العوالم الأخرى
كان العلماء في أول هذا القرن يشكون في إمكان الطيران بجسم أثقل من الهواء، ومضت سنوات على منتصف القرن والطيارة — من كل وزن — تسبق الصوت، ولا تكتفي بما وصلت إليه.
وبعد أن كان السؤال، هي نرتفع في جو الأرض بجسم أثقل من هوائها، أصبح السؤال على ألسنة العلماء والمستطلعين، هي نصل بالطائرة إلى أجواء السماء؟ وهل نصعد بها إلى جو القمر وأجواء السيارات الشمسية من ورائه؟ وهل تقلنا الطائرة يومًا ما إلى ما وراء شمسنا وسياراتنا في أجواز الفضاء؟
إن العلماء والمخترعين يخافون كلمة المستحيل بعد ما ثبت من إمكان الأمور الكثيرة التي جزموا باستحالتها ثم تحققت بعد ذلك بقليل من السنوات، ويلوح من جملة الآراء والظنون أن المتنبئين يفضلون التعجل في الجزم بالإمكان على التعجل في الجزم بالاستحالة، وتكاد كلمة «لا مستحيل» أن تعود إلى أفواه قادة العلم والاختراع بعد أن لهج بها قادة الحرب، والحكم على مذهب نابليون الكبير، فإن خيف اليوم شيء في هذه النبوءات، فإنما الخوف من التورط في الأمل، حذرًا من كلمة «المستحيل» التي أخلفت الظنون غير مرة في بضع سنوات.
والأمل الغالب في هذه المرحلة من مراحل فن الطيران أن الصعود إلى الكواكب ممكن ولكنه لا يزال محفوفًا بكثير من الصعوبات، وأن الصعوبات في هذه المرة من جانب الطائرين لا من جانب الآلات الطائرة، فليس من العسير إتقان الآلة التي تصعد إلى الأجواء العلوية بين كواكب السماء، ولكن العسير أن نضمن حياة الإنسان في جو غير جو الأرض وعلى جرم غير جرمها وبيئة من الأحوال الطبيعية غير بيئتها، وأن نزود البنية الإنسانية بالقوة التي تحتمل أعراض التغير الطارئ عليها، إذا تيسر للمخترعين أن يجهزوا الطائرة بما يعوضها عن ضرورات الحياة في الأرض إلى حين.
والمشكلة الحاضرة في أمر الطيران هي مشكلة طب الفضاء أو مشكلة «الطاقة الإنسانية» في البيئات المجهولة من الآفاق العلوية، ومنها ما يتعذر الاحتياط له ويدري أحد كيف يكون الاحتياط له، وهو مجهول.
فمشكلة الطائرة التي تحمل ركابها إلى الآفاق العليا لا تعد الآن من الصعوبات الأساسية أمام المخترعين، سواء سارت بالدفعات المتعددة كما تسير الصواريخ، أو سارت بالمحركات المستمرة كما تسير الطيارات المعهودة، أو سارت بالقوتين مجتمعتين واستخدمت في جميع الحالات أنواع الوقود ومنه الوقود المستمد من الطاقة الذرية، لأن النظريات العلمية التي تطبق في هذه الحالات جميعًا معروفة مقررة، ووسائل تنفيذها قابلة للتحسين مع استمرار التجربة والمراجعة العلمية، أما الصعوبات الصحية فليست بالهينة ولا بالمفهومة على جلائها، ومما يحصونه منها في الوقت الحاضر صعوبة الجو والجاذبية والأشعة الكونية، وأنواع الأشعة المختلفة، وقذائف الفضاء من الشهب، والنيازك، والمذنبات.
فالجو الأرضي ينتهي بعد مئات من الأميال فوق سطح الكرة الأرضية، فإذا خف هذا الضغط فمن الواجب أن يحتاط راكب الطيارة لتغيير الحالة إذا استطاع، وإلا تسربت السوائل التي في جسمه وتمددت الغازات التي في جسمه وانفجرت الأوعية والشرايين، وليس في السيارات الشمسية سيارة واحدة تشبه الأرض في أحوالها الجوية، فمنها ما ليس له جو على الإطلاق، ومنها ما له جو كثيف خانق لا يسهل التنفس فيه، ومنها ما يتجه إلى الشمس على الدوام بصفحة واحدة، مع اختلاف كبير في درجات الحرارة واختلاف أكبر منه في درجات الرطوبة حيث يوجد الماء، وهو معدوم في أكثر السيارات، ولا يسمع الكلام — بالبداهة — حيث ينقطع جو الهواء.
وصعوبة الجاذبية مرتبطة بحجم الكوكب الذي يهبط عليه الإنسان، فإذا كان حجم الكوكب كبيرًا اشتدت الجاذبية، وازداد ثقل الجسم، وتعذر تحريك الأعضاء، وامتنعت كل حركة سهلة على الكرة الأرضية، وإذا صغر حجم الكوكب اختل التوازن في جسم المركب على حسب الجاذبية الأرضية ويزداد الاختلال عنفًا حيث ينقطع جو الهواء.
وقد يبدو أن صعوبة الأشعة الكونية وأنواع الأشعة المختلفة أهون من صعوبة الجو والجاذبية، ولكن بعض العلماء يخشى أن تكون هذه أصعب الصعوبات في رحلة الفضاء وراء الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية؛ لأن هذا الغلاف عازل منيع يحمي الأحياء من تأثيرات تلك الأشعة وتأثيرات الشحنة الكهربائية أو المغناطيسية التي تكمن في بعضها. فإذا جاوزت الطائرة غلاف الأرض فإن جدرانها المعدنية لا تمنع ركابها أن يصابوا بأضرارها؛ لأنها تنفذ في الرصاص طبقة بعض طبقة، فلا يؤمن أثرها في الأنسجة الحية إذا نفذت إليها، مع كثرتها وتتابع أمواجها أو ذراتها في كل خطوة.
وربما احتيل على الأشعة بحيلة من حيل الوقاية المانعة إذا نجح العلماء في تحديد خصائصها واهتدوا إلى سبل الوقاية الصحية منها، ولكن الخطر الذي لا يسهل اتقاؤه هو الخطر الذي لا يعرف موضعه ولا تعرف قوته ولا تعرف الساعة التي يطرأ فيها، ونعني به خطر الشهب والنيازك والمذنبات، فإنها تتفرق في أنحاء الفضاء وتندفع على غير انتظار وتصدم الطائرة تارة بجسم صغير، وتارة بجسم كبير، وقوتها تختلف على حسب الحالتين وعلى حسب المادة التي تتكون منها، وقد تكون أصلب من جدار الطائرة وأسرع من الطائرة وأشد اندفاعًا وخطرًا في حالة الاصطدام.
تلك بعض المصاعب التي يواجهها الباحثون في طب الفضاء، ولا يقال الآن: إنه أفلح في تحقيقها وحصر أضرارها، فأما التغلب عليها وتدبير علاجها فلا يدعيه أحد من ثقات هذا العلم، وهم في الوقت الحاضر جد قليلين.
نعم إن طب الفضاء قد استفاد معلومات كثيرة من تجارب الصواريخ التي تحمل الحيوانات إلى مسافة بعيدة من الجو، إلا أننا نذكر «أولًا» أن الصواريخ لا تتجاوز نطاق الجاذبية الأرضية، ونذكر «ثانيًا» أن جو الصاروخ شبيه من جميع الوجوه بالجو الذي نعيش فيه على سطح الأرض، ونذكر «ثالثًا» أن الصاروخ يصعد ويهبط في وقت قصير جدًّا بالقياس إلى الرحلة بين الكواكب، ونذكر أخيرًا أن الحيوانات لا تتأثر بالعوامل النفسية والفكرية كما يتأثر بها الإنسان.
ومما يبحث عنه علماء طب الفضاء حالة الجراثيم أو المكروبات في الآفاق العليا من جو الكرة الأرضية، فهل تعيش الجراثيم إذا وصلت إلى تلك الآفاق؟ وهل تفعل فعلها المعهود في الأجسام الحية والأجسام الميتة؟ لهذا قيل: إن علماء طب الفراغ كانوا يترقبون فرصة نادرة بالكشف على جثة الكلبة التي قيل: إنها صعدت إلى الجو على بعض الأقمار الصناعية؛ لأنهم ترقبوا أن يعرفوا منها كيف يكون سريان الفساد في جسم الحيوان بعد مفارقة الحياة على مسافة من سطح الكرة الأرضية، وأن يعرفوا كيف يدب الفساد من داخل الجسم ومن خارجه بعد توقف عمل الحياة فيه، وربما ظهر لهم أن وجود الإنسان فترة من الوقت في الآفاق العليا كاف للشفاء من بعض الأمراض، وأن هناك مناعة من المكروبات أو عاملًا من عوامل المقاومة لها في طبقة من طبقات الجو الأرضي يصل إليها الإنسان أو يستطيع أن يصنع حوله جوًّا يحاكيها وهو مقيم في داره أو مستشفاه.
وعلى الجملة يقال الآن: إن طب الفضاء ماض في دور المراقبة والجمع والتسجيل، وإن المعلومات المتفرقة التي جمعها تنتظر المراجعة والمقابلة قبل أن ينتظم منها محصول كاف لإقامة القواعد التي تبنى عليها نتائج النظر والتفكير، ثم يأتي بعد ذلك ما يمكن أن يعمل وما يلزم أن يعمل، وليس كله من عمل الأطباء، بل منه ما يتم على أيدي المخترعين والصناع بتوجيه المختصين من علماء الطبيعة والأطباء، وقد يحتاج الأمر إلى كسوة مزودة بأجهزة للتنفس وأجهزة لموازنة فعل الجاذبية وفعل الضغط على اختلاف الأبعاد والطبقات، ولا بد مع هذا من تكوين جو الطيارة على النحو الذي يناسب جميع ركابها معًا، ويناسب كل راكب منهم على انفراد؛ لأن كل واحد منهم يستقل بحركات لا يشاركه فيها زملاؤه في الطيارة، ولا يشاركونه فيها — من باب أولى — متى وصلوا إلى مكان يهبطون عليه.
فمسألة السفر بين الكواكب ليست إذن بالسهولة التي نتخيلها في الوقت الحاضر، وسواء جاءت الصعوبة من تركيب بنية الإنسان أو من تركيب الفضاء والأفلاك، فالمتفق عليه أنها صعوبة كثيرة العقبات وأن عقباتها لم تذلل، ولا يرى أنها قريبة التذليل ولو تقدم اختراع المكنات وأدوات الانتقال أضعاف ما انتهى إليه حتى الآن.
وقبل أن تستقر هذه المحاولات على نتيجة مقنعة فيما يمكن تذليله من هذه العقبات، يتساءل المطلعون والمتطلعون: ماذا يرجى من وراء تذليلها؟ وماذا يجد السائح السماوي في الكواكب العليا إذا وصل إليها؟ أثمة حياة؟ أثمة أحياء عاقلة على نجم من تلك النجوم؟ أثمة عالم آخر؟ أثمة مخلوقات سماوية؟
والظاهر من هذه الأسئلة أنها لا تسلم من إيحاء اللفظ ولعب الخيال، واسترسال الذهن مع تداعي الخواطر والمشابهات.
فالذين يسألون عن «العالم الآخر» تثب أذهانهم من هذه الكلمة إلى «العالم الآخر» الذي يترقبه المؤمنون في حياة بعد هذه الحياة، ويخيل إليهم أنه في آخر الكون لأنه بعيد من الأرض في آفاق تشبه «الآخرة» في أعلى السماوات، فما يدريهم أن آخر الكون لا يكون في هذه الأرض أو لا يكون على مقربة منها؟ ومن أين يكون الابتداء وإلى أين يصير الانتهاء في هذا الفضاء، وكله فضاء؟
والذين يتكلمون عن الكواكب كأنها السماء يستخدمون العبارات التي استخدمها الأقدمون يوم كانوا يحسبون أن الأرض في قرار الكون، وكل ما طلع من نجم شارق فهو فوقها في مكان يعلو عليها.
ولكننا إذا استخلصنا الألفاظ من هذه الإيحاءات، فالحياة التي نسائل عنها في الكواكب الأخرى قد تكون دون الحياة في الأرض كما تكون أعلى وأكمل منها في تركيبها، وقد تكون الأرض سماء عليا بالنسبة إليها ومكانًا قصيًّا على مدى شاسع منها لم يفصل بين الأرض وبينها، وقد تكون الأرض أصلح منها للحياة، منفردة بشروطها التي تلائمها.
وليس بالقليل بين المفكرين وعلماء الطبيعة من يرى هذا الرأي الأخير، ويعتقد أن شروط الحياة لم تتوافر في سيارة من سيارات المنظومة الشمسية، كما توافرت في سيارتنا التي نعيش عليها، فإذا تجاوزوا المنظومة الشمسية إلى ما وراءها، فغاية ما يعلمونه عنها أن وجود المنظومات التي تشابهها في آفاق الكون الواسعة مستحيل، ولكنه كذلك غير لازم لزوم اليقين.
والاستدراك المعقول الذي يرد على الذهن كلما قيل: إن الكرة الأرضية انفردت بالحياة أن هذه الكرة بين النجوم والكواكب أقل من ذرة رمل في صحاراها الشاسعة، فكيف تنفرد وحدها بالشروط التي هيأتها لظهور الحياة فيها؟ ألا يجوز أن تتكرر هذه الشروط في نجم من ملايين النجوم التي نراها بالعين بآلات الرصد أو لا نراها على الإطلاق؟ ألا يجوز أن توجد الحياة بغير شروطها الأرضية؟ ألا يجوز أن تكون للحياة صور لا تتصورها في كوكبنا الصغير، ولا تتوقف على الأحوال التي نتخيلها لكل حياة؟
نعم، هذا رأي سائغ مشروع، يحق لنا أن نراه، ولكن يحق لنا معه أن نشعر بأننا نبتعد ونقترب من مواطن الحياة الكونية في وقت واحد، لأننا نستغرب أن توجد الحياة في سيارات هذا الفضاء وتنقطع الصلة بين أبنائها، فلا يحاول بعضهم أن يدل على مكانه ولا يفلح في الكشف عن مكان غيره، فهل تراهم يجهلون مواطن إخوانهم وشركائهم في هذا الوجود الذي ينفردون فيه بالوعي والشعور على ما بينهم من تباعد الآفاق؟ أو هم يعلمون ولا يملكون وسائل التفاهم والاتصال؟
يحق لنا كلما نظرنا إلى تلك الآفاق نظرة الأستاذ كلفن ومن يرون رأيه أن نقدر وجود الأحياء في طائفة من سياراتها قبل وجودهم على سيارتنا الأرضية، ولم لا؟ لم يمتنع وجود الحياة في زمان قبل زمانها المحدود على هذه الكرة؟ لم توجد الحياة حيثما وجدت في زمان واحد، ولا يكون بعضها قد وجد قبل عمرها الأرضي بمئات الأعمار المحسوبة بملايين السنين؟ ولم لا تكون لها قدرة على الاتصال بنا أكبر من قدرتنا نحن على الاتصال بها إذا كانت قد سبقتنا إلى الوعي والمعرفة، وأدركت من العلم ما لم ندركه في زماننا؟ وإذا كانت ندا لنا في عمرها فما بال هذه الحياة لا تنشأ حيث نشأت إلا في آونة واحدة مع اختلاف المنشأ في السيارات والكواكب والنجوم وهي وراء حدود الإحصاء؟
كلما أنعمنا النظر في أمر هذه الحياة الكونية رأينا أنها تبتعد وتقترب، وأنها تنجلي من هنا لتغمض من هناك، فمن الشطط في الأمل أن نتخيل أن البقية الباقية من القرن العشرين حسبنا من أمد لإعداد معدات السفر إلى مواطنينا الكونيين قبل أن نعرفهم ويعرفونا، وقبل أن نتقارب فيما بيننا بلغة التفاهم والمراسلة، إن كانت هناك لغة كونية لجميع الأحياء، وأدنى من ذلك إلى الأمل المشروع أن نختم القرن العشرين، وقد وصلنا إلى الخبر اليقين عن مواطن الحياة في هذا العالم، وعن شروط الحياة أو الحيوانات المتعددة بين أرجائه الفساح، بل نكاد نستبعد هذا الأمل ونطمح مع ذلك إلى أمل كبير؛ لأنه يزيدنا علمًا بحياتنا على وجه الأرض، ودراية بالمادة وما تحتويه من أجسام الأحياء.
فمن الآمال التي نكاد نلمسها أن تترقى أدوات الرصد حسًّا ومعنى في بقية القرن العشرين فنهتدي بها إلى أسرار الضياء والإشعاع، وعلاقة الذرات المبثوثة في الفضاء بظواهر الكهرباء والمغناطيسية وحقيقة الجاذبية الأرضية وغير الأرضية، ومن الجائز جدًّا أن ننفذ على هدى تلك الأرصاد إلى ذلك الينبوع الجامع لظواهر الطاقة والقوة، وأن نحول بعضها إلى بعض بوسائل الصناعة في غير كلفة مجهدة تربى على فوائدها وثمراتها. وإن اليوم الذي نستطيع فيه أن نحول الجاذبية إلى مغناطيسية وكهرباء ليضع أيدينا على ينبوع من القوة لا ينفد ولا تعرف له نهاية، وقد تغنينا هذه القوة عن استخراج الطاقة من الفحم أو الحجارة أو النفط أو تيارات الماء أو كوامن الذرات، فإن قوة الجذب بين الأرض والسماء شائعة في كل مكان، ولعلها هي مصدر الطاقة التي تتولد في الأرض وما عليها من العناصر المعروفة، ومما هو صالح لتوليدها من القوى الكامنة التي نجهلها الآن.
ولعل العلم بسر «الجاذبية» بين الأكوان يهيئ لنا الصلة التي تربطنا بعوالم الحياة المجهولة في سياراتها، فنرتبط بها على وعي وشعور كما نرتبط بها الآن بمادة الأجسام.