الفصل الثالث

محاورات الملك وي١

طرح الملك وي، حاكم دولة تشي، على سونبين سؤالًا يتعلَّق بفنون القتال، قائلًا: «ماذا لو أن جيشَين وقفا على قدم المساواة، من حيث القوة العسكرية، وإرادة المواجهة والتحدي بين قادتهما وأفرادهما، وصلابة وثبات تشكيلاتهما القتالية، دون أن يبادر أحدهما إلى الهجوم على الآخَر، تُرى كيف يمكن التصرُّف إزاء هذه الحال؟» فأجابه سونبين، قائلًا: «لك أن تختبر عدوك بأن تدفع إليه قوة مشاة خفيفة التسليح، تحت قيادة أحد صغار الضباط ممَّن يميزون بالإقدام، بحيث تقوم هذه القوة بالهجوم، على ألا تحرز تقدُّمًا عليه، بل يمكن لها أن تتلقى ضرباته وتنهزم من تلقاء نفسها، في الوقت الذي تدفع فيه بكتيبة عسكرية تتقدَّم تحت ستر الخفاء؛ لتهاجم أجناب العدو، فتلك هي أفضل وسيلة لاختبار أحوال العدو تمهيدًا للتغلُّب عليه.» وسأله الملك وي: «هل هناك قاعدة تحكم الفرق بين استخدام قوات كبيرة وأخرى صغيرة؟» فلما ردَّ عليه سونبين بالإيجاب، واصل الملك أسئلته، قائلًا: «فكيف الرأي إذا كانت قواتنا أوفَر قوة وأكثر عدَّةً وعتادًا، ما هي القاعدة التي نلتزم بها في قيادة القوات في مثل تلك الحال؟» وهنالك انحنى سونبين أمام جلالته، قائلًا: «أصبت يا مولاي، فهذا سؤال حكيم بعيد النظر؛ وإن من الفطنة والسداد أن يكون لديك الجيش القوي الوافر العدة والعتاد، ثم تفكر في الطرق المناسبة للتحرُّك والقتال، فذلك أدعى إلى التصرُّف على أسس راسخة، وتوخي الوسائل الكفيلة بمراعاة مصالح البلاد وأمنها، وأرى أن الطريقة الملائمة، في هذا الصَّدَد، هي تلك التي تُسمَّى ﺑ «تسانشي» [التغرير بالعدو] ومفادها العمل على تشكيل وحدات القتال، على نحو مضطرب عمدًا بما يعطي الانطباع للعدو بارتباك الصفوف وتغلغل الفوضى والتسيُّب وسط قواتك، وهو بالطبع ما سيجد لديه صدًى طيِّبًا، ولا بد أنه سيبادر على الفور إلى البروز إلى القتال (مما يتيح لك أن تحسم المعارك لصالحك).» وواصل الملك أسئلته، قائلًا: «هَبْ أن العدو أقوى وأكثر حشدًا، فكيف أتصرَّف إزاء هذا الموقف؟» فأجابه: «هناك طريقة مُثلى يمكن تطبيقها في مثل تلك الظروف، وتُسمَّى ﺑ «وانوي» [تفادي هجوم العدو]، فالمعنى الأساسي لهذه الطريقة يتمثَّل في التعتيم على تحرُّكات القوة الرئيسة، بحيث يسهل عليها (وقت الضرورة) الانسحاب من مواقعها، على أن تتمركز أسلحة الضرب البعيد في خطوط المواجهة الأمامية، أما أسلحة الضرب القصير فيتم توزيعها فيما وراء ذلك، وخلف الخطوط يجري نشر مجموعات خفيفة الحركة من الرماة لتكون جاهزة في الحالات الطارئة التي تستدعي مساندة القوات، (وعمومًا، وكمبدأ أساسي) فلا ينبغي إصدار أمر تحرُّك للقوات، ريثما يكشف العدو عن مخبوء مقدرته القتالية، فتلتحم به وتحسم المعركة.» وسأله الملك وي: «فماذا لو الْتَقى الجيشان دون أن أعرف مدى ما تصل إليه قوة العدو (مقارنة بما عندي)؟» فقال له سونبين: «إن الطريقة المناسبة لمثل هذا الظرف تُسمَّى ﺑ «شيان تشنغ» وهي عبارة عن أسلوب (تكتيك) قتالي يمكن اللجوء إليه عندما يشرع العدو في عملياته على النحو المعهود في المعارك حيث تستطيع أن تتخذ ثلاثة تشكيلات قتالية، وهي: أولًا [فراغ في الأصل] وهكذا يتحقَّق التعاون فيما بينها، على النحو الذي تملك به خيار التقدُّم أو التراجع، دون الإلحاح على [فراغ في الأصل].» فعاد الملك يسأله: «فكيف يكون القتال مع عدو في وضع يائس وقد سُدَّت أمامه طرق النجاة؟» فأجابه بقوله: «… [فراغ في الأصل] لا تلهث في إثر العدو الهارب، لكن دعه يعتقد أن أمامه طريقًا للنجاة (ثم اسحقه عندما يعثر على مثل ذلك الطريق).» وإذا بالملك يسأله: «فكيف أحارب عدوًّا يكاد يتكافأ معي في القوة حينئذٍ؟» فأجاب سونبين، قائلًا: «حاول أن تُسبِّب له الإرباك، بحيث يفقد السيطرة على قواته مقابل تركيز السيطرة التامة، في يدك، على قواتك لمهاجمته، على ألا يتنبَّه إلى نواياك مطلقًا، فإذا لم تتبدَّد قواته ولم يفقد سيطرته عليها، فعليك أن تجمد تحرُّكاتك لأنه من التهوُّر أن تهاجم عدوًّا غير معلوم الأحوال.» وكان أنْ سألَه الملك وي: «هل تعرف قاعدةً يمكن بمقتضاها أن نواجه جيشًا أقوى منَّا عشر مرَّات؟» فردَّ عليه سونبين بالإيجاب، قائلًا: «القاعدة النافعة في هذا الشأن تتطلَّب أن تبادر بالهجوم على العدو قبل أن يأخذ أهبته للمواجهة، بمعنى أنْ تُفاجئه بالقتال، فيُؤخَذ على غرَّة من أمره دون أن يدور بخلده أنك مهاجمه.» فقال الملك: «فلماذا تقع الهزائم (أحيانًا) برغم توافر الظروف الملائمة في أرض القتال [الطبيعة السهلية على أرض المعارك]، بالإضافة إلى الاستعداد القتالي الجيد للتشكيلات، تُرى ما السبب في حصول الهزيمة برغم توافر الاستعداد ودقة الانضباط؟» فأجابه: «يرجع السبب في ذلك إلى الإخفاق في اختيار الطلائع المنتخبة والمؤهلة على نحوٍ ممتاز.» ولاحقه الملك وي بالأسئلة، قائلًا: «ما الوسيلة المناسبة لترسيخ سلوك الجند على أساس الطاعة المطلقة للأوامر؟» فأجابه: «(لتحقيق ذلك فإنه يتوجَّب على القادة) الالتزام الحقيقي والكامل بالصدق والتفاني.» وهنالك قال جلالته: «فما أبدع هذا القول، إذَن، وإني لأعجَب من تنوُّع وبراعة هذه الخطط والأساليب القتالية!» وحدث أن تقدم تيانجي إلى سونبين بأسئلته، قائلًا: «ما الوسيلة إلى عرقلة تحرُّكات القوات، وكيف يمكن توريط العدو في الأزمات، وما السبب الأساسي في تعثُّر الهجوم على المناطق الحصينة، ولماذا تضيع دائمًا الفرص الثمينة [حرفيًّا: لماذا يصعب دائمًا استغلال الزمان المناسب والمكان الملائم؟] فهل هناك قاعدة يمكن الرجوع إليها في كل من هذه النقاط الست؟» وكان رد سونبين بالإيجاب، إذ قال له: «وعورة التضاريس هي التي تعوق تحرُّكات العدو، وليست هناك عقبة أو مأزق ينزل بالعدو قَدْر ما يجده أثناء تحركاته من تضاريس وعرة، ومن ثَمَّ فقد كان يُقال إن منطقة مستنقعات يبلغ قطرها ثلاثة أميال تشكِّل أكبر صعوبة أمام تحرُّكات القوات [فراغ] بالدرجة التي تُحتِّم التخلِّي عن المعدات الثقيلة حتى يمكن عبور المجاري المائية والأنهار (بما في ذلك الدروع والمركبات)، أجل، فالأراضي الوعرة والطبيعة الأرضية غير الممهَّدة (كل ذلك) يمكن أن يعوق تقدُّم العدو؛ مما يضعه في مأزق، أما السبب في تعثُّر الهجوم على المناطق الحصينة وصعوبة اختراقها فيرجع إلى ما يحوطها من منشآت دفاعية أو خنادق وممرات مائية [فراغ]. وسأله تيانجي: «[فراغ] فما الذي يمكن عمله (في هذا الشأن)؟» فأجابه، قائلًا: «تبادر فورًا إلى دق طبول الهجوم، لكنك تدع القوات في وضع التهيُّؤ للقتال دون أن تبادر بالاشتباك، بل تحاول بشتى الطرق أن تورط العدو في الخروج إلى المعركة.» فسأله تيانجي: «ما هي الوسيلة التي تضمن انصياع الأفراد للأوامر على نحو تام وبمنتهى الحزم والانضباط؟» فأجابه سونبين، قائلًا: «وسيلتك في ذلك تتمثَّل في أن تدع المقاتلين يُدركون ما يمكن أن يعود عليهم بالفائدة والتقدير حال انصياعهم للأوامر، بالتوازي مع الالتزام الصارم بالانضباط العسكري.» وسأله محدثه: «فهل يمكن أن يعد العمل بقاعدة المكافأة والمجازاة بمثابة الركن الأساسي في الانضباط العسكري؟» فقال له سونبين: «كلا، ليس الأمر بهذا المعنى، فالمكافأة من شأنها أن تحث الجند وتبث لديهم الدافع على الإقدام والبذل، فأما المجازاة (فترسخ قيمة الانضباط) وتحول دون التسيُّب والفوضى، وتشيع روح الطاعة والاحترام بين الأفراد وقياداتهم، فهذه كلها سلوكيات تُمهِّد الطريق للنصر، بيد أنها ليست العنصر الحاسم (الذي يتحقَّق به الظفر في المعارك).» ثم لم يلبث تيانجي أن توجه إليه بسؤاله، قائلًا: «فهل تعد كل من القيادة (السلطة السيادية)، التفوق، التخطيط، والخداع هي أهم الأسس في استخدام القوات [تكتيكات القتال]؟» فأجابه سونبين، قائلًا: «كلَّا، لا يمكن أن نعدها كذلك؛ فالغرض من إحكام السيطرة والقيادة هو حشد وتوزيع القوات، أما التمكُّن من التفوُّق القتالي فيهدف إلى حفز المقاتلين على خوض المعارك بشجاعة وإقدام، وبالنسبة لبراعة التخطيط، فالغرض الأساسي، هنا، هو تلهية العدو عن الحذر والانتباه، ثم إن المقصد الأساسي من الخداع يكمن في إرباك العدو وتضليله، وهي كلها وسائل تساعد على تحقيق النصر، لكنها لا تقع ضمن المادة الأساسية لفن استخدام القوات في الحرب.» وهنالك استولى الغضب على تيانجي، وراح يسأل سونبين وهو في غاية الانفعال، قائلًا: «بل إن هذه النقاط الست التي ذكرتها لك هي أوجَب ما ينتبه إليه ويهتم به المحارب الكفء، من فنون الحرب، ومع ذلك فيبدو أن لك رأيًا مخالفًا، فقُل لنا؛ إذَن، ما أهم ركائز [الوسائل التكتيكية في …] استخدام القوات للقتال؟» فأجابه سونبين، بقوله: «(إن أهم جانب من فنون الحرب يتركَّز في …) تحليل ومعرفة أحوال العدو، ودراسة تضاريس أرضه والتبصُّر [حرفيًّا: بالسهول والجبال والموانع الأرضية عنده] بطبيعة الأرض التي يتحرَّك عليها، وفحص ومراجعة الأطوال والمسافات في خطوط اتصاله، فتلك من أعظم مهام القائد المحنَّك (أما أهم نقطة في فن استخدام القوات للقتال، فهي …) توجيه الضربات الحاسمة لدفاعات العدو الضعيفة.» وسأله تيانجي: «فكيف إذا احتشدت القوات بمواجهة بعضها بعضًا، دون أن تكون عندي أية نوايا في البدء بالاشتباك، ما الطريقة المثلى التي ينبغي عليَّ العمل بها، حينئذٍ؟» فردَّ عليه سونبين، قائلًا: «في مثل هذا الموقف سيتوجب عليك أن تحرس مواقعك المنيعة، وأن تقوِّي حصونك وتلزم جانب الحذر، دون أن تكون البادئ بقتال، بل تحرص على أن ترابط قواتك بمواقعها ولا تغادرها مهما كانت الأسباب، دون أن تستثيرها استفزازات العدو للاشتباك.» فسأله تيانجي قائلًا: «فكيف يكون التصرُّف عندما يتوجب عليَّ الاشتباك مع خصم شديد المراس كثيف الحشود.» فأجابه سونبين: «تزيد منعة حصونك وتعمل على تعبئة وحَشْد قواتك، ولتكن حريصًا على فرض الانضباط الصارم وتنظيم صفوف القوات بما يحقِّق لها الارتباط والوحدة، كما يجب عليك أن تتجنَّب كل ما من شأنه أن يقوِّي من صلف العدو واعتزازه بنفسه، بل سيكون محتمًا عليك أن تدفعه إلى حافة الإنهاك القصوى، ثم تفاجئه بهجومك وتباغته حيث لم يتخذ أهبته ولا بدَّ عندئذٍ من أن تلتزم خطة حرب طويلة الأمد.» وتوجَّه تيانجي إلى سونبين بسؤاله، وهو يقول: «هلا ذكرت لي دواعي استخدام كلٍّ من التشكيل المخروطي [حرفيًّا: «جويشين»] وتشكيل «الإوز البري» [يانشين]، وأهمية انتخاب الوحدات القتالية الممتازة وأهمية وحدات الرماة المهرة، وتشكيل العاصفة العاتية، وكذلك وحدات الأفراد من عامة الجند؟» وكان رد سونبين عليه، كالتالي: «تكمن أهمية التشكيل المخروطي في قدرته على مهاجمة الوحدات القوية للعدو، والإحاطة بعناصر قوته الفائقة، أمَّا تشكيل الإوز البري، فدوره الأساس هو الإطباق على أجناب العدو (مثل فكي الكماشة القابضة)، ولمواجهة [فراغ]. أمَّا الهدف من انتقاء الوحدات القتالية المتميِّزة، فيكمن في اختراق تشكيلات العدو وأسر قادته، كما أن الأهمية المشار إليها لوحدات الرماة المهرة فتتمثَّل في دورها القتالي البارز في حرب طويلة الأمد مع العدو. فأما تشكيل العاصفة العاتية، فإن أهميته تتضح في [فراغ] وبالنسبة لتشكيل الأفراد من عامة الجنود فيسند إليه دور محدَّد من المهام القتالية، بهدف المعاونة [معاونة الوحدات المتميزة] في إحراز النصر.» وأضاف سونبين، قائلًا: «ثم إن القائد الحكيم وداهية الحرب الذي يفقه أصولها ويجيد قواعدها، لن يعلِّق كبير أمل على حشود هائلة من الجنود (العاديين) لتحقيق إنجازات باهرة (انتصارات مدويَّة).»

فلما انتهى سونبين من حديثه مع جلالة الملك وي حاكم تشي وتيانجي، قام وخرج، والْتَقى في طريق خروجه ببعض من تلاميذه، فابتدروه بسؤالهم: «ما رأيك فيما طرحه جلالة الملك وتيانجي من أسئلة؟» فأجابهم قائلًا: «سألني الملك تسعة أسئلة، بينما لم تتجاوز أسئلة تيانجي السبعة فقط، لكنهما صارا كليهما على دراية بجانب عظيم من فنون الحرب، ولو أني لا أستطيع الجزم بأنهما على مستوًى فائقٍ من إجادة الأصول وإتقان المبادئ، وقد بلغني (فيما قيل من الحكمة …) أن الالتزام الأصيل والجاد بالإخلاص والثقة يعود على الأوطان بالنفع والازدهار، وأن استتباب أسس العدل [فراغ] … (واعلموا) أن البراعة التامة في قيادة القوات دون الالتفات إلى إعدادها على نحو سليم للدخول في حرب، يعود على البلاد بالخسران، كما أن الولع بالعدوان والحروب يقود الأوطان — حتمًا — إلى الضياع والزوال [… فإذا ما انتهجت دولة تشي هذا السبيل]، فسوف تلقى، بعد ثلاثة أجيال، مصيرًا يستحق القلق.»

***

[وردت بعد هذه القطعة عدة عبارات غير مترابطة، قد تكون ذات علاقة بالمتن أو بجزء آخَر من السياق في هذا الكتاب، لم تتم ترجمتها إلى الصينية الحديثة في النسخة التي أنقل عنها، بل لم يتم ذكرها في عدد من النصوص المحقَّقة الأخرى، وأجتهد، هنا، في نقلها عن الصينية القديمة، كالتالي: …]

… [فراغ]، فذلك مما يعمل له العدو ألف حساب» [فراغ]. قال سونزي: [فراغ]. قال سونزي: ثماني تشكيلات قتالية، [فراغ] … على هذا النحو، وقال سونزي: إن الحرب [فراغ] … وقال الملك وي: [فراغ] … هكذا «[فراغ] … ثم إن تيانجي [فراغ] …»

١  يتناول هذا الفصل حوارات متبادلة بين الملك وي، حاكم دولة تشي، وسونبين وتيانجي حول فنون المعارك، ويدور الحوار بين ثلاثتهم على نمط الأسئلة والأجوبة المباشرة، ويتركَّز القسم الأول منها على ظروف عدم التكافؤ بين القوتين المتصارعتين، وما يتعلَّق بها من طرق وفنون قتال متباينة، أما القسم الثاني فينصب بصورة أساسية على الآراء التي طرحها سونبين في معرض حواره مع تيانجي، بشأن «شن الهجوم حيث تضعف دفاعات العدو»، وهي مسألة تعرضت لطريقتين في التفسير على يد الأكاديميين؛ الطريقة الأولى، تنظر إلى هذا المبدأ من زاوية تركيز الهجوم على الثغرات الضعيفة في دفاعات العدو. والطريقة الثانية، ترى أن المعنى يشير إلى المبادرة بالهجوم وليس بالدفاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤