الطعام والطاقة
طعام الإنسان يؤخذ مباشرة أو بالواسطة من النبات، وهو ذو خاصة تمكنه من تحويل ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى المركبات الكيمية الضرورية لتغذية الإنسان، ونحن نأكل بعض النبات كالحبوب والخضر مباشرة، ونأكل بعضه بعد تحوله إلى اللحم واللبن والبيض في الحيوانات المدجنة، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: «كل لحم نبات.»
ولا بد للفرد الإنساني — ليعيش عيشة صحيحة عاملة — من ثلاثة آلاف سعر حرارة في اليوم، وعليه إذن أن يستنفد كل يوم ما يساوي نحو رطل وثمانية أعشار الرطل من النبات يحتوي سبعة أعشار الرطل من الكربون، وهو داخل على أشكال كثيرة في التركيبات التي يتكون منها النبات. فلا بد للفرد الإنساني إذن من مائتين وستين رطلًا من الكربون كل سنة، ويتحول على ظهر الأرض في كل سنة نحو مائة وخمسين بليون طن كربون من ثاني أكسيد الكربون إلى مادة نباتية، وهو مقدار إذا استنفده الناس وخلصت فائدته كله للتغذية كان كافيًا لتموين عدد من السكان يساوي خمسمائة ضعف الموجودين على الأرض في الوقت الحاضر، ولكن مصدره من ضوء الشمس يذهب كثير منه — لسوء الحظ — إلى ماء البحر، ولا ينتفع به الإنسان في طعامه، ولو بقي ما يقع على اليابسة من مصدره الشمسي وقفًا على الغذاء لكان كافيًا لعدد من الناس يساوي خمسين مثلًا من سكان الأرض الموجودين، إذ كان من عادات الإنسان في التغذية أن يقصر طعامه على النبات المزروع، والحيوان الذي يتغذى وبه، ولا يستنفد هذا ولا ذاك أكثر من ربع مصادر الغذاء الضوئية التي تنصب على سطح الكرة الأرضية، على أن هذا القسط — لو خلص أيضًا للتغذية — لكان كافيًا لعشرة أمثال سكانها.
فمحصول الأرض الزراعية لا يكفينا الآن لما يصاب به من ألوان النقص في نظام تدبيرنا للأطعمة، إذ يستخدم نصف المحصول على وجه التقريب في إطعام الحيوانات الداجنة، وإنما يأكل الحيوان جزءًا من النبات، ويعطينا منه أغذية حيوانية كاللحم واللبن والبيض ونحوها مما يتألف منه عشر أسعار الحرارة، أي إننا نعطي الحيوان مائة سعر يستنفد تسعين منها، ويعطينا عشرة.
ويعرض للمحصول نقص آخر من أن الإنسان لا يأكل جميع النبات، بل يأخذ حبة القمح مثلًا ويدع القشور والجذور، ويقدر ما يأكله بنحو عشرين في المائة من جملته، وليس الغذاء بعد هذا خالصًا للإنسان والحيوان الداجن؛ لأن الأحياء الأخرى من الحشرات وجراثيم الأوبئة تلتهم نحو الثلث من محصول النبات الذي كان للإنسان أن يستأثر به لولا ذاك، ولهذه العوارض لا يبقى من محصول الأرض إلا ما يكاد يكفي سكانها الموجودين.
والعالم في الواقع يربى محصوله من المادة الغذائية الصالحة على الحاجة الضرورية، إذ هو ينتج مائة وخمسين طنًّا لكل فرد إنساني لا تزيد حاجته منها على ثلاثة أعشار الطن الواحد، فلولا تلك العوارض لكان لدينا وفر من الطعام.
ويجري توزيع الطعام على حسب المواقع الأرضية، فيبلغ على الأرض الآن بليونين وأربعة أعشار البليون من الأفدنة المزروعة، أي فدان على وجه التقريب لكل إنسان، ولكن سكان الأرض موزعون توزيعًا سيئًا على هذه المساحة، فيخص الساكن في الولايات المتحدة فدانان مزروعان، ويخص الساكن في كندا حيث تتسع الأرض، ويقل السكان ثلاثة أفدنة وستة أعشار الفدان لكل ساكن، على حين أن الساكن في اليابان لا تزيد حصته على خمسي فدان من الأرض المزروعة، ولا تزيد حصة الساكن في القارة الآسيوية على خمسي فدان، أما في أوروبا الغربية فحصة الإنسان الفرد أقل من فدان.
وتستخرج المحاصيل من الأرض الزراعية في العالم على أساليب متفاوتة في الإنتاج، فنحن في الولايات المتحدة نحصل يوميًّا على نحو أربعة آلاف سعر من مادة الغذاء من الفدان الواحد، وهو مقدار يزيد على إنتاج آسيا الذي يبلغ أربعة آلاف سعر مع الفرق بين تربة الشرق والجنوب الشرقي حيث تزيد الأولى على الثانية، وتحصل أوروبا الغربية بوسائلها المركزة على مقدار يتفاوت بين سبعة آلاف وثمانية آلاف، وأشد ما يكون تركيز الوسائل الزراعية في اليابان حيث يؤتي الفدان ثلاثة عشر ألف سعر، أي نحو ثلاثة أمثال ونصف المثل من متوسط إنتاج الفدان في العالم، وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة.
والأمريكي يطعم حيواناته معظم محصول أرضه من القمح والشوفان، ولا يستنفد طعام الإنسان منهما على حالتهما الطبيعية غير النزر القليل، إذ يأخذ الأمريكي نحو الثلث من أسعار غذائه من اللحم واللبن والبيض، وعلى خلاف ذلك الآسيوي الذي يأكل معظم نباتاته، ولا يزيد غذاؤه من المواد الحيوانية على خمسة في المائة، ويأتي الأوروبي وسطًا بينهما، فيعطي الحيوانات ما يزيد على النصف بقليل، ويأخذ عشرين في المائة من أسعار الغذاء من المواد الحيوانية، وترتبط عادات التغذية بنسبة مساحة الأرض المزروعة، فلا يقدر السكان على ترف استخلاص الغذاء من الحيوان إلا حيث تزيد حصة الفرد الواحد من الأفدنة.
ولا يبدو أن الاختلاف في مقادير المحصول راجع إلى أسباب تتعلق بالخصب والإقليم، وإنما يرجع على الأرجح إلى درجة المعرفة الفنية ووفرة السكان، فنحن في الولايات المتحدة نعلم كل ما يعلمه اليابانيون من أساليب الزراعة، ولا نعنى مثل عنايتهم بتركيزها؛ لأن هذا التركيز لا تدعو إليه الضرورة بعد، مع زيادة حصة الفرد من الأفدنة، أما في آسيا — عدا اليابان — فالناس يجوعون، والحاجة تدعو إلى مضاعفة الإنتاج، ولكنهم لا يستخدمون وسائل التركيز لنقص المعرفة الفنية، وصعوبة الحصول على أدواتها التي يحصل عليها في أوروبا الغربية.
ويستعمل الأوروبي مقدارًا من المخصبات يساوي أكثر من ضعف ما يستعمله الأمريكي، وما يستعمله الياباني يساوي ضعف ما يستعمله الأوروبي منها، وقلما تستعمل المخصبات في الهند لندرتها، وقلة ما يعلمه الفلاح الهندي عنها، ويقال مثل ذلك عن الخبرة بتحسين النبات على حساب وسائل إنمائه وتربيته ووقايته من الآفات والأوبئة؛ مما يجهله أبناء الأمم المتخلفة، وقد ساعد ارتقاء الآلات كما ساعد ارتقاء وسائل التربية والوقاية على توفير محاصيل النبات، ولكننا حريصون ألا نبالغ في جدوى الآلات فيما يتعلق بغلة الفدان، فإن أكبر ما تجديه الآلات أن تزيد المحصول بنسبة اليد العاملة، وتنقص ساعات العمل، فيخلو الوقت للاشتغال بأعمال الصناعة، وتلاحظ في الواقع علاقة وثيقة حيث تتقدم الصناعة بين نسبة التركيز وعدد الأيدي المتفرغة للزراعة. ففي اليابان التي تبلغ نسبة التركيز فيها أقصاها يستخدم نصف قوتها العاملة في إنتاج هذه النسبة، ويستخدم في أوروبا الغربية عدد يتراوح بين الربع والثلث، ولا يزيد عمال الزراعة في الولايات المتحدة على تسعة من كل مائة عامل، فلا غنى لتركيز وسائل الزرع من تركيز القوى العاملة.
ويفهم من المقارنة أن المقصود هو أن يكون من المتيسر رفع نسبة الإنتاج في الأرض الصالحة للزراعة، وأن يتيسر ذلك بنشر المعرفة الفنية، ونشر أدواتها بين أبناء البلاد المتخلفة، وينبغي أن تتيسر المضاعفة — وأكثر من المضاعفة — برفع نسبة الإنتاج هناك إلى مثل نسبتها في بلاد أوروبا الغربية.
ولنسأل: ما مبلغ السرعة التي تترقبها نتيجة لنشر المعرفة الفنية، وأدواتها الفعالة؟ فعلينا لمواجهة هذا البحث أن نراجع مدى التقدم حيث تستخدم هذه الأدوات الآن، فاليابان بدأت فيها الثورة في أساليب الزراعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وظل عدد سكانها من قبل سنة ١٨٧٠ ثابتًا، كما ثبتت مثله مقادير إنتاج الأرز ومقادير إنتاج المواد الغذائية، ويمكن الرجوع إلى الإحصاءات منذ سنة ١٨٧٨ إلى الآن، فمن عشرة السبعين ارتفع محصول الأرز ارتفاعًا بطيئًا مطردًا حتى زاد على الضعف خلال فترة من خمسين إلى ستين سنة، وجاء ذلك نتيجة لزيادة غلة المحصول من كل فدان، تبعًا لزيادة المخصبات، وزيادة العناية بتوليد النباتات، وقد قوبلت زيادة الغلات اليابانية خلال ربع القرن الأخير — من القرن التاسع عشر وربع القرن الأول من القرن العشرين — بما يوازنها في غلات أوروبا الغربية، فكانت نسبة الزيادة هنا وهناك بمقدار اثنين في المائة كل سنة تؤدي إلى ضعف المحصول بعد خمسين أو ستين سنة، مما يفهم منه أن زيادة الزراعة بطيئة بالقياس إلى زيادة الصناعة، إذ قد علمنا أن محصول الحديد والصلب في اليابان كان يتضاعف كل خمس سنوات خلال هذه الفترة، ولنلاحظ أن الإنتاج الزراعي يترقى من مستوى هابط إلى حده الأعلى، فلم تتغير النسبة إلا قليلًا في اليابان منذ سنة ١٩٣٥ على الرغم من جهود التركيز الفنية.
ففي الماضي إذن كانت زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة اثنين في المائة كل سنة، سواء في آسيا أو أوروبا الغربية، فهل ينتظر الوصول إلى نسبة أكبر من هذه النسبة في المستقبل بعد تقدم المعرفة الفنية، وتقدم وسائل النشر والتلقين؟ وجواب هذا السؤال أننا نعلم فعلًا كيف نزيد مقدار الغذاء، وكيف نزيد سرعة إنتاجه، ولكن زيادة غير كبيرة، ففي الولايات المتحدة — مثلًا — زاد الإنتاج الزراعي خلال العشرين سنة الأخيرة بنسبة اثنين في المائة كل سنة، بعد ما توافر لدينا من المعرفة بعلوم الحياة وعلوم الزراعة، ووسائل الإرشاد والمشورة، وتكاد نسبة الزيادة في الطعام — على هذا — تضارع نسبة الزيادة في عدد السكان، ومن المعلوم أن سكان الولايات المتحدة يحصلون على الكفاية من الغذاء، فلا تلح الحاجة بتعجيل النظر في مضاعفة المنتجات، فلنوجه النظر إذن إلى بلد معرض لنقص الأرزاق والثمرات.
لقد أفاد برنامج حسن التحضير من مؤسسة روكفلر في زيادة الإنتاج بأرض المكسيك بنسبة ثمانين في المائة خلال عشرين سنة، تعادل أربعة في المائة كل سنة، وقد ارتفعت نسبة الطعام بحساب الفرد الواحد ارتفاعًا مناسبًا مع تكاثر عدد السكان بنسبة ثلاثة في المائة كل سنة، وهذه الزيادة الملحوظة إنما تيسرت بتوسيع مساحة الأرض المزروعة نتيجة لتحسين الري وتعليم الزراعة، وشتى المباحث الفينة، وحصلت المكسيك في أثناء ذلك على معونة فنية من الولايات المتحدة ساعدت على إنجاز هذا التطور، ومنه نرى مبلغ ما نترقبه — حدًّا أقصى — للتقدم الزراعي على الأقل في حالة الافتقار إلى التطورات الاجتماعية. أما البلاد الآسيوية فقد كان التقدم فيها دون هذا في السرعة، ولم تتجاوز نسبته نسبة الزيادة في عدد السكان إلا بشيء يسير، ويصدق هذا حتى على بلاد كالهند بذلت فيها ولا تزال تبذل مجهودات قوية لتحسين أحوال التغذية، إذ يبلغ المال المخصص للزراعة في مشروع السنوات الخمس نحو خمس نفقات المشروع كله، فتقررت أعمال الري، وأنشئت معامل السماد، ونشرت دروس التعليم، وأدت هذه الجهود إلى زيادة نحو خمس عشرة في المائة، أي بمعدل ثلاثة في المائة كل سنة، ولا يزال نصيب أهل الهند من الغذاء مع هذا أقل مما كان قبل الحرب العالمية الثانية، إذ بقي إنتاج الطعام على حاله اثنتي عشرة سنة قبل الابتداء في مشروع السنوات الخمس على حين كان عدد السكان مستمرًّا في الزيادة.
وقد علم من جداول الإحصاء والمقابلة أن زيادة الإنتاج بوسائل الزراعة التقليدية لا تزال ترتفع حتى تنتهي إلى مستوى يصعب المزيد عليه. فمما يسوغ لنا الأمل في مضاعفة الغلات أن كثيرًا من المساحات الزراعية في العالم لا تزال بحالتها الهابطة قابلة للمزيد من التحسين، فكم من الناس على ظهر الكرة الأرضية نستطيع أن نزودهم بالمئونة الكافية بعد الانتهاء إلى الحد الأقصى؟
بعد تذليل الصعوبات الإقليمية في مناطق الأرض المختلفة، يمكن تقدير المساحة التي يتم استصلاحها بنحو بليون فدان، تظهر فوائدها الكبرى في القارتين الأمريكتين؛ حيث تزداد المساحة بمقدار خمسين أو ستين في المائة، وأقل من ذلك فوائدها للقارة الآسيوية؛ حيث تقدر الزيادة بثلاثين في المائة، فإذا تم ارتفاع الإنتاج في هذه المساحات على النسبة المعهودة بالقارة الأوروبية، بلغ محصولها نحو ضعفي محصول الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، واحتاج إتمام العمل فيه إلى زمن يتراوح بين ثلاثين وخمسين سنة، وإلى مقدار من المال يبلغ نحو خمسمائة بليون دولار، تنفق لإقامة مراكز الإرشاد على جوانب الكرة الأرضية، وإنشاء معامل السماد ونشر التعليم، ويكفي المحصول — متى تمت جميع هذه المجهودات — لتموين عدد من السكان يتراوح بين أربعة بلايين أو خمسة، وهذا على اعتبار أن سكان آسيا يظلون في تغذيتهم مكتفين بنسبة قليلة من المواد الحيوانية، وأن سائر سكان العالم يظنون مكتفين بتمثيل عشرين في المائة من أسعار الحرارة في الأغذية الحيوانية، وهو مقدار مناسب ملائم للصحة، وإن لم يكن على أحسن ما يشتهى في ألوان الطعام.
ولكن ماذا ينتظر متى بلغت غلة الفدان في العالم ما يقارب غلته في أوروبا الغربية؟ هل لنا أن نأمل مزيدًا من ارتفاع النسبة على أساس التجربة في اليابان؟ قد نجازف بجواب عن هذا السؤال، وننتظر مضاعفة النسبة بالاعتماد على مزيد من التركيز، واستخدام التجارب العلمية، والإكثار من جهود الأيدي العاملة، فإذا تأتى لنا بهذه الوسائل أن نرفع النسبة في ثلث المساحة المزروعة من الكرة الأرضية، وأن نبلغ بثلثيها ما يعادل النسبة الحاضرة في أوروبا الغربية أمكننا — نظريًّا — أن نزود بالمئونة عددًا يتراوح بين سبعة بلايين وثمانية على معدل مناسب من التغذية الصالحة.
والخلاصة أن توفير الأزواد الغذائية مستطاع بالتوسع في تطبيق الأساليب الفنية، وأن مضاعفة الغلات الزراعية تتأتى بزيادة الري، وزيادة المخصبات، وزيادة المطهرات من الحشرات وجراثيم الآفات، وزيادة التحسين في أنواع النبات، وزيادة التركيز على المثال المتبع في اليابان. ونسبة هذه الزيادة في السنة بين اثنين وأربعة في المائة كل سنة، ينبغي أن تجري على وتيرة الزيادة في عدد سكان العالم، ومتى وصلنا إلى هذا المستوى في زمن يقدر بما بين خمس وسبعين سنة ومائة سنة يكون عدد السكان قد بلغ مستوى الاستقرار.
وكل هذا عن الأطعمة التقليدية ووسائل التحضير الشائعة في الري والزراعة.
غير أننا نستطيع أن نعالج بالكيمياء أجزاء من النبات تنبذ، ولا تؤكل من قبيل الخشب والهشيم. ومن الممكن أن تعالج هذه النفايات بالأحماض الحارة؛ فنجني منها شرابًا عسليًّا بمقدار النصف من زنتها، ويكلفنا ذلك عشرة أمثال تكاليف العسل الذي نستخرجه من السكر والبنجر، بل يمكن بعد ذلك أن تعالج هذه الأشربة بالخمائر لنجني منها مادة غنية بالبروتين، كما أن الخمائر المستخرجة من العسل تصلح لتغذية الإنسان.
والخطوة العملية التي تجدي في تحقيق الغاية الثابتة من تنمية الغذاء العالمي ينبغي أن تتصل بتدبير الماء، إذ هناك بقاع شاسعة تثمر الغذاء الوافر إذا استطيع تخصيبها بالأمواه الكافية، فالبقاع المزروعة الآن بالوسائل التقليدية تساوي مساحتها نحو أحد عشر في المائة من الأرض المزروعة، وهي تزداد زيادة سريعة في أمريكا الجنوبية وآسيا، ويقدرون أن أربع عشرة في المائة من الأرض يروى بتلك الوسائل التقليدية إذا حسن تصريف أمواه الأنهار في أرجاء العالم، وقد يرتفع هذا المقدار إلى عشرين في المائة، يجري ريها وزرعها بالنفقات العادية، وقلما تكفي مياه الأنهار والينابيع لزراعة مساحة أكبر من تلك المساحة، فلا أمل إذن في تخصيب الصحارى والسهوب بالوسائل التقليدية، وهي تزيد في اتساعها على مثلي سعة الأرض المزروعة، وعلينا أن نلجأ إلى ماء البحر لاستخدامه في إصلاح الأرض البور وزرعها، فكيف يتأتى ذلك بالطرق الاقتصادية؟ إن تكاليف الفدان الواحد من ماء البحر بعد تصفيته وإعداده للري تساوي ضعف ثمن الغلة التي تجنى منه، فضلًا عن تكاليف الأقنية والقناطر والأنابيب الموصلة للماء، ولكن إصلاح الصحارى البور يظل مع هذا بابًا مفتوحًا عند الاضطرار.
وبين وسائل الانتفاع بالطاقة الشمسية غرس الأشجار في الشمس، وإحراق أحطابها، أو تخمير السكر الذي نحصل عليه من غرس القصب والبنجر، ويستخرج منه الكحول أو الغازات والسوائل لاستخدامها في توليد الكهرباء، ولكن الحاجة إلى الأرض المزروعة لتدبير الطعام لا تبقي من مساحاتها بقية تذكر لغرس أشجار الوقود، وثمة وسيلة بارعة وضعت أخيرًا لتوليد الطاقة من طحلب يربى في مناطق مشبعة بثاني أكسيد الكربون، ويجمع الطحلب ويخمر لتكوين الميثين والهيدروجين، ثم تحرق هذه الغازات لتوليد الكهرباء، ثم يرد ثاني أكسيد الكربون لتربية الطحلب، ويتأتى بهذه المثابة في الأحوال الملائمة أن يتحول من واحد إلى ثلاثة في المائة من الطاقة الشمسية إلى كهرباء، والجهاز الذي يقام على هذا الأساس يمكن أن نحصل منه على الكهرباء بسعر يتراوح بين سنتين ونصف سنت، وبين خمسة سنتات للكيلووات في الساعة، وتقدر قيمة الوقود السائل المستخرج منه بمائة وخمسين دولارًا للطن الواحد، ومع الشك في إمكان مزاحمة الطاقة الشمسية للطاقة النووية في توليد الكهرباء في نطاق واسع، يلوح لنا أنها نافعة جدًّا في النطاق المحدود، والأرجح أن أهم وجوه النفع من الطاقة الشمسية في المستقبل إنما يقوم على تدفئة الفضاء، ونحن نعلم أن المنازل يمكن أن تبنى في الأقاليم الحافلة بالسكان بحيث يعتمد في تدفئتها على الطاقة الشمسية دون غيرها إلى ما يوازي مدينة بوسطن في الشمال، وربما حالت التكاليف الإضافية اللازمة لتشييد المساكن دون استخدامها على سعة، ولكن المأمول عندما تعلو أسعار الوقود أن يبنى معظم المساكن بحيث تنتفع غاية الانتفاع بالطاقة الشمسية.
وتختلف الأحوال في معظم بلاد العالم عما هي عليه في الولايات المتحدة فيما يتعلق بوفرة الوقود، فإذا أضيف إلى هذا الاختلاف بعض العوامل الأخرى، كان للفارق مظهر أدعى إلى الالفتات، وأحد هذه العوامل فرق العملة الأجنبية، فإن البلاد التي تعاني أزمة التوريد، وتتكلف الكثير لمقابلة الواردات من الفحم والبترول بما يساوي قيمتها من محصولاتها، قد ينتهي بها الأمر إلى تفضيل الاعتماد على الطاقة النووية مع ارتفاع سعرها، وهناك عامل آخر من عوامل الاختلاف يرجع إلى اجتهاد كل أمة في تدبير وسائل الكفاية الذاتية، وليس تدبير أمر البترول بالأمر الموثوق به، إذ كان شطر كبير من ينابيع بترول العالم كامنا في الشرق الأوسط حيث تغلب الحساسية لأطوار العلاقات الدولية، وكثير من الأمم تحتمل التكاليف العالية لاستخدام الطاقة النووية، وتفضل ذلك على مورد أرخص منها، ولكنه غير مضمون.
ويظهر أن الاتحاد السوفيتي له حالة خاصة فيما يتعلق بلوازم الطاقة الذرية، فإن بلاد الاتحاد — على ما تملكه من مناجم الفحم الغنية — يقع فيها معظم هذه المناجم بين أرجاء سيبريا، وتظل بقيتها مفتقرة إلى الوقود، ولهذا يستورد في كل سنة على ما يظهر نحو خمسة عشر مليون طن من الفحم من قره غنده وقازاقستان إلى روسيا الأوروبية، وهي مسافة تبلغ من ألف وخمسمائة ميل إلى ألفي ميل، وهذا أحد الأسباب التي حملت الحكومة السوفيتية على الاهتمام بتصنيع سيبريا، وهو كذلك أحد الأسباب التي دعت إلى إقامة خمس محطات لتوليد الطاقة النووية في موسكو، ولننجراد، وجبال الأورال، ومن خلاصة ما تقدم يرى جليا أن الطاقة النووية سيكون لها دور هام في بقاع كثيرة من العالم، وبخاصة في أوروبا، وأمريكا الجنوبية، والشرق الجنوبي من آسيا واليابان، وإن ذلك يتم حالما يتهيأ إعداد الأجهزة الصالحة لتوليد الكهرباء بسعر عشرة ملات للكيلووات الواحد في الساعة أو أقل من ذلك، ومن سخرية المصادفات أن الولايات المتحدة التي تملك — على الأرجح — أتم المعدات الفنية لاستخدام الطاقة النووية لا تشعر بالحاجة إليها في الوقت الحاضر، إلا فيما يلزم للمقاصد العسكرية، وأنها عندما تشعر بالحاجة إليها سوف يأتي ذلك على بطء بالقياس إلى الكثير من بلدان العالم.
وكلما قاربت ودائع العالم من البترول أن تنفد — كثر الإقبال على استخراج الوقود السائل من الصفائح الصخرية، ورمال القطران، وتقطير الفحم، ومن حوالي سنة ١٩٧٥ ينتظر أن تتسع الفجوة بين البترول والفحم باعتبارهما ينابيع أولية لتوليد الطاقة، وينبغي بعد سنة ١٩٨٠ أن تكون للطاقة النووية نسبتها المحسوسة باعتبارها بديلًا للوقود المستخرج من الحفريات في توليد الكهرباء، وقد تبلغ هذه النسبة ثلث المستنفد من الطاقة حوالي نهاية القرن العشرين، فإذا قارب القرن المقبل منتصفه، فالغالب أن يكون المعول على الطاقة النووية في أكثر ما نحتاج إليه مع الاحتفاظ بودائع الفحم لتوليد الوقود السائل، وبعض المواد الكيمية.
ولنسأل الآن: كم من الزمن ننتظر أن تبقى في الكرة الأرضية ذخائرها من عنصر الأورانيوم وعنصر الثوريوم صالحة لتزويد هذا العالم الصناعي بالوقود؟ إن هذين العنصرين هما — كالفحم والبترول — من وقود الحفريات، تكونت كلها مع تكوين العناصر الأرضية، ولا يتكونان الآن من جديد، فمقدار ما نحصل عليه منهما محدود، ولكنهما — على هذا — ينتجان من الطاقة أضعاف ما يحتويه الفحم والبترول، ويرجع ذلك إلى أن العنصرين موجودان في الطبقات السفلى بمقادير وافرة من بقية القشرة الأرضية.
وتحتوي القطعة العادية من الصخر المحبب — الجرانيت — أجزاء عنصر الأورانيوم بنسبة أربعة من المليون، وأجزاء عنصر الثوريوم بنسبة اثني عشر من المليون، إلا أن كلا من العنصرين في الطن المتوسط يحتوي ما يساوي طاقة خمسين طنًّا من الفحم، ومن الطبيعي أن هذه الطاقة ليست كلها ميسرة للانتفاع بها لما تستلزمه عملية إخراج العنصرين من التكاليف بين كسر الحجارة وسحقها، ونقل صفوتها إلى المعمل الكيمي، ولا حاجة إلى القول بأن هذه العملية لا تجدي شيئًا إذا تساوت تكاليف الطاقة اللازمة لها وتكاليف الطاقة التي تستمد بعد ذلك من العنصرين.
على أنه قد تبين أن العنصرين يوجدان في الصخر على نحو يجعل الطاقة اللازمة لاستخلاصها جد قليلة، ويستطاع لهذا أن يستخلص من طن الصخر ما يعادل الطاقة المستمدة من خمسة عشر طنًّا من الفحم بتكاليف معقولة من الوجهة الاقتصادية، ومعنى هذا أن الإنسان غير مفتقر إلى استخدام أجود أنواع الأورانيوم والثوريوم لتوليد الكهرباء، إذ يستطيع أن يعول على الموجود منهما في القشرة الأرضية.
ويحتمل على طول المدى أن تتولد الطاقة من تفاعل الحرارة والطاقة النووية، أي من التحام الهيدروجين باعتباره عملًا مستقلًا عن انشقاق الأورانيوم، ولا يعلم إلى الآن كيف تجري هذه العملية، وإن كان إمكانها حقيقة مسلمة، فإذا تمكن العلم من تذليل المصاعب الفنية، فكل ما على الأرض من البحار مدد صالح للانتفاع به في توليد هذه الطاقة، وقد تكون هذه العملية أكبر كلفة من عملية شق الأورانيوم، إلا أنها حاضرة للانتفاع بها في حينها يوم يحتاج إليها.