الفصل العاشر

الأسرة والمرأة

بدأت قضية المرأة على حق يشوبه الغلط، ولم يكن لها بد من البدء على الحق المشوب بالغلط وإلا تأخرت، أو جمدت، فلم تبدأ على وجه من الوجوه.

بدأت في معمعة المطالبة بالحقوق: رعايا يطلبون حقوقهم من ملوكهم، وعبيد يطلبون حقوقهم من سادتهم، وأجراء يطلبون حقوقهم من أصحاب الأموال، وشعوب مغلوبة تطلب حقوقها من شعوب غالبة، بل أبناء يطلبون حقوقهم من الآباء، وعباد يطلبون حقوقهم من المعبود.

فلما جاء دور المرأة في هذه المعمعة كانت مطالبتها بحقوقها خصومة جديدة في معترك الخصومات الكثيرة، خصومة مع الرجل أو خصومة بين الجنسين، وهذا هو موضع الغلط في قضيتها التي بدأت على حق لا ينكره، ولا يجدي نكرانه بعد الانتباه إليه، وكثيرًا ما يبتدئ الانتباه إليه من الرجال قبل النساء.

فمن الحق أن المرأة كانت مظلومة مسخرة قبل عصور المعرفة والحرية، ولكن الغلط في وضع قضيتها أن يكون هذا الظلم خصومة بينها وبين الرجل، أو خصومة بين الجنسين، فإن الجنسين معًا كانا ضحية لعدو واحد لم يعرفاه إلا على مهل وبعد ضلال بعيد عنه، وعن منافذ الخلاص منه.

كان الرجل ضحية جهله يوم كانت المرأة ضحية جهلها وجهله.

وكان الرجل مظلومًا يوم كانت المرأة مظلومة، وكانت مسئولة مثله عن هذا الظلم — أو غير مسئولة — فهما على الحالين مستويان.

وكان كل ما تشكوه المرأة من مساوئ الاجتماع يشكوه الرجل مع اختلاف في الدرجة، واختلاف في القدرة على الشكاية، وربما صمتت الشكاية باختيار متفق عليه بين الرجال والنساء، وقد يقف الرجال والنساء معًا في حظيرة الاتهام أمام ضحية أخرى لا هي بالخصم، ولا هي بالطرف المعقول في موقف من مواقف الخصومة، وتلك هي ضجة الطفولة المظلومة من البنين والبنات، قبل أن يصبحوا مع الزمن رجالًا ونساء وآباء وأمهات.

فما من شك في ظلم الطفولة يوم كان الرجال مظلومين والنساء مظلومات، وما من شك كذلك في مصاب الجميع بجرائر هذا الظلم؛ مصاب الظالمين، والمظلومين.

كم ظلمت الأم في العصور الغابرة من وليد تحبه ووليدة تحبها؟ وكم ضاع هذا الظلم بين تبعة لا تعرف وتبعة تعرف على جهل وضلالة؟

ومن المسؤول عن الجهل والضلالة؟ قل على حد سواء: إنهم البنون والبنات، كما تقول: إنهم الآباء والأمهات، أو تقول: إنهم الرجال والنساء.

فإذا قيل: إن قضية «تحرير المرأة» قضية حق في نشأتها، فذلك صدق لا جدال فيه، ولكنها توضع موضع الغلط حين يقال: إنها قضية خصومة بينها وبين الرجل، وإن الفصل فيها إنما هو انتصار طالب على مطلوب، أو صلح بين ضدين يكسب أحدهما بمقدار ما يخسر غريمه في هذه المقاضاة.

إنما توضع قضية المرأة في موضعها الصحيح يوم يقضى فيها على أنها علاقة بين شريكين يتوزع بينهما العمل على حسب اختلاف الوظيفة والاستعداد، وكلاهما خاسر مغبون إذا أخل بحق شريكه ونازعه في عمله وكفايته، وكلاهما رابح إذا عرف أين يعطي، وأين يأخذ من قسمة الخلق بين الجنسين.

ليس في الطبيعة ظاهرة محسوسة يتجلى فيها توزيع العمل، وتتمثل فيها هذه الشركة كما نراها في المقابلة بين وظائف الجنسين، فكل مخلوق إنساني إنما هو شاهد في تكوينه على هذه الوظائف المتقابلة في تركيب بنية الذكر وبينة الأنثى، ومن ضحالة الفهم أن يسبق إلى الظن أن هذا التقابل في تركيب الجنسين ينتهي عند أعضاء الجسد، ولا يستدعي معه تقابلًا في استعداد العاطفة والفكر والبديهة الخفية التي نحسها أحيانًا، وتحتجب عن الحس أحيانًا أخرى، لعلها أعمق وأقوى مما ندركه نحن — رجالًا ونساء — من هذه المحسوسات.

والمسألة — بعد — ينبغي أن تخرج من أفق التنازع على الحقوق والكفايات إلى أفقها الذي تدور فيه إلى مستقرها، كيفما كان القرار.

ومن الغلو في الأمل أن نترقب حلها في البقية الباقية من القرن العشرين، ولكننا نتحدث عن أمل قريب — إن لم لكن أملًا محققًا فيما نراه اليوم — إذا رجونا أن توضع قضية المرأة موضعها الصحيح بعد جيل أو جيلين، فينقضي الدور الذي بدأ بالخصومة بين المرأة والرجل، ويتبعه دور يعملان فيه عمل الشريكين اللذين يتقاسمان الواجب كما يتقاسمان الحق، ويحذران الخسارة؛ لأنها خسارة في الحصتين.

•••

ولا شك أن حالة الأسرة أدل من حالة الطبقة على نصيب المجتمع من السلامة والاستقامة؛ إذ كنا نطلع من حالة الطبقة على أوضاع اجتماعية واقتصادية قلما نتخطاها إلى ما وراءها إلا على سبيل الاستطراد، في حين أننا نستلهم من حالة الأسرة حكمة الطبيعة في تقسيم الجنسين ونهتدي منها إلى أخلاق الفرد والجماعة، ونستشف منها بداهة النوع في احتياله للمحافظة على بقائه ونموه، ولا يفوتنا حين نطلع على تكوين الأسرة أن نلم بأحوال المجتمع في علاقاته الاقتصادية والسياسية.

ونحن نستلهم حكمة الطبيعة فنعلم أن المجتمع يبتعد من السلامة والاستقامة كلما ابتعد بالمرأة عن الأسرة، ونحى بينها وبين وظيفة الأمومة وتربية الجيل المقبل، وتدبير البيت لتسكن إليه وتسكن إليه الأسرة موئلا للعطف والراحة من تكاليف السعي والمعيشة.

وليس مدار البحث هنا أن نعلم مدى الحقوق السياسية التي تنالها المرأة في أمتها، ولا عدد الوظائف التي تشغلها والدراسات العلمية التي تتلقاها ومراكز الأعمال العامة التي تتولاها؛ فإننا لا نواجه خطرًا مقبلًا إذا استغنت المرأة عن هذه الأعمال، ولا يئود المجتمع أن يولي الرجل كل ما تتخلى عنه المرأة يوم تكتفي بوظيفة الأم، وسياسة الأسرة في الحياة البيتية.

ولكننا نواجه الخطر المحقق إذا تخلت المرأة عن حياة الأسرة ولوازمها، ونبتعد عن حكمة الطبيعة، فنفهم أن المرأة والرجل كليهما يعملان في مجتمع بعيد من السلامة والاستقامة، وينبغي أن نتوخى في الإصلاح الاجتماعي رد المجتمع إليهما، وتثبيط الدوافع التي تحفز الناس — نساء ورجالًا — إلى الشطط عن سواء الطبع في توزيع الأعمال بين الجنسين.

ومن اللجاجة أن تنقلب هذه المسألة الحيوية إلى منازعة على كفاءة الجنسين في شئون العلم والعمل، فالأمر الذي لا منازعة فيه أن المرأة خلقت للأمومة، وصلحت لتربية عواطف الأسرة، فلا يحسن بالمجتمع أن يضطرها إلى التخلي عن مكانها في الأسرة، وأن يلجئها إلى التضحية بالبيت سعيًا إلى الرزق، أو اشتغالًا بأعمال يغني فيها الرجل عنها.

وليس لنا أن نتجاهل الحقيقة الواقعة، وننسى أن المرأة تضطر في الحضارة الحديثة اضطرارًا إلى هجر البيت والتضحية بلوازم الأسرة في سبيل لوازم المعيشة، إلا أن الحذر من تجاهل هذه الحقيقة لا يوجب علينا أن نغتبط بها ونقيم قواعد المستقبل عليها، وإنما نعترف بها لنعطيها حقها من معاذيرها واعتباراتها، ونسعى إلى إصلاحها وتثبيط الدوافع التي تضطر النساء والرجال إليها.

وقديمًا اضطر الفقراء — وغير الفقراء — إلى تسخير القاصرين، وإهمال تعليمهم في سن الطفولة الباكرة فيما يشق عليهم ويضر بأجسامهم وعقولهم؛ إيثارًا للانتفاع بأجورهم على احتمال نفقتهم، فلم نجعل هذه الضرورة قاعدة تقام عليها تربيتهم وتفريج الضائقة عن ذويهم، واعترافنا بهذه الحقيقة لنصلحها ونغني المضطرين إلى تسخير أبنائهم عن هذه السخرة الشائنة، فاستغنى عنها الكثيرون منهم وأنفوا منها بضمائرهم وقلوبهم بعد أن تعودوا مع الزمن أن يتجنبوها خوفًا من العقوبة وطاعة للشريعة.

ولا يبدو الآن أن الضرورات التي تصرف المرأة عن حياة الأسرة يمكن أن تعالج بهذه السهولة في الجيل الذي نحن فيه، وأكبر الظن أنها تستعصي على العلاج في الجيل المقبل أو الذي يليه، ولكننا نأمل فلا نغلو في الأمل أن يتكفل القرن العشرون قبل انتهائه بوضع هذه القضية الجلى في موضعها الأمين، فيختتم صفحة الخلاف عليها كأنها خصومة بين الرجل والمرأة، ويتركها للأجيال المقبلة شركة يتعاون فيها الجنسان كما يتعاون الزميلان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤