ قادة محترفين على رأس الجيوش، فقد صارت معايير انتقاء القادة محل اهتمام كبير ومن ثَمَّ راح سونبين يستعرض في بعض فصول الكتاب الصفات الواجب توافرها في القادة العسكريين.

أما بشأن ترجمة الكتاب إلى العربية، فقد حاولت، كعادتي عندما أشرع في ترجمة نص تراثي أن أبحث أولًا عن عدة نصوص محققة. وثانيًا عن ترجمات في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية للتعرف على أفكار المترجم وكيفية تعامله مع النص، خصوصًا أن لدى الدارسين في كلتا الثقافتين وعيًا جيدًا بالتراث الصيني (هناك مدرسة أوروبية وأخرى أمريكية في مبحث الدراسات الصينية لهما خصائصهما وتاريخهما الطويل، ولا يمكن أبدًا وبأي حال ومهما كانت الظروف أو الأسباب أن نتجاهل جهودهما أبدًا). وثالثًا مراجعة أية ترجمات تكون قد صدرت للكتاب موضوع النقل، أو الاستعلام عن وجودها من عدمه. وبالنسبة لهذا الكتاب فقد تحققت الخطوة الأولى بتوافر ثلاثة مصادر محققة له بالصينية، بَيْد أني لم أعثر على ترجمة له في الإنجليزية أو الفرنسية، ولا ترجمة سابقة في العربية، سواء بالنقل المباشر عن الصينية أو عَبْر لغة وسيطة. ولما كانت معظم النسخ المتاحة تضرب صفحًا عن ذكر الباب الثاني من الكتاب بذريعة أنه مقحم على المتن وليس من أصوله، فقد اهتديت — بالصدفة السعيدة — إلى نص واحد من بين الثلاثة، يشتمل على الجزءين معًا، بل يزيد عليها بضع فقرات في الهامش قيل إنها وجدت في النصوص بالحالة التي اكتشفته بها بعثة الآثار عام ١٩٧٢م. فاعتمدتها مصدرًا أصليًّا للترجمة وجعلت باقي النسخ مراجع ثانوية أعود إليها للتحقق أو الاستيضاح في الحالات التي استوجبت ذلك. وفيما يلي — وعلى سبيل التوثيق — أنقل للقارئ فقرة مما جاء في مقدمة الناشر، تبين أحوال النسخة المعتمدة للترجمة بشهادة أهلها.

  • أولًا: صدرت هذه الطبعة طبقًا لما قامت به مجموعة (يين شياو سان هان مو) من ضبط وتحقيق للنص الأصلي المدون على رقائق الخيزران (البامبو) متخذة من النسخة الصادرة سنة ١٩٨٥م عن دار نشر «أون وو» مرجعًا أصليًّا، ستجري الإشارة إليها، فيما يلي ﺑ «مرجع أصلي»، كما تم الرجوع إلى …، …، …
  • ثانيًا: وإضافة ما ورد في النسخة الصادرة سنة ١٩٨٧م، عن دار النشر المذكورة ومجموعة التحقيق المُشار إليها من نصوص كمُلحَق طبق الأصل وهو عبارة عن هامش مُوجَز يحتوي على الفصول الخمسة عشر التابعة للباب الثاني. انتهى الاقتباس.

ولم أحاول الإشارة، ولو بإيجاز، إلى النسخ الثلاث بشكل مستقل، مكتفيًا بمبلغ ما أستفيده منها كمترجم فيما يلقي الضوء على جوانب خافية من المعنى [وأَعِدُ القارئ بأن أحاول إلحاق صورة وثائقية لبيانات تلك الكتب الثلاثة. ذلك أوقع من مجرَّد كتابة عناوينها بحروف لاتينية، أو مجرَّد الاكتفاء بتوثيقها المرجعي، أليس كذلك؟ لكن ذلك مرهون بما تقرره إمكانات الإخراج الفني للكتاب]. ثم إني — وبشكل عام — أتجنَّب الإحالة الدائمة إلى هوامش ملحقة بعجز الكتب أو بقاعدة الصفحة، صحيح أني أقدم الترجمة للمتخصِّصين بالدرجة الأولى وذوي الاهتمام بالدراسات الصينية القديمة، لكني بتقديم هذه المترجمة للمتخصِّص أو للجمهور، فقد كنت أتخذ النص الأصلي قاعدة أساسية للقراءة، تحتوي في سياقها المباشر على كل ما يتصل بالمعنى العام، سواء بشكل رئيسي أو هامشي، المتن وإحالاته في صعيد واحد، فوضعت بين قوسين هلاليين (…) ما يتعلَّق بالمتن بشكل مباشر، كأن تكون هناك صياغة محتملة أو توضيح من داخل الشروح المصاحبة أو إضافة من إحدى النسخ المحققة رأيت إلحاقها على سبيل الاستطراد، ثم أضفت بين قوسين مربعين […] هوامش جانبية من خارج النص، من قبيل ما قد ينشأ من ثغرات تتطلَّب التعريف بأحد الأعلام أو إضافة إشارات توضيحية موجزة، من باب التعريف والاستزادة، دون أن تكون سندًا ثابتًا متضمنًا في تركيب المعاني العامة للكتاب لكنها إضافات من عند المترجم، لا أكثر، يمكن للقارئ الباحث عن الأفكار الرئيسة في النص تجاوزها دون إخلال بتدفُّق السياق في مساره.

سيجد القارئ أني وضعت بين قوسين مربعين كلمة «فراغ» أو «فراغ في الأصل»، إشارة إلى البياض الذي ورد في النص الأصلي. ونظرًا لأوجه الاختلاف بين استخدام بعض علامات الترقيم في الصينية عنه في العربية (حيث يرد البياض في النص الصيني برسم ست نقط متتالية) فقد أوردت مكان الفراغ مصحوبًا بلفظه أو ما في معناه بين قوسين كما ذكرت، علمًا بأن النص مليء جدًّا بمثل تلك الفجوات، وهو نقص لا حيلة للمحققين في إصلاحه، ولا للمراجعين في سد خلله؛ لأنه راسخ في بنية المتن المكتشف، وجزء أصيل من حالته، ساعة العثور عليه، لم تحدثه يد العبث أو التهاون، وإنما هو عوار نشأ — فيما يبدو — عن تقادم السنين، ومنه ما أمكن للمحققين تقدير معناه، فأوردته مترجمًا مع الإشارة إليه في موضعه مع ملاحظة أن مكان الفراغ قد يتراوح بين الكلمة المفردة أو الجملة أو العبارة القصيرة، دون إشارة واضحة إلى تلك الفروق عند إيراد خانة الفراغ سواء في النص الأصلي أو النص المترجم، وقد اكتفى الناشر لتوضيح ذلك الجانب، بأن جاء في ملحق الكتاب بصورة منقولة عن شرائح البامبو التي ورد عليها النص الأصلي في النسخة المكتشفة بالحفائر الأثرية، وسأحاول أن أنقل هذا الملحق في النسخة المترجمة إذا أمكن ذلك، حسب ما تسمح به الإمكانات الفنية في إخراج الكتاب. ويبقى أن أوضِّح للقارئ الكريم أني اضطررت إلى الترجمة التفسيرية اضطرارًا ألجأتني إليه الضرورة الشديدة، عند نَقْل الفصل الثامن، وهو بعنوان «أهمية أرض العمليات»، نظرًا لما احتشد به الأصل من أسماء لنباتات عشبية تنتمي إلى فصائل وأنواع لا عهد للحياة النباتية الطبيعية في البيئة العربية بمثيلها، فأتيت بترجمة شارحة للمعنى، ونظرًا لأن نقل المكافئ هو المحك في تقدير قيمة الترجمة، فقد حرصت على الإتيان به دون خلل أو نقصان.

لكن، لماذا نترجم هذا الكتاب، والآن؟ الأسباب فيها ما هو عام وما هو شخصي، أحدِّثك أولًا بما هو عام، ثم تستطيع أن تمضي إلى النص مباشرة، بعد ذلك، دون أن تشغل نفسك بما قد لا يتصل، إلا عرضًا، بأجواء إنتاج نص مترجم.

في السبب العام، فهذا كتاب تراثي يقع ضمن مجموعة الكتب العسكرية القديمة، وهي إحدى أركان مكتبة متفردة في موضوعها، حتى في مبحث المدونات الصينية التاريخية، فهي جزء من تاريخ الفكر العام، حتى بالمعنى الإنساني الكبير؛ لأن المادة التراثية الصينية ملك للبشرية كلها، وكتب الحرب الصينية شاملة لدلالات إنسانية عريضة، تتجاوز مفاهيم الصراع المسلح، فمحتواها يتسع لمجالات متنوعة في معنى التنافس والصراع، ليشمل كل ما يمكن أن يتصل بنوازع الإنسان إلى التفوُّق والغلبة حتى في ميادين السلم، ففي التجارة والدبلوماسية وإدارة الأعمال، بل الرياضة ومساجلات الانتخابات السياسية لون من المنافسة الحامية التي تتوسل بأساليب القتال، وإنْ بطرق أخرى، وقد أختلف مع الذين يقصرون قيمة الكتاب على الجوانب الفنية (العسكرية)، دون أن يمدوا أبصارهم إلى ما يحفل به من عناصر أخرى لتقدير مزاياه بوصفه مادة تراثية ذات مضمون فلسفي، بالإضافة طبعًا، إلى ميزته الجوهرية باعتباره وثيقة أثرية تكشف عن جانب من تاريخ الفكر الصيني، بوجه خاص؛ والإنساني، بوجه عام. هذا ومن نافلة القول التأكيد على أهمية الوعي بذلك التراث الثقافي، لا سيما أننا على وشك بدء زمان جديد يمتد الوعي الثقافي فيه، نحو آفاق الإبداع في منطقة تمثل بطبيعتها قطبًا من أقطاب التميز الثقافي والحضاري والإنساني، وهي منطقة أقصى شرق آسيا. إن وجودًا جديدًا — حتى بالمعنى الأنطولوجي! — يُضاف إلى حصيلة الوعي الإنساني بهذه الإطلالة إلى الشرق البعيد، وأظن أنَّ من المفيد، بهذا المعنى، إتاحة الفرصة للقارئ العربي للتعرف إلى مصادر التراث الصيني مترجمة عن أصولها (كلما أمكن).

أما في الدافع الشخصي للكتاب، فذلك جانب لا ينفصل كثيرًا عما هو عام؛ ذلك أني كنت وما زلت أرجو بمثل هذه الترجمات عن الصينية (وتأثرًا بنماذج الجهود التبشيرية الأوروبية في الصين منذ القرن السابع عشر) أن أكون قد ساهمت بنصيب في التمهيد لفكرة تأسيس مدرسة فكرية عربية للدراسات الصينية. ومثلما بدأت الأنشطة الأوروبية مشروعها بالاهتمام بترجمة التراث الصيني، فهكذا أحاول، وإنْ بجهد ضئيل، صحيح أني أشعر بكثير من الخجل عندما أمد قلمي لترجمة موضوعات تتسع الهوة بينها وتبتعد فواصل التخصُّص بين حدودها: فن عسكري، فسلفة، رواية، شعر، تاريخ أفكار … إلخ، بل قد ينتابني إحساس بالعار [كذا] وأنا أتناول بجرأة أعتذر عنها، مقدمًا، موضوعات تخصُّصات شتى، كأنني واحد من أولئك الحواة والباعة الجائلين في الأزقة والحارات، ممَّن يفقهون كل صنعة وحِرفة، بما يحملون في جعبتهم الجاهزة من أدوات سحرية. وصحيح أن بيننا، اليوم، وسيبقى إلى الغد القريب أيضًا، مَن حازوا الجرأة على ترجمة كل مجالات الإبداع — وغير الإبداع — من الفلسفة والأدب والسياسة والتاريخ، بل تحضير الأرواح، وكل ما يخطر على البال، باعتبار أن الترجمة مهنة أي واحد من الناس فتح عليه الله القدير بشيء من فهم الرطانة، ويبدو أن شيئًا من توابع عهود الاستعمار الطويل في عالمنا العربي أورث مفهومًا شائعًا عن المترجمين بأنهم أولئك النفر من الوسطاء بين الأجنبي والوطنيين، ممَّن يملكون قدرًا من ظلال السلطة، باعتبار أنهم المفسرون لرطانتها، والتابع بطبيعة الحال يكتسب شيئًا من اقتدار السيد الأقوى، فمن ثَمَّ شاعت فكرة المترجم القادر، بقدرة خارقة، على كل شيء، ولو أن الهندسة الوراثية لم تستطع إنتاج سوبرمان خرافي، لكن تاريخًا عبثيًّا من زمن بغيض أنتج لدينا ذلك الصنف من المترجمين/السحرة، القادرين على كل شيء. والحق، فإن الترجمة رديف التأليف، وهي، وإن لم تفز بموهبة ابتكاره، إلا إنها باءت بسيِّئ خصاله، لا سيما في مسألة التخصُّص هذه، فالترجمة تفرض، في ظني، حدودًا للاجتهاد داخل إطار من اصطلاحات مقيدة، وفكرة «المكافئ»، تلك التي صدع بها المنظرون للترجمة رءوس الدارسين، تكمن — ما زالت — في كل جهد ترجمي بالدرجة التي تقيد كل محاولة للترجمة داخل ألوان محددة من أطياف الإبداع. والتخصص التزام ومسئولية أمام الذات والقارئ، ولئن كانت الصحافة في عصورها الحجرية القديمة قد ساهمت في إشاعة ذلك المفهوم الخرافي للمترجمين، فمن واجب الجميع اليوم أن يتواضع أمام طبيعة زمن تحضُّ على التخصُّص، منذ وقت طويل.

ولقد جاء حينٌ من الدهر بدا فيه أن الترجمة المباشرة، والترجمة الضمنية (التناص) تناوبتا العمل على تركيبة ثقافية تأثرت بمشروعات النهضة في المستعمرات القديمة، وهي المشروعات التي اعتمدت الترجمة، ضمن برامج التحديث الثقافي، لكن شيئًا من طاقات الرصيد الثقافي القديم لم يَنْمحِ، هناك دائمًا ما يتشبث للبقاء بعناد، لكننا — أنت ترى — نكتب الآن في زمن مختلف، والقرَّاء يسمعون ويرون وفي عالم تغلب على دنيا تأمُّلاته أُطُر مربعة للصورة الواحدة، يصبح من المجازفة فيه أن تحتل صورة الكتابة فيه أكثر من إطار، ومع ذلك فسيظل الكثيرون يمارسون الترجمة، بعد الظهر، وفي غير أوقات العمل الرسمية، وسنقرأ كثيرًا عن المبدع الذي يشتغل شاعرًا ومترجمًا، لأن جانبًا مهمًّا من التصوُّرات الأسطورية الباقية في الضمير الجمعي (بكل ما تحتمله من رموز) لا يفصل الإبداع عن فكرة الخلق، حتى بتجلِّيها المادي في تلك الصور الخرافية للأيقونات التي نصفها ذكر والنصف الآخَر أنثى، ولو أن الأمر، هنا، بكل ما يحتويه من ارتجال وعبث، أكثر خرافة حتى من تلك المناظر الأيقونية، فهو أقرب شيء لصخب الموالد الشعبية وألاعيب الحواة، لكن هذا ليس موضوعنا.

(الغريب حقًّا، أن الترجمة على يد الشيخ الطهطاوي، في بداية مشروع التحديث كانت تقوم على مفهوم التخصُّص، ولم يكُن المترجم في الشئون العسكرية، مثلًا، يدس أنفه فيما يتجاوز مجال اصطلاحاته، بل إن الشيخ رفاعة نفسه لم يترجم سوى رواية واحدة، وتقريبًا، وحسب ما بدا لي من مراجعة أوراقه الخاصة المودوعة في دار الوثائق القومية، بالقاهرة، فلم يكُن يترجمها للجمهور، وإنما كان يواسي بها نفسه، في وقت أزمة نفسية عصفت به لفترة ما، لكن تلك حكاية بعيدة عما نحن بصدده …)

وإذا كان تلامذة الشيخ ممَّن ترجموا في الموضوع العسكري، التزموا بحدود إبداعهم، حسبما تيسر لهم من طرائق معالجة المفاهيم العميقة في إطار تخصصاتهم، فها أنا ذا أحد أحفاد تلامذته أخرج، آسفًا، عن تلك القاعدة، بما أترجمه في الرواية والفلسفة والسياسة ونظريات الحرب من التراث الصيني.

وإذا كنت لم أفلح في أن أرث عن الألسن القديمة انضباطها، فقد ورثت عن الشيخ شيئًا من أزمته التي كادت تعصف به، مع أني ابن زمان ثان، زمان لم تنفتح فيه طاقة إدراكي للدنيا إلا على مشهد الحرب، وكنت أنتقل — مثل سونبين — من بلد إلى آخَر مهاجرًا ضمن المهجرين، الذين غادروا مدينة القناة المشتعلة تحت القصف، ليلة الخامس من يونيو، لم أستغرب سوى المشهد، الذي سأظل أذكره طوال العمر، حتى ينتهي العمر، وما زلت كلما ذهبت إلى هناك، برغم كل تلك السنين، ما زلت كلما سرت في تلك الأنحاء، أنظر مليًّا إلى الشارع، والمقهى، ومزلقان السكة الحديد عبر الثلاثيني، وأري تلك الحشود الراجلة، حتى في عز النهار، تعود المناظر معتمة مثلما رأيتها في الوقائع، لم أكُن أستغرب إلا المشهد، نعم؛ لأني وعيت حكاية الحرب منذ الطفولة، منذ كان الوالد — المحارب القديم، الضابط بالقوات المسلحة — يحكي وقائع تلك المسيرة الليلية الطويلة من «الكنتلة» إلى «بير لحفن» ثم مهتديًا بدرب غائم في صحراء سيناء حتى انتهى به المسير عند «القنطرة شرق» بعد أن أعلن استشهاده مدة ثلاثين يومًا — إثر معركة العدوان الثلاثي على مصر — واتخذ الأهل الحِداد. كانت تلك سنواتٌ مَضَت، وكان الأب عائدًا بعدها من حرب اليمن، ثم من حرب الاستنزاف، وكثيرًا ما قص عليَّ، أنا الابن الأكبر، وقائع المعارك التي خاضها، حتى ظننتُ أن كل الحكايا تتضمَّن بالضرورة سيرة حرب. ثم كنت في سنوات الدراسة الجامعية قد الْتَقيتُ بالدكتور يانغ شي تشيوان — الذي أدين له بالعمر كله، فهو الأب الروحي — وكان هو الآخَر شاهدَ عِيان على سنوات حرب — الحرب الكورية — وكانت تجربة عمره هناك، وقد لقَّنَني إيَّاها كاملة، ومنه عرفت تراث الحرب الصيني، وعرفت أبطال الملاحم القديمة، تصو ساو، جو كي ليانغ، أوسونغ، وعرفت كيف أن الحرب تصنع التاريخ، وأنها تجربة جديرة بالتأمل، بين هؤلاء الرجال عشت سنوات، لم تكُن كثرة السنوات هي المحك، لكن العمق. لقد تأثرت بكل ذلك العمر، بكل كياني، حتى عشتُ أيامًا فوق عمري، وقد يمتد بي الزمان، أو يقصر، لكني لم أعِش سوى تلك الأيام «ولم يكن سهلًا أن يعيش المرء بعد الحرب» هكذا قال أبي، وكثيرًا ما كان يقطع حديثه، فجأة، ليخرج لفافة قديمة تحمل بقايا شظيات متفرقة وقطعة ضئيلة من بقايا عظام مهشمة، ويحكي كيف استطاع أطباء «دار الشفاء» أن يستخرجوها من مرفق الساعد الأيسر، ذلك الساعد الذي تشوَّهَت ملامحه، لكنَّه ظلَّ يتحرَّك، لا بأس، بَيْد أنه ظلَّ يكره القمصان طويلة الأكمام، وأورثني تلك الحساسية حتى الآن، حتى ظللت أحمل ساعدًا مصابًا بغير حرب. ظلَّ الرجل، من حينٍ لآخَر، يتحسَّس شظية وحيدة متبقية وراء ألياف الكتف الأيسر، غائرة لكن محسوسة بضغط الأنامل «أنظر، لن تراها، فقط، بالضغط الخفيف تجدها، لا تتكئ كثيرًا؛ فهي موجعة، هكذا، برفق»، تحدثنا عمرًا بأكمله، وكان ذات يوم استرسل حانقًا؛ لأني أسلك مستقبلًا لا يراه سديدًا، وكانت المرة الأخيرة التي تكلمنا فيها، وافترقنا غاضبين، ثم كان الرحيل، ثم مضت ثلاث سنوات، وأغلق دفتر الوقائع الماضية، وبقي التذكار غصة غائرة. انظر، هي ذي أيضًا آلام موجعة، لا تتكئ كثيرًا، فمجرد انتباهة ضئيلة تكفي لإيقاظ الألم، ثم إنك رحلت سيدي، وما عاد يؤلمك شيء، وكل الحكايات انتهت، وتناثرت آثار الشظايا وراء السنين. تحدثت طويلًا، ولم أصغِ إليك، فلما انتبهت، كنت قد ذهبت. كذا تمضي الحرب بالسنين، وتكتب مدونات الوقائع على هامش ساحات الصراع، كنت تريد أن نكتب معًا مدونة تلك الأيام، وأمليت عليَّ شطرًا، ثم أطبق الصمت، ولم يعُد سوى الأوراق الذابلة، ولفافات تطوي الألم، فإليك أهدي ترجمة هذا الكتاب.

محسن فرجاني
القاهرة، فبراير، ٢٠١٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤