الفصل الثاني

غاية النوع

إذا كانت للتاريخ الإنساني وجهة فهي وجهة أبدية تحيط بالزمن كله غير مقصورة على الإنسان منذ ابتداء تاريخه، ولا قبل ابتداء ذلك التاريخ.

ومثل هذا الوجهة لا ندركها من الإلمام بنقطة واحدة في مجرى الزمن، ولا نستطيع أن نحيط بها إلى نهاية الزمن، إن كانت له نهاية.

إن نقطة واحدة من الزمن كنقطة واحدة من المكان، لا تدل على شيء في ذاتها ولا تدل على ما حولها، وقد تبدو لنا كأنها بقعة مهملة أو وصمة تستحق أن تزال، كما تبدو النقطة الصغيرة في الصورة الكبيرة، وهي — لو زحزحنا عنها الغطاء قليلًا من قبلها ومن بعدها — ترينا من الصورة عينًا ناظرة في وجه كائن حي ندرك وجوده، وإن كنا لا نراه.

أما غاية الزمن كله — ولا سيما الغاية الأبدية — فنحن لا نحيط بها، وأن تكشفت لنا بجميع أسرارها؛ لأننا — في مداركنا المحدودة — لا نحيط بوجود أبدي غير محدود، ولن نرى من الغاية القصوى إلا ما اقترب منا ووافق أبصارنا وبصائرنا، ولن نراه على حقيقته الكاملة الوافية، بل قصارانا من الجهد أن نراه كما يتمثل لنا رموزًا مترجمة عن الحقيقة، كما نترجم هزات الأثير والهواء بالألوان والأصداء.

إنما ندرك وجهة التاريخ بفترة منه بين النقطة الحاضرة والغاية الأبدية.

ندركها بشوط من أشواطه الطويلة يبتدئ وينتهي على علم منا، وله بين بدايته ونهايته مسيرة مطروقة نعرف منها معالمها ومراحلها، ونعرف من تلك المعالم والمراحل: هل هي وجهة متتابعة أو شتات من الخطى في كل اتجاه، وإلى غير اتجاه؟ فلنفرض ولنقدر.

ولنا — بل علينا — أن نفرض ونقدر كما تعلمنا من العلم العزيز علينا نحن أبناء القرن العشرين.

لنفرض وجهة التاريخ التي نعقلها والتي نتمناها للنوع الإنساني، كما نتمناها للإنسان الفرد والجماعة من الناس.

لا نستطيع بعقولنا وعواطفنا أن نتمنى للنوع الإنساني غاية أفضل وأطيب من الوحدة العالمية التي يتحقق بها وصف النوع وتمامه.

ولا تستطيع عقولنا وعواطفنا أن تتمنى للإنسان الفرد غاية أفضل وأطيب من زيادة الكفاية والمعرفة.

وليست للجماعات المتفرقة غاية أفضل لها وأطيب من أن تتقارب على سنة الإنصاف، وأن تزول بينها فوارق الظلم والخضوع.

•••

فإذا كنا قد أحسنا التقدير على هذا الفرض الذي نتمناه ونعقله، فلعلنا نحسن الملاحظة إذا رجعنا إلى حوادث التاريخ من مطلعه، ففهمنا أن هذه الوجهة قائمة، وأن النوع الإنساني يتجه فعلًا من التفرق إلى التضامن، كما يتجه الفرد من الهوان والضياع إلى الكرامة والكفاية، وتتجه الجماعات من التفاوت والتغابن إلى التقارب والإنصاف، وقد تتردد في الاختيار بين هذه الوجهة وبين وجهة أخرى تماثلها، ولكننا لا نتردد طويلًا في ترجيح هذه الوجهة وأمثالها على القول بالعبث والفوضى في تاريخ الإنسان كله أو القول بنقيض تلك الوجهة في جميع تلك الأحوال.

(أ) وجهة النوع الإنساني

فالنوع الإنساني ينتقل في تاريخه المعروف من التفرق في الموقع والمصلحة إلى التضامن في جوانب الأرض، وفي مرافق المصلحة العالمية.

ينتقل من القبيلة، إلى الشعب، إلى الدولة، إلى الجامعة الدينية أو العنصرية، إلى التوازن بين مجموعة ومجموعة من الفئات الدولية، إلى هذا الاشتباك المتلاحم في سياسة العالم ومواصلاته، وعلاقته إلى الوحدة التي أوشكت أن تكون وحدة للكرة الأرضية أمام غيرها من العوالم والأفلاك.

وقد أصبح التضامن العالمي تيارًا يطوف بكل جانب من جوانب الكرة الأرضية، ولا يقوى على الخروج من نطاقه أقوى من الدول والشعوب، بل إن أقوى الأقوياء مضطر أن يحمل من أعباء هذا التضامن وجرائره ما ليس يضطر إلى حمله من هم أقل منه قوة وأضعف منه علاقة بمسائله ومراميه.

وقد مضى على الكرة الأرضية من مستهل التاريخ ألوف السنين وهي منقسمة إلى عالمين منعزلين، يجهل أحدهما الآخر، ويجهل أنه موجود معه على ظهر الكرة الأرضية، ثم مضت عوامل الوحدة العالمية في طريقها فانكشف كل من العالمين لصاحبه، وقبل عنهما منذ ذلك الحين: أنهما عالم جديد، وعالم قديم.

ثم مضى ردح من الزمن خيل فيه إلى أحد العالمين أنه قادر على الاعتزال بأهله وبلاده عن الشطر الآخر من الكرة الأرضية؛ إيثارًا للسلامة واجتنابًا للمآزق، واكتفاء بما عنده من مسائله وشواغله، وهي غير قليل، وافترق ساسة هذا العالم — وهو العالم الجديد — فكان أعلاهم صوتًا وأكثرهم أتباعًا من ينادي بالعزلة، ويوصى بالابتعاد غاية الابتعاد من مشاكل القارة الأوروبية، وغيرها من القارات في العالم القديم، وكانت الحرب العالمية الأولى حجة لأنصار العزلة يذعن لها معارضوهم أو يكادون يذعنون مترددين متحيرين، فإذا بالحرب العالمية الثانية تنقل المسألة من مجال الرأي، والبحث إلى مجال لا محل فيه لحكم غير حكم الضرورة، ولا متسع فيه لتعدد البحوث والآراء، وإذا بالعالم الجديد يشترك في كل مشكلة من مشاكل القارات التي كان يحسبها من قبل فضولًا لا يعنيه، فلو أراد أن يتنحى عنها لما استطاع ولو أراد كلا العالمين أن يعتزل صاحبه لأعياه سبيل الاعتزال.

وقد يكون دليل النكسات أدل على وجهة التاريخ هذه من دليل الخطوات المطردة في طريق التضامن والوحدة، فإننا لا نزعم أننا نعلم كيف كانت هذه النكسات جزءًا من عوامل السعي إلى الوجهة المتتابعة، ولكننا نكتفي بأن ننظر إلى كل نكسة من هذه النكسات على حدة ثم ننظر إلى حالة العالم الإنساني قبلها وبعدها، فنرى على التحقيق أن العالم الإنساني كان بعد كل نكسة منها أقرب صلة، وأدنى إلى التضامن مما كان قبلها بسنوات.

كانت حروب الشرق والغرب على عهد الدولتين الفارسية والرومانية أبعد شيء أن تكون تمهيدًا للتقارب بين أنحاء العالم وأبنائه، وكذلك كانت غارات التتار وغارات الصليبيين وغارات المستعمرين كانت نكبات ونكسات، وحاربها من ابتلي بشرورها كما تحارب النكبات والنكسات، ولكننا ننظر إلى العالم بعد كل نكسة، أو نكبة منها، فنرى أنه تقارب ولم يتباعد، وأنه تهيأ بعدها لنكسة جديدة أكبر منها ليخرج منها كذلك أقرب صلة وأدنى إلى وجهة الوحدة العامة والتضامن الوثيق.

وكانت الصين في عزلتها العريقة، فلما سطا عليها الاستعمار خرجت من عزلتها واجتمعت كلمتها بعد فرقتها، وكان من عجيب شأنها أنها أخرجت أمة أخرى من عزلتها المختارة — وهي أمة الولايات المتحدة — لتقضي في مسألة الشرق الأقصى بسياسة الباب المفتوح لجميع دول العالم، بدلًا من استبداد كل دولة بحصة من الحصص تستأثر بها، وتذود الآخرين عنها.

وكانت الهند أمما لا يجمعها اسم ولا تربط بينها عصبة، فلما ابتليت بالاستعمار أصبحت أمة واحدة؛ لأنها وجدت نفسها أمام عدو واحد، وخرجت من غاشية الاستعمار دولتان عالميتان لهما في سياسة الشرق والغرب وزن لا يسقط حسابه من ميزان.

وقد كان عدد الأمم التي استقلت وأخذت مكانها في السياسة العالمية أكثر عددًا وأكبر شأنًا بعد كل من الحربين العالميتين مما كان قبلها، وكانت مهمة الهيئات الدولية المشتركة بعد الحرب الثانية أهم وأعم من جميع الهيئات التي سبقتها.

(ب) الإنسان الفرد

ووجهة التاريخ بالنسبة إلى الإنسان الفرد أوضح — فيما نرى — من وجهة النوع كله، كما تبينت من الانتقال المتتابع من تضامن القبيلة المنعزلة إلى تضامن العالم الذي تمتنع فيه العزلة على من يريدها.

فلا شك أن التاريخ يتنقل بالإنسان الفرد من حالة مبهمة مهملة إلى حالة الشخصية المستقلة بحقوقها وتبعاتها، المتميزة بكيانها وحرمتها.

فمن فرد لا تتميز حياته من حياة أبناء القبيلة إلى «شخصية» محدودة المعالم تحاسب بعملها ولا تؤخذ بجريرة غيرها.

وكان الفرد من أفراد القبيلة يقتل بذنب كل فرد من أفرادها، وبقيت هذه الحياة الضائعة في حياة المجموع إلى ما بعد عصر القبيلة البدائية بأجيال طوال أدركت عهد الشرائع المكتوبة في دول الحضارة والسنن الاجتماعية، فكانت شريعة حمورابي تقضي على الأب الذي قتل بنت رجل آخر أن يسلم بنته إلى ذلك الرجل ليقتلها قصاصًا لبنته، وتحسبها — من ثم — شيئًا مضافًا إلى أسرتها أو إلى أبيها لا تستقل بحياة خاصة لها أو بحقوق واجبة لحياتها، وجاءت شرائع الرومان بعد ذلك على هذه الوتيرة في حقوق الأتباع والفروع، ثم تقدمت مع تقدم الزمن حتى أصبح كل فرع من فروع الأسرة أصلًا قائمًا على جذوره مستقلًا بكيانه، أهلًا للحق وأهلًا للتبعة في عمله.

وليس للتفاضل بين الإنسان والإنسان مقياس واحد أصدق من المقياس الذي نستمده من وجهة التاريخ بالنسبة للإنسان الفرد كما كان وكما يكون مع تعاقب الأطوار وتتابع الأجيال، وأوجز ما يقال في المقياس الذي نستمده من وجهة التاريخ أنه المقياس الذي ينبئ عن تكامل الشخصية الإنسانية في حقوقها وتبعاتها.

فالعالم يعطينا مقياسه الذي نفضل به العالم على الجاهل، والأخلاق تعطينا مقياسها الذي نفضل به خلق الصلاح والنفع على خلق السوء والضرر، والاجتماع يعطينا مقياسه الذي نفضل به الوجاهة والشرف على الضعة والخمول، والمال يعطينا مقياسه الذي نفضل به المليء المكتفي بنفسه على العاجز المفتقر إلى غيره، والعبقرية تعطينا مقياسها الذي نفضل به الفطنة المبدعة على الذهن العقيم، والخاطر الكليل.

وهذه كلها مقاييس صادقة للتفاضل بين الناس في مواضعها وموضوعاتها.

ولكنها كلها لا تبلغ في الدقة، وفي الصحة، ما يبلغه المقياس المستمد من وجهة التاريخ، وهو مقياس «الشخصية» المسئولة الكاملة: الشخصية التي تسأل عن أعمالها، وتحاسب بتبعاتها.

ليس العالم بأفضل من الجاهل في كل حالة، ولكنه أفضل منه في حالة واحدة، هي الحالة التي يكون فيها العالم أقدر منه على النهوض بالتبعة والاستقلال «بالشخصية» في حقوقها وفي واجباتها.

وليس العباقرة والسراة بأفضل من الأغبياء والوضعاء في كل حالة، ولكنهم أفضل منهم في تلك الحالة بعينها، وهي القدرة على النهوض بالتبعة.

ولنا أن نقول ما نشاء في فضل الكبير على الصغير، والسيد على العبد، والرئيس على المرءوس، والرجل الرشيد على الطفل اللاعب، والعلم المشهور على النكرة المجهول.

لنا أن نقول ما نشاء عن فضل إنسان على إنسان كيفما كان هذا الإنسان أو ذلك الإنسان، ولكننا نخطئ في التفضيل ما لم يكن مرجع الفضل إلى تلك المزية التي نستمدها من وجهة التاريخ، وهي مزية الشخصية الكاملة المسئولة عن تبعاتها، فإنها هي المزية التي لا يدل عليها فضل العلم ولا فضل الأخلاق، ولا فضل العبقرية، ولا فضل الوجاهة، ولا فضل السن، ولا فضل الخبرة، فإنها جميعًا أفضال تنفصل عن مزية النهوض بالتبعة فلا تغني شيئًا، ولا تتم لها قيمة، فإذا سكت عن كل فضل وكل صفة وقلت عن إنسان: إنه أصلح للنهوض بالتبعة فقد غنيت عن البيان وجمعت الفضائل بأنواعها ودرجاتها في فرد عنوان.

وتلك هي المزية الأولى التي تبرز لنا من متابعة النظر إلى وجهة التاريخ: إنها انتقال من حالة الكم المهمل والرقم المتكرر إلى حالة «الشخصية» المتميزة بالحق والتبعة، ولعلها المزية التي تعيننا في كل مفاضلة بين مجموعة من الناس، وغيرها من المجاميع الإنسانية، وليس مبلغها من الصدق أن تعيننا في أسباب المفاضلة بين إنسان وإنسان، فمن قال عن أمة من الأمم إنها أوفر نصيبًا من «الشخصيات» الحرة التي تناط بها التبعات فلا حاجة به إلى الإسهاب في تسمية الفضائل والصفات.

•••

ولم تخل هذه الوجهة من نكساتها في العصور المتطاولة بين ثورات الحرية وثورات الطغيان، وبين دعوات التقدم ودعوات الرجعة والجمود على القديم، وبين قلاقل الاضطراب في انتظار الاستقرار، ويحسبون من هذه النكسات تلك المذاهب المتأخرة التي تغض من قداسه الحرية الفردية، ولا تبالي أن تغرقها في غمار الجماعة؛ لاعتبار أصحاب تلك المذاهب أن الحرية الفردية ومصلحة الجماعة طرفان متناقضان.

على أن العبرة بالأعمال لا بالأقوال، وبالنتيجة المقصودة لا بألفاظ المصطلحات التي تجري على ألسنة الدعاة. ونتيجة تلك المذاهب — إن صحت مقدماتها — أن تتحرر الشخصية الإنسانية من ذل الضنك والفاقة، وتتخلص من مهانة التسخير وربقة الاستعباد، وأن ينال الملايين من الكرامة تلك المنزلة التي كانت في الأزمنة الغابرة حكرًا للآحاد المعدودين، وليست هذه النتيجة مما يناقض وجهة التاريخ في انتقاله بالفرد من الإهمال إلى الرعاية والحسبان.

(ج) الطوائف والجماعات

والطوائف الصغيرة لا تعد مجرد مجموعات حسابية من الأفراد لأنها ظواهر اجتماعية ترتبط بتركيب بنية الأمة، ولكنها على أغلبها وأعمها لا تبرز بوجهة تاريخية خاصة بمعزل عن حياة الأمة التي تحتويها، إلا أن تكون من تلك الطوائف التي تتنازع الغلبة على المجتمع لولاية الحكم أو تأييد ولاته، كما يحصل فيما سمي حديثًا بحرب الطبقات، ويؤخذ من تجارب العصر الحديث أن هذه الطبقات ذات وجهة تاريخية تؤثر في مجرى الحوادث، وأنها تميل إلى التوازن والتعاون أو إلى التقارب والتضامن كلما ارتقى النظام الاجتماعي في الأمة، وتمضي مجارية ولا تمضي مدابرة للوحدة العالمية.

وربما حدث في الأمم المتخلفة أن تنبري فئة من طلاب الانقلاب لاستئصال كل طبقة في المجتمع غير الطبقة التي تعتمد عليها في تقرير سلطانها، ولكن هذه الطبقة لا تلبث أن تتمخض عن طبقات جديدة تملأ فراغ الطبقات المستأصلة، وتؤكد من جديد أن الشخصية الإنسانية تستوفي كيانها، وأن الأمم لا تستغني عن التعاون بين طوائفها.

•••

من هذا العرض المجمل نرى أن الغرض الذي قدرناه غير بعيد عن الواقع في وجهة التاريخ بالنسبة إلى النوع الإنساني أو إلى الإنسان الفرد أو إلى الجماعة التي تبرز لها مع الزمن وجهة تاريخية، ويسوغ لنا أن نقول: إن كثيرًا من الفروض التي يتقبلها الباحثون العلميون تختلف عند التطبيق العملي اختلافًا أبعد من الاختلاف بين الوجهة المفروضة والوجهة الواقعية في هذه المسألة، وقد يحق لهذا الفرض عن وجهة التاريخ أن يتلقى من قبول العلماء أكثر مما تلقاه ويتلقاه، ولا نخالهم يترددون في قبوله ويسرعون إلى الاعتراض عليه لو لم يكن تحقيق تلك الوجهة مصحوبًا بالكوارث والشرور التي امتلأت بها الدنيا في تاريخها الطويل، ولا تزال تمتلئ بها في تاريخ العصر الحاضر، ولا يؤمل أن تنتهي فيما يتوقع من تاريخ المستقبل القريب.

يقولون: أيجوز أن نقول بالحكمة والقصد في تاريخ العالم مع هذه النقائص والآلام التي يبتلى بها الأحياء من كل نوع ولا سيما نوع الإنسان؟ ألا يجوز لنا أن نتردد ونرتاب قبل الذهاب إلى القول بالحكمة والغاية في عالم يتخبط هذا التخبط بين التقدم والتأخر، وبين الرجاء والخيبة، وبين الثقة والحيرة؟

نقول: بلى، يجوز إذا استنفدنا كل تفسير معقول لهذه المفارقات، وجربنا غير هذا الغرض فوجدناه أقرب إلى الفهم والأمل مما فرضناه وقدرناه.

لم لا نقول: إن عوارض النقص والألم ودواعي الحيرة والخيبة هي بعض النكسات التي رأينا أنها تفعل الخطوات المسددة في هذا الطريق؟

لم لا نقول: إن الوجود الأبدي لا يحكم عليه من نقطة واحدة، أو نقط شتى غير متصلة ولا متلاحقة في العصر الواحد، ولا في مختلف العصور.

لم لا نقول: إن الكون لا ينحصر في مرضاة المخلوق، وأن «الكل» لا يرمى بالنقص لما يقع لا محالة من النقص في الأجزاء.

إن الأمانة العلمية — ولا نقول الأمانة الدينية — تتقاضانا أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة، وأن نفرغ من أجوبتها اليقينية قبل أن نجزم بالقول الفصل في هذه المسألة الكبرى، ولعلها أكبر مسائلنا — نحن بني الإنسان — على الإطلاق؟

وقبل أن نلغي من أذهاننا فكرة الوجهة التاريخية المقصودة من أجل نقائص الكون وشروره، ينبغي أن نتصور الكون الذي يخلو من النقائص والشرور كيف يكون، وينبغي أن نؤمن بأن الصورة الأخرى أقرب إلى الحكمة مما فرضناه وقدرناه.

عالم ليس فيه صغير يكبر، ولا ناقص يتم، ولا جزء يستوفيه جزء آخر، ولا حاضر يأتي بعده مستقبل، ولا مجهود يبذل، ولا فارق بين موجودين يتسلل من جانبه الشعور بالحاجة والسعي إلى تداركها، والحيلة في دفعها وإصلاحها من حين إلى حين، ومن مكان إلى مكان.

عالم كهذا كيف يكون؟ وإذا كان كيف يكون أصلح وأكرم لوجود الإنسان؟

أناس يتساوون جميعًا في السعادة والرضى، ويتساوون جميعًا في السن والميلاد، وفي الصحة والفكر والقوة والأخلاق والجمال.

أناس على هذه المساواة نفرض وجودهم، فنفرض أنهم يوجدون هكذا كما توجد المصنوعات في قوالب الصناعة، وليت هذا الفرض متيسر بغير فرض آخر أصعب منه، وأبعد من الإمكان، وأقرب إلى الاستحالة والامتناع.

ذلك الفرض الآخر هو المساواة بين الأماكن والأوقات، ومن وراء ذلك المساواة بين الأيام والأفلاك والعناصر والأشياء، ومن وراء ذلك عالم لا شيء فيه؛ لأن الشيء لا يوجد في عالم تمتنع فيه الفروق وتتشابه فيه جميع الموجودات.

ما البديل المفضل إذن من هذا العالم الذي نحن فيه؟

ليس ثمة إلا بديل واحد، وهو أن يوجد الناس بطبائع الخير والسعادة، كما توجد المعادن والجمادات بخصائصها وتراكيبها.

والناس يوجدون كذلك — إن أمكن وجودهم — في عالم لا تتكرر فيه المخلوقات، ولا تتعاقب ولا تحس الحاجة إلى شيء، ولا يحدث لها الإحساس إلا كما يحدث الأثر في المادة الصماء.

والناس لا يمكن وجودهم على هذه الصورة في عالم تتميز فيه الأشياء؛ لأن الأشياء لا تتميز في عالم يتشابه فيه الزمن والمكان، وتتساوى أجزاؤه، كما تتساوى أجزاء الفضاء.

هذا هو البديل من العالم كما عهدناه، فمن ارتضى هذا البديل فله أن ينكر الوجهة في التاريخ، وأن يفهم المصادفة كما يشاء، ويفهم الحكمة والتدبير كما يشاء، ولكنه لا يستطيع أن يزعم أن هواه قضية مسلمة، واختيار متفق عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤