مقدمة
وليس أدل على جهل الناس بغدهم القريب من هذه الغفلة في نهاية القرن التاسع عشر عن ضخامة القرن العشرين بين قرون التاريخ القديم والحديث منذ عرف التاريخ، فلم يكد هذا القرن ينتصف، حتى التفت العالم من جميع أركانه وأقطاره إلى هذا القرن الذي خيل إليه أنه بقية العكارة من أعقاب التاريخ الأخير، فإذا هو عصر العصور في حوادثه، وفي مكتشفاته ومخترعاته، وفيما يتوقع بعده من جلائل الآمال. نعم، وجلائل الأهوال.
حربان عالميتان من عشرته الثانية إلى عشرته الرابعة، واقتحام للفضاء، وفتح للقمقم عن مارد الطبيعة الأكبر، وهو القمقم الذي يحتويه أصغر ما فيها من ذرات لا تدركها الأبصار.
هل تعجل الإنسانية إلى النصر على الطبيعة، أو تعجل إلى الدمار على يدي الإنسان بما كشفه من أسرارها؟ وهل اقترب الإنسان حقًّا من الحرب التي تختم الحروب، فلا حرب بعدها ولا محاربون، أم هو يقترب شيئًا فشيئًا من يوم النصر على الطبيعة، وعلى ما في طبيعته هو من بوائق الشر والدمار؟
وذهبت السكرة وجاءت الفكرة؛ ذهبت نشوة الفتح والانتصار على المارد المكنون في ذرات المادة، وانجلت المفاجأة عن حساب طويل لهذا الفتح المبين، بل حساب عسير.
ماذا في وسع العلم أن يهب لنا من علانيته وسره؟ ماذا عنده من الوعد، وماذا عنده من الوفاء؟ وماذا فيه من الخير المأمول؟ بل ماذا في الخير المأمول من محذور يتستر وراءه النفع المنظور؟
إن غلبة الإنسان على الطبيعة سوف تؤتيه الغلبة على السقم والوباء، وسوف يزداد الناس ببركة العلم، فماذا عند العلم لهؤلاء الناس من الأزواد، ومن الشواغل والأعمال؟ أعنده الكفاية لهم من القوت والمأوى، أم هو مرسلهم إلى عالم يتغالبون عليه، ثم يلتمسون الغلب بذلك السلاح الجديد؛ ذلك السلاح المبيد؟
وعاد الباحثون إلى نذير «مالثوس» يدرسونه وينقدونه، وينقصون منه أو يزيدون عليه، فوضح لهم أن نذير الأمس قد أصاب في كل شيء، إلا فيما اعتمد عليه من معلومات وأسانيد، ولم يخطئ حين أنذر بالخطر من زيادة الأحياء على الكفاية في الأرض من الطعام، ولعله قد ذكر بعض المخاوف، ونسي بعضها الذي توارى عنه، فلم يبلغ في زمنه مبلغ الخطر الملموس، وهو زيادة الآلات والأدوات على ما يلزمها من غذائها المدخر في الأرض، وهو مناجم الوقود.
ولجأ الباحثون إلى نبوءاتهم يستخبرونها عن الغد المخبوء قبل نهاية القرن العشرين، ولكنها نبوءات تتسم بطابع القرن، وصبغة العلم والصناعة، كأنها نبوءة المتحدث عن سيار في السماء أو في الأرض، يعرف مداره، ويعرف كم يدور.
نبوءات أقرب إلى التقديرات والإحصاءات، ليست من نبوءات الطوبى، ولا من نبوءات الأحلام، ولا من نبوءات العصور الذهبية، ولكنها أشبه بأرصاد الفلك، لو لم يكن فيها شيء من الغيب المجهول قد يخطئ فيه الحساب.
ماذا عند هذا العصر — عصر الصناعة — من وعود؟ وماذا من هذه الوعود حقيق أن يتبعه الوفاء؟ وماذا يحول دون وفائه بوعوده مما يقع في الحساب، ومما يقع وراء كل حساب؟
هذه هي الأسئلة التي تدور على جوابها فصول هذا الكتاب، ونرجو أن نوفق للإجابة عنها غاية ما تلهمنا ظواهر الأمور، وغاية ما نهتدي إليه بهداية تلك الظواهر، وهداية الأمل المصدوق.
وسنحاول أن نجيب عنه جوابين متلاحقين لا متقابلين ولا متناقضين، يضيف أحدهما إلى الآخر، ولا يزحزحه عن مكانه ليلغيه، أو يطغى عليه.
فمن حيث انتهى بالقرن العشرين تطوره الصناعي يبتدئ النظر إلى ما يليه من الممكنات، وما يعترض تلك الممكنات من العوائق والعراقيل، وهذا هو الشطر الأول من الكتاب الذي نعول فيه على خبراء الصناعة؛ حيث بلغت الصناعة غايتها، واستعدت للمضي في تقدمها إلى ما بعد تلك الغاية، في حدود القرن العشرين وفيما يليه، وسننقل في هذا القسم خلاصة كافية للمشكلة التي أحدثتها الصناعة، والمشكلة التي تعالجها الصناعة، ومدارها على تقدير سعة الأرض من المؤونة ومن السكان، وعلى ما يشتبك بذلك من قضايا السلام، وقضايا السلاح، وبخاصة في القرن العشرين.
وننتقل بعد العرض الموجز لتقديرات الخبراء إلى الشطر الثاني من الكتاب: شطر التعقيب والمراجعة فنأخذ فيه بحق العلم الذي تحراه أولئك الخبراء الثقات، ونضيف إليه واجب العلم الذي لا يسقط عنه، ولا يخليه منه الحفاظ على حقه.
فمن واجب العلم أن يفرض وأن يستكشف، وأن يجمع بين أشتات اليقين كلما وسعه أن يجمعها إلى فكرة مقبولة تهدي إلى مزيد من اليقين، ومن واجبه أن يفتح أبواب الاحتمال فلا يغلق منها بابًا يفضي إلى المجهول، ويربط بين الماضي والمستقبل بسبب موصول، وعلى أضواء هذا الواجب العلمي ننظر إلى مشكلات الإنسانية، وإلى أكبرها في القرن العشرين مشكلة الصناعة، لنقابل بين ماضيها وحاضرها، ونحاول أن نضعها في مكانها من تاريخ الإنسان، هل هي فلتات مبعثرة في غياهب من الفوضى، وأخلاط من الطوارئ والمصادفات، أو هي سلسلة متلاحقة تتبعها — أو تتبع المعلوم من حلقاتها — فنفهمها على اتصال بين ماضيها وحاضرها، ثم نفهمها على اتصال بين حاضرها وما يليه من لواحق الغد المنظور؟
والذي نفرضه — على أساس الفرض العلمي — أن المقابلة بين مشكلات الإنسانية، وبين أدوار الصناعة في تاريخها تسفر عن معنى يفهم، ولا تتيه بالذهن في فراغ مبهم خلو من كل معنى مجرد من كل نسق، فمشكلات الإنسانية جزء من معالم الطريق لم ينفصل عن فتوحها، وأطوار انتصارها وارتقائها، والصناعة — منذ وجدت الآلة البدائية — هي السمة الأولى التي غيرت بين ملامح الحيوان الأعجم وملامح الحيوان الناطق منذ أقدم الأزمان، وعلى هذه الصورة لا ينقطع المستقبل، ولا تزال الصورة آخذة في التمام على استقامة واطراد، وإن تخللتها الفجوات والظلال.
ودعوانا التي نؤكدها ولا نتردد في توكيدها أن نظرة التفاؤل والرجاء إلى الغد قائمة على أسبابها التي توازن أسباب التشاؤم والقنوط، وإن القول بعبث التاريخ أصعب دليلًا من القول بمعنى التاريخ، وإننا نختار معناه على بصيرة بينة، دون معانيه التي يؤثرها المتشائمون القانطون، وبحسبنا منه أن يكون معنى واضح المدلول، أسبابه التي تعززه أوضح من الأسباب التي تنفيه.