الفصل السابع

عالمنا

ومن الخير ألا تتعجل هذه الكرة الأرضية لقاء العوالم الأخرى قبل أن تتلاقى هي عالمًا واحدًا، يقطنه نوع واحد: نوع إنساني واحد في شرعة الرأي والخلق، لا في شرعة علماء الأجناس عند تقسيم فصائل الحيوان.

وهي اليوم عالم متضامن في حكم الواقع ما في ذلك مراء، ولكن كم بين العالم المتضامن في الخير والشر، وبين العالم المتعاون في الخير والشر من مسافة واختلاف؟

هنا مجال واسع لكثير من التشاؤم، ومجال أوسع منه لكثير من المتشائمين، ففي الدنيا مشكلات لا تحل ومخاوف لا تغلب، وعداوات لا تهدأ، وغوامض من شئون العيش وشئون الرأي لا تنكشف اليوم على جلاء، وعلى كل لسان يتحدث بهذه الشئون سؤال لا يسمع له جواب شاف: هل تقع الحرب المحذورة المرتقبة؟ وهل تبقى من بعدها بقية من نوع الإنسان أو بقية من الحضارة الإنسانية؟

ويلوح للناظرين إلى الغد أن السنين الأربعين التي بقيت من القرن العشرين أقصر من أن ترفع الستار عن غوامض هذه الشئون، وأنها في الحق لكذلك، فربما انتهت والعالم الإنساني يزداد تضامنًا، وينتقل إلى التعاون الوثيق في علاقاته وقضاياه، وربما انتهت وهو مشتبك في نضال يقطع العرى بين أوصال هذا التضامن الواقع فلا يعدو إلى مجراه إلى بعد حين، إن قدر له أن يعود.

لا ندري على التحقيق أي هاتين العاقبتين كائن في أوائل القرن الحادي والعشرين، فهل ترانا لا ندري أي العوامل التي تعمل لكلتا العاقبتين أرجح وأقوى في أيامنا هذه، وأيها يرجى أن يزداد رجحانا وقوة على مدى الأيام؟

إذا كان هذا هو مدار السؤال فمن الإفراط في الشك والحذر أن نحجم عن الموازنة بين عوامل الأمل وعوامل القنوط؛ لأن هذه العوامل قابلة للموازنة والمقارنة، وظاهرة في طبيعتها التي تمضي مع التيار المأمول أو تدبر بذلك التيار وتصده إلى الوراء، ومن هذه الموازنة بين العوامل المقبلة والعوامل المدبرة لا يستطيع المتشائم أن يوقن بأنه على صواب، وقد يستطيع المتفائل أن يطمئن إلى مآل الصراع بين دواعي التضامن ودواعي التصدع والانحلال.

فمن المشكلات التي تروعنا اليوم مشكلات لم تكن لتظهر ولا لتنذر بالخطر الداهم لو لم يكن بين الأمم رباط من التضامن في المصالح والعلاقات، يضطرها إلى المبالاة بالقريب والبعيد من مشكلات الأقوياء والضعفاء.

مشكلة في أفريقيا الجنوبية، أو مشكلة في الشرق الأوسط، أو مشكلة في زاوية من زوايا القارة الآسيوية، وكلها تحدث اليوم فتبعث القلق والتربص والاستعداد في محافل الأمم بعد أيام.

وقديمًا كانت المشكلة في موقع من هذه المواقع تحدث وتنقضي ولا يعلم بها أحد، ولا ينبعث منها القلق إذا علم بها بعيد أو قريب.

فإذا أقمنا الموازنة بين عوامل التفاؤل وعوامل التشاؤم في هذه المشكلات حق لنا أن نتفاءل بها ولا نتشاءم منها؛ لأنها من علامات التضامن الواقع الذي يوحد بين الأخطار ويضطر الأمم إلى توحيد العزائم لدفع تلك الأخطار، واتقاء وقوعها قبل التفاقم والاستفحال.

إن كفة الخير في هذه المشكلات أرجح من كفة الشر، وإنها لتحسب من البشائر بتذليل المصاعب، ولا تحسب من العقبات التي لا تنقاد للتذليل.

على أن العالم الإنساني فيه كثير من المشكلات المنذرة بالخطر غير تلك المشكلات.

فيه مشكلات النزاع بين الأوطان، وفيه مشكلات النزاع بين المشرق والمغرب، وفيه مشكلات النزاع بين الميسورين والمحرومين، وكلها من المشكلات التي تتشعب بين الأمم وتتغلغل بين طوائف الأمة الواحدة، وتأبى للعالم في عصرنا هذا أن يتعاون ويتوحد، وقد تأبى عليه أحيانًا أن يرغب في التعاون والاتحاد.

فأين هي عوامل الأمل وعوامل القنوط في مشتبك هذه الأخطار؟

لا ندري ما مصيرها؟ فهل ترانا لا ندري عند الموازنة بينها وبين عوامل التضامن العالمي أيها أقوى وأيها يمضي في اتجاه الزمن، وأيها يحسب من بقايا الأمس التي تسرع أو تبطئ إلى الزوال.

إن التضامن العالمي أقوى منها جميعًا وأحدث منها في أسبابه على الأقل، وأدنى — من ثم — أن يكون له الغد المرجو، ولا يلحق ببقايا الأمس التي أخذت في الزوال.

إن مشكلة النزاع بين الأوطان لمن أخطر المشكلات على تضامن العالم فيما مضى وفي العهد الذي نحن فيه.

ولكنه خطر يتغير ويسرع في التغير، ويأتي التغير فيه من جانب الأقوياء الطامعين، ومن جانب الضعفاء المطموع فيهم، ومن جانب المحايدين الذين تقف بهم علاقات السياسة أحيانًا في وسط الطريق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

فالدولة القوية التي كانت قبل مائة عام تطمع في وطن ضعيف لم يكن يمنعها مانع أن تنقض عليه، وأن تقهره وتضطره إلى الخضوع لحكمها ما دامت تريد البقاء فيه، ولم يكن من العسير عليها إذا تنافس الأقوياء من نظائرها أن تتفاهم على التقاسم وتبادل السكوت والإغضاء.

أما اليوم فالدولة القوية التي تطمع هذا الطمع تجد الموانع من داخلها، ومما حولها، ومن نظرائها، ومن الضعيف ومن يشبهه في حالته من غير الأقوياء.

يمنعها في داخلها فريق من أبنائها يزهد في العدوان على الوطن الضعيف؛ لأنه لا يستفيد منه، إن لم يزهد فيه إيمانًا بالحق والإنصاف.

ويمنعها مما حولها ومن نظرائها أنهم يخسرون باحتكارها الحكم في غير وطنها ولا يتعوضون من هذه الخسارة شيئًا تمنحهم اياه، وتملك أن تمنعه عنهم بمشيئتها، وكلما عظمت الدولة وعظمت ثروتها تشعبت مصالحها، واشتدت رغبتها في فتح الأبواب لها ولغيرها، لأنها تستطيع — ولو نافست ذلك الغير — أن تحقق مصالحها في البلد المفتوح بما لها من الوفر والقدرة على الصبر والاحتمال، وعلى تبادل المنافع بينها وبين مختلف الأمم والجهات، وربما كان من الأمم التي تحتاج إليها ذلك القوي الطامع في احتكار السيطرة على هذا الوطن أو ذا.

•••

وتأتي قضايا الأوطان في الصف الأول بين قضايا الخطر على السلام العالمي والوحدة الإنسانية، ومنها قضايا الاستقلال في الأمم التي تحكمها أمم أجنبية، وقضايا النزاع بين الأوطان المتنافسة على النفوذ والمرافق المشتركة، وقضايا النزاع بين الدول القوية التي تختلف فيما بينها على سياسة المحكومين وعلى العلاقات الدولية في جملتها، وكلها من ينابيع الخطر التي لا تؤمن غائلتها على علاقات التضامن بين الأمم، ومن ثم على الأمل في اقتراب عهد الوحدة الإنسانية.

غير أن هذه القضايا أيضًا من أسباب التمهيد التي لا محيد عنها لتحقيق الوحدة الإنسانية أو تحقيق التعاون بين أقوياء الأمم وضعفائها، وبين المتقدم منها والمتخلف في الحضارة وأحوال المعيشة، فقيام الأوطان المعترف بها خطوة لازمة قبل خطوة الوحدة العالمية، إذ كانت الوحدة لا تتأتى بين أوطان مغصوبة وأوطان غاصبة، وبين أمم مجردة من الحقوق وأمم تعتدي على تلك الحقوق ولا تعترف بها ولا بالاعتداء عليها، فمن الطبيعي إذا قامت للعالم أسرة واحدة أن تتألف هذه الأسرة من أعضاء تربط بينهم رعاية القرابة، والمشاركة في الحركة والكرامة، وليست قضايا الأوطان إلا المقدمة التي لا بد منها لتلك النتيجة التي تفضي إليها، وهي اليوم ينبوع من ينابيع النزاع والخطر، ولكنها في الغد ضمان من ضمانات السلام والتعاون والمشاركة في الأعباء العالمية، مثلها في ذلك مثل الحقوق الشخصية التي أصبحت في كل مجتمع من مجتمعات الحضارة ضمانًا للنظام والشريعة في ذلك المجتمع، بعد أن كان النزاع بين الأشخاص حائلًا دون قيام الوحدة في الجماعة على أساس القومية.

إن قضايا الأوطان هي أيضًا من طلائع الوحدة العالمية التي تنطوي على البشارة حين تنطوي على النذير، وهي اليوم محل اعتراف في الرأي وإن لم تبلغ بعد مبلغ الاعتراف في الواقع، إذ كان تقرير المصير مبدأ مسلمًا في معاملات الدول ومحافلها المجتمعة، فلا ينكره أحد من المعارضين له في سياسته العملية، بل نرى من الحاكيمن الأجانب من يحتال عليه بتوحيد الوطن الحاكم والوطن المحكوم، واعتبار الرعايا شركاء للرعاة في الحقوق الوطنية ووظائف الدولة، وهي ظاهرة من ظواهر العصر لا تبخس قيمتها العملية فضلًا عن قيمتها النظرية؛ لأن المضي في الدعوى المنكرة بإجماع الأمم أمر لا تطول المغالطة فيه.

وأخطر من قضايا الأوطان على الوحدة العالمية قضايا العناصر والسلالات؛ لأن الخلاف عليها لم ينحسم بعد في الرأي ولا في الواقع، ولا تزال ذريعة للدعوى باسم من الأسماء تتفاوت في الصراحة والاستقامة، وفي الرياء والالتواء.

على أننا إذا نظرنا إلى تاريخ دعوى العناصر والأجناس من ناحيتها النظرية لم نخطئ أن نلمس فيها جنوحًا مطردًا إلى التقارب، وابتعادًا مطردًا عن التشبث بالفواصل المزعومة بين عناصر البشر في الزمن القديم.

كان علم الأجناس البشرية يتجه في القرن التاسع عشر إلى توسيع المسافة بين أجناس البشر وإثبات الفوارق البعيدة بين كل جنس منها وسائر الأجناس الأخرى، وكان يخلط كثيرًا بين فكرة الأمة وفكرة العنصر، وهما شيئان مختلفان لأن الأمة على الأرجح رابطة اجتماعية تاريخية، في حين أن العنصر رابطة من روابط الدم والسلالة العصبية، وقد تتفرق مواقعها فلا تجمعها بقعة واحدة، وكان للعوامل الدولية والسياسية حكمها في كل من الاتجاهين، فكان الاستعمار وحب التسلط هما الباعث الأكبر على توسيع الفوارق بين الأجناس، وعلى تفضيل جنس منها على سائرها، تسويغًا للسيطرة والاستغلال وإقامة الحكم الأجنبي في البلاد المستعمرة، أو تسويغًا للسيادة والانتفاع بالمرافق والجهود المسخرة.

كانت الدولة الجرمانية تبحث عن مستعمرات لها في الشرق الأقصى بعد أن تم تقسيم المستعمرات في أفريقيا وآسيا، فنادى الساسة فيها بالخطر الأصفر، وأرادوا به الخطر المتوقع من جانب اليابان والصين إذا انطلق «التنين الأصفر» — كما سموه — في طريق الحرية والتقدم، وترددت صيحة الخطر الأصفر في كل دولة تبعًا لموقفها من البلاد الشرقية، سواء وقفت منها موقف الطامع في ضم البلاد أو موقف الطامع في الامتيازات التجارية والاقتصادية.

وشاعت بعد صيحة الخطر الأصفر دعوة التفرقة بين الآريين والساميين، واشتدت هذه الدعوة حين أصبحت كلمة الساميين في أوروبا مرادفة لكلمة اليهود، وأصبح اليهود هم المقصودين بعداوة السلالة السامية، واقترنت الدعوة الآرية بتقسيم الأوروبيين إلى شماليين وجنوبيين لادعاء أصحاب هذه الدعوة أن أبناء الشمال في القارة الأوروبية آريون خالصون، لم يختلطوا بالأجناس الأخرى التي يزعمون أنها دون أبناء الشمال في الذكاء والأخلاق، وتجدد الخلاف في أثناء ذلك على حقوق الزنوج — أو حقوق السود — بين أبناء البلاد التي يختلطون فيها بالأجناس البيضاء، فاعتمدوا — عدا هذه الحقوق — على الفوارق العنصرية، وبالغوا في توسيع هذه الفوارق وراء فوارق اللون والشكل، كأنها من الفوارق العميقة في التكوين لا تمحوها المساواة في الحقوق السياسية، ولا يجدي فيها توحيد التربية والتعليم.

كانت هذه العوامل الدولية أهم العوامل التي دعت إلى توسيع الفوارق بين الأجناس البشرية في القرن التاسع عشر، ولم تزل شائعة قوية إلى منتصف القرن العشرين.

أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغير اتجاه الدعوة لأسباب كثيرة، منها: يقظة الشعوب الشرقية، ورغبة الدول الكبرى في كسب مودتها. ومنها تنافس الدول الكبرى، وسعي كل منها في إبطال حجج الدول المنافسة لها، ومنها اجتهاد اليهود في تبرئة أنفسهم من النقائص والعيوب التي تخصهم بين الشعوب السامية، ومنها تقدم العلم واتساع نطاق البحث بين الأجناس المجهولة، وكثرة الأدلة على بطلان بعض الفوارق، واقتراب وجوه الشبه بين الناس من مختلف الألوان والأوطان.

فالباحثون اليوم في علم الأجناس لا ينفون وجود الفوارق بين جنس وجنس منها، ولا يقولون: إن النوع الإنساني كله جنس واحد لا تمييز فيه بين الصفات الجسدية والعقلية، ولكنهم يقللون من المبالغة في أصالة هذه الفوارق، ويقولون: إنه تتغير أحيانًا بتغير المعيشة والبيئة، وإن الصفات المميزة لكل جنس منها قد تنتقل إلى الجنس الآخر بالتربية والقدوة، وتعود المعيشة والمعاملة في مثل أحواله وظروفه، وقد انتقل منها الكثير حتى الآن، إما لطول الاختلاط بين الأمم، وإما لكثرة التبدل والتطور في ظروف المعيشة، وإما لوقوع الاختلاف الطبيعي بين أفراد الأمة الواحدة والجنس الواحد كما يحدث في الأسرة الواحدة فضلًا عن البلد والإقليم.

وما من صفة من صفات البنية والتركيب ثبت بعد البحث والمقارنة أنها خاصة مقصورة على جنس واحد لا يتصف بها جنس آخر إذا تعرض لظروفه وملابساته، فشكل الرأس بين الاستدارة والاستطالة كان معدودًا من العلامات الفاصلة بين الأجناس، فظهر من بحوث العالم الأمريكي فرانز بواس Franz Boas أنها علامة تتغير بتغير البيئة، وأن الأطفال المهاجرين من بلاد أخرى تختلف أشكال جماجمهم ولا تشبه جماجم آبائهم كل الشبه مع تبدل الموطن والمعيشة، وأبناء السويد — كما هو معلوم — معدودون من خلاصة الأجناس الشمالية أو النوردية، ولكن العالمين ريتزيوس Retzius وفورست Furst سجلًا نتيجة الكشف على خمسة وأربعين ألف شاب من المطلوبين للتجنيد فتبين لهما أن الصفات المخصصة للجنس الشمالي الخالص لا تجتمع لأكثر من خمسة آلاف منهم، وإن الذين تجتمع لهم هذه الصفات في إقليم من أقاليم الشمال على نحو أربعين في المائة، وقد أعيد إجراء هذه البحوث بعد ثلاثين سنة، وسجلت صفات سبعة وأربعين ألفًا من المجندين فتبين أن واحدًا وثمانين في المائة منهم كانوا رق العيون زرقة خفيفة، وأن ثمانية في المائة منهم لهم عيون مشوبة اللون، وأن خمسة في المائة منهم لهم عيون بنية، أما لون الشعر فقد كان في سبعة في المائة منهم كتانيا، وفي ثلاثة وستين في المائة بنيًّا خفيفًا، وفي خمسة وعشرين في المائة بنيًّا مسودًّا، وفي ثلاثة في المائة أحمر أو أدنى إلى احمرار. وسجلت العلامة الكبرى — أو العلامة الأولى — من علامات الفوارق بين الأجناس، وهي شكل الجمجمة، فظهر أن أصحاب الجماجم المستطيلة لا يزيدون على ثلاثين في المائة، وأن ستة وخمسين في المائة منهم متوسطون بين الاستطالة والاستدارة، وأن أربعة عشر في المائة عراض الرءوس، وظهر أن لون الشعر ولون العين يقتربان، ولكن لا صلة لهذا اللون أو ذاك بطول القامة وتركيب الدماغ.
هذا غاية ما انتهى إليه صفاء المزايا العنصرية في بلاد السويد، وهي أقصى البلاد شمالًا، وأبعدها عن الاختلاط بأمم الجنوب، وتسفر الإحصاءات عن نتيجة كهذه النتيجة في سكان البلاد الجرمانية، ففيها أصحاب العيون الزرق، والجماجم المستطيلة، والقامات الطوال، وفيها الملايين ممن يشبهون أهل الجنوب ويسمونهم بالسلالة الألبية، نسبة إلى جبال الألب، وفيها وسط بين هؤلاء وهؤلاء موزعين بين الأقاليم الشرقية والغربية وبين الشمال والجنوب.١

وإذا تجاوزنا الصفات الجسدية إلى صفات العقل والخلق، فالواقع الذي لا جدال فيه أن الحضارات العالمية جميعًا لم تنشأ في قطر من أقطار الشمال، وأن أعظم هذه الحضارات قد نشأ في الجنوب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وبعضها قد نشأ في الشرق الأقصى بين الشعوب الصفراء أو في البلاد البابلية والفارسية والهندية، وهي متعددة العناصر والأجناس. وقد ظهر من اختلاف العادات والتقاليد أنها لا ترجع في أساسها إلى اختلاف أصيل في التكوين، وأن الناس قد يخجلون من بعض الأمور ولا يتفقون على تلك الأمور في كل أمة ولا في كل زمن، ولكن شعور الخجل موجود بينهم جميعًا، وإن كان بعضهم يخجل من شيء وبعضهم يحسبه من المألوفات التي لا ضير فيها، فلا يمكن أن يقال من أجل هذا: إن هذه الأمة تعرف الأخلاق وتحترمها، وإن تلك الأمة تجهلها ولا تكثرت لها، فمثل هذا يحدث في اختلاف الأطعمة على حسب المواقع الجغرافية والمحاصيل الزراعية، فتعيش جماعة من الناس على لحوم الصيد والماشية، وتعيش جماعة أخرى على لحوم الأسماك، ويعيش غيرها على النبات، وقد يحرم أكل الحيوان، ويتناول غيرهم جميع هذه الأطعمة حسبما يتيسر منها لديهم، ولا يقال من أجل ذلك: إن هذه الأمة تعرف الجهاز الهضمي وتلك الأمة لا تعرفه، ولا يقال من أجله: إن تكوين المعدات والأجسام في أساسه مختلف لا يقبل التغير والتطور، وربما حدثت من تنوع مواد الغذاء قابليات جسدية محسوسة الأثر، بل ربما حدث لجماعة من الجماعات المتعددة أن تصاب بالمرض من أكله تسيغها جماعة أخرى وتنتفع بها، ثم يقف الأمر عند ذلك ولا يعدوه إلى التفرقة بين هذه الجماعات في أصول التركيب وفي أجهزة الجسم ووظائف الجوارح والأعضاء، وعلى الجملة يحق لنا بعد تجارب العلم الحديث في هذه السنين أن نردد قول شاعرنا أنهم جميعًا أسرة واحدة «أبوهم آدم والأم حواء» مهما يكن تفسير العلم الحديث لمعنى تلك الأبوة وتلك الأمومة، وكل ما ثبت من الفروق — حتى الفروق الوراثية — يعود في وقت قريب أو بعيد إلى أسباب مكتسبة تتغير مع البيئة والزمن وطول الاختلاط بين الأمم والقبائل، فليس للسيادة صفات ثابتة في جنس دون جنس، ولا في أمة دون أمة، وقد سادت في القارة الأوروبية أمم من المغول والساميين، وساد أناس من السود بين أناس من البيض، ودارت الحضارة دواليك من شرق إلى غرب ومن جنوب إلى شمال، ومهما تتعدد أجناس الإنسان، فالنوع الإنساني واحد والخصائص الإنسانية عامة مشاعة غير محتكرة ولا مقصورة مدى الزمن على بقعة دون بقعة، ولا على سلالة دون سلالة.

ولا ننسى موطن العبرة في هذا الاتجاه الصالح الذي يتجه إليه علم الأجناس بعد الحرب العالمية الثانية، فإن العلم قد تطغى عليه السياسة حقبة تطول أو تقصر، ولكنه يتخلص من طغيانها ليجري في مجراه.

•••

هذه آراء علمية من ولائد القرن العشرين، لم يكن يقابلها في القرن التاسع عشر غير دعوات إنسانية تتمثل في المناداة بتحرير الأرقاء أو إنصاف الشعوب المحكومة من جنس الحاكم المتسلط عليها أو من غير جنسه، ولم تكن منها دعوة تستند إلى البحث في خصائص الجنس أو تكوين السلالة أو شواهد العلم التي تقارب بين أبناء النوع الإنساني في الخصائص والتكوين، وقصاراها من الإنصاف — إنصاف العاطفة والمروءة — أنها كانت تنادي بأن العبيد أكرم من الحيوان، فلا يجوز أن يباعوا ويشتروا في الأسواق كما تباع الماشية العجماء، ولا يمنع هذا أن يكون المنادي بتفضيل الإنسان الأسود على الحيوان مناديًا عن يقين وثقة برسالة الرجل الأبيض وأمانته المنوطة بجنسه دون سائر الأجناس البشرية، وهي أمانة السيادة على جميع تلك الأجناس.

أما البحث العلمي الذي يسفر عن التسوية في الأصول والفروع بين أبناء النوع الإنساني فهو — كما تقدم — من ولائد العشرين لم يسبق إليه فيما مضى من القرون، وهو إحدى علامات الزمن، ولو قيل: إنه بلغ ما بلغه في القرن العشرين لحداثة البحث في علم الإنسان وعلم الأجناس، فإن الاهتمام بهذا البحث هو نفسه علامة كبرى من علامات الزمن جاءت في أوانها على قدر مع سائر البحوث التي تجنح بالأمم طوعًا أو كرهًا إلى التضامن والوحدة الإنسانية.

وكل علامة من علامات الزمن لها شأنها ولها دلالتها، ولكننا لا نغلو بها فنجعلها في قوة الحكم الملزم للناس بالطاعة والاتباع، فقد يؤمن الناس بالأخوة في الأسرة — فضلًا عن الأخوة في النوع بأسره — ولا يؤمنون بالمساواة أو بالإنصاف، ولكن دلالة الزمن إذا اقترنت بنتائج الواقع كانت هي قوة الحكم الملزم للناس بالطاعة والاتباع، ومن نتائج الواقع في القرن العشرين أن يخفق دعاة العدوان باسم العصبية العنصرية، وأن يتعذر تسخير العصبيات للعصبيات بالقوة أو بالحلية، ولا نعرف في التاريخ قرنًا تعذر فيه حكم الجنس للجنس المغاير له كما يتعذر هذا الحكم في القرن العشرين، وقد جربت دعوة الجنس الآري للغلبة على غير الآريين، وجربت دعوة الجنس الأصفر لسيادة أمة من الأمم على القارة الآسيوية على مبدأ «آسيا للآسيويين» فلم يجد أصحاب هذه التجارب من ثمراتها ما يغريهم بالمعاودة والتكرار، ولم يظهر لنا من قبل — ولا يظهر لنا الآن — أن اصطدام سلالة بسلالة خطر يجتاح العالم ويشطر بني الإنسان معسكرين أو عدة معسكرات.

كلا، بل يظهر لنا اليوم أن الخطر الذي ينذر باجتياح العالم ويوشك أن يشطره إلى معسكرين متناحرين، إنما هو خطر واسع يطوي الأجناس والطوائف في برنامج شامل يعده كل من الطرفين المتقابلين لتطبيقه على جميع الشعوب من جميع الأجناس والألوان.

كل على طريقته يبشر بالوحدة العالمية، وقد ينقسم أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد فريقين متقابلين، يريد أحدهما أن يوحد العالم الإنساني على هذه الطريقة، ويريد مخالفوه ومناقضوه أن يحققوا هذه الوحدة على الطريقة الأخرى.

هنا أيضًا يتراءى لنا أن تيار الوحدة العالمية هو الغالب على كل تيار يعترضه وينثني به عن مجراه، فلا تناقض في الوجهة، وإنما التناقض في الدفة التي تسير بالسفينة إليها.

ولا يرى حتى الآن أن المعسكرين «وهما — كما هو ظاهر — معسكر الديمقراطية ومعسكر الشيوعية» يتباعدان في التطبيق ويولي كلاهما إلى الطرف الأقصى من دعواه، بل يرى على خلاف ذلك أن المستقبل كفيل بالتقريب بين الديمقراطية والشيوعية في مسألة المسائل بين المذهبين وهي مسألة الطبقات؛ لأن معسكر الديمقراطية يقل التفاوت فيه بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء وتتوزع الثروات الكبيرة فيه بين أصحاب الحصص والسهوم، فلا يتمكن فيها أحد من حصر الثراء في يديه أو من الاستئثار بنفوذ المال، ونفوذ الحكم والجاه، ويقابل هذا في المعسكر الشيوعي أن الطبقات تتعدد ولا تتوحد، وأن العمال يتفاوتون كما تتفاوت الأعمال، وأن الاحتكار ينتقل من أيدي الأفراد والشركات إلى أيدي الدولة، ويوشك أن يثير عليها رعاياها ويضطرها إلى النزول عن كثير من السلطان المطلق الذي يمكنها منه احتكار المال والصناعة، وليس هنالك من تضارب أساسي بين أسلوب المعيشة الذي يؤدي إليه توزيع السلطة، وتوزع العمل، وتوزع الثروة على كلتا الطريقتين: طريقة الديمقراطية، وطريقة الشيوعية على وجهتها التي تتجه إليها.

•••

وغير بعيد — مع الممهدات الكثيرة للتوفيق بين مذاهب الشرق والغرب — أن يقع المحظور قبل بلوغ الأمد المنظور، فإن الخطر لا يطرأ من تباين المذاهب أو البرامج في جميع الأحوال، بل كثيرًا ما يطرأ من تنازع القائمين عليها والمتولين لتنفيذها؛ خوفًا على أنظمة الحكم التي تسندهم أو عجزًا عن التفاهم بينهم وبين أعدائهم في الداخل والخارج، أو صرفًا لأنظار الشعوب عن أسباب القلق والشكاية، وما هي إلا خطوة تزل بها القدم فيستعصي على حكمة العالم كله أن يأمنوا عواقبها قبل فوات أوانها، وقد حدث ذلك في التاريخ القريب كما حدث في التاريخ البعيد، فوقعت الحروب لغير ضرورة عامة تستلزمها، ولم يكن من الحتم وقوعها لأسبابها العارضة، فما يحسب أحد من المؤرخين لحوادث الحربين العالميتين يعتقد أن حادثة سيراجيفو أو حادثة دانزج كانتا توجبان الحرب ضربة لازمة لولا سوء التقدير من الحاكمين وولاة الأمور، ومثل هذا قد يحدث غدًا فتتبعه الحرب الثالثة، وتدفع بالعالم الإنساني إلى الهاوية التي لا نجاة له منها كما نجا من الحروب الغابرة، قبل اختراع القذائف النووية والصواريخ الموجهة، وما إليها من أسلحة الفناء والدمار.

ذلك كله غير مستحيل، إلا أننا حريون أن نذكر أن ضوابط السلم في العالم قد بلغت في عصرنا هذا ما لم تبلغه قط في عصور التاريخ القريبة أو البعيدة، وإننا في عصر لا تؤمن فيه غوائل الحروب على المنهزمين والمنتصرين، ولا يسهل فيه الهجوم على الحرب قبل استنفاد كل حيلة من حيل التوفيق أو حيل التأجيل والإمهال.

فالقوى بين المعسكرين متكافئة متوازنة مهما يكن من الفارق بينها، فهو فارق لا يغري بالطمع في الغلبة على ثقة من عوارض الحرب ونكساتها المجهولة.

وقد كانت شرور الحرب فيما مضى تنتهي بنهايتها، وتتلوها الغنيمة المضمونة لمن يفوز بالغلبة فيها، وليست الغنيمة اليوم مضمونة للظافر المتغلب، بل لعله يبوء من الغلبة بالخسارة والتعويض للأمم التي أصابتها الهزيمة الفادحة، وعلى قدر فداحة الهزيمة يكون سوء الحالة بين الشعوب التي تبتلى بجرائرها، ويكون العبء الثقيل على كواهل الظافرين المسئولين عن تلك الجرائر، الخائفين على أنفسهم من عقابيلها، وأولها انهدام القواعد التي يقوم عليها بناء المجتمع عندهم سواء منها ما قام على الديمقراطية أو على الشيوعية.

ومن ضوابط السلم في عصرنا أن الهجوم على الحرب عسير على ولاة الأمر في الأمم الدستورية، وغير يسير على ولاة الأمر في الأمم التي تخضع للحكم المطلق على صورة من صوره السافرة أو المقنعة. فليس في هذه الأمم أو تلك رئيس واحد يملك أن يعلن الحرب وأن يقض على زمامها وهو آمن على بقاء ذلك الزمام في يديه إلى النهاية، ولا بد من النظر إلى عامل جديد في هذا العصر لم يكن له شأن خطير في حروب الأزمنة الغابرة، ونعني به شأن المحايدين الذين يرجحون إحدى الكفتين بالتزام الحيدة أو بالسماح لأحد الفريقين بمعونة التموين وتيسير المواصلات، ونقل الأخبار والمعلومات، فلم يكن للمحايدين مثل هذا الشأن في حروب الأزمنة الغابرة، وليس من المستطاع في حرب عالمية إغفال شأنهم كبارًا وصغارًا في بقعة من بقاع الكرة الأرضية، وليس من اليسير إقناعهم ولا انتزاع معونتهم على الرغم منهم، فإذا تيسر لولاة الأمر في دولة كبيرة أن يقنعوا المعارضين لهم في بلادهم، فليس إقناع المعارضين لهم في خارج بلادهم بالأمر اليسير.

وقد نرى غدًا أن وبال الأسلحة الجديدة هي صمام الأمان ومفتاح الأمل في اجتناب الحرب العالمية، فإن تعذر اجتناب الحرب فربما اتفق الرأي على اجتناب الأسلحة الجائحة من قذائف الذرة والصواريخ الموجهة وما إليها، ويصح القياس في هذا الأمل على أسلحة معروفة تمكن المقاتلون من اجتنابها وهي أفتك وأقرب إلى متناول الجميع من أسلحة الذرة والصواريخ، وتلك هي الأسلحة المكروبية.

فالأمم التي تقدر على صناعة أسلحة المكروبات والجراثيم أكثر من الأمم التي تخترع الأسلحة الذرية والصاروخية، ونفقات الأسلحة التي تنشر عدوى الطواعين والأوبئة أقل من نفقات شق الذرة وتوجيه الصاروخ، والكوارث التي تلحقها بالأعداء أشد من كوارث القذائف المرهوبة من كل سلاح جديد، وقد أصبحت صناعة الأسلحة المكروبية في طاقة عشرات من الأمم قبل إتقان الطيران، وقبل التمكن من إصابة المرمى البعيد بالمدفع والبندقية، فإن تلويث الأنهار والأمواه — بل تلويث الأجواء — في البلاد المعادية لم يكن عسيرًا على أمة لديها معامل التحليل والتركيب، وإن لم تكن لديها مصانع التسليح، وفي وسع شرذمة من الجواسيس أن تندس في أطراف البلد المقصود فتنشر فيه الوباء وتعطل فيه كل وسيلة من وسائل القتال والاستعداد وكل وسيلة من وسائل التموين والعلاج، ولم يحدث حتى اليوم أن أحدًا في مأزق من مآزق الهزيمة التي تهون كل شيء على اليائس المستميت قد أغراه اليأس باستخدام هذا السلاح، فلا نغلو في التفاؤل إذا علقنا الرجاء بحكمة الشعوب الإنسانية أن تتجنب خطر الذرة، كما تجنبت خطر الجراثيم.

والذرة المنشقة — بعد — ليست بالكلمة الأخيرة في علم المخترعين بأسرار الإشعاع وحركات الأثير، فقد يعلمون بعد حين ما يجهلونه الآن من حركات الأمواج الأثيرية دفعًا وطردًا، وسرعة وبطئًا فلا يستعصي عليهم أن يقابلوا الموجات المندفعة من شق الذرة بموجات تصدرها وتلغيها، ولا يعسر عليهم أن يهيئوا منطقة من الجو لتعديل الموجات الشعاعية، وتوجيهها إلى الأعلى أو إلى الأسفل أو إلى الوجهة التي تتحول بها من الحركة الضارة إلى الحركة السليمة، وإنه لحلم من أحلام العلم لو تحقق لكان في مخترعات الصناعة عصمة من بوائقها الجائحة، ولم يوكل رجاء الناس كله إلى عصمة الضمائر والأخلاق.

وسيتحقق هذا الحلم في بقية هذا القرن العشرين أو يظل من أحلال العلم والإنسانية زمنًا يعلمه الله، ولكن مسير العالم من التضامن إلى التعاون لا يتوقف عليه، فإذا اشتبكت علاقات التضامن غاية اشتباكها، فالتعاون بين الشعوب العالمية كائن لا محالة ضرورة واختيارًا في حقبة من المستقبل القريب لا تطول بعد نهاية القرن العشرين.

١  من كتاب نماذج بشرية Human Types لمؤلفه رايموند فيرث Firth بتصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤