الفن والعلم
ولعلنا نختم هذه الظنون والنبوءات بخبر من أخبار المستقبل لا حاجة به إلى ظن ولا نبوءة، وقد يكون أوثق من أخبار الماضي الذي تتضارب فيه الرواية.
إن القرن العشرين سوف يصفي قبل نهايته حساب البدع الفنية التي نشأت فيه، وهذا هو الخبر الذي لا يحتاج إلى الظن والنبوءة، إذ تحمل البدعة في طياتها نبوءة مصيرها، وتأتي البدعة ثم تمضي كما تأتي أزياء الثياب والحلى زيًّا بعد زي، ثم تمضي باختيار من يبدعونها ويولعون بها، ولولا هذا التقلب السريع لما فكر أحد في ابتداعها.
وقد كانت ذخيرة القرن العشرين من بدع الفنون أوفر وأعجب من ذخيرة سلفه القرن التاسع عشر، ومن ذخائر أسلافه في العصور الحديثة التي أولع فيها الناس بالجديد، ثم ازدادت سرعتهم في تغييره والتبرم به إلى أن بلغت شأوها الأخير في هذه السنوات الأخيرة.
ويرجع الإقبال على البدع في القرن العشرين إلى جميع أسبابه التي تغري به، وتحرض عليه؛ إلى الجرأة على التقاليد المرعية، وإلى شيوع الطرافات العلمية التي يتداولها الفنانون، وجمهرة المتحدثين بالعلوم والفنون، وإلى اتساع ميادين النشر من طباعة وإذاعة وصور متحركة ومسارح عرض وتمثيل.
والجرأة على التقاليد المرعية قديمة منذ عصر النهضة وعصر الاستنارة، وما تلاهما من عصور الثورات العلمية والسياسية، إلا أن الجرأة على التقاليد كانت تصدر فيما مضى من جانب واحد باسم المجددين الثائرين على المحافظين، أو باسم اليسار المنتقض على اليمين، فلما تقدم القرن العشرون جاءت الغارة على التقاليد شعواء ذات اليسار وذات اليمين، فأنصار الدعوة الاجتماعية من الماديين يحطمون التقاليد الماضية لأنهم يهدمون كل بناء قام في الماضي على قواعد الطبقات من غير طبقة الأجراء، وأنصار الدعوة الفردية ينكرون طغيان الجماعة على حرية الفرد فيعارضون الدعوات الاجتماعية التي تلغي الفرد من أجل الجماعة، ولكنهم — على مذهب بعض الوجوديين — يبيحون للفرد أن يستقل برأيه وهواه، ويثبت وجوده بالخروج على العرف، واقتحام الطريق الذي يروقه على غير اكتراث بالأصول والعادات في مسائل الذوق على الخصوص ومنها الفنون.
أما شيوع الطرافات العلمية فهو فيما نعنيه هنا شيء غير شيوع المباحث العلمية التي يمحصها العلماء ويمتحنونها على أصول التجربة والتطبيق الأمين، فهذه المباحث العلمية تفيد الفن والفنان وتؤدي إلى قيام المدارس الفنية التي تثبت في تاريخ العلم والثقافة، ولا تظهر ثم تغيب كما تغيب البدع والأزياء.
كان مبعث هذه الدعوة أن أصحابها أرادوا أن يميزوا أنفسهم على غيرهم من الكتاب والشعراء بالتزام الأمانة العلمية في وصف أحوال الناس والتعبير عن عواطفهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وقالوا: إن الكاتب ينبغي أن يتجرد من أهوائه وآرائه عند الكتابة كما يفعل العالم عند دراسة الظواهر الطبيعية، وأن تعبيره عن الحقائق الاجتماعية والنفسية ينبغي أن يصاغ في قالب كقالب التعبير العلمي أو قالب المسائل الرياضية.
ومن الحسن ولا شك أن يلتزم الكاتب أمانة العلم إذا كان المقصود بهذه الأمانة أن يتجنب الزخرف الكاذب والأباطيل الخرافية، ولكنه لا يكون أمينًا بمعنى الأمانة العلمية ولا الفنية إذا عبر عن نفسه تعبيرًا آليًا يتجرد من الملامح الشخصية؛ لأن الفن كله قائم على وجهة نظر الفنان وملكاته الشخصية التي لا تتشابه بين كاتب وكاتب، ولا بين شاعر وشاعر، ولا بين مصور ومصور، ولا تأتي مقرراتها متشابهة أبدًا كما تتشابه مقررات العلماء، ولهذا كانت الصورة اليدوية مفضلة على الصورة الشمسية بالغة ما بلغت هذه من الصدق والإتقان، ولو كان المقصود بالأمانة العلمية مطابقة الصورة لأصولها المحسوسة لكانت الصورة الشمسية أرفع شأنًّا من كل صورة تبدعها ريشة الفنان الصناع، ولكن الأمانة العلمية في الفنون شيء غير الأمانة الآلية؛ لأن العلم يقول لنا: إن الآلة غير الإنسان، فلا يجوز لنا أن ننتظر — باسم العلم — تصويرًا إنسانًّا يشبه صناعة الآلات، ولا تتحقق أمانة العلم وأمانة الفن معًا بغير هذا الاختلاف، بل يصدق هذا على الفرق بين الصورة الشمسية الممتازة والصورة الشمسية المجردة من المزية، فإننا إذا أعجبتنا صورة شمسية بارعة لمسنا على الأثر براعة المصور الذي التقطها في اختيار الموقع، واختيار الوجهة، واختيار الألوان والظلال، واختيار اللمحات البادية على الوجوه، وعلى صفحات الأشياء.
ومن الواجب أن نفهم معنى الأمانة العلمية حين نطبقها على بدائع الفنون، فهي لا توصف بوصف الأمانة إلا إذا حسبت حسابًا للفارق بين عمل الآلة وعمل الإنسان.
ويهون سوء التطبيق في الدعوة إلى المدرسة الطبيعية إذا قيس إلى التطبيقات السيئة التي ابتليت بها دراسات علم النفس بين الحربين العالميتين، فتسربت إلى الفنون والآداب من كلمات الوعي الباطن ومركبات النقص والعقد النفسية وما شابهها من مصطلحات فقدت معناها لكثرة استعمالها في غير مواضعها، وخلقت من أفانين الأوهام ما لم تخلقه خرافة من الخرافات التي ماتت قبل أن تبلغ القرن العشرين.
وقد نسي دعاة البدع التي نبتت من كلمة الوعي الباطن أن هذا الوعي الباطن لم يخترعه فرويد، ولم يزعم أن الفنانين من قبله جهلوه وأهملوه، بل قرر غير مرة أنه يعتمد في تفسيره على أعمال أولئك الفنانين وأقوالهم من كتاب وشعراء ومصورين، وما من أحد ذي بصر ينظر إلى صورة من صور الأقدمين ومن تلاهم في عصر النهضة وتلاميذهم المبرزين من أبناء العصور الحديثة إلا أدرك لأول وهلة أنهم أحسوا الوعي الباطن من وراء الظواهر، وعرضوه لنا على قسمات الوجه وحركات الأعضاء، ودلوا على قدرتهم بهذا العرض الذي يرينا الخفايا كما يرينا الظواهر بلمسة من لمسات الريشة وخفقة من خفقات النور واللون، وتركوه لنا نفسره كما يفسر كل سر من أسرار النفس البشرية قد ينطوي عن صاحبه كما ينطوي عن الناظرين إليه، ولذلك كان وعيًا باطنًا ينقله الفنان القدير على غموضه أو جلائه نقل الأمانة الملهمة والإدراك الخفي والحس المشترك بين الوضوح والغموض.
وينسى هواة الطرائف العلمية أن علماء النفس لم يكشفوا الوعي الباطن ليلغوا به الوعي الظاهر ويبطلوا به عمل الحواس؛ لأن معرفتنا بعقولنا الخفية لا تمنعنا أن ننظر بأعيننا، ونسمع بآذاننا، بل تساعدنا على محو الضلالة والتثبيت من حقائق المنظور والمسموع.
والمصورون ممن يدعون تصوير الوعي الباطن ينسون أنهم تعلموا فن الرسم والشكل، ولم يتعلموا الكهانة والتنجيم، ولو كان فنهم كله قائمًا على تخمين الظنون على العقل الباطن لتساوى المصورون وغير المصورين، وتساوى كذلك الشعراء وغير الشعراء، والفنانون وغير الفنانين فيما يتعاطونه من الوصف والتعبير، إذ كان التخمين عملًا نستطيعه جميعًا ولا يتقاضانا غير الحدس والاسترسال مع الخيالات، ولا يصح أن يستأثر فيه صاحب وعي بما يتوهمه دون أصحاب الوعي من الناظرين والفنانين، فقد يتفق عشرات الألوف في البصر والسمع، ولا يتفق اثنان في الخفايا الباطنة ولو كانا أخوين أو عشرين مدى الحياة، وما دام الوعي الباطن مختلطًا مرتبكًا غير مشهود ولا مفهوم، فليس في الدنيا من يعجز عن محاكاة الاختلاط، والارتباك على نحو من الأنحاء.
ومن فكاهات هذه الدعوات أن المنتحلين لها يتخطفون أطرافها على عجل، ثم ينقطعون عنها ولا يعرفون ما طرأ عليها في مباحث أصحابها الأولين وروادها المبتكرين، فقد عدل فرويد في أيامه الأخيرة عن مغالاته بدعوى الوعي الباطن أو العقل الباطن، ورأى أن العبارة في تركيبها متناقضة لا تستقيم في التفكير.
وقد تراجعت مصطلحات فرويد الأولى إلى الصفوف التالية في مباحثه الأخيرة، ولما تزل تشغل الصفوف الأولى في أعمال الفنانين الذين تلقفوها بالسماع ولم يفهموا منها أولًا وآخرًا غير ما فهمه ثراثرة الأسمار.
•••
ومن المألوف أن تعزى كثرة الخوض في النفسانيات بين الحربين العالميتين إلى قلق الأفكار وتوتر الأعصاب في هذه الفترة، من جراء الأزمات والشكوك التي تنتاب أبناء العصر فترهقهم وتلجئهم إلى التنفيس عن صدورهم بهذه الأحاديث، كما تلجئ العلماء والمفكرين إلى البحث في أعراضها ووسائل علاجها، ويشبه أن يكون هذا هو الواقع في تعليل كثرة الخوض في العوارض النفسية، لولا ما نعهده من أخطائنا المتكررة عند المقارنة بين الحاضر والماضي في مسائل الشعور والعاطفة، فما حضر أشد عندنا مما غبر في مسائل الحر والبرد، ومسائل السرور والألم، ومسائل العافية والمرض، ولا يبعد أن تكون أزمات القرن التاسع عشر أشد وقعًا على أبنائه من أزمات المحدثين بين الحربين العالميتين؛ لأنه لم يخل من قلاقله، وشكوكه، وثوراته، وحروبه، ومفاجآته، وصدمات الخيبة لأصحاب الآمال العامة والخاصة من أبنائه، فإذا كانت أحاديث العقد النفسية لم تتردد في فنون القرن التاسع عسر، كما ترددت في فنون القرن العشرين، فليس من المحتم أن يرجع ذلك إلى ندرة الأزمات النفسية فيما مضى وكثرتها فيما حضر، بل يجوز أن كثرة الحديث عنها إنما ظهرت مع ظهور العلوم النفسية تبعًا لتقدم العلوم في جملتها، وأنها وجدت متسعًا من ميادين النشر، وحرية التصريح بالآراء في الزمن الأخير لم تجده في أول عهدها بالظهور قبل بضعة أجيال.
وقد مضى الآن على ابتداء اللهج بالعلل النفسية أكثر من جيل كامل وضحت فيه مصادر هذا اللهج الطارئ من أعمال الفنانين وأعمال أدعياء الفنون، فلم يعسر على نقادهم أن يميزوا بين سمينهم وغثهم، وبين الجد والهزل في أعمالهم وأقوالهم، فهم بين طائفتين تتميزان جدًّا بعد هذا السنين التي عرضت لنا من ثمراتهم ما يكفي لمعرفتهم؛ طائفة جادة في شعورها وتعبيرها تصور لنا دخائل النفوس وعللها كما يصورها الفنان الملهم في كل آونة، وطائفة مصطنعة متكلفة تعرض لنا فنا مصطنعا متكلفًا هو نفسه عرض من أعراض الأمراض النفسية، والفرق بين الطائفتين هو الفرق بين المعبر عن المرض وبين المصاب بالمرض الذي نفهم مرضه من حالته ولا نفهمه من مبتكراته وأقاويله، ولا يشق على نقاد الفن أن يدلونا على الآية التي تميز كلا من الطائفتين تمييزًا يدفع اللبس والاشتباه، فكل نتاج فني يلغي القواعد وينطلق مع الفوضى فهو ظاهرة مرضية وبدعة موقوتة لا تدوم إلا ريثما تنسخها بدعة من قبيلها، وكل نتاج فني يقوم على قاعدة مفهومة فهو تعبير صحيح، وإن جاءت هذه القاعدة على نسق جديد يخالف ما اطردت عليه فنون الأقدمين، ولا بد من التفرقة بين القواعد والقيود في الأعمال الفنية على اختلافها، فإن القواعد هي قوام الفن الذي لا ينفصل عنه، ولا يمكن أن يخلو منه بحال، وما عرف الناس لعبة من لعب الكبار والصغار — فضلًا عن الفنون العليا — يمكن أن تلعب بغير قاعدة مرعية عند الطرفين ويجوز للاعب أن يتحرك فيها بغير ضابط معلوم ولا خطة مقررة، فلا قوام للفن بغير القاعدة، ولكنه قد يقوم على أحسنه مع زوال القيود التي يحده بها العرف، ويتناولها التغيير والتبديل في كل جيل.
ولم يمض على ظهور البدع الفنية — بدع الفوضى والإباحة — بضع سنوات بعد الفترة بين الحربين حتى أمكن التمييز بينها وبين الفنون المعبرة بوحي الإلهام والبداهة الصادقة.
فمن البدع الزائلة كل دعوة تنم عن المرض النفساني، كما تنم عليه أعراضه وأماراته، ومن الفنون الصادقة كل فن يعبر عن المرض وهو غير مريض، وينفس عنه وليس هو بضحية من ضحاياه، ولكل منها علاقة بالدراسات النفسية غير علاقة الآخر بها، فإن البدع لا تستفيد من الدراسات النفسية ولا تتعلم شيئًا منها، ومثلها في علاقتها بحقائق علم النفس مثل المريض في علاقته بالطب الذي لا يعرفه، وعلى خلاف ذلك يكون الفن الصادق في علاقته بالدراسات النفسية، فإنه يستفيد من العلم بها، ويصحح بها أخطاء الحس والرأي والشعور، ويعتمدها في نقد أعمال الأقدمين وتوجيه أعمال المحدثين.
•••
منذ أواخر القرن الماضي بدأت مشاركة العلم في نقد تاريخ الفنون، ولا سيما فنون: التصوير، والنحت، والمخطوطات الكتابية، فتمكن علماء التاريخ والكيمياء من تحقيق أوقات التحف الفنية، وتصحيح نسبتها إلى أصحابها وعهودها، إما بالمقابلة التاريخية بين الأساليب والتوقيعات وأنواع الورق والمداد، أو بالفحص الكيمي عن التفاعل بين الأصباغ والأنسجة، وبين عوارض الجو والتربة، وكانت لهذه المساهمة العلمية قيمتها النفسية في التحقيق والتمحيص من الوجهة التاريخية التي تنتهي عند تصحيح النسبة إلى هذا الفنان أو ذاك وتبيين الفرق بين أساليب عصر وعصر، وأنماط مدرسة ومدرسة. ولكن النقد العلمي لم يتمكن من المشاركة في التمييز بين الفن السليم، والفن السقيم، وبين أسباب الدقة في الأداء، وأسباب الخطأ والانحراف فيه، إلا بعد التقدم الحثيث في علم البصريات، وما يرتبط به من طب العيون والأعصاب، فإن علماء البصريات وأطباء العيون قد أمكنهم أن يميزوا بين الخصائص التي كانت تحسب في عداد المدارس والأساليب الفنية، وبين الخصائص التي تنشأ من أمراض البصر ويضطر إليها الفنان لخلل في تركيب عينه يحجب عنه بعض الألوان، أو يعرضه لطول البصر أو قصره، أو للزيغ عن النظر المستقيم إلى ما يواجهه من أمامه، ففي هذه الحالات يبالغ الفنان في توكيد لون من الألوان، وتخفيف ما عداه، وتتراءى صورة أقرب إلى استطالة أو أقرب إلى الاستدارة، وفيها بعض الميل من جانب، وبعض الإقحام من جانب آخر، على حسب الاختلاف بين تركيب عينيه، وبين تركيب العيون عند صاحب النظر السليم، وكان النقاد الأسبقون ينظرون في هذه الخصائص فيحسبونها من بدع الاختيار والابتكار، ومن فوارق الأساليب المقصودة والمدارس التي يدور البحث فيها على تعدد الآراء والأذواق، وما هي إلا نظرة فاحصة من عالم البصريات حتى ينجلي له أن الأمر لا يرجع إلى اختلاف الآراء والمذاهب، ولا إلى الرغبة والاختيار، وأن مرجعه كله إلى عيب في البصر يمثل الأشياء لصاحبه على صورة غير سوية ويوقعه في ذلك الخطأ الذي لا حيلة له فيه، وقد يظهر من المقابلة بين صور الفنان الواحد أن بعضها ينم على انبساط الحدقة، وبعضها ينم على بصر سليم، فيتبين من النقد التاريخي أنه يحاكي أسلوب غيره في الصور المثالية أو الصور المقدسة؛ لأن ذلك الأسلوب قد أصبح في زمانه بمثابة الزي المصطلح عليه لتمثيل «الشخوص» المحوطة بهالة من القداسة والرعاية المثالية، ولكنه يثوب إلى بصره فيعتمد عليه فيما يرسمه من المناظر اليومية والشخوص التي لا يحيطها بتلك الهالة من القداسة والتبجيل، وهذه وسيلة من وسائل التمييز بين الأنماط والأساليب، وبين أسباب الاختيار فيها والاضطرار لم تكن معروفة قبل ارتقاء علم البصريات وأدوات الفحص عن وقع المسافات والمرئيات في النظر المنحرف والنظر السليم.
ويؤخذ من بحث لطبيب جراح من أطباء العيون أن نسبة الحسر في طلاب التصوير أكبر من النسبة العامة بين غير المصورين: «ففي إحصاء للتلاميذ والأساتذة في مدرسة الفنون الجميلة بباريس عند أوائل القرن العشرين ظهر أن المصابين بالحسر أكثر من ستين من مائة وثمانية وعشرين، وأن نسبة طول البصر في المدرسة كلها سبعة وعشرون في المائة، على حين أن نسبتهم في عموم الناس ثلاثة أمثال المصابين بالانحسار.»
مثل هذا النقد العلمي — وإن شئنا فلنسمه بالكشف الطبي — يرد أخطاء الفنون إلى عللها الأصلية، ويلم شعث الأفكار المهدرة في مناقشات لا طائل لها بين النقاد حول أمور يحسبونها مذاهب مقصودة وهي من ضرورات النقص والخلل التي لا حيلة للفنان فيها، ومنهم من يستنبط من الهباء فلسفة خاوية عن معنى تفضيل هذا اللون، وإهمال ذلك اللون في لوحات بعض المصورين، وقد يبحثون أسرار التشبيهات في قصائد الشعراء على هذه الوتيرة فيذهبون بها إلى ما وراء الطبيعة وينحلونها من المقاصد والتأويلات ما لم يخطر لناظميها على بال، فإذا اشترك النقد العلمي والنقد الفني في تعليل تلك التشبيهات فأول ما يجنى من ذلك أن تصان أوقات الناس وأذواقهم من التخبط على غير جدوى في تيه من الأوهام والأضاليل، إذ تنكشف علل الأخطاء الفنية والأدبية فيتقبلها من وافقته على علاتها، أو يرفضها ويتنبه لأسباب رفضها فينظر في مداواتها بما يصلحها ويشفيها.
والعلوم النفسية لم تتقرر بعد في تحقيق العلة والعلاج كما تقررت علوم البصريات ومباحث الكيمياء والطبيعة، ولا نخالها ستبلغ في يوم من الأيام هذا المبلغ من اليقين والوضوح، ولكنها — على ما هو عليه الآن — كفيلة بالتمييز بين البدع السقيمة والمذاهب الجدية في مدارس الفن والأدب، فكل ما انطلاق بغير قاعدة، واختلاط بغير بنية، وإساءة للفهم في تفسير المبادئ العلمية — فهو من العلة والسقم — وكل ما يقام على قاعدة مفهومة — ولو أقيم على قاعدة مهدومة من قبل — فهو مذهب من مذاهب التحديد يضيف إلى ثروة الفن والأدب، ويصلح للبقاء إلى حين.
وستغنم الإنسانية كثيرًا من هذا الفيصل الصادق بين أعراض السقم في الآداب والفنون، وما ينشأ فيها من المذاهب المطبوعة والمدارس الجدية، فما من شيء أضر بالأذواق والعقول من أن تساق إليهم أعراض المرض، كأنها فتح من فتوح التقدم يتهافتون عليه، ويروضون أذواقهم وعقولهم على محاكاته، وشر ما يبتلى به مريض النفس والذوق أن يغتبط بدائه ويتمادى في تمكينه، وهو — لولا ذلك — خليق أن يأسف له، ويبحث عن دوائه، ونحن منذ اليوم نحس أن غواية البدع السقيمة تنهزم سنة بعد سنة أمام حقائق العلم ودراسات الطبائع والأخلاق، فإذا انتهت كشوف القرن العشرين في هذا الباب بالتمييز بين فوضى الفن وقواعده، فأنعم به من ختام لا تنقضي حسناته ومزاياه.