الفصل الخامس

البراعة القتالية١

إن الخبير بإدارة المعارك، المتمرِّس بفنون القتال، هو ذلك الذي يقدر على تشتيت صفوف العدو مهما كانت قوته، [حرفيًّا: مهما بلغت كثرة جنوده وكثافة خيوله الراكضة] فتتفرَّق حشوده وتتشرذم وحداته، بما يتعذَّر معه أن تساند بعضها بعضًا، وتتعرَّض للهجوم المتواصل الذي يدك قواعدها ويشل يدها، حتى، عن طلب النجدة وإبلاغ أحوالها لقيادتها، فتنقطع الصِّلة بين وحدات العدو المقاتلة، وتبطل من ثَمَّ قيمة تحصيناته الدفاعية بكل ما أقيم فيها من قلاع، وما حُفر في وديانها من أخاديد، وتتبدَّد أهمية ما تكدس في خزائنه من احتياطي الغذاء، وتضيع مهابة جنوده مهما امتازوا بالشجاعة.

إن رجل الحرب المحنَّك، الحاذق فنون استخدام القوات، هو الذي يعرف كيف يلاحظ ويقيِّم التضاريس الأرضية [كذا]، ولا يَفوته أن يُحسن استغلال الأراضي المنيعة، ويرابط في مواقعه بقوات كثيفة، ويتقدَّم أو ينسحب من ساحات القتال بكل مرونة. (إن القائد العليم بفنون الحرب …) هو الذي يجعل من الكثرة في جيش أعدائه شرذمة قليلة [… يقلِّل من قيمة الزيادة العددية في الجيوش المعادية، ويخصم منها هذه الميزة، بما يفرضه عليها من الشعور بالحاجة إلى مزيد من القوات]، ويجعل بطونها تتضوَّر جوعًا، حتى وهي تحوز خزائن الحبوب والغذاء [يقلِّل من قيمة ما تختزنه جيوش الأعداء من احتياطي الغذاء مهما عظمت كميته]، وينزل بنفوسها وأجسادها الإرهاق والتعب، حتى وهي قابعة مكانها، ويبدد ما الْتفَّ حولها من جموع الناس، ويباعد بينها وبين قلوب المؤيِّدين لها من أبناء شعبه مهما عظمَتْ حشودها، (إن قائدًا حكيمًا يستطيع أن …) يوقع الشحناء والكراهية بين فصائل جيوش وثيقة الصلة بين عناصرها، ويقطع أوصال قوات كانت، بالأمس، على قلب رجل واحد.

على كل جيش مشتبك في قتال أن يُلاحظ طريقتَين من طرق الحرب، أولاهما تُسمَّى: «الطرق الأربعة»، وثانيتهما يُقال لها: «التحرُّكات الخمسة». فالطرق الأربعة هي طريق التقدُّم للأمام، والانسحاب والتقدُّم جهة اليمين ثم اليسار، أما التحرُّكات الخمسة، فهي: دَفْع القوات للأمام، والانسحاب، والميل إلى اليسار، والركون إلى اليمين، والتوقُّف. وهذا الأخير يُعَد، أيضًا، أحد عناصر التحرُّك (فلا تحسبنَّه مناقضًا لذلك المعنى)، إن القائد العبقري هو ذلك الذي يجيد الاهتداء بالطرق الأربعة، والاسترشاد بالتحرُّكات الخمسة، بكل وعي ومرونة، (فإذا استطاع، حقًّا، أن يبلغ هذا القَدْر من الإجادة …) فلن يستطيع العدو أن يقف في طريق تقدُّمه ولا أن يقطع عليه خط الرجعة إذا ما أراد الانسحاب، ولا أن يعوق ميله إلى اليمين أو اليسار، بل سيستشعر إزاءه أعظَم إحساس بالتهديد والخطر، حتى وهو مرابط بقواته في مواقعه، دون اشتباك في ساحة القتال [… جاءت الجملة الأخيرة، بهذا المعنى، في إحدى النسخ المُترجَم عنها، لكنها في كثير من النصوص المتاحة لهذا الفصل كانت مهملة من السياق، وورد مكانها فراغ خالٍ من الكلمات].

إن المتمرِّس في فنون القتال سيعمل على إعاقة كل محاولات العدو للجوء إلى الطرق الأربعة، وعرقلة جهوده نحو «التحرُّكات الخمسة»، فإذا أراد التقدم بقواته، وجدَ نفسه تحت هجمات معادية، وإذا رجع القهقرى، سُدَّت عليه خطوط الانسحاب، وأحيط به من كل جانب، فلا يستطيع التحرُّك نحو الأجناب، ثم إذا لزم الثبات في مواقعه، لم يأمن شن الغارة عليه.

إن القائد المبرَّز في فن القتال يستطيع أن يجبر العدو على اجتياز المسافات الطوال، وهو تحت دروع القتال، وفوق عنقه آلة الحرب ينوء بها كاهله، فلا يجد سبيلًا إلى الراحة، فيقع من الإرهاق والجوع والسهر في أسوأ حالات الإعياء، فتلك — إذَن — وسيلة فعَّالة تؤدي حتمًا إلى هزيمته (في نهاية المطاف)، في حين يحتفظ القائد بجيشه وقد نال قسطًا من الراحة وحظًّا هائلًا من التزوُّد بالماء والغذاء، منتظمًا في الصفوف، منضبطًا رابط الجأش، على أتم استعداد للقتال، فإذا حانت ساعة اللقاء، تقدَّمت القوات بعزم وافِر وإقدام شجاع، لا يردُّها شيء عن القتال، بل تمضي [حرفيًّا: تمشي فوق حدِّ السيف] فوق الخطر، دون أن تلتفت إلى الوراء، أو تفكِّر في التراجع والفرار.

***

[ورد في نهاية المتن الرقم «مائتان»، متبوعًا بثلاثة فراغات، قد تكون تكملة الرقم المذكور، ولا تُعرَف دلالته، في هذا السياق]

١  ترجمة عنوان هذا الفصل حرفيًّا كالتالي: «الخبراء»، ويشير إلى «العليمين ببواطن الأمور في فنون القتال»، ويتناول أوجُه التفوُّق الملحوظة في ميادين القتال على يد القادة المحنَّكين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤