الإيمان
لم يكن العلماء المفكرون في القرن السابع عشر أفضل تفكيرًا من خصومهم الجامدين من رجال الدين في زمانهم أو من عامة الجهلاء المقلدين.
كان الخصمان المتنافران يصلان إلى النتيجة الواحدة من المقدمة الواحدة.
إثبات دوران الأرض حول الشمس ينفي وجود الله، ويبطل الإيمان به عند هؤلاء وعند هؤلاء، فهم من الجانبين المتقابلين يفكرون على نسق واحد، ويرجعون إلى قضية واحدة في فهم الكفر والإيمان.
ولم يخطئ العلماء المفكرون هذا الخطأ؛ لأنهم أساءوا فهم العلم، وعجزوا عن التفكير القويم، وإنما ساقهم إلى الخطأ أنهم خلطوا بين الإيمان وبين رجال الدين، وخيل إليهم أن رجال الدين هم أصحاب قضية الإيمان وهم المختصون بفهمها وتفسيرها، والهداية إلى أسرارها، فإذا بطلت دعواهم بطلت دعوى الإيمان من أساسها، ولم يبق لأحد حق بعد حقهم في تجديدها واستئنافها.
ولو تمادى العلماء المفكرون كلهم في هذا الخطأ حتى اليوم لصح القول بقضاء العلم على الدين منذ ثلاثة قرون، وتقرر في الأذهان أن العالم يبتعد من الدين كلما ازداد نصيبا من معارف العلم الحديث.
ولكننا اليوم بعد ثلاثة قرون لا نستطيع أن نقول: إن العالم أبعد من الدين مما كان عند ظهور طوالع العلم الحديث، ونستطيع أن نقول على التحقيق: إن نصيبه من العلم الحديث أوفر وأوفى من نصيب العالم في القرن السابع عشر، بل من نصيبه عند بداءة القرن العشرين.
ما الذي تغير من تفكير علماء الأمس وعلماء اليوم؟
تغير وضع القضية.
تغير أصحاب الدعوى، فأصبح لها طرف واحد، يتلقى المدعون فيه والخصوم.
قضية الإيمان اليوم هي قضية الوجود، وليست قضية الجامدين أو المتحررين من رجال الدين، وإذا صار الأمر إلى قضية الوجود، فالإثبات والنفي فيها مطلوبان من كل موجود يعقل ويبحث عن حقيقة وجوده، أيا كان رأي الجامدين أو المتحررين من رجال الدين في جميع الأديان.
تغير وضع القضية فتغير فيها موقف الهجوم وموقف الدفاع، من هجم فيها فإنما يهجم على عقله ووجدانه، ومن دافع فيها فإنما يدافع عن عقله ووجدانه، ومن ظن أن طائفة من الناس أحق بالهجوم والدفاع فقد نزل عن حقه في وجوده وحياته، وعن حقه في استطلاع أسرار الوجود والحياة فيما حوله، وهو أكبر ما للحي العاقل من حقوق.
- أولًا: كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية، ومن الأجرام السماوية على العموم.
- ثانيًا: ظهور القوانين الطبيعية التي سميت بالقوانين المادية أو الأولية.
- ثالثًا: مذهب النشوء والارتقاء.
- رابعًا: علم المقارنة بين الأديان والعبادات.
- خامسًا: مشكلة الشر، وهي ليست من مشكلات القرن العشرين خاصة، ولكنها تخصص بالقرن العشرين لما تفاقم فيه من الحروب.»
كان التقليد الشائع عند المفكرين المنكرين من طراز القرن السابع عشر أن يحيلوا على الدين كل خطأ من أخطاء رجال الدين الجامدين الذين يرفضون كشوف العلم وآراء العلماء في هذه البحوث والنظريات.
وكان لهم وجه من الشبهة في ذلك التقليد الذي نظلم العلم بنسبته إليه، ولكن ما هي الشبهة عندهم على الإيمان بالله إذا تحولت القضية من قضية خاصة برجال الدين الجامدين إلى قضية عامة للوجود، ولكل ما هو موجود.
ما الذي يمنع أن يكون دوران الأرض حول الشمس أدل على الحكمة الإلهية؛ لأنها في موضعها من المنظومة الشمسية قد أصبحت أصلح للحياة من جميع السيارات.
وما الذي يمنع أن تكون النواميس في الطبيعة أدل على الحكمة الإلهية من الفوضى والاختلال؟
وما الذي يمنع أن يكون التطور آية من آيات الهداية الإلهية التي ترتقي بالمخلوقات، وتبث فيها عوامل التنوع والارتقاء.
وما الذي يمنع أن يكون التدين اجتهادًا يبلغ فيه الإنسان ما هو قادر على إدراكه طبقة بعد طبقة وجيلًا بعد جيل.
وما الذي يمنع أن يكون «الشر» أدل على فضل الحياة والحرية من خلق الناس كما تصنع القوالب وتخرط الحدائد والأخشاب.
إن تلك الكشوف العلمية لا تطوي صفحة الدين إلا إذا أسيء وضع القضية، وفهم الدين على أنه بضاعة فئة من الناس يروجونها، ولا يحفل أحد غيرهم برواجها أو كسادها، بل عليهم أن يحترسوا منها كما يحترس المشتري من تاجر ماكر يبيعه ما لا يحتاج إليه.
إلا أنها إذا وضعت في موضعها، وفهمت على أنها قضية الوجود والحياة، فكل ما كشفه العلم وما سيكشفه خليق أن ينشر منها كل يوم صفحة جديدة، ويفتح منها كل مرة بابًا لم يكن قبل ذلك بمفتوح للباحثين، وقد فهمت تلك الكشوف على هذه الصفة حديثًا فلم ينكر الفكر مكان الكرة الأرضية في وسط المنظومة الشمسية، بل رأى فيها آية من آيات الحكمة الإلهية أقرب إلى التصديق من زعم الزاعمين أنها مستقرة في مركز الكون، وأن القائلين بانحرافها عن ذلك المركز يبطلون القول بحكمة النظام في الأرض والسماء، وحكمة خلق الإنسان في موضعه من ذلك النظام.
لو كانت الأرض ترتج من فزع أبنائها لارتجت فعلًا من فزع المتدينين الجامدين يوم سمعوا أنها كرة، وأنها تدور ولا تستقر في مكانها من مركز الوجود، ولكن الكرة الأرضية خرجت من ذلك المركز المزعوم ودارت في مدارها بين السيارات، فتمت لها في هذا المدار شرائط الحياة، واستعدت بذلك لظهور الأحياء عليها، وإظهار البرهان القوي على الحكمة والقصد، من حيث لا يظهر للعقل من إثباتها في مركزها القديم.
لِمَ توسطت بمدارها بين أقصى البعد من الشمس وأدنى القرب منها، وبين أقصى البرد وأقصى الحرارة؟
ولِمَ توسطت في حجمها بين الضخامة التي تشل حركة الأجسام بوطأة الجاذبية الثقيلة وبين الخفة التي تطلق الموجودات عنها إلى الفضاء ولا تمسك حولها بالجو الصالح للحياة؟
ولِمَ اختلف عليها النور والظلام فتيسرت فيها تراكيب الكيمياء التي لا تتيسر مع أطباق النور أو أطباق الظلام؟
ليكن تعليل هذه الأحوال على الوجه الذي ترتضيه عقول الباحثين فيها من جوانب النظر المتباينة، فإنما نحن على كل وجه من وجوه التعليل أمام صفحة مفتوحة للبحث في أسرار الخلق لم يطوها القول بخروج الأرض من مركز الكون المزعوم إلى مدارها المتنقل بين السيارات، وهكذا تبقى القضية التي خيل إلى المنكرين في القرن السادس عشر أنها قضية سقطت فيها الدعوى وبطل فيها الخلاف، وهكذا مضت عدة قرون ولم يبتعد العقل في القرن العشرين من الإيمان بمقدار نصيبه من المعارف والكشوف، بل هو أحرى أن يبتعد من الإنكار كلما اطلع على كشف جديد من كشوف العلم الحديث، وأحرى بالعصر الحاضر أن يسمى عصر الشك في الإنكار، إذا قيل عن العصور القريبة الماضية إنها عصور الشك في الإيمان.
•••
ولا ندري ماذا تصنع ثلثمائة سنة أخرى بمسألة الإيمان والإنكار في نظر العقل والبديهة بعد هذه الخطوات التي خطاها الفكر الإنسان منذ القرن السابع عشر إلى هذا القرن العشرين، ولكن المشاهد أن أفكار المعاصرين قد استفادت كثيرًا من تحويل المسألة من مسألة جدل وملاحاة بين العلماء وأدعياء الدين المحترفين إلى مسألة إنسانية، يضيرنا أن نهملها، ولا ينفعنا أن نكتفي فيها بالتفتيش عن سخافة الجامدين والجهلاء.
ومما استفاده الفكر الإنساني في القرن العشرين أنه فصل في مسألة أخرى لا تقل عن هذه المسألة في قيودها الوبيلة، وفي نتائج الخلاص من إسار تلك القيود، وتلك هي مسألة القطيعة بين العلم والفلسفة، وحسبان النظر فيما وراء المادة فضولًا يوشك أن يخل بكرامة العلماء ويخرج بهم من نطاق العلوم.
فالنظرة المجردة اليوم نظرة اضطرارية لا اختيار فيها للعالم الذي كان يظن أنه في حل من تركها، بل يظن أنه مطالب بالابتعاد عنها، فليس للعقل العلمي اليوم محيص من النظر المجرد إلى أصول الموجودات وهو قائم في صميم هذه الموجودات المادية، وليس «ما وراء المادة» في القرن العشرين عالمًا سحيقًا يوغل فيه بالظن والخيال، بل هو عالمه الذي يشاهده بالعين وينتهي إليه بالتجربة ويفكر فيه، ويتخيله على اضطرار بعد انتهائه بالحس إلى غاية مداه، وقد كان الفرض الرياضي عند علماء التجربة العملية حيلة موقوتة يسمح بها مغضيا عنها في انتظار الوصول إلى الحل المأمول، وكانت النقطة الهندسية — مثلًا — لغزًا علميًّا من ألغاز الرياضة التي تشبه الألعاب التي يقبلها من يقبلها ريثما يصل إلى الجد المفيد في التطبيقات العملية: قل أيها الرياضي الحريص على تعريفاته العزيزة كيفما شئت إن النقطة شيء ليس بشيء، وبُعد تمتد منه جميع الأبعاد، ولا طول له ولا عمق ولا ارتفاع، فما دمنا نبني ونهندس، ونحسب في عالم الأبعاد والمسافات فلا بأس علينا من فروضك وألغازك في فراغ الأوهام.
غير أن الرياضي المولع بتعريفاته الأولية يعود اليوم فيسأل علماء التجربة والعمل أن ينتهوا بتجاربهم إلى شيء في الفضاء يختلف في إدراك العقول والحواس عن النقطة الهندسية فلا يحيرون جوابًا، ولا يحسبون أنهم أفلتوا قيد شعرة من المادة إلى فراغ الأوهام، كل ما نلمسه ونحسه ونراه ونعقله إن هو إلا حركة في الأثير، وكل ما نعرفه من الأثير أنه فضاء لا ندري ما الذي يتحرك فيه، وما معنى الحركة فيه من هنا أو هناك.
ويضطر الطبيب وعالم الحياة — كما يضطر الرياضي وعالم الطبيعة — إلى هذه النظرة المجردة حين يشرح مخ الإنسان وينتظر نتيجة التشريح فيرى أن جسم «المخ» لا يحتوي الفكر احتواء الآنية المحسوسة كما خطر للكثيرين من الماديين الذين قرنوا بين مادة المخ ومادة التفكير، فقد يزال جزء من المخ كثير أو قليل ويبقى للعقل كل ما كان فيه من علوم ومعارف وذكريات وأخيلة وكلمات ومعان ولغات، وقد يعاب تكوين المخ وصاحبه من فلتات العبقرية والنبوغ، وقد يصغر المخ حجمًا ووزنًا، وقدرته على التفكير أكبر من قدرة المخ الذي يزيد عليه في حجمه ووزنه، وقد كان الفيلسوف ديكارت يرجح على سبيل الظن أن الغدة الصنوبرية في الدماغ هي نقطة الوصل بين الجسد والفكر وملتقى العالمين المتقابلين: عالم المادة، وعالم الروح، وكان الفيلسوف يعتقد أنه بلغ غاية التسامح الذي يستطيعه من يفرق بين العالمين ويضطر إلى صلة يعقدها بينهما مع هذا التفريق، فاليوم لو عاد لرأي المغرقين في التجسيم يسبقونه إلى التسليم باختلاف مادة التفكير من مادة الدماغ كله، بما فيه من غدة صنوبرية ومن أغشية وتلافيف.
ولم تتمحض — بعدُ — بحوث العلم في إشعاع الدماغ وعلاقة هذا الإشعاع بالتفكير والانفعال، ولم تجر المقارنة الوافية بين الإشعاع المنبعث من دماغ الإنسان والإشعاع المنبعث من دماغ الحيوان في أحوال الشعور والانفعال، ولم يظهر للعلماء الباحثين في هذه الظواهر محور الفارق بين إشعاع المخ الإنساني في حالة التفكير والتأمل وإشعاع المخ الحيواني في حالة الاضطراب الجسداني الذي لا تفكير فيه، ولم تكمل، بعد، محاولات التجربة العكسية في هذه الظواهر الفكرية أو الشعورية، فلم يعرف أحد من الباحثين كيف يستطيع أن يحدث بالإشعاع الذي يرسله إلى الدماغ أثرًا كالذي ينشأ في داخل الدماغ أثناء اشتغاله بالتأمل أو بالروية أو بالأعمال الفنية والعلمية، وكل أولئك من التجارب اللازمة في هذه الدراسة الطريفة التي لم تسبق لها سابقة من نوعها قبل القرن العشرين. بيد أننا لا نحتاج إلى الانتظار الطويل لنعلم أن العالم المهم في التفكير شيء غير الحجم والمقدار، وأن المخ لا تنقص معلوماته ومحفوظاته بنقصان جزء منه يستأصله الجراح في بضع لحظات، ولسنا نريد أن نسبق السنوات فضلًا عن الأجيال والقرون، ولكننا نستبعد منذ الآن أن يجيء اليوم الذي يستطاع فيه تكييف المخ بالأشعة المرسلة إليه من الخارج ليعرف لغة من اللغات أو قضية من قضايا الفلسفة أو درسًا من دروس الكيمياء والجغرافية والرياضة، أو ليكسب ملكة من ملكات النظم والتصوير والتمثيل وما نحا نحوها من الفنون، وغاية المستطاع — على ما نعتقد — أن ينجح الباحثون في تسجيل إشعاع المخ بالرسوم الكهربية، وإدراك دلالتها على نشاط المخ أو كسله وعلى رجحانه أو نقصه، وربما نجحوا كذلك في تنشيطه وتنبيه قدرته، وحضه على عمله، وتمييز ذلك العلم الذي يحض على أدائه، أما أن تنقل الأشعة إلى المخ فكرة لم يبتدعها ولم يستعد لها بتكوينه وتربيته فليس ذلك بالمستطاع، ولا هو مما تنبئنا عنه أوائل البحث كما بدرت لنا حتى الآن.
وأيًّا ما كان مآل هذه البحوث بعد زمن قريب أو بعيد فليس من الممكن أن نرجع بعمل المخ إلى حركة أكثف من مادة الشعاع في الأثر، وذلك شوط في تنزيه الملتقى بين الجسد والفكر لم يحلم به الفيلسوف الذي قنع بالغدة الصنوبرية ملتقى بينهما في تكوين الدماغ، وجعل التفكير أساس البراهين على صدق وجود الإنسان ووجود الإله.
•••
إن الشوق إلى الإيمان من أقوى أشواق النفس الإنسانية، شوق متصل بحب الحياة وحب المعرفة وحب الجمال وحب الكمال، وحسبنا منه أنه شوق يعيننا على اليأس ويمنحنا الأمل، ويجعل للحياة معنى يتصل بالدوام.
وليس المتشككون أضعف الناس حظًّا من هذا الشوق المتأصل في أعماق النفس البشرية، فإنه كالعاشق القلق المستريب حظه من الحب أعمق من حظ الخلي الذي يسقط الحب من حسابه، فلا يعينه أن يثق، ولا أن يشك، ولا أن يستريح من قلق يساوره وخواء يشعر به ولا يرتضيه.
هؤلاء المتشككون في هذا العصر يحارون بين شك يحيك بضمائرهم وشوق محتبس لا يجد سبيلًا إلى الانطلاق، وفضيلة القرن العشرين في أمر هؤلاء المتشككين أنه فتح أمامهم هذا السبيل وفسح لهم مجال النظر في الغيبيات، وحقائق الوجود من وراء الحواس والعقول: كان العلم يخجلهم من هذه الغيبيات كما يخجلهم من الأوهام التي انقضى زمانها بانقضاء الخرافات، بل بانقضاء الفلسفة التي تخوض في ظنون لا تقع تحت الحس ولا تقبلها العقول، فأصبح العلم أقرب إلى هذه الغيبيات من المخرفين والمتفلسفين، وحقت عليه الكلمة من مقدماته التي لا يملك الرجوع عنها إذا ملك الفيلسوف أو صاحب الظن أن يرجع عما يشاء من الفروض والأظانين.
وفضيلة القرن العشرين بعبارة أخرى أن العقل البشري إذا اشتاق فيه إلى الإيمان استطاع أن يطلبه ولم يخجل من طلبه، وأنه يطلبه من العالم والفيلسوف والمتصوف والمؤمن بدينه، ولا يطلبه متخاذلًا متنابذًا يداري سره من علانيته، ويستر جانبًا من تفكيره؛ لكيلا يطلع عليه جانب آخر يعارضه أو يزدريه.
إن ثلثمائة سنة في عصر السرعة تصنع المعجزات في عالم المجهول علمًا وصناعة وإيمانًا واعتقادًا وعلاقات بين الأمم في الدنيا الواسعة، وبين آحاد الناس في الأمة الواحدة، وقد يضل البصر عما سيكون بعد تلك السنين، ولكننا نتقدم على أمان إذا قصرنا النظر على ما بقي في القرن العشرين من سنيه الأربعين؛ لأننا نبصر مواقع الخطى في هذا الأمد القريب، ونلمس طبيعة العقيدة التي تتهيأ لمن يبحث عنها وهو لا يهاب النظرة المجردة إلى الغيب، ولا يخضع لسلطة ترهبه بالزواجر والقيود، وكلما أمعنت به الوحدة العالمية في مناهجها الفكرية والخلقية خلص من قيد ثقيل من قيود العصبية التي تفكك روابط الإنسانية، وتجعل الدين سدًّا من سدود الفرقة والبغضاء، بدلًا من الإيمان بوجود واحد فوق الأرض وتحت السماء.
•••
نحن نتقدم على أمان في استطلاعنا للغيب القريب إذا تذكرنا كيف انتهى الزمن بقضية الإيمان والإنكار من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين: إنه نقلها من خصومة على المراسم والشعائر ودعاوى المتدينين المحترفين، إلى بحث صادق عن حقيقة الحياة وحقيقة الغيب والشهادة بغير خصومة ولا لجاجة بين قوم أصلاء في الدعوى وقوم أصلاء في الإنكار، وليس للباحث الذي يتقدم على هدى هذه الحقيقة من قبلة غير جوهر العقيدة الخالصة مبرأة من حواشي المراسم والشعائر والتقاليد، عالمية غير ذات عصبية، وبصيرة غير منقادة لبقية موروثة ولا سلطة ظاهرة أو خفية.
قبلة الإيمان في المستقبل تتلاقى مع وجهة النوع الإنساني الذي يتقدم إلى الوحدة العالمية ووجهة الإنسان الفرد الذي يتقدم إلى الحرية والكرامة، ولا حرج على متدين أن يبقى على دينه الموروث ويستصفي منه جوهره المبرأ من غواشي الخرافة ونفايات التقليد، فإن الأديان تتوحد بالجوهر وتتفرق بتلك الغواشي والنفايات، ولا مبالاة بالقشور التي تعلق بلباب الدين حيث يقوى ضمير الفرد الحر على التخلص منها، وحيث تتمكن عوامل الوحدة الإنسانية من التغلب عليها فتبقيها متسامحة أو تنفيها متجافية، ولا تسمح لها على الحالين أن تعوقها عن قبلتها.
•••
وحسب القرن العشرين حصة من الحرية الفكرية أنه أطلق الفكر من عقاله الذي حاكه لنفسه بيديه، فإنه وصل بالعلم إلى ما وراء المادة المحسوسة فلم يجد هنالك خرافة من خرافات العجائز ولا أسطورة من أساطير الأولين، بل وجد الأصل الأصيل لكل موجود مشهود أو غير مشهود، فاستباح لنفسه أن يبحث ويتطلع ويطرق الأبواب التي تطرق للإفضاء إلى ما وراء المادة والفضاء، ومنها أبواب الفلسفة وأبواب العقيدة، وكانت حريته هذه من قيود نفسه أنفع له من كل حرية استفادها من ثورته على رجال الدولة أو رجال الدين، إذ كانت حريته المستفادة من ثورته على غيره لا تحميه أن يتعثر في سعيه إلى الحقيقة وهو يضع العراقيل بيديه أمام خطواته، ويحسب أنه يصون كرامته بالأحجام عما وراء المادة ووراء التجربة المادية، فيما استأثر به قبل ذلك دعاة العقيدة وأصحاب الفلسفة المثالية.
ونحسب أن الثمرة الأولى من ثمرات هذه الحرية «الذاتية» قد ظهرت، ولم تزل تمعن في الظهور في أواخر القرن الماضي إلى منتصف القرن الحاضر، وبدا من طوالعها أن تتمشى العقول في طريق واحد على تعدد الميادين التي تسلكها، فليس بينها اليوم ذلك التقاطع المقرر منذ البداءة بين قبلة العالم وقبلة المتصوف وقبلة الفيلسوف، كل منهم يولي شطرًا غير شطر صاحبه، إلى غير لقاء.
وقد ندرك هذا الاتفاق في الغاية من أيسر نظرة إلى مذاهب الفلسفة التي نشأت بين أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، فإن المذاهب الجديدة — من واقعية أو مثالية — تمضي على نهج واحد أو على خط واحد في الاعتراف بالمادة والفكرة، وكل ما تختلف فيه أن تذكر موضع الابتداء وموضع الانتهاء، ومثلهم في ذلك مثل من يسمي خط السفر فيقول: إنه خط يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، أو يقول: إنه يمتد من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، وكلاهما يتكلم عن خط واحد لا عن خطين اثنين.
فالبرجمية مذهب ينادي إمامه الأكبر — وليام جيمس — بإرادة الاعتقاد أو بواجب الاعتقاد، وهو — على هذا — أجهر الفلاسفة صوتًا بتقرير الواقع دون أن يناقض نفسه في الحالتين، غذ هو ينادي بتقرير الواقع ولا يعتبره نقيضًا للفكرة ولا للآراء المثالية، وإنما هو ترجمان الحقيقة الذي يفسرها ويشرحها ويتولى إثباتها وضبط معاييرها، وفرق بعيد بين من يقول بالواقع المحسوس وينفي ما عداه، ومن يقول: إن الواقع لا غنى عنه للدلالة على ما عداه.
فهما إذن رأيان لا ينكران الواقع، ولا ينكران الحقيقة الإلهية، ولا يختلفان فيما هو الأعلى منهما وما هو الأدنى، ولكنهما يختلفان بعد ذلك في نقطة الابتداء.
ومن عجائب الاتفاق في هذه المناحي الفلسفية أن يكون ألكسندر الواقعي تلميذًا في مذهبه عن الزمان لهنري برجسون أكبر المثاليين من أعلام الفلسفة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فمذهبه في الزمان شبيه بمذهب برجسون الذي يقول بأن الزمان أصيل في خلق المادة، وأن «التغير» الذي هو قوام الزمان ينشئ الكائنات وينميها ولا يفنى ماضيه بانقضائه، بل يتسع مع الحاضر كما يتسع النهر في مجراه ويشق طريقه إلى المستقبل محتفظًا بما كان وبما هو كائن إلى أن يتجمع كله فيما يكون. ومثل هذه الصورة للزمان لم تكن لتخطر على بال الفلاسفة المحدثين لو لم تمتلئ أذهانهم بفكرة الحركة في الأثر كما تتراءى في سريان شعاع الضوء خلال الفضاء، فإن الفيلسوف لا يعدو حدوده حين يقول بأصالة الحركة الزمانية قبل تجسم المادة، إذا كان العالم — الموكل بالتجارب الحسية — يقول بأن المادة «مستمدة» من شعاع يسري في فضاء، وأنها حركة مجردة لا يعرف العلم ما هو المتحرك فيها وما هو مصدر الحراك على صورة الضوء أو على صورة الحرارة أو على صورة الكهرباء.
هذا في نطاق البحوث الفلسفية.
•••
قال الأستاذ: «ودلت التجارب على وجود عامل غير مجرد المصادفة، واقتنع المجربون أنفسهم بأن النتائج لا يمكن تأويلها بسبب من الأسباب المعهودة.»
فإذا استمرت التحقيقات على هذه الوتيرة بقية السنين الأربعين من هذا، فالمنتظر أن تتم وسائل التأكد من المصادفة وغير المصادفة في هذه التجارب، وأن يتقرر الامتحان العلمي الذي تعرض عليه مباحث هذا العلم الجديد، وقد تثبت الوسائل المختارة وجود العوامل غير المحسوسة أو لا تثبتها ولا تنفيها، إذ كان من الواجب أن نفرق بين وسائل الكشف وبين الحقيقة المطلوب كشفها. فإن المنظورات والمسموعات كانت ملء الفضاء والهواء قبل أن تمسكها المصورة الشمسية وأجهزة الإذاعة، وليس في وسع العلم أن ينفي «المجردات» مع وجود الأثير مجردًا من جميع صفات المادة، واقترابه بذلك من حدود المجردات الفكرية والنفسية.
•••
ويرى أن الأستاذ راين حرص في كلمته على التنبيه إلى قيام الرواد في مباحث الظواهر النفسية من بين الأقطاب المشتغلين بالعلوم الطبيعية؛ لأن المشهور عن الباحثين في علوم الطبيعة أنهم أشد الباحثين إنكارًا لما وراء الطبيعة، وما يشتمل عليه من المسائل الغيبية، خلافًا للباحثين في مسائل علم النفس فإنهم أقرب العلماء إلى المسائل الروحية وأحراهم أن ينظروا إلى شئون الغيب بشيء من الترخص والسماحة الفكرية.
على أن المشاهد في السنوات الأخيرة أن كفة التردد في شئون الغيب تتحول من جانب الإيمان إلى جانب الإنكار بين أقطاب العلوم الطبيعية، فليس بالنادر بينهم من يستند إلى علمه في ترجيح الإيمان على الإنكار، بل لعل هؤلاء العلماء اليوم ينقسمون إلى فريقين لا تناقض بينهما في مسألة العقيدة الغيبية، إذ ينعقد الإجماع بينهم على أن العلم التجريبي وصاف غير كشاف، يجمع الوقائع ويرتبها ولا يتعدى الإحصاء والتقرير إلى كشف المجهول، والتعرض له بالنفي والاثبات، فهم بين مؤمن يرى في علمه ما يعزز إيمانه ويشجعه عليه، وبين واقف موقف الحيدة يترك الدعوى العلمية جانبًا كلما عرض لشئون الغيب والعقيدة.
خذ عشرة بنسات كلا منها على حدة وضع عليها أرقامًا مسلسلة من واحد إلى عشرة، ثم ضعها في جيبك وهزها هزًا شديدًا ثم حاول أن تسحبها من جيبك حسب ترتيبها من واحد إلى عشرة، إن فرصة سحب البنس رقم واحد هي بنسبة واحد إلى عشرة، وفرصة سحب رقم واحد ورقم اثنين متتابعين هي بنسبة واحد إلى مائة، وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام ١ و٢ و٣ متتالية هي بنسبة واحد إلى ألف، وفرصة سحب ١ و٢ و٣ و٤ متوالية هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول من واحد إلى عشرة هي بنسبة واحد إلى عشرة بلايين، والغرض من هذا المثل البسيط هو أن نبين لك كيف تتكاثر الأعداد بشكل هائل ضد المصادفة، ولا بد للحياة فوق أرضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال — حسابيًّا — أن تتوافر كلها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت، لذلك لا بد أن يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد، وإذا كان هذه صحيحًا فلا بد أن يكون هناك هدف.
وبعض علماء الفلك يقولون لنا: إن مصادفة مرور نجمين متقاربين لدرجة تكفي لأحداث مد خفاق هدام هي في نطاق الملايين، وإن مصادفة التصادم نادرة لدرجة وراء الحسبان، ومع ذلك تقول إحدى نظريات الفلك: إنه في وقت ما — ولنقل منذ بليوني سنة مضت — قد مر نجم بالفعل قريبًا من شمسنا لدرجة كانت كافية لأن تحدث أمدادًا مروعة، ولأن تقذف في الفضاء تلك الكواكب السيارة التي تبدو لنا هائلة ولكنها ضئيلة الأهمية من الوجهة الفلكية، ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت تلك الحزمة من الكون التي نسميها بالكرة الأرضية، إنها جسم لا أهمية له في نظر الفلك، ومع ذلك يمكن القول بأنها أهم جسم نعرفه حتى الآن، ويجب أن نفرض أن الكرة الأرضية مكونة من بعض العناصر التي توجد في الشمس لا في أي كوكب آخر، هذه العناصر مقسمة على الكرة الأرضية بنسب مئوية معينة، قد أمكن التحقق منها لدرجة مقبولة فيما يتعلق بالسطح، وقد حولت جملة الكرة الأرضية إلى أقسام دائمة، وحدد حجمها وسرعتها في مدارها حول الشمس هي ثابتة للغاية، ودورانها على محورها قد حدد بالضبط لدرجة أن اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن أن يقلب التقديرات الفلكية، ويصحب الكرة الأرضية كوكب نسميه بالقمر، وحركاته محددة، وسياق تغيراته يتكرر كل ثماني عشرة سنة، ولو أن حجم الكرة الأرضية كان أكبر مما هو أو أصغر، أو لو أن سرعتها كانت مختلفة عما هي عليه لكانت أبعد أو أقرب من الشمس مما هي، ولكانت هذه الحالة ذات أثر هائل في الحياة من كل نوع بما فيها حياة الإنسان، وكان هذا الأثر يبلغ من القوة بحيث إن الكرة الأرضية لو كانت اختلفت من هذه الناحية أو تلك إلى درجة ملحوظة لما أمكن وجود الحياة فوقها، ومن بين كل الكواكب السيارة نجد أن الكرة الأرضية فيما نعلم الآن هي الكوكب الوحيد الذي كانت صلته بالشمس سببًا في جعل نوع حياتنا ممكنا.
أما عطارد، فإنه بناء على القوانين الفلكية لا يدير إلا وجهة واحدة منه نحو الشمس ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس، وبناء على ذلك لا بد أن جانبًا من عطارد هو أتون صحراوا والجانب الآخر متجمد، وكثافته وجاذبيته هما من القلة بحيث إن كل آثار للهواء فيه لا بد أن تكون قد تسللت، وإذا كان قد بقي فيه أي هواء فلا بد أن يكون في شكل رياح هوجاء تجتاح هذا الكوكب من جانب إلى آخر.
أما كوكب الزهرة، فهو لغز من الألغاز به بخار سميك يحل محل الهواء، وقد ثبت أنه لا يمكن أن يعيش فيه أي كائن حي. وأما المريخ، فهو الاستثناء الوحيد، وقد تقوم فيه حياة كحياتنا سواء في بدايتها أو تكون على شفا الانتهاء، ولكن الحياة في المريخ لا بد أن تعتمد على غازات أخرى غير الأكسجين، وعلى الخصوص الهيدروجين، إذ يبدو أن هذين قد أفلتا منه ولا يمكن أن توجد مياه في المريخ، ومعدل درجة الحرارة فيه أقل كثيرًا من أن تسمح بنمو النبات كما نعرفه …
ثم عرض العلامة كريسي لمشاهدات أخرى مستمدة من سائر العلوم الطبيعية يتعسر تفسيرها بمحض المصادفة غير المقصودة وتوحي إلى الذهن صدق الإيمان بالخلق والتدبير، وأولها في علم الحياة تلك الجرثومة الحية التي تنبعث بقوة لا وزن لها ولا كثافة ولا امتداد فتغالب الطبيعة وتشق الصخر وتفرض على العناصر أن تنحل لتعيد تركيبها، وتحول الماء والحمض الكربوني إلى ماء وخشب وتجعل الخلية الحية «البروتبلاسمية»، وهي أشبه بنطفة من ضباب قادرة على بث الحياة في كل جسم يتقبلها، وهي بذلك ذات قدرة أكبر من قدرة النبات والحيوان لم تخلقها الطبيعة؛ لأن قدرتها هذه لا تنبت من غيرها، ولم يكن في وسع الصخر الذي صهرته النار ولا الماء الذي لا ملح فيه أن يهيئ لها أسبابها فما الذي هيأ لها هذه الأسباب؟
ويضرب الأستاذ أمثلة من علم الحيوان لا تفسرها المصادفة، ولا تكفي كلمة الغريزة لتفسيرها؛ لأنها ليست أكثر من كلمة ترمز إلى الصورة الواقعة، ومن ذلك غريزة سمك السلمون الذي يعيش في البحر زمنًّا ثم يرجع إلى مكانه من النهر الذي خرج منه وينفلت من كل جدول من الماء ينقل إليه غير الجدول الذي ولد فيه، ومثله ثعبان الماء الذي يخرج من الأنهار عند نضجه، ويتجه إلى البحر المحيط عند جزائر معلومة يضع ذريته في شواطئها، ثم يموت فتعود هذه الذرية إلى مواضع الماء العذب التي نزح منها آباؤها، ولم يحدث قط أن ثعبانًا منها يصاد في أوروبة إذا كان موطنه الأول في الأمواه الأمريكية أو يصاد في أمريكا إذا كان موطنه الأول في أمواه القارة الأوروبية.
ويذكر الأستاذ من تلك المشاهدات عوامل الوراثة في الناسلات والصبغيات، فإن هذه الناسلات والصبغيات التي يتولد منها نوع الإنسان كله توضع في جوزة صغيرة، ومنها تنبت جميع الخصائص الموزعة في الذكور والإناث من جميع بني الإنسان، فكيف تكمن عوامل الوراثة كلها في ذلك الحيز الصغير لتحفظ لكل فرد من الناس أخفى ما استدق من صفاته ووظائف حياته وتركيب أعضائه وخلاياه على ما فيها من ودائع لا يدركها الإحصاء؟
وقد عرض المؤلف لغير ذلك من الأمثلة العلمية التي يفسرها المنكرون بكلمة لا معنى لها كالغريزة أو المصادفة ويفضل عليها المؤمنون تفسير القصد والحكمة في تدبير أحوال الوجود، ويطلبون ممن يرفض هذا التفسير دليلًا على رفضه أقوى من الدليل على قبوله، فلا يسمع منهم دليل.
ولا يخفى أن آراء العلماء والفلاسفة إنما هي سند للإيمان الديني يعززه، ولا يخلقه ما لم يكن له قرار في بديهة الإنسان، فهذه البديهة تسعى سعيها وتتلمس طريقها في هذا العصر كما تلمسته فيما غبر من عصور التاريخ، وستعمل ما تستطيعه وتتزود من العلم والفلسفة بما يصلح لها من زاد تسيغه، ولم تعقم بديهة التدين، ولا يبدو أن العالم اليوم أقل إيمانًا مما كان في زمن من الأزمنة الخالية، ولا أن النفوس تطمئن في زماننا إلى شكوك التعطيل التي كانت تقلقها وتحيرها قبل عصر العلم الحديث، وإنما موضع النظر أن المرتابين من الأقدمين كانوا يهجرون دينا ليدخلوا في دين يتلوه، وكانوا يرتابون وينتظرون النبوءات لجلاء شكوكهم واستلهام عقائدهم، فماذا ينتظر المرتابون في عصر العلم الحديث؟ هل ينتظرون نبوءة جديدة تأتيهم بدين جديد؟
قد يكون في المرتابين من أبناء العصر من تخامره هذه الفكرة، فهو في مرد أمره سواء ومن يبحث عن عقيدته على هدى بصيرته وعقله، لأن المهم في مشكلته أن يشعر بالحاجة إلى العقيدة، وأن يعلم أنها معرفة شريفة لا يمنعها العلم الصحيح ولا يعارضها التفكير السليم، ومن صدقت طويته على هذه النية فهو قريب من معتقده الذي يهتدي إليه ببديهته وتفكيره، وليس أقرب من الملقى بين العقائد الإلهية إذا خلصت إلى جوهرها وصفيت من أخلاط الوثنية وقشور التقاليد.
ولا ننسى عمل «الشخصية الإنسانية» في الهداية الروحية، فإن العقيدة تظل معنى من المعاني يحوم عليه الذهن كما يحوم على حقائق الرياضة والحكمة ما لم تتمثل في «شخصية» محبوبة موقرة تنقلها إلى الحياة بما تبعثه من الثقة وتوحيه من القداسة التي تقرب السماء من الأرض، وتعقد الصلة بين الحياة الأبدية التي لا حدود لها وبين هذا العالم المحدود.
كذلك كانت رسالة الأنبياء، وكذلك تكون الرسالة من الهداة المصلحين الذين يترسمون آثار الأنبياء في دعواتهم إلى الخير والكمال، وسيأتي اليوم القريب الذي يكون فيه العلم معوانًا ميسرًا لذوي الرسالات من الدعاة المصلحين، إنه يغنيهم عن خوارق العادات التي تطلبها الأولون ردحًا طويلًا من الدهر ليستيقنوا من عالم الغيب ويلمسوا دلائل القدرة التي لم يلمسوها في عالم الشهادة، فمن هذا العلم يتعلم الإنسان الحديث أن العادات كلها خوارق، وأن المحسوسات جميعًا مغروسة في الغيب المحجوب الذي لا تدركه الأبصار ولا العقول، وقد تكشف لنا الفترة الباقية من هذا القرن أن المستقبل أصلح للدين من الماضي السحيق الذي ظن أوجست كونت أنه أوان الدين، وظن أن الدين ثمرة من ثمرات جهله وضعفه، وأنها قد انتهت بانتهائه، فنحن نرى من الآن أن التدين لا ينتهي عند ابتداء التعقل والدراية، بل أوضح من ذلك أمامنا أن المعرفة تبلغ بالعقل الإنساني غاية مداه، فتطرق له أبواب الإيمان.