الفصل الخامس

إلى مليون سنة

توفرت المباحث التي لخصناها من قبل على بيان «حالة العالم» عند نهاية القرن العشرين، وفيما يليه من زمن قريب، وأحجم الباحثون عمدًا عن الخوض فيما وراء ذلك ذهابًا مع الزمن المتطاول؛ إيثارًا منهم للوقوف عند حدود الإحصاء، وما هو أشبه به من ضروب التقدير، ولم يجدوا في التقديرات المحسوبة معينًا لهم على تقدير المصير «الإنساني» الذي يتصل بنفس الإنسان أو طبيعة الإنسان.

تلك هي حالة العالم في شئون المعيشة، وفي موارد الصناعة والطبيعة، تلك هي معيشة الإنسان بعد مائة سنة؟ فكيف يكون الإنسان نفسه في تلك الحقبة؟ كيف يكون الإنسان روحًا وخلقًا وضميرًا في ذلك العالم الموعود؟ إن صحت جميع المواعيد؟

وكيف يكون بعد السنين المائة وبعد القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين؟ كيف يكون بعد خمسة قرون وبعد عشرة قرون؟ وبعد الدهر الطويل الذي يحسب بآلاف السنين.

إن هذه الأسئلة لم تترك بغير جواب يفهم من خلال السطور، وإن لم يرد لها جواب مقصود على سؤال مذكور، ومن الباحثين العلميين من أطلق فكره من قيود الإحجام العلمي، وجازف بالنبوءة وراء القرون إلى الدهور، ونظر إلى الإنسان كما سوف يكون بعد مليون سنة، فإذا هو ينطلق من إحجامه في عداد السنين، ويكاد يتعثر في القيود كلما زحف زحفة واحدة في تلك الآماد الطوال، فلم يكن في حسابه أن مليون سنة قد تنفسح يومًا من الأيام لطارئ غير مألوف من طوارئ الغيب، أو تسمح بشيء من التغيير يخالف التغيير الذي سمح به للأعوام التي تعد بالألوف أو بالمئات.

•••

في كتاب صورة الغد لمؤلفه «جورج صول» أمل يرجى «للإنسان» من طريق التقدم في مجمل أحواله وأعماله ومعاملاته، يناط كله بالتعليم الذي لا بد منه لترقية الصناعة، وتدبير مطالب المعيشة.

ليس للإنسان أمل في عالم يحكمه القلة من الأذكياء والخبراء، وينقاد فيه للحكم المطلق جماهير الرعايا المسخرون على كره أو على طواعية، فقد أفلس حكم كهذا الحكم منذ القدم في دولة الرومان.

وليس للإنسان أمل في عالم تستغرق أوقاته في الكد والهم، ولا يتسع فيه بعض الزمن لعمل من أعمال الفراغ يقضي على اختيار وشوق بعد قضاء مطالب المعدات والجلود: مطالب الحيوان.

إنما الأمل للإنسان — لروح الإنسان — في عالم تتكفل فيه الصناعة بأكثر المطالب في أقل الأوقات، ويبقى فيه شطر من اليوم يقضيه الإنسان فيما يختاره، ويختار فيه ما يرتضيه العارف المدرك الآمن على الكفاية فوق الكفاف.

يقول المؤلف في ختام فصوله: إن علوم التصنيع تبدل من حالة العالم الذي نعيش فيه تبديلًا قويًّا خليقًا أن يبدل من وجهات العقول، فليست الآمال ولا الأحكام التي كانت ملائمة للمجتمع قبل بضعة أجيال بالتي تصلح لهذه العقول، ولنجمع هنا طائفة من وجهات التغيير التي تجري الآن والتي يرى أنها وشيكة أن تجري في الزمن القريب، كي نبني عليها «تخمين» وجهات الفكر بعد التبديل المنظور.

إن بعض أبناء هذه البلاد لا يقدرون على الكفاية من القوت والكساء والمسكن الصالح، ولكن الظاهر من نمو الدخل الفردي أن هذه الحالة قريبة إلى النهاية في الولايات المتحدة، وينتهي بانتهائها أقدم خوف للإنسان وهو الخوف من الفاقة، وكلما اقتربت الحالة من إشباع مطالب الكفاية تحولت هذه المطالب إلى غير الماديات، وإنها لمطالب حاضرة نحسها جميعًا، وإنما يتناول التغيير المنظور أن نتمكن من تخصيص مزيد من الوقت والسعي للحصول عليها.

وقد أدى ارتفاع مستويات المعيشة المادية في الولايات المتحدة إلى التقدم السريع نحو المساواة في الدخل والمورد، ويؤخذ من الإحصاءات منذ سنة ١٩٣٠ أن فئات المشتركين في الدخل الواحد والمعيشة الواحدة تنقص على عجل، ويصح هذا حتى بعد تعديل الإحصاءات من جراء ارتفاع الأسعار، وعلى حسب قيمة الدولار سنة ١٩٥٠ يحصل نحو الخمس من تلك الفئات على دخل يقل مقداره عن ألف دولار ما بين سنتي ١٩٣٥ و١٩٣٦، فهبط هذا العدد إلى أقل من العشر سنة ١٩٥٠، ومعظمنا على تفاوت مواردنا نلبس من أصناف متشابهة من الكساء، كما نأكل أصنافًا متشابهة من الطعام، ونسكن في حجرات تتقارب عند المقارنة بينها، ولا تزال السيارات الرخيصة تدنو في مظهرها وسرعتها من ذوات الأثمان الغالية عامًا بعد عام، ويرتفع عدد العائلات التي تملك سيارة واحدة على الأقل إلى نسبة تضارع ثلاثة أرباع عدد العائلات في البلاد، وهذه حالة تختلف كثيرًا عما كان مشهودًا قبل فترة من الوقت، ولا يزال مشهودًا في كثير من البلاد حيث يعتبر اقتناء السيارة والتفرغ للرياضة والاستمتاع بالأطعمة الحسنة مزية من المزايا الاجتماعية النادرة.

ويشكو بعض النقاد من أن هذه التسوية مفضية إلى صورة من المشابهة على نمط واحد لا تنوع فيه، إن لم تفض إلى نمط من المماثلة الجامدة، وهذا خطر ولا ريب، إلا أن النتيجة أشبه أن تكون انتقالًا إلى التمييز بين الأفراد بغير المزايا المادية، من أن تنتقل بنا إلى فقدان الشخصية، واختفاء التنوع في الأذواق، فيكثر عدد الأفراد الذين ينفقون أوقاتهم في مرضاة أذواقهم وتعبيرًا عن ذواتهم، ولا يفرغون للمنافسة على مظاهر الثروة المادية، ومن كانت الوجاهة لديه بغية غالية كان أحرى أن يلتمسها بإنماء ما عنده من ملكات المهارة والذوق والمزايا الأدبية، ولم يلتمسها في المظاهر والأعراض، ولا ينتظر أن تزول المنافسة بين الناس، ولكنها تتحول على نحو أوسع وأشمل من الماضي إلى منافسة على السبق في خصلة من الخصال غير النجاح في كسب المال والمغانم الاقتصادية.

وتدل اتجاهات العمل على أن عدد العمال المشتغلين بإنتاج السلع المادية في التعدين والزراعة والمصنوعات آخذ في النقصان، وأن الزيادة تطرد في عدد العمال المشتغلين بتوزيع تلك السلع وإدارة المواصلات وسائر الخدمات ما عدا الخدمة المنزلية التي تميل كذلك إلى النقصان، وبعض هذه الخدمات قد دعت إليه الحاجة من ترقي العناية بالصحة، وكثرة الطلب لمن يطببون المرضى، ويشرفون على أسباب الوقاية، وبعضها قد دعت إليه الحاجة من كثرة طلب المتعلمين للإقبال على المدارس الثانوية والكليات، وينجلي الواقع في كثرة الطلب على المعلمين والمدرسين من أن عدد الموظفين الحكوميين يربى على عدد المستخدمين في المرافق الخصوصية، وأن وظائف الحكومة إنما تخصص لتوفير أنواع من الخدمات التي تقتضيها حياة الحضارة الصناعية، ومعنى التحول من إنتاج السلع إلى أداء الخدمات أن هناك تحولًا من مزاولة الأشياء الجامدة إلى مزاولة المعاملات مع الناس، وتوكيد العلاقة المشتركة بينهم والبواعث العاطفية التي تتولد منها، ومنها بواعث الشعور بقضايا الاجتماع التي تتميز بها حضارتنا، وأبرز التغييرات وأحراها بالالتفات إليه أن عدد العاملين غير الفنيين ينقص على العموم، ولا يقف النقص فيه عند قلة النسبة إلى مجموعة السكان، ومغزى ذلك استئصال المشاق التي تضعف القدرة عليها بعد تجاوز الأربعين، وتقل أجورها، ويكثر فيها التعرض للبطالة.

ولما كان الناس يعملون من عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة كل يوم، كان لا بد لهم من وقت للراحة وتجديد النشاط للعمل؛ كي لا تكون أعمارهم سلسلة متلاحقة من الكد والمشقة، أما وأسبوع العمل الذي يكتفي فيه بأربع وأربعين ساعة يوشك أن يعم وأن ينقص إلى أقل من ذلك قريبًا، فالوقت متسع أمام كثير من الناس لقضاء الفراغ في الشواغل الجدية لا لمجرد الراحة والاستجمام، وكلما اقترب أسبوع الساعات الأربع والعشرين من التحقق فكر ذوو الفطنة في طريقة يشغلون بها ستة أسباع أوقاتهم، وليس الكسب الذي ينتظرونه من ذلك مالًا يشترون به مزيدًا من بضائع السوق، بل أحرى أن يكون وسيلة لإشباع ما يروقهم مما يفضلونه على المشتريات بعد استيفاء الضروريات، ومن ذلك الرياضة الصحية، واللهو السائغ، والمرح الجياش بالشعور، والمتعة بإتقان بعض الهوايات، وتذوق الفنون، ولذة المعرفة، والقيام بالخدمات النافعة في الحياة السياسية والاجتماعية، وإن المجتمع الذي يتاح لكل فرد فيه على وجه التقريب أن يختار ما يشاء أن يشغل به معظم أوقاته ولا يساق اضطرارًا إلى العمل الذي يجده كائنًا ما كان، لهو مجتمع خليق أن يوصف بالمجتمع الحر على مثال أفضل وأوفى من كل مجتمع عرفناه فيما سلف، وهذه حرية تقترن كسائر الحريات بتبعة الاختيار الحسن كما يجوز أن يساء استعمالها، ومتى شعر الناس بالحاجة إلى اجتناب هذا الاستعمال السيئ لنشدان السعادة، كان شعورهم هذا حافزًا هامًا لابتكار الجديد من النظم الاجتماعية وأساليب العرف والعادة.

والمعلوم أن النوع الإنساني ينفرد بين الأنواع بصفة حيوية هي حاجته إلى الحضانة الطويلة، وتمتاز الثقافات المتطورة على ما دونها من الثقافات بطول الوقت الذي تستلزم قضاءه في التعليم والاستعداد، وليست الحضارة الفنية المتطورة بالاستثناء لهذه القاعدة، ففي سنة ١٩١٠ كان نحو ٨٦ في المائة من أبناء الولايات المتحدة بين السابعة والثالثة عشرة منتظمين في المدارس، وهي سن يفرض فيها التعليم الإلزامي الآن، وفي سنة ١٩٥٠ كانت نسبة المنتظمين في هذه السن نحو ستة وتسعين في المائة، ويتضح الفرق كلما ارتقينا في السن بعد ذلك إلى الرابعة عشرة والخامسة عشرة إذ تبدأ الدراسة العالية، فإن النسبة وثبت من خمسة وسبعين في المائة سنة ١٩١٠ إلى نحو اثنين وتسعين في المائة سنة ١٩٥٠، والنتيجة التقريبية أن نحو ثلاثة أرباع عدد الشبان والشابات قد أتموا دراستهم العالية أو هم موشكون أن يتمموها.

وليس أمام مجتمعنا في المستقبل مسألة أهم من مسألة التعليم، وبغير إنجازها على الوجه الأمثل لن يكون لدينا الخبراء المختصون اللازمون لإدارة دولاب المجتمع المترقي في الاقتصاد الصناعي، ولن يكون لدينا الظهارة التي لا غنى عنها، للتعليم الحر المطلوب لفهم المشكلات المعقدة، ومعالجتها حق علاجها، مما يرتبط بذلك التطور، ويسايره في أحوالنا القومية، وعلاقتنا الدولية.

على أن التعليم لا يتوقف بجملته على المدارس وحدها، فإن المفكرين الكفاة يثابرون على تعليم أنفسهم زمنًا طويلًا بعد نهاية السنوات المدرسية، ولكن لا بد من اقتدار المدرسة على تربية الأذواق، وتوليد الميل الذي يعين على كسبها، وإن النجاح في هذه المحاولة يؤدي إلى إتقان العمل في الصنعة كما يؤدي معه إلى حسن استخدام الوقت بعد الفراغ من العمل المطلوب لكسب الرزق، وقد نصل إلى الثقافة الناضجة في حضارتنا الصناعية من طريق المساعي التي نبذلها طلبًا للفطنة النافعة في تكوين أفكار ومبادئ تعيننا على المساهمة في مقاصد الفعل التي لا حد لها، ومحاسن الفنون، وسائر ما يهذب الشخصية الإنسانية، ويهذب معها المجتمع الذي تعيش فيه، ولا يكون قصارى الأمل من تلك المساعي المبذولة أن تجلب لنا الثروة والمظاهر المادية.

ومن الجانب الآخر يخشى الخطر الجائح من الإخفاق في استخدام السيطرة على الطبيعة التي أتاحتها لنا الخبرة الصناعية استخدامًا يهدف إلى الغايات الإنسانية؛ إما من التطوح إلى الحروب، أو من إقامة المجتمع على أنصاب من الآدميين محيت ملامحهم الشخصية. فما استطاع من قبل — حتى الرومان — أن يضمنوا طول البقاء لمجتمع يقوم على نخبة من العلية الأذكياء، وجمهرة من الرعية تراض على السكينة بالخبز وحلقات الألعاب، وإن المجتمع الغني الديمقراطي لينوط أكبر الرجاء بما لجميع أبنائه من الكفايات والأخلاق.١

•••

على هذا النمط يسبق الكاتب الغد بنظرته إلى عواقب اليوم، فيخطو على مهل ويتجنب الوثبة، ولا ينسى مواطن الزلل مع عثرات الأمل، فلا نبوءة في الواقع هنا، وإنما هو ترتيب لسلسلة من الحلقات يتبع بعضها بعضًا، ولا تأتي بجديد على غير انتظار، فالصناعة تقارب بين الأعمال والأرزاق وتمهد السبيل لكسب الوقت الذي يبذله من يشاء في تحصيل المزايا والأذواق التي توفر ثروات العقول والنفوس، ولا تحصر التقدم الصناعي في توفير المال والعتاد، وهذا إن شاء من يملكون سعة الوقت أن يبذلوها في مقاصد الفكر والروح.

وذلك هو مصير «الإنسان» كما تنبئنا به هذه «النبوءات» الوئيدة على حذر لا يخلو من رجاء، ورجاء لا يخلو من حذر.

وفي حدود هذه الخطوات الوئيدة ينظر كاتب علمي آخر إلى مصير «الإنسان» في عصر الصناعة، أو ينظر — كما قال في عنوانه كتابه — إلى الناحية الإنسانية من العلم فيعلق مصير الإنسان كله على «تربيته الشخصية» ويربط بين تربيته الشخصية وشواغل المادة ومطالبها، فلا يراهما منفصلين، ولا يراهما مع ذلك شيئًا واحدًا تستغرقه الماديات، وتستأثر به كله مطالب الرغد والرخاء.

وخلاصة تقديراته أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانًا تامًّا بشخصيته تامة، ولكنه لا يكون كذلك إلا إذا التفت إلى كل جانب من جوانب «الشخصية الإنسانية»، ولم يقصر التفاته إلى جانب المادة أو جانب البدن منها؛ لأن الشخصية الإنسانية عاطفة وعقل وضمير وليست مجرد أعضاء ووظائف وخلايا وأعصاب، ولو عرف الإنسان كل شيء من تركيب بدنه لما أحاط بأسرار قواه الشخصية، ولما نفذ إلى حقيقة سر الحياة، فإننا لا نعرف الموسيقى إذا عرفنا كل دقيقة وجليلة من الأخشاب والمعادن والأوتار التي تدخل في تركيب العود والقيثار والبيان، وبعض علماء الحياة يراقبون تغذية الحيوان ويلاحظون مثلًا أن العواطف تتأثر ببعض الأغذية فتنقص أو تزيد: لاحظوا أن الفارة التي يقل المنجنيز في غذائها تهمل صغارها ولا تعطف عليها، وأنه لحسن منهم أن يلاحظوا هذا، ويصلوا منه إلى زيادة حصة الحيوان من ذلك الغذاء، ولكنهم إذا جاوزوا ذلك فقالوا: إن عاطفة الأمومة هي مقدار معلوم من المنجنيز فهم مخطئون، وخطؤهم في هذا الرأي كخطأ القائل: إن نغمات الموسيقى أخشاب وأوتار، وإن نقص الغذاء لينقص حركة الجسم وحركة الدوافع الحية، ولكن مادة الغذاء وعاطفة الحياة شيئان مختلفان، ومن الواجب أن نعرف تركيب الجسم وتركيب كل مادة فيه، ولكننا لن نعرف الشخصية الإنسانية من معرفة هذا التركيب؛ لأن هذه الشخصية الإنسانية تكوين عجيب يعجزنا الآن لأن نسبر أغواره، ولكننا قد نلمحها لمحًا إذا لاحظنا الفوارق التي لا نهاية لها بين إنسان وإنسان، أو بين شخصية وشخصية، فلكل إنسان صوته، ولكل إنسان ملامحه، ولكل إنسان خطوط أصابعه، ولكل إنسان كتابة لا يكتبها غيره، ولكل إنسان تركيبه في فصيلة الدم وخلايا البروتين، ولكل إنسان قابليته للصحة والمرض وللمقاومة والإصابة، وهذا كله في المحسوسات التي ندركها بأيسر نظرة. أما الخفايا فمنها ما يجهله الإنسان نفسه في وعيه الباطن أو في وعيه الذي لا يتضح للشعور، ونعلم أن أدواتنا العلمية لا تمكننا من كشف هذه الخفايا إذا علمنا أنها تكمن كلها في الخلية التي يولد منها الإنسان، وأن جميع الناسلات التي يولد منها النوع الإنساني يمكن أن توضع في فنجان، وسيبقى الإنسان محجوبًا عن نفسه ما دام محجوبًا عن أعماق هذه الشخصية، وما دام منصرفًا عن جانب الضمير منها، أو ما دام متجهًا إلى الخلط بين مادة جسمه وبين العوامل الحية التي ترتبط بتلك المادة؛ لأن ألحان الموسيقى لا توضع ولا تفهم ولا تتذوق بمعرفة الأخشاب والأوتار. كلا، ولا بمعرفة العلامات والإشارات التي تضبط بها الألحان والنغمات، وهنا ينبغي أن نسأل: ما هي حقائق الضمير؟ والجواب: أننا لا نعرفها جميعًا، وأن ما نعرفه قد يختلط عند بعض الناس للجهالة أو للهوى والضلال، ولكن ما نجهله أو نخطئ فيه لا نتركه ولا نحتقره، بل نثابر على طلبه لنصحح خطأه وننفي جهله، ولو أننا تركنا كل حقيقة وجهلناها وأخطأنا فيها لما بقيت عندنا معرفة بالمادة ولا بالضمير.

وهنا يضرب المؤلف مثلًا بالطفل الذي يبيت ليلة عيد الميلاد وهو يحلم بالهدايا التي يضعها القديس نيقولادس — أو سانت كلوز راعي الأطفال — إلى جانب وسادته، فإن هذا الطفل ولا ريب يحلم بخيال، ولكنه خير من الطفل الذي لا يتخيل شيئًا عن فرحة عيد الميلاد، ولا عن هدايا الغيب، ولا عن شوق الانتظار الذي يخامر جميع النفوس في أمثال هذه الأوقات، فما دام عيد الميلاد موجودًا، فالطفل الذي يدركه على صورة من الصور — حسبما يستطيع في خياله وفكره — أصح إدراكًا من الطفل الذي لا يدركه إدراك الصغار، ولا إدراك الكبار، وعلينا في هذا العصر خاصة أن نعلم أن معرفة المحسوسات الظاهرة لا تستدعي إنكار الغيب، ولا إنكار ما وراء المحسوسات؛ لأن علمنا بالمادة المحسوسة قد انتهى بنا أو كاد أن ينتهي بنا إلى عالم كعالم الغيب وراء المحسوس أو وراء المعقول.

ويقول المؤلف بحق: «إن كبار العلماء لا ينكرون الغيب، وإن أناسًا لا يزالون معدودين من أكبر العلماء كانوا يؤمنون بما وراء المحسوس، كان نيوتن مكتشف قانون الجاذبية يصلي ويؤدي فروضه الدينية في مواعيدها بغير انقطاع، وكان جاليليو مكتشف دوران الأرض يؤمن بالله والدين، وكان أينشتين يقول: إنك إذا أردت أن تعرف غاية الحياة فمعنى ذلك أن تكون متدينًا، وكثير من خلفاء هؤلاء العلماء في العصر الحاضر يرجعون إلى الغيب كلما أوغلوا في العلم بالمحسوسات.»

ويردد المؤلف قول القائلين: إن الخوف كبير في عصرنا من شطط الإنسان في استخدام معلوماته، ومن الجائز أن يكون حتف النوع الإنساني في هذه الطاقة المخيفة إذا أساء استخدامها في الحروب، ولكن المؤلف يعود فيقول: إن هؤلاء المتشائمين يبالغون في الخوف من عوامل الشر والهدم التي ينطوي عليها طبع الإنسان، ولا يعطون عوامل الخير والبناء حقها من الأمل والثقة، مقاسًا على الماضي في أحوال كأحوال العصر الحديث، ولقد كان اختراع النار يكفي للقضاء على عمران الإنسان كله في زمانه، ولكنه عزز هذا العمران وعلمنا أن نخترع أنواعًا من النار لم تكن معروفة في عهد أجدادنا الغابرين، وكل ما اخترعناه من أنواع الوقود فهو توسع في استخدام النار، ولكنها قد حسن استخدامها في أوقات، وساء استخدامها في أوقات، وكلها في النهاية قد أضاف إلى العمران، ولم يكن سببًا للقضاء عليه، ولا خطر على الإنسان في الغد على هذا الاعتبار، ولكننا لا نقنع بالأمان من الخطر إذا استطعنا أن نتمم أنفسنا، ونحن قادرون على إتمامها إذا عشنا بشخصية متوازنة بين عوامل العقل والعاطفة والضمير.

وهل معنى ذلك أننا سنعرف كل ما في أنفسنا من الخفايا والأسرار؟ لا ريب أننا نزداد علمًا بتلك الخفايا والأسرار جيلًا بعد جيل، إلا أننا لا يلزمنا أن ننتظر طوال الأجيال لنعرف منها كل ما يستطاع؛ لأننا نعرف مطالب العقل والعاطفة والضمير، نعرف التطلع إلى الحقيقة، ونعرف الشوق إلى جمال الطبيعة والفنون، ونعرف كرامة المبادئ الرفيعة والأمثلة العليا في الأخلاق والآداب، ونعرف مطالب الضمير من العقيدة الروحية، وما نعرفه من هذه الجوانب المتعددة في الشخصية فهو حسبنا للموازنة بينها وبين مطالبنا البدنية، وحسبنا في الحذر من مسخ طبيعتنا بالاستسلام إلى جانب منها دون سائر الجوانب، وهو حسبنا للتقدم في طريق التمام.

وعند المؤلف أن هناك غاية أعلى من غاية الموازنة بين جوانب البدن وجوانب العقل والعاطفة والضمير، فإن عباقرة العالم كلهم يتوازنون في جميع الجوانب، ومنهم من تغلب عليه نزعة تغطي على جميع نزعاته، وبها يمتاز على سواد الناس، ويتمكن من خدمتهم بالفتوح الجديدة في ميادين العلوم والفنون والأخلاق، إلا أن العبقريين يوسعون شخصيتهم بهذه النزعة الغالبة ولا يضيقونها، وأنهم يتمون بها ولا ينقصون، وهم الاستثناء في هذه القاعدة، ولا تخلو قاعدة من استثناء.

وسؤال المبدأ والختام عند المؤلف: ماذا يمكن أن يكون الإنسان غدًا؟ وليس جواب المؤلف أنه سيعلو على الإنسانية إلى طبقة السوبر مان التي حلم بها دعاة القرن التاسع عشر، وإنما جوابه أن الإنسان يتمم نفسه غدًا فلا يحاول التحليق بجناح واحد، وأن المستقبل لإنسان يعرف حق البدن ولا ينسى حق العاطفة وحق الروح والضمير.

•••

والعالم الطبيعي شارلز جالتون داروين — حفيد داروين الكبير — يثب وثبته البعيدة في حساب السنين إلى ما بعد مليون سنة، ولكنه لا يجاوز في وثبته ذلك المدى الذي ذهب إليه زملاؤه من القانعين بالنظر إلى مدى القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين، فيكاد أن يقضي بالأمل في مصير الإنسانية دونهم، ويكاد أن يقول: إن العصر الذهبي يمضي ولا يقبل، وإن التنازع على البقاء خليق أن يعود بالعالم إلى معاركه العنيفة يوم كان العالم المعمور يضيق بساكنيه، ويضن عليهم بالكفاف الذي يكفيهم جميعًا، فيتقاتلون أو يدفع بعضهم بعضًا إلى الهجرة والابتعاد، وسيأتي اليوم الذي تضيق فيه موارد العالم عن سكانه، ولا يسعهم يومئذ أن يعتصموا بالهجرة لامتلائه بالسكان، وضيق منادح الخلاء في جميع بقاعه، إلا أن يقع ما ليس في الحسبان من أمر الأرزاق والسكان.

ويرى العلامة حفيد صاحب النشوء والتطور أن الناس يتغيرون ويتطورون مع الحضارة، ولكن الإنسان في دخيلته لا يلوح عليه أنه استراح إلى التطور الذي جاءه من قبل الحضارات المتوالية؛ لأنه يكن في طواياه بقايا الأزمنة المتطاولة التي سبقت تلك الحضارات، ويستريح إلى معاودتها كلما وجد بين يديه منفسًا للمعاودة، وقد ينكشف منه الحنين إلى الماضي في كثير من عادات الجد واللعب التي تشملها أعماله السلمية، كأنها البديل الحاضر عن سوابقه في العراك والنزاع.

ولا ينسى داروين الحفيد أن الإنسان يتعلم، وأنه أقدر الحيوانات العليا على التعلم والاستفادة من التجارب المتعاقبة، والفرق بينه وبين أنواع الحيوان في٢ هذه الخصلة عظيم لا مثيل له في الفوارق المتعددة بين نوع منها ونوع آخر، إلا أن الحيوان يورث أبناءه تجاربه الطويلة؛ لأنها تتمثل في الغريزة التي تنتقل في لبابها بالوراثة، وليس علم الإنسان المكتسب بالعلم الموروث أو القابل للتوريث.

وهناك وراثة تكاد أن تكون خاصة بالإنسان تعوض النقص في وراثته لمعارف آبائه وأجداده، وتلك هي وراثة العقائد من طريق الجماعة التي يولد فيها، فلا يولد الإنسان بعقيدته العامة، ولا يخلقها لنفسه، ولكنه ينشأ عليها بتلقين من الجماعة يشعر به أو يتقبله على غير شعور منه، وتدور هذه العقائد قرابة عشرة أجيال، ثم تضعف وتخلفها عقائد أخرى مشتقة منها أو مناقضة لها في بعض الأحايين، ومن هذا التوارث في العقائد العامة يعود على الناس خير محمود العاقبة إذا بنيت العقيدة على صلاح؛ لأن وراثة الاعتقاد ووراثة الحماسة له تؤديان إلى القصد في جهود الجماعة فلا تحتاج في تجديد بواعثها إلى العمل كل جيل.

ويشير الدكتور داروين إلى الفرق بين الطبائع الإنسانية في أمر الاعتقاد، ويقتبس للتفرقة بينهما اصطلاحًا شائعًا يقسم الناس في هذا الأمر إلى قسمين: قسم الخراف، وقسم المعز، أو قسم المنقادين في القطيع، وقسم المفرقين من هنا وثم تارة على استقامة وتارة على انحراف، وكلا القسمين لازم لحياة العقيدة في استمرارها على وتيرة واحدة أو في استعدادها لقبول التنويع والتنقيح.

وليس من اللازم عند الدكتور داروين أن تكون العقيدة ديانة من ديانات العبادة الكبيرة التي ينتمي إليها عشرات الملايين من مختلف الشعوب، بل هو يعني بالعقيدة كل مبدأ يؤمن به صاحبه، ويستلهم منه الهداية في غاياته ومعاملاته لأبناء قومه أو أبناء نوعه، ولا غنى عن هذه العقائد الآن ولا بعد آلاف السنين.

فإذا أراد المصلحون تهذيب الإنسان فوسائل الإصلاح المعروفة الآن ثلاث: أن يتولى المصلح تعليم أتباعه بالإقناع والتفهيم ينتهي سعيه بانتهاء حياته، ولا يجتذب إليه غير القليلين ممن يعملون بآرائهم، ويتغلبون بالفهم على التقاليد والبواعث الموروثة، فإن لم يعتمد المصلح المهذب على الإقناع والتفهيم فسبيله أن يعتمد على التحسين «البيولوجي» أو تحسين الطبيعة على الطريقة التي تتبع في تحسين النبات والحيوان، وقد تنقضي الأجيال قبل أن تظهر لهذا التحسين ثمرة تدعو إلى المضي فيه والمثابرة عليه، فلا يبتدئ العمل به حتى يدب إليه الإهمال ويتوقف السير فيه إلى غايته المرتجاة، وقلما يتعاقب مصلحان اثنان يتمم أحدهما عمل صاحبه على نسق واحد، وقلما تتيسر له أسباب التنفيذ بعد حياته على النمط الذي يتوخاه، وينظر إلى عقباه.

فلم تبق من وسائل التهذيب المجرية غير وسيلة العقيدة الموروثة، وهي عند سريانها تمتد بأثرها عدة قرون، أو عشرة أجيال على التقدير المألوف.

وغاية ما يبلغه حفيد صاحب المذهب النشوئي ملخص في ختام كتابه إذ يقول: «إن الأمل كله مرهون بإمكان تقرير القوانين العلمية التي تسيطر على الحياة بما يقارب الدقة التي تقررت عليها قوانين العلوم الطبيعية.» ثم يقول: إن من حق غيري ممن يعرفون عن التجارب البيولوجية ما أجهله أن يمهدوا لتقرير تلك القوانين، ولكنني — مع التواضع البالغ — أجترئ على بيان الأسس التي أحسبها صالحة لأن تقاوم عليها، فإما أن نأخذ في هذه الأسس بقول القائلين: إن الإنسان — باعتباره حيوانًا — خاضع لقانون تنوع الأنواع الذي يحكم على الإنسان بالبقاء بغير تبديل يذكر إلى مدى مليون سنة، وفي ذلك قضاء على فكرة الكمال الإنساني وآمال المتطلعين والمترقبين من ذوي الضمائر النبيلة والمطامح العالية، وإما أن نأخذ في تلك الأسس بقول القائلين: إن الإنسان حيوان آبد لا يسري عليه ما يسري على الحيوانات المدجنة، وإما أن نأخذ فيها بقول القائلين: إن الصفات المكتسبة لا تورث، وهو قول مقرر في شئون الحيوان، ولكنه قليلًا ما يؤبه له في الشئون الإنسانية، فإذا بني العمل على هذه الأقوال على ما يقابلها، ويستبدل بها أمكن أحيانًّا أن نزن بها صلاح السياسة المتبعة في قيادة الشعوب، وأن يلاحظها السياسي الحكيم في عمله فلا يضيع جهده عبثًا؛ لأنه بذلك دون سواه يستقيم على جادة التوفيق.

فما التدبير الذي ندبره إذن لمستقبل النوع الإنساني؟ أخشى أن يسفر الجواب عن قليل، وذلك لسبب جد بسيط وهو قلة اكتراث الناس لما سوف يجري في المستقبل البعيد، ومعظمهم إنما يكترث للغد الذي يمس أبناءهم وحفدتهم ويلوح له ما وراء ذلك كأنه شيء بعيد من الواقع، وقد ينظر المفكرون إلى المستقبل البعيد، ويرون في الوقت نفسه أن الشكوك والريب أكبر من أن تتضح خلالها خطة مقررة، ولنضرب لذلك مثلًا: نفاد الوقود في الأزمنة المقبلة، فإنني أعلم أن أبنائي لا يصادفون منه أزمة ذات بال، وقد أعلم أن الجيل الخامس عشر بعد أبنائي لن يجدوا عندهم فحومًا على الإطلاق، أتراني أكف عن إيقاد الفحم في الليالي الباردة خوفًا من اليوم الذي يبحث فيه أبناء الجيل الرابع عشر من نسلي عن الفحم فلا يجدونه؟ إن هذه الأمور تلوح لنا في ابتعادها من الواقع المحسوس بالمكان الذي يجردها من الوزن والخطر، وإن الحياة لعلى خطر التقلب في كل حين، ومن العسير أن نتيقن من البقاء ولو إلى عشر سنوات، فلا جرم لا نرى أحدًا يبالي جد المبالاة ما سيكون بعد قرن من الزمان، وما من خطب من خطوب الدنيا يشغل الإنسان أمدًا أطول من ذاك.

بيد أن المستقبل البعيد قد يعمل له الآن ما لم تجر العادة بعمله قبل الآن، ومن ذاك أن مساعي الإصلاح كانت فيما مضى تنحصر في تحسين أحوال الإنسان ولا تعني كثيرًا بتحسين طبيعته، فما هو إلا أن تتبدل الأحوال حتى تذهب المساعي إلى ضياع، وإنما الأمل الوحيد أن تنصب تلك المساعي على خطة من الإصلاح لا تنقضي بانقضاء الأحوال والظروف، وستكون أصول الوراثة المقررة في علم الحياة مرساة يستقر عليها كل نفع وثيق يرجى لنوع الإنسان.

وأعبر في الختام عن ميولي الخاصة فأقول: إنني شديد الاهتمام بمصير العالم، وأود حق الودادة أن يكون لذريتي دورهم فيه، ومهما يكن من نزارة العلم بالمستقبل، فليس مما يقنعني أن يكون مستقبلًا تنقطع الصلة بيني وبينه، وأيا كان مصير الحياة إلى السعادة أو إلى الشقاء بعد أجيال — ولا مفر من الشقاء على أية حال — فإنها لتجربة تستحق العناء.٣
١  ترجمت ببعض الاختصار من كتاب صورة الغد لمؤلفه جورج صول The Shape of Tomorrow by George Soule.
٢  ملخص من كتاب «ماذا يكون الإنسان» لمؤلفه جورج رسل هاريسون What man may be, by G. Russell Harison.
٣  ملخص من كتاب المليون السنة التالية لمؤلفه شارلز جالتون داروين The Next Million Years by Charles Galton Darwin.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤