الفصل الأول

التاريخ

هل للتاريخ الإنساني معنى؟ هل للماضي رابطة بالحاضر تهدي إلى المستقبل على سبيل اليقين أو على سبيل الظن والترجيح؟

يخطر هذا السؤال على الذهن كلما نظر إلى المستقبل ليستطلع خباياه، ويعود الذهن بعد الجهد الجهيد بجوابين مختلفين كلاهما يحتاج إلى دليل.

نعم، للتاريخ معنى يدل على خطة مطردة بين ماضيه وحاضرة ومستقبله.

كلا، ليس للتاريخ معنى، ولكنه مصادفات تتكرر أو تتناقض على غير وتيرة معروفة.

والذين يقولون بهذا الرأي يحسبون أنهم خلصوا من السؤال والمناقشة، وأنهم غير مطالبين بالدليل؛ لأنهم ينكرون ولا يدعون.

لكنهم في الواقع مطالبون بأدلتهم كما يطالب بها القائلون بالخطة والتدبير، فإن الإثبات والنفي يتساويان في طلب الحقيقة، وأن اختلفا في ساحة القضاء، وليس المدعي وحده هو الذي يبحث عن الحقيقة ويسأل عنها.

إن الكواكب والسيارات تجري في أفلاكها وتطلع في بروجها ومنازلها، ونعلم من حركاتها الماضية كيف تكون حركاتها التالية، ومتى يعرض لها الكسوف والخسوف، وأين تشرق وأين تغيب.

فلم تجرِ حركات التاريخ الإنساني على غير هذا النسق؟ وكيف ينتظم مدار الفلك، ولا ينتظم مدار الحياة الإنسانية؟

من قال: إن النظام هنا موجود كالنظام في حركات الأفلاك، ولكنني أجهله ولا أعرف من ماضيه وحاضره ما يدل على مصيره فهو — بحق — صاحب القول الذي يعفي قائله من الدليل.

أما الذي يقرر الاختلاف جزمًا وتوكيدًا بين حركات الأفلاك وحركات الأمم، ولا يرى في ذلك غرابة، ولا يسأل له عن سبب فهو الذي يقرر حكمًا متعسفًا بغير دليل، ولا بد له من دليل.

لم يختلف نظام الكواكب ونظام الأمم؟ ولم يعتبر هذا الاختلاف أمرًا طبيعيًّا يدعيه من شاء، ولا يلزمه البرهان على ما يقول؟

إن إنكار النظام هنا ليس بأيسر الجوابين، بل هو عند البحث في أسبابه ونتائجه أصعب الجوابين وأغربهما، وأحوجهما إلى البحث من جديد، إلى أن يستقر البحث على قرار.

من قال بالخطة المتبعة والتدبير المقدر فليس من اللازم أن يبسط أمامنا الخطة المتبعة بتفاصيلها، ويضع أيدينا على أوائلها وخواتيمها، وكل ما يلزمه «أولًا» أن يدحض حجة الفوضى والارتجال الأعمى، وأن يقرر الفرض المعقول، ثم يقرر أن الواقع يؤيده، ويجري في مجراه، وأدل من ذلك على صحة الفرض المعقول أن الغرض المقصود من الخطة المتبعة يتحقق بما يظهر أنه يناقضها، كما يتحقق بما يظهر أنه يجاريها ويمضي في طريقها.

وسنرى أن هذه الدعوى يسيرة الإثبات، أو أنها على الأقل أيسر إثباتًا من دعوى الفوضى والعمل الجزاف.

أما نفي الخطة المتبعة، وادعاء المصادفة المحضة، فليس من اليسر بالمكان الذي يحسبه من يقولون بالمصادفة على أي وجه من الوجوه، وإنهم ليقولون بالمصادفة على وجوه كثيرة، دليل بعضها غير الدليل الذي يقوم به ادعاء الآخرين.

فالمصادفة عند بعضهم مرادفة لمعنى الفوضى والخبط في الظلام، تهدم اليوم ما تبنيه، وتبني ما تهدمه، وتتقدم وتتأخر في العمل الواحد وفي الساعة الواحدة، وتتصرف في عموم حركاتها وأفعالها كأنها مئات من الأضداد يجذب كل منها إلى ناحيته، ولا يستطيع أحد أن يعلم أنه يجذب في الناحية الواحدة مرتين، ومن ادعى لك ذلك فلا حاجة إلى تفنيد قوله بالبحث الطويل وراء حوادث الماضي والحاضر، فإن ظواهر اللحظة الواحدة كافية لتفنيد ما يدعيه، وإن فهمه للمصادفة حتى على هذه الوجه لا يتأتى بغير وجود النظام الذي ينبغي أن تقاس إليه مصادفات الفوضى والخبط في الظلام، ولا بد من بعض النور لنعلم كيف يكون ذلك الخبط في الظلام.

والمصادفة عند غير هؤلاء لا تنقض النظام، ولكنها قد تصاحبه وتتممه، وقد تلازمه في حالات وتفارقه في حالات، وعلى هذا النحو تفهم المصادفة في مذهب الفيلسوف الكبير شارل بيرس Charles Peirce رائد اليرجمية المشهور، فإنه لا يفهم المصادفة كأنها الضد المناقض للقوانين الطبيعية، بل يفهم منها أنها قوانين في انتظار التكوين، وأن قوانين الكون لم تتم جميعًا في لحظة واحدة، ولم تكن هكذا كما نعهدها الآن في كل زمن وكل ظاهرة طبيعية، ولكن القوانين الكونية أخذت في جريانها مجرى العادة على درجات وأدوار متعاقبة، ومن الجائز أن يشمل القانون الواحد كل ظاهرة من ظواهره في الكائنات المادية، ولا يشمل جميع الظواهر فيما يتعلق بالحياة، ومن أمثلة ذلك عنده أن قانون الحركة المكنية التي تطرد وتنعكس لا ينطبق على حركة النمو في النبات أو الحيوان، وأن الحقائق التي تستخرج من حركات الأجسام في الجملة لا يلزم أن تطابق حركات أجزائها، أو جزئياتها الدقيقة كل المطابقة.

فالمصادفة عند الفيلسوف بيرس لا يتحتم أن تناقض القانون الطبيعي أو تبطله، وقد يكون حكمها كحكم مشروعات القوانين أو حكم القرارات الفرعية في اصطلاح المشرعين، فمن قال بها لم يحسب من القائلين بإلغاء الخطة المتبعة في سياسة الكون.

•••

وتفهم المصادفة بمعنى غير ما تقدم عند فريق من القائلين بنفي القصد والتدبير في حركات التاريخ وحركات الطبيعة على الإجمال، فلا هي فوضى تناقض القوانين، ولا هي تتمة للقوانين أو زيادة عليها تجاورها ولا تدحضها.

فعند هذا الفريق من القائلين بالمصادفة أن المصادفة هي القوانين الطبيعية ذاتها، وأن القوانين الطبيعية إنما تولدت من المصادفة بغير تدبير مقصود.

قال أحد هؤلاء: إننا لو فرضنا أن فردًا أمام صناديق الحروف يرتبها جزافًا على كل وضع محتمل لتكونت منها في وضع من الأوضاع كتب مفهومة كإلياذة هوميروس؛ لأن الإلياذة مجموعة من الحروف على وضع من الأوضاع لا بد أن ينتهي إليه التعديل والتبديل في ترتيب حروف الصناديق على طول الزمن، وليس أطول من الزمن الذي مضى على الكون مضطربًا متقلبًا بين ألوف الألوف من الأشكال والقوالب التي تتناسق أحيانًا، وتتضارب أحيانًا، ولا بد لها من التناسق على شكل من تلك الأشكال في وقت من الأوقات.

وهذا القول ضرب من التخمين يستلزم وجود التدبير وراء ذلك التبديل أو التعديل؛ لأنه يستلزم «أولًا» أن يجري التبديل أو التعديل في وضع الحروف على كل وجه محتمل، ولا يدع وجهًا واحدًا يتخيله الذهن إلا صار إليه ثم عدل عنه إلى غيره، ويستلزم «ثانيًا» أن يكون هناك اجتناب متعمد للخطأ، وأن يكون ذلك الخطأ معروفًا بالنسبة إلى الصواب المقصود في النهاية، وإلا فإن الفرد يمكن أن يقع في أخطاء متعددة ويعود إليها أو إلى مثلها بغير نهاية، فإن قدرنا أن ذلك لا يقع فنحن نقدر إذن أن هناك تدبيرًا يقود يديه ويوحي إليه أن يختار ترتيبًا بعد ترتيب على كل وضع يخطر على البال، وقد يضع الألفات في موضع الياءات، أو يضع الحروف جميعًا في عين واحدة، فلا يؤدي تكرار وضعها إلى نسق تتألف منه الكلمات، وإن مصادفة كهذه المصادفة لهي أدل على الغاية والاستقامة على طريقها من قول الذين يقررون قيام القوانين من البداية، هكذا بطبيعة مستقرة في أصل الوجود، وهو قول غريب — ولا ريب — ولكنه أقل غرابة من الخطأ الذي يتكرر على وجه، ولا يعود إلى الخطأ مرة أخرى، ولا يدع احتمالًا واحدًا إلا استقصاه كأنه يحصي جميع الاحتمالات بغير نسيان ولا إخلال.

وآخرون يقولون: إن القوانين ليست بقوانين في لبابها، وإنما نحن جزء من هذا الكون نلائمه ويلائمنا، ولا بد أن نشعر بالوفاق بين وجوده ووجودنا، فنسمى هذا الوفاق قانونًا وما هو بقانون، إنما نحن مستقرون في عالم من العوالم، وهذا الاستقرار هو العلاقة القائمة بيننا وبين عالمنا، نسميها نظامًا وليست هي بنظام في جميع الأحوال، وعلى جميع التقديرات.

وفحوى كلام هؤلاء أن القانون لا يوجد وليس من طبيعته أن يوجد، وأنه إذا وجد، فمن الواجب ألا نكون نحن موجودين على وفاق معه؛ لأن هذا الوفاق يلغي تصورنا للقانون في جميع الأحوال، وعلى جميع التقديرات، وفحوى هذا الكلام مرة أخرى أننا بين عالمين لا يتشابهان: عالم نستقر فيه ولا يوجد فيه القانون، وعالم يوجد فيه القانون ولا قرار لنا فيه.

•••

وعلى أي معنى من هذه المعاني فهمنا المصادفة، نرى أنها حل قاصر عقيم، أو نرى أنها في نهايتها إغضاء عن الحلول، وبحث موقوف كأنه إلقاء للعبء عن الكاهل في منتصف الطريق، مع تجاهل البقية الباقية من الطريق، فليست المصادفة إذن أقرب الحلول ولا أضمن المواقف، وليست هي كما يحسب أصحابها أمانة علمية تنتهي عند حدود المعرفة الإنسانية؛ لأنها في هذا الباب أقل من حرف «س» الذي يشير إلى المجهول، ويتركه مجهولًا إلى حين، فإن حرف «س» أمانة علمية لا شك فيها من جانب الباحث الذي يجهل الحل ويعترف بجهله إياه، ولكن المصادفة جزم برأي ونفي لرأي مخالف له، وهو الرأي القائل بالتدبير، ومن جزم بهذا الرأي بغير دليل قاطع ينفي ما عداه، فليس له أن يسمي ذلك أمانة علمية، وإن كان من العلماء الأمناء.

إنما الأمانة في مسألة كهذه أن نقف منها موقفنا من الأرصاد الجوية التي تصيب وتخطئ، وقد تخطئ أكثر مما تصيب، وهي — مع ذلك — تنبئنا عن ظواهر طبيعية محكومة بقوانينها التي لا يمتري فيها باحثان، فما من عالم يقول: إن الرياح وأشعة الشمس وعوارض المد والجزر وحرارة القشرة الأرضية وطبقات الجو العليا تندفع بغير ضابط وتسكن لغير سبب، وما من عالم يزعم أن النبوءة عنها مستحيلة مع الوقوف على جميع أسبابها وعواملها، غير أن الرأي السليم فيها أن نفهم أنها عوامل طبيعية قابلة للتقدير الدقيق بجميع تفصيلاتها وتقلباتها، ولكننا لا نحيط بها جميعًا، ولا نحقق النتائج على صحتها؛ لأننا لا نحقق الأسباب على صحتها، وهي هي تلك العوامل المحسوسة المتكررة الخاضعة للمراقبة والتسجيل في مواقعها من الأرض والفضاء.

ونحن نسمح لأنفسنا بالجهل في أمثال هذه الظواهر الطبيعية، ونسمح لأنفسنا بالتردد في الحكم عليها، ونقرر وجود الضوابط لها، ونحن عاجزون عن ضبطها، فأحرى بنا أمام العوارض التاريخية التي تتسع لمجهولات الطبيعة الظاهرة والباطنة أن نقف منها موقفًا كهذا الموقف، وأن ندين بالأمانة العلمية على هذا النحو، فلا نزيد عن حرف «س» الذي يرمز إلى المجهول، حتى نستبدل به جوابًا أقرب إلى الوضوح والبيان.

ولسنا نريد أن نخطو خطوة واحدة وراء الحد الذي تسمح به الأمانة العلمية حين نفضل القول بالتدبير على القول بالمصادفة العمياء، ولكننا نريد أن نضيف النظريات العلمية إلى التجارب المقررة؛ لأن الأمانة العلمية تقضي علينا بأن نطرق كل باب من أبواب التفسير، ولا نغلق بابًا منها بغير برهان.

إن الأرصاد لم تثبت لنا شيئًا قاطعًا عن حركات الكهارب والنويات، وعن السوالب منها والموجبات، والمتردد منها بين السلب والإيجاب، تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك، ولكننا أضفنا النظريات إلى التجارب فيما نعلم عنها، فصح التقدير في كثير من الأحوال.

لتكن عندنا إذن شجاعة النظريات العلمية لتفسير الظواهر المطردة في تواريخ الأمم، لا بل هو الواجب العلمي وليس بالشجاعة العلمية وكفى، إذ كان الواجب يأبى علينا أن ندع نظرية من النظريات دون أن يكون لإهمالها سند ثابت لا مراجعة فيه.

وأحرى بالمفكر العصري أن يتوسع في مذهب الفيلسوف الكبير وليام جيمس الذي شرحه قبل هذا القرن العشرين في مقاله البديع عن إرادة الاعتقاد (١٨٩٧)، وسماها أحيانًا بشجاعة الاعتقاد، وحجة المفكر العصري في ذلك أن الزمن قد تقدم بنا كثيرًا في هذه الوجهة وفرض علينا شجاعة أدبية غير الشجاعة الأدبية التي كانت مفروضة علينا في عصور الحجر الظالم والتقليد الأعمى والاستسلام الذليل للخرافات والأوهام خوفًا من إغضاب الطغاة أو إثارة الدهماء، ففي تلك العصور الغاشمة كان الشك واجبًا عقليًّا، وكان إعلان الشك شجاعة أدبية نفسية، ولكن هذا الشجاعة في عصرنا هذا سيف يضرب في الهواء وحرب في ميدان خلو من الأعداء، وإنما الشبح الجديد الذي يتقاضانا شجاعتنا الأدبية هو شبح العناد في الإنكار والانطلاق إلى الطرف الآخر وهو طرف الأحجام عن إظهار الاعتقاد أو الميل إليه خوفًا من مظنة التأخر والجحود، فأصبح الإنكار مجاراة للعرف أيام الجهالة والجمود.

يقول الفيلسوف الكبير وليام جيمس في مقاله عن إرادة الاعتقاد:

إن القضية التي أدافع عنها هي: إن طبيعتنا الوجدانية لا يحق لها، بل يجب عليها أيضًا أن تفصل في مسألة الاختيار بين الآراء كلما كان الاختيار بينها داعية صدق لا تقبل الحل بالوسائل العقلية؛ لأننا إذا قلنا في هذه الحالة: دعونا نترك الباب مفتوحًا، فهذه حالة وجدانية لا تختلف عن القول بنعم أو بلا، وفيها نفس المجازفة بفقدان الحقيقة.

ويقول في مقاله هذا، وهو قريب مما نسميه بشجاعة النظريات:

إن الاعتقاد — حين نقيسه بالمقياس العملي — لا بد أن يسبق الإثبات العلمي، ونزيد على ذلك أنه هناك طائفة من الحقائق يكون الاعتقاد عاملًا من عواملها كما يكون معبرًا عنها، وأن العقيدة بالنسبة إلى هذه الحقائق لا تعتبر جائزة أو مناسبة ولا زيادة، بل تعتبر مع ذلك جوهرية وضرورية لا غنى عنها، وأن هذه الحقائق لا تصبح حقائق حتى تكون عقيدتنا هي التي جعلتنا كذلك.

وعلى هذه السنة نكون علميين، ولا نقنع بالفلسفة وحدها إذا وضعنا النظرية العلمية مكان القانون العلمي المقرر، وفسرنا ظواهر التاريخ بمعنى القصد والغاية، ورأينا أن الاعتماد على الشجاعة العقلية هنا أولى بنا من الاعتماد على الراحة والقول بالمصادفة هربًا من تكاليف الدعوى، وإسقاطًا لمئونة التفسيرات.

ليكن هذا المذهب في دراسة التاريخ نظرية علمية تقيس المعلوم على المجهول، وتطرق أبوابًا من الاحتمال المفتوح لا يجوز للعقل الأمين أن يوصدها، ويحرم النظر فيها بغير برهان.

ودعوانا أن نظرية التاريخ المفهوم، أو نظرية الغاية في التاريخ، تفسر لنا أمورًا كثيرة لا تفسرها المصادفة البحتة بغير معنى، فضلًا عن المصادفة التي تلغي المعنى، وتحسب الحوادث فوضى تخبط من ماضيها إلى مستقبلها خبط عشواء.

وعلينا أن نبني دعوانا على أساس صالح لإقامة البناء عليه، وهذا الأساس هو مطابقة الواقع للغاية التي يمكن أن نتخيلها إذا قررنا أن التاريخ تدبير يشير إلى وجهة، فما هي الغاية التي يتصورها العقل، ويتطلبها البحث من وراء حوادث العالم بالنسبة إلى النوع الإنساني، وبالنسبة إلى الإنسان الفرد، وبالنسبة إلى الطوائف والجماعات؟

إننا إذا استطعنا أن نوفق بين الحوادث المتفرقة، وبين هذه الغاية جاز لنا، بل وجب علينا أن نقول بمعنى التاريخ، وذلك ما نتحراه ونرجو أن نتبينه في المقارنة الموجزة بين بداية التاريخ المعروفة وبين حاضره المشهود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤