خواص المادة والنظرة «المادية»
النظرة المادية نقيض النظرة المجردة إلى الأشياء في اصطلاح الأقدمين والمعاصرين، سواء كانوا من الفكريين المثاليين أو من الحسيين الواقعيين.
وأساس هذه التفرقة قديم عند الأمم التي اشتغلت بالفلسفة والعلم، مع اختلافها في المزاج والعقيدة ووجهة النظر.
فعند الفيلسوف الهندي القديم: إن المادة وهم باطل، وإننا مطالبون بأن نلغي وجودها ونفرض عدمها إذا أردنا أن ننفذ إلى الحقيقة المجردة التي لا تتلبس بالأوهام والأباطيل.
وعند الفيلسوف اليوناني: إن المادة كثيفة غليظة، وإن الفكر في لبابه صاف خالص من شوائب التجسيم والتجسيد، ولا شك أن الفكرة الجغرافية كان لها عمل كبير في هذه التفرقة من أساسها الأول، لأنها فرفت بين الكائنات الأرضية والكائنات السماوية، أو فرقت بين هذه المحسوسات الكثيفة الترابية، وبين الكائنات العليا التي لا يحس منها غير النور الذي ينبعث منها، وهو بسيط صاف لا تركيب فيه، ولا يعتريه إلا ريثما يختلط بالأجسام، ثم ينفصل عنها فيعود إلى الطهارة والنقاء.
فكل ما تحت القمر فهو مادي غليظ عرضة للفساد والانحلال، ويأتيه الفساد والانحلال من جانب التركيب الذي لا يدوم على حالة واحدة، ومن فقدانه الدوام يتطرق إليه العطب والفناء.
ولا نذكر هنا فلسفة المصريين الأقدمين فيما يرجع إلى النظرة المجردة والنظرة المادية، فإنهم لم يفصلوا بين النظرتين ولم ينظروا إلى الوجود كله إلا على اعتباره وجودًا واحدًا تمتزج فيه الروح والجسد، ولا يلزم من اختلافهما أن ينفصلا عنصرين متناقضين، فلا تنفرد الروح بالبقاء، ولا يمتنع على الجسد أن يبقى ملازمًا لها أو منفصلًا عنها إلى حين.
•••
ثم انقضى عصر الفلسفات القديمة واتخذت التفرقة بين النظرة المادية والنظرة المجردة مناهج شتى في العصور الوسطى بين الفلاسفة المستقلين والفلاسفة المفسرين لأصحاب الآراء الخالية، فانقسم هؤلاء جميعًا إلى قسمين متناقضين: قسم الواقعيين، وقسم الاسميين، وأطلق «الواقعيون» على الذين يحصرون الوجود في الأفراد المحسوسة، وأطلق «الاسميون» على الذين يقولون بوجود النوع مستقلًا عن الفرد بكيان غير محسوس.
فالواقعيون يقولون بوجود هذه الشجرة وتلك الشجرة وكل شجرة يرونها، أو يلمسونها ويحسونها على نحو من الإحساس الجسداني، ولكنهم يرون أن «الشجر» كلمة تقال لتدل على جنس الأشجار في جملتها، واسم لا وجود له في الخارج غير وجود مسمياته المتفرقة.
وعلى نقيض هؤلاء «الاسميون» الذين يقولون بأن «النوع» هو الموجود الحقيقي، وإن الأفراد المحسوسة إنما هي محاكاة ظاهرية تحاول أن تمثل ذلك الوجود العام على صورة من صور الوجود الخاصة التي تدركها الحواس.
وجاء بعد الواقعيين والاسميين أناس مثلهم في هذه التفرقة بين النظرة المادية والنظرة المجردة، ولكن على أسلوب آخر: هؤلاء هم الحسيون العقليون يقابلهم المثاليون المنطقيون، فلا وجود عند الحسيين العقليين لتلك الأمثلة العليا والحقائق الغيبية التي يؤمن بها المثاليون المنطقيون، ويستدلون عليها ببراهين المنطق وأدلة القياس، وإنما الوجود الحق للمادة التي يحدها المكان والزمان، ويثبتها العيان، وما يؤيده من حواس الإنسان.
ثم جاءت المادية الحديثة قبيل القرن العشرين فأنكرت جميع المجردات، ولم تثبت شيئًا غير الأجسام كيفما كانت في تراكيبها التي تدركها الحواس أو تكشفها أدوات الرصد والتحليل.
وسمي العصر الحديث — بين أسمائه الكثيرة — باسم العصر المادي أو عصر الماديات على إطلاقها، وجعلوا الماديات على كل شيء يطلبه الجسد، ويستمتع به الحس، ولا يتجرد عن «الجسدية» على حال من الأحوال.
ولقد حسب الكثيرون أن هذه «المادية» خليقة أن تقضي على نظرة التجريد قضاءها المبرم الذي لا رجعة لها بعده، وأن الذي بقي من نظرات التجريد — بعد فلسفة الواقعيين وفلسفة العقليين — وشيك أن يذهب ذهابه الأخير في إبان عصر المادة الحديث، فكلما استغرق الباحث في النظرة المادية فهو مبتعد بحكم الضرورة عن نظرات التجريد، ابتعاد النقيض من النقيض.
وغير هذا هو الذي حدث ويحدث مع توالي الكشوف عن أسرار المادة وعناصر الأجسام ومآل هذه العناصر في النهاية ونشأتها قبل أن تتعدد وتبلغ العشرات.
فلم يعرف الناس نظرة التجريد كما عرفوها في هذا «الزمن» الغارق في ماديته كما يقال.
كان الفيلسوف المادي — والعالم المادي معًا — في منتصف القرن التاسع عشر يعلن الإيمان بالمادة دون غيرها لأنه يحسب أن وجودها هو الوجود الثابت بغير برهان، وأنها تملأ عيانه، وتصدم يديه وقدميه، ولا تحوجه إلى فهم حقيقتها وراء النظر واللمس، ووراء صدمة الواقع المقرر بغير جدال، ولا إمعان في الخيال.
ولكن ما هي تلك «المجردات» التي يتحدث عنها غير الماديين؟
وهم لا نراه، خيال لا نعقله، فروض لا تبرأ من النقائض، وضروب المحال.
ثم وصف علماء المادة وفلاسفتها هذه المادة التي لا تجريد فيها، فإذا هم يعيدون فيها ما قاله، الروحانيون عن المجردات، فما يقوله الماديون عن سر المادة إنما هو وهم لا يرى وخيال لا يعقل، ونقائض من الفروض في التفسير الواحد، ودع عنك غيره من التفسيرات.
•••
كانت مادة الأقدمين معدنا للكثافة والغلظة، وضدا لمعنى الصفاء والتجريد؛ لأنها من معدن يناقض النور السماوي في بساطته ولطفه ونزاهة مكانه، فأصبح قوامها كله من النور المحض يتساوى أكثفها وألطفها، كما يتساوى أثقلها وأخفها في استمداد هذا القوام من ينبوعه الأصيل، وكلما ثقل وزنها كان هذا الثقل عنوانًا لوفرة نصيبها من النورانية أو من الشعاع المنطلق بلا جثمان.
وكانت مادة المحدثين حقيقة واقعة مأخوذة في اليدين، يعدون من غريب القول إن يسأل السائل هل هي مفهومة أو غير مفهومة؛ لأنها أظهر وأثبت من أن يصل الأمر فيها إلى الفهم بالذهن المجرد وهي قائمة أمامنا بألوانها وأحجامها وأجرامها الصلدة التي تصدم الأكف والأقدام، فأصبحت هذه الحقيقة الواقعة المأخوذة باليدين شيئًا يدق عن إدراك العقول ويبلغ من الدقة غاية ما يبلغ الروح المجرد في خفائه وصفائه، فكل هذه الأجسام الكثيفة إنما هي ذرات صغار لا تدركها العيون، ولا يدركها العقل إلا بالحساب والتقدير، وكل ما انطوت عليه هذه الذرات، إنما هي هزات أو جزئيات لا ندري على التحقيق أيهما تكون، وقد يفسرون الظاهرة الواحدة بالهزات من ناحية والجزئيات من ناحية أخرى، ويتممون هذه بتلك على نحو يستغربونه من شراح «الروحانيات» والمجردات، وما إليها من خلائق البديهة والخيال.
وما قصارى الهزات والجزئيات بعد هذا التردد بين التفسيرين؟ قصاراها أنها حركات في ظن من الظنون يسمى بالأثير، لا يعرف بلون ولا طعم ولا مس ولا عدد ولا طول ولا عمق مقيس بغير الحساب والتقدير.
وآل أمر الامتداد كذلك إلى الحساب والتقدير؛ لأنه جاوز الحس والتصوير ولحق في النهاية بالغيبيات وما شاكلها من فروض البديهة والخيال، ففي الثانية الواحدة يعبر شعاع النور قريبًا من ثلثمائة ألف من الكيلومترات، وكم يعبر إذا انقسمت خفقة الثانية الواحدة إلى ألف خفقة؟ وماذا يكون جزء من ألف جزء من الثانية في حساب الزمن المعهود.
وتضاءل شأن «الامتداد» الذي سميت باسمه المادة فأصبح إدراكه وإدراك المعاني الذهنية على حد سواء، لا نهاية للصغر بعد أن كان المظنون أن اللانهاية صفة من صفات السعة الشاسعة من الآفاق والآباد.
وإذا تركنا اللانهاية في الصغر أو في الكبر، ووقفنا عند المحدودات في عالم الأجسام والمعاني، فالعجب هنا أعجب من كل أعجوبة روحانية عزت على قرائح المتعمقين في التفكير والتخمين.
•••
زعم فيثاغوراس قبل خمسة وعشرين قرنًا أن الوجود كله قوامه من عدد ونغم، أو أن الوجود كله بعدده ونغمه يقوم على النسب الموسيقية.
ولم يذكر فيثاغوراس شيئًا عن الموجودات المعدودة، فهو يذكر العدد، ولا يعنيه أمر المعدودات كأنه يقدم العدد في الاعتبار، ويجعل النسبة الموسيقية بين الأعداد أصلًا تتبعه الفروع.
وسمع بهذا الرأي الفلسفي كاتب يعرف الكيمياء معرفة الصيدلي الماهر، ويشتغل بالدراسات العلمية الحديثة، ولا سيما مذهب النسبية في شعبتها الخاصة وشعبتها العامة، فما كاد الكاتب الصيدلي يصغي إلى ذلك الرأي الفسلفي حتى صاح محنقًا: ما هذا اللغو السخيف؟ الوجود كله عدد؟ الوجود كله نسب موسيقية؟ أما آن للعقل البشري أن يتحرر من هذا الهراء العقيم الذي أكل عليه الزمان وشرب وضاعت فيه الدهور عبثًا بين الجدل والسفسطة؟
ولم يقنع الكاتب الكيمي بما قال في ثورة العضب، بل كتب مقالًا بهذا المعنى لم يعدل فيه عن وصف الفيلسوف الكبير بالسخف والجهالة.
ولقيت صاحبنا فقلت له: إن آخر من يحق له أن يرمي الفلسفة العددية بالسخف لهو الباحث الذي يعرف الكيمياء معرفتك، ماذا تقول الكيمياء عن أصل المادة بحذافيرها وأصل المعدودات على «تعدد» حسابها.
قال: إنها من عناصرها المعروفة.
قلت: وماذا نعرف من عناصرها؟
فمضى يسرد التعريفات المعلومة لتركيب النواة وكهاربها بين موجبة وسالبة ومحادية، إلى آخر ما يقال عنها في بسائط الكيمياء.
قلت: علام يقوم الاختلاف بين عنصر وعنصر منها؟
قال: إنه بالطبع قائم على عدد النويات والكهارب.
قلت: والنويات والكهارب من أين جاءت؟ أليست هي جميعًا من شعاع وتئول إلى شعاع بعد الانحلال؟ فما هو الشعاع؟ أليس هو هزات في الأثير؟ وما الفرق بين هزات الأثير إن لم يكن فرقًا بين عدد ونسبة؟ وهل في الأثير شيء معدود غير هذا العدد المفروض؟
إن عناصر المادة إذن تختلف باختلاف ما فيها من أعداد الهزات في الأثير، ونرجع إلى الأثير فلا نجد هنالك جسمًا ولا كائنًا شبيهًا بالأجسام التي تقاس بالوزن أو بالحجم أو بالأطوال والأبعاد، وكل ما نعرفه إذن أعداد مفروضة لا نعرف معها معدودات موجودة، فماذا قال فيثاغوراس غير هذا مما يحق لنا اليوم أن نصفه بالسخف والهراء؟ عدد، ونسب مقررة بين الأعداد، يتبع بعضها بعضها، ولا يعسر على الخبير بها أن يتبين الموضع الخالي في السلسلة المتلاحقة على حسب أعدادها وضوابط النسبة بينها.
كل ما نعرفه عن تركيب المادة أنها أعداد مفروضة ومعدودات مجهولة، ومن قال بهذا الرأي قبل العلم الحديث بخمسة وعشرين قرنًا لا يستحق منا الوصف بالسخف والهراء، بل هو حقيق منا بكل إعجاب وإكبار، وجدير بنا أن نتعلم منه كيف نفكر ونفتح أبوبا التفكير أمام عقولنا، فإن لم نتعلم منه ذلك فلنتعلم على الأقل كيف نتردد في إغلاق أبواب الفكر، وفي حجب العيون بالأيدي حتى لا ترى ما لعلها قادرة على رؤيته، لولا هذا الحجاب.
على أن العلم الرياضي قد اضطر العلماء الماديين وغير الماديين أن يسلموا بقول يشبه رأي فيثاغوراس في العدد بلا معدود، فلم يقل أحد منهم عن إقليدس: إنه مخرف سخيف لأنه يقول عن النقطة الهندسية أنها شيء بغير طول ولا عرض، ولا عمق أو ارتفاع، ثم يقول مع ذلك: إن الخط المستقيم مجموعة من هذه النقط بغير عدد معروف يميز بين الطويل منه والقصير.
اضطر الماديون وغير الماديين اضطرارًا إلى تسليم هذا الفر المجرد، وبنوا عليه علوم الهندسة العملية والنظرية، فهي قائمة على غير أساس، إن لم تقم على هذا الأساس.
وزبدة هذه الفروض في العلم الطبيعي أو الفلسفة أو الرياضة أن الحواس لا تعطينا وصفًا للمادة — أو للامتداد نفسه — يغنينا عن النظرة المجردة التي يدركها العقل، ولا تدرك بالأبصار والأسماع، بل ربما عجز العقل عن إدراكها، ولم يستطع أن يذهب فيها مذهبًا وراء التسليم.
ومن أقرب النتائج إلى موقف العلم الحديث عن هذه الفروض المسلمة أن نلغي كل ما وقر في أخلادنا عن النظر المجرد إلى حقائق الوجود، فليست الكثافة هي الحقيقة كلها، وليس الخفاء هو العدم كله، وليس في المحسوسات على إطلاقها شيء واحد لا ينتهي بنا إلى خفاء.
وإذا عاب الماديون على الفكريين أنهم يتوارثون أوهام الأقدمين في المسائل الروحية، ولا يتخلصون منها على ضوء العلم الحديث، فمن واجبهم أن يذكروا نصيبهم من هذه الوراثة، ومن هذا العجز عن الخلاص من بقايا القرون الخالية، فما يزال في أذهانهم أثر — بل آثار — من صورة الأرض التي تقابل السماء وتناقضها في الجوهر والبناء، فلا ثبوت عندهم إلا لهذا القرار الذي يصدم القدمين، ولا معنى عندهم لما بعد الطبيعة، ولا يجوز عندهم أن تكون الطبيعة نفسها حقيقة وراء الحواس ووراء العقول.