الدستور والمهاجرة

المهاجرة مهاجرتان: الجلاء أو هجرة السكان للبلاد، وعليه مدار كلامنا الآن، والاستيطان أو وفود الأجانب إليها للإقامة بها، وسنبسط البحث فيه بفصل آخر.

ليس في بقاع الأرض بقعةٌ أخصب تربةً وأصفى جوًّا وأَجْوَدَ ماءً وأنقى هواءً من معظم أجزاء السلطنة العثمانية، ولهذا كانت منذ القدم مطمع الرواد ومحط الرُّحَّال، فما بالها انقلبت حالها وقَلَّت رجالها وعافها الغريب وفَرَّ أبناؤها مغتربين إلى أقصى الديار.

لا شك أن الحروب واختلال الأمن وتخاذُل أبناء البلاد وظلم الحُكَّام وجشع جُباة الأموال وانتشار الأوبئة، كلُّ ذلك مما هو متقدِّمٌ عهدًا على زمن الاستبداد الأخير، وكله من أسباب الانحطاط وتناقُص السكان، غير أن الجهل من جهة، ووعورة المسالك وتعذُّر سُبُل الانتقال من جهة أُخرى كانا يَحُولان دون المهاجرة، فيَكِلُ الناس أمرهم إلى الله، والوطن عزيز فيؤْثرون الإقامة فيه مع تَحَمُّل الحيف على تَجَشُّم مشاقِّ الاغتراب، وهم لا يجدون إليه سبيلًا.

إذا ابتلاهم الله بحاكم ظالم يومًا شكوا أمرهم إلى الله، وأَمِلُوا أن يخلفه ذو رأفة فينصفهم. وهكذا لبثوا راضين مقيمين مختارين أو مضطرين، ولكن استبداد الحكومة الغابرة خلق من أنواع المظالم ما لم يكن في الحسبان.

كان ظلم الحكام في سابق العهد لطمعٍ بمال أو لكسر شوكةٍ، وأما في العهد الأخير فزاد على ذينك السببين انتفاء كل سبب. كان خائفُ الظلم في الزمن السابق إذا كان ذا مال تدبر بحيلة لإخفائه أو استرضاء الظالم بجزء منه، وإذا كان ذا نفوذ واقتدار عمد إلى التذلل أو المجاهرة بالعدوان وهو بأرضه. وأما في عهد الحكومة الغابرة، فالغني والفقير والأمير والأجير والآمر والمأمور، كانوا على شفير الهلاك في كل لحظةٍ لا ينفعهم حذرٌ ولا تُغنيهم حيطةٌ، وهم لا يدرون متى تُقرع الأبواب فتهجم اللصوص.

وإذا علمنا — مع هذا — أن جميع الأفكار تنبهت، والعلمُ قد بسط جناحيه، ووسائل الأسفار قد تعددت أدركْنا لأول وهلة سببَ الاندفاع الهائل لمهاجرة الأوطان إلى حيث لا واشٍ ولا رقيب، والصبر على مضض العيش تَمَلُّصًا من مخالب الموت أو مناسر الذل والهوان.

أما المهاجرون من البلاد العثمانية ففئتان؛ فئةٌ فَرَّتْ من البطش والاغتيال، وفئةٌ جلت في طلب الرزق، ومرجع هجرة كلا الفريقين إلى الاستبداد، والمسلمون والمسيحيون في ذلك سواءٌ، بل ربما كانت الوطأةُ أشد على المسلمين منها على المسيحيين.

لما قلت الأرزاق وتقلصت الأعمال باختلال الأمن في البلاد العثمانية، وتفتحت أبواب الكسب في أميركا وأستراليا ومستعمرات أُوروبا الأفريقية تنبه إليها الأرمن واليونان والسوريون منذ زهاء أربعين عامًا، ولكن المهاجرين في السنين العشر الأولى كانوا نزرًا قليلًا من صناع الأرمن وخدمة اليونان وفعلة السوريين اللبنانيين وأفراد من التجار لا يتجاوزون العشرات، ثم أخذوا يزدادون شيئًا فشيئًا إلى أن باتتْ كل باخرةٍ من بواخر المساجري مربتيم تحمل كل أسبوع من ثغرٍ واحد كثغر بيروت مئات منهم، وقُلْ مثل ذلك في الأرمن وأقل من الفريقين اليونان.

ثم إذا نظرت إلى كل فئة من أبناء هذه الملل الثلاث رأيت لها أسبابًا خاصة تدفعها إلى الجلاء مما يخرج عن الأسباب العامة، فاليونان أهل ملاحة واغتراب منذ القدم يدفعهم الجد إلى انتجاع الكسب حيث وجدوه، ولهم — منذ مئات سنين — تجار من أبناء جلدتهم أَثْرَوْا في بلاد الغربة يعاونوهم إذا وفدوا عليهم، وهي خطة أَلِفُوها قبل الجميع. فظلوا سائرين عليها حتى إذا قضوا وترهم من الأسفار انقلب أكثرهم راجعين إلى بلاد اليونان مما خرج عن سلطة الدولة العثمانية.

والأرمنُ أهل زراعة وتجارة في أرضهم وقَلَّ من يغادر أرضه منهم من سُكَّان الأرياف، ولكن قليلين من أبناء المدن كانوا يهاجرون في سبيل التجارة.

والسوريون وإن كانت لهم بلادُهُم منذ القدم بلاد الاستعمار وسلك البحار، فإنهم انقطعوا قرونًا طوالًا إلى زراعتهم وتجارتهم في بلادهم، وكانت الأسفار لفئة قليلة من التجار أكثرهم من الحلبيين. فلما ضاقت أبواب المعيشة في البلاد العثمانية، واتسعت في الديار النائية كان اللبنانيون — وفيهم بقية دم من الفينيقيين — أول من أثار عاطفة الجلاء، كأَنَّ روح أجدادهم بعد أن اسْتَكَنَّتْ تلك القرون تحركت في صدورهم فهزتهم هزةً واحدةً.

كان لبنان قبل سنة ١٨٤٠ أحزابًا سياسية غير دينية تتضاغن وتتصافى، تتحارب وتتسالم؛ فتُفني الفتن منهم من تُفني ويعيش من يعيش، وهم جميعًا مشتغلون بزراعتهم قانعون بما قسم لهم من الرزق الضيق. والقناعة رفيق الجهل.

ثم تحولت تلك الأحزاب السياسية إلى أحزاب دينية؛ لبواعثَ نبسطها في محل آخر، وبقيت الحال على ما هي عليه إلى سنة ١٨٦٠.

فلما نال لبنان ذلك النظام (النافع في حينه المُضرُّ الآن) وزالت الفتن واستتب الأمن وكثرت المدارس؛ فانتشر العلم وعاف اللبنانيون شظف العيش القديم؛ باتت أراضيهم غير وافية بحاجياتهم، ولا تجارة تذكر عندهم ولا صناعة، ما خلا منسوجات وإن كانت من أحسن طراز، فلا رواج لها فأخذوا يتطلعون إلى موارد أُخرى للمعيشة، فلم تَلُحْ لهم إلا من وراء البحار.

نظروا إلى ما حولهم من الممالك العثمانية، وهي بطبيعتها من أغنى أقاليم الكرة، فإذا بها فقيرةٌ على غناها، ضيقةٌ على اتساعها، وهم أهل إقدام وذكاء ونزق وإباء، فما راعهم تجشم المشاق، وضربوا في مناكب الأرض كل مضرب شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.

وإن في لبنان علاوة على ما تقدم دافعًا طبيعيًّا لجلاء جزء من سكانه بين فترة وفترة، ذلك أنهم جميعًا كثيرو الضنو، تتكاثر ذراريهم بسرعة فيضيق القطر عنها، وهو في حالته الحاضرة مع وفرة عدد الجالين عنه للعهد الأخير لا يزال من أكثر جبال الأرض سكانًا، فالقرى — ولا سيما في شماليه — مزدحمةٌ ازدحام قرى النمل، ولا عبرة بإقفار بعضها في هذا الزمن، فلا تلبث أن ترجع فتكتظ بأهاليها.

ومن أعظم أسباب المهاجرة أيضًا انتشار العلم بكثرة المدارس، وإن من سيئات العلم — إذا عُدَّت له سيئة — أنه يُثني حديث العهد به عن زراعته، فقلما تجد ابن فلاح تعلم فعكف على زراعة أبيه، بل تسوقه المطامع في المال إلى طلب الرزق من باب آخر. وأبواب الرزق في لبنان تكاد تكون منحصرة في الزراعة ومصالح الحكومة، فأما مصالح الحكومة فإنها لا تتسع لأكثر من زهاء ثلاثمائة؛ فيضطر سائر المتعلمين — ويُعَدُّون بالألوف — إلى هجر الأوطان.

وهكذا كانت الجالية اللبنانية مؤلَّفة من فئتين: فئة الفقراء المنتجعين العيش بقوة سواعدهم، وكثيرون من هؤلاء يستلفون نفقات السفر استلافًا، وفئة المتعلمين الطالبين الرزق من شق أقلامهم أو من رأس مالٍ صغير يكون في الغالب أيضًا دَيْنًا بذمتهم.

وكان أول من نفخ في ذلك البُوق أهل شمالي لبنان؛ حيث الأهالي مزدحمة ازدحام القطافي أفاحيصها، ثم تَابَعَهم أهالي أواسط الجبل، فسكان الجنوب، وما لبثتْ أن امتدت العدوى إلى مدن سوريا كدمشق وحلب وبيروت، وسائر الثغور والأرياف.

ولنقل الآن كلمتنا الأخيرة، وإن طالت، عن مهاجري لبنان قبل أن ننتقل إلى سائر الجالية العثمانية، وخصوصًا أن بين هجرة اللبنانيين وهجرة سائر أبناء السلطنة فرقًا عظيمًا في الأسباب والنتائج.

ليس لدينا إحصاء رسمي لمعرفة عدد المهاجرين اللبنانيين (والإحصاء في زمن الحكومة الغابرة من الكماليات المضرة)، ولكنه يؤخذ من الاستقراءات الطويلة التي تَتَبَّعْناها أنهم بين الولايات المتحدة وسائر جمهوريات أميركا وأستراليا ومصر وجميع الأقطار الأفريقية؛ لا يقلون عن الثلاثمائة ألف. أي: إنهم يكادون يُساوون — عددًا — السكانَ الباقين في البلاد. وكل هذه الجالية هجرت البلاد بعد سنة ١٨٧٠ إلا أفرادًا قليلين منها، وكلها أيضًا هاجرت في طلب الرزق، فلم يكن الظلمُ السببَ الدافع للمهاجرين، ولكنه كان السبب في انصرافهم عن بقاع سوريا والعراق الفسيحة ومدنها الغنَّاء في بلادٍ هواؤها هواؤهم ولُغتها لغتهم إلى حيث تنهكهم الأمراضُ والمشاقُّ في بلادٍ يجهلون لُغَتَها وطبائع أهلها.

ولقد عرفنا من بعض الإحصاءات الاستقرائية أن ثلثهم يموت فناء بالمرض ومشقة السفر. ويكفيهم من ضروب العذاب الأليم ما يلقاه كل فردٍ منهم يوم مغادرته ثغر بيروت أو يوم عودته إليه، وإنا لعلى يقين أنه لو حوكم بعض ولاة بيروت على ما كانوا يُؤْلِمون به أولئك البؤساء، وما يَبْتَزُّونه منهم من الأموال بواسطة حُفَّاظ الأمن يوم سفرهم أو يوم عودتهم؛ لحُكم عليهم بالسجن المؤبد.

ومع كل ما نتج عن المهاجرة اللبنانية من تناقص الأيدي العاملة في الأرض، وتناقص النسل بموت بعض المهاجرين، وابتعاد الرجال عن نسائهم، وانتشار بعض الأمراض التي لم تكن معروفة، أو كانت نادرة جدًّا كالسل الرئوي والزهري، فإن النفع كان عظيمًا بإثراء زمرة من هؤلاء المهاجرين، وتكاثُر النقود بما كانوا يرسلونه إليها، وتوسيع أبواب الراحة بالمعيشة وتلاشي الجرائم بابتعاد أربابها لقلة أرزاقهم في ديارهم.

واللبنانيُّ من طبعه شديد التعلُّق بوطنه، يحن إليه وإن شاخ في أقاصي الأرض؛ ولهذا كانت الجالية في أول الأمر تعقد النية يوم قطع تذكرة السفر على أن لا تلبث في اغترابها إلا ريثما يجتمع لديها شيء من الوفر تستعين به على معيشتها، فتنقلب راجعةً إلى بلادها وهي تقول ما طالما رددناه لبعض أفرادها:

لا يستقر الظبي في فلواته
حتى يعاود ورده المعهودا
والطير مهما فارقت وكناتها
تطوي لرؤيتها الفلا والبيدا

شهدتُ كثيرين من المهاجرين اللبنانيين القافلين إلى الأوطان منذ خمس وعشرين سنة، وشهدتهم في دار اغترابهم منذ خمس عشرة سنة، وشهدتُهم في هذه الأيام وشتان بين الحنين إلى الأوطان في أفئدة هؤلاء وأولئك. كنت إذا رأيتهم مقبلين رأيتهم متهللين بشرًا ومعهم كل ما ادخروا في دار هجرتهم، يحملونه إلى مسقط رأسهم، وهم يقولون: حمدًا لك اللهم، فقد أذنت أن تضم رفاتنا إلى رفاة آبائنا. وكنت إذا سألتُهم رأيَهم في التجنس بجنسية البلاد التي ارتادوها قالوا: معاذ الله أن نكون فَكَّرْنَا يومًا بارتداء حُلَّةٍ غير حُلَّةِ قومنا وعشيرتنا، ولكن الإقامة في ديار الحرية زادت نفوسَهم إباءً. وازدياد المظالم في الثغور زادهم نُفورًا واشمئزازًا، وسريان العدوى في اختلال الأحكام من الولايات إلى لبنان أَوْرَثَهم خيبة في تلك الآمال التي رحلوا بها؛ فضَعُفَتْ فيهم عاطفةُ التفاني بحب الوطن، وباتوا يطلبون الحرية؛ حيث كانت ومالوا إلى الاندماج في سلك الأُمَم التي أنالتْهم من حريتها ومالها ذُخْرًا ثمينًا.

وكأني بحقي بك ناظر المعارف الحالي يذكر يوم كنا معًا بأميركا منذ خمسة عشر عامًا والجالية السورية فيها تُعد بالألوف ومعظمهم من اللبنانيين، والمتجنسون منهم بالجنسية الأمركية قليلون جدًّا، ولكن الميل إلى التجنس آخذٌ في الانتشار بينهم وأظنه يذكر أيضًا ما لقيتُ من العناء بصرف كثيرين منهم عن ذلك الميل مُعَظِّمًا ما كان لديَّ من الأمل الضعيف بالإصلاح الذي تيسر — والحمد لله — فوق ما كنت أرجو ويرجو الجميع. ومع هذا فإن بقايا تلك العاطفة لبثت تختلج في صدورهم إلى ما قبل هذه السنين الخمس الأخيرة؛ إذ استولى السَّأَمُ على جميع نُفُوس المهاجرين فقنطوا من الإصلاح، وباتوا يوم هجر بلادهم يُفَكِّرون في هجر جنسيتهم، فعاد الشر شرين والخسارة خسارتين، ولو تأخر إعلانُ الدستور عشر سنين لأصبح معظم اللبنانيين — من نصارى ومسلمين — أُوروبيين وأمركيين نَزْعَةً وتَبِعَة.

وانظر حينئذ — فوق خسارة البلاد — إلى المشاكل السياسية التي رأينا منها شيئًا كثيرًا بالقسر عن المعاهدات التي تقضي باعتبار جميع العثمانيين المولودين في البلاد العثمانية بحال عودتهم إليها عثمانيين كسائر المقيمين فيها مهما طالت مُدَّةُ اغترابهم، ومهما اكتسبوا من الحمايات والتابعيات الأجنبية.

هذا جُلُّ ما يُقال عن الجالية اللبنانية، وهي — كما رأيت — مع بعض مَضَارِّها الماضية وكثرة شرورها على البلاد والدولة في مستقبل الزمن لم تَخْلُ من الفوائد التي أنتجت الرخاء في جزء من السلطنة فهي فريدةٌ في بابها بهذا المعنى، وهي الجاليةُ الوحيدة التي لم يَسُقْهَا إلى الاغتراب مُجَرَّدُ الاستبداد.

فأجل الآن نظرك في المهاجرة من سائر أجزاء السلطنة، فلا ترى حيث توجهت إلا نكبةً صماء مُنيت بها البلاد، ومحنة لا يقل بلاؤها عن مجازر الحروب ومجارف الأوبئة القتالة.

سَرَت العدوى في سوريا من الجبال إلى العواصم والثغور — كما أسلفنا — ولكن بجرثومة غير تلك الجرثومة، وشكل غير ذلك الشكل.

ولسنا بباحثين في المهاجرين السوريين من نفس الطبقة المتعلِّمة المهاجرة من لبنان، ولكن بحثنا الآن في طبقتين أُخريين لا قِوَامَ لِمُلْكٍ إذا ضَعُفا فيه ونعني: أرباب المال والعمل.

كان أرباب التجارة من السوريين إذا أثروا فيها أقاموا فيها حتى الموت، وإذا جمعوا ثروتهم بالأسفار عادوا في الغالب بتلك الثروة فتمتعوا بها في أُخريات حياتهم في تلك الربوع الفيحاء، فلَمَّا تَفَاقَمَ الاستبدادُ والتعنت في الأحكام في العقدين الآخرين من السنين الفوائت بات السكن في المدن السورية — ولا سيما في الثغور وعلى التخصيص في بيروت — مما يحرج النفوس في الصدور، ومداراة الحكام مما يُذهب الصبر والمال. وكانت مصر — وهي شقيقة سوريا في اللغة والعادات والأخلاق وجارتها القربى — راتعةً في بحبوحة من الأمن وصفاء العيش، توجهت أنظارُ أرباب المال إليها كما توجهت إليها أنظارُ الطبقة الوُسطى وأرباب الأقلام، فكانت لهم جميعًا ملجأً أمينًا يقصده طالب الرزق للإقامة، ويرتاده التاجر الغنيُّ للنزهة شتاءً، ويغتنم فرصة من تلك النزهة لإنماء ثروته بالمضاربات بالمال والعقار. فلما كادت تزهق أرواحُ السوريين في بلادهم تهافت رهطٌ من أعلى طبقات هؤلاء التجار على تصفية أشغالهم وبَيْعِ عقارهم بأبخس الأثمان وطلَّقوا سوريا بتاتًا، وأتوا فَأَقَامُوا في القطر المصري ورحل بعضهم إلى أُوروبا.

وقد أجهدتُ النفسَ مرةً بإحصاء ما نقص من ثروة مُدُن سوريا — وأخصها بيروت وحلب — بجلاء هؤلاء التجار عنها في هذه المدة القصيرة؛ فبلغ زهاء سبعة ملايين من الليرات العثمانية.

ولا ريب أن هذه الثروة بقيت للسوريين، بل زادت كثيرًا بما أُضيف إليها من الكسب، ولكنها خرجتْ من البلاد ولم تكن لِتَرْجِعَ إليها قَطُّ لا كُلًّا ولا بعضًا، لو لم يمن الله بنعمة الدستور.

ولكن البلاء الأعظم الذي ابتُليت به البلاد: جلاءُ الفَلَّاح عن أرضه.

كانت الحكومة الغابرة في أول أمرها تنفِّذ الأوامر حينًا بعد حين بمنع المهاجرة من سوريا، ولكن تلك الأوامر إنما كانت وسيلةً لرجال «المابين» وعُمَّالهم من الولاة لأجل ابتزاز الأموال من المهاجرين، حتى ضرب بعض الولاة لنفسه ضريبة معلومة على كل مهاجر، وأطلق العنان لحفاظ الأمن يبتزون ما شاءُوا لأنفسهم ولمن والاهم من حَمَّال وبَحَّار وواسطة وعميل.

وأَشَدُّ تلك الأوامر كان بحجر الفلاح المسلم القاطن في الولايات السورية مما خرج عن لبنان، ومع هذا فلم يكن يعدم المسلمون وسيلة للانسلال مع النصارى سرًّا في أول الأمر ثم جهرًا مع مواطنيهم. وإليك بيان وسيلة من تلك الوسائل التي كان يَتَفَكَّهُ بها أولئك الظُّلَّامُ من رجال الضبط وعملائهم لتسهيل سُبُل السفر للمسلمين.

قصد ثغرَ بيروت من فلاحي البقاع نحوُ عشرين رجلًا بين سُنِّيٍّ وشيعي، وبينهم رجلٌ شيعي طويل اللحية، فأخذه دَلَّالُ المهاجرة بيده إلى عزلة، وقال له: لا بد لك يا صاح من حلق لحيتك — وإن من عرف عادات القوم في تلك الأصقاع يعلم أن القضاء على الرجل منهم بقطع يده أسهل عليه من القضاء بحلق لحيته — فأبى واشتد اللجاج بينهما، ورجع الرجل عن عزمه على السفر، فأتى رفاقه وخافوا أن يصابوا بأذًى شديدٍ إذا انثنى عنهم، فما زالوا به حتى أقنعوه بقصها قصًّا.

وهكذا بعد أن كان المهاجرون المسلمون نزرًا يسيرًا من فَلَّاحي لبنان أخذت الغيرةُ فلاحي سواحل سوريا، ثم امتدت إلى فلاحي البقاع، فأعالي سهول حمص وحماة، حتى شُوهد بين مُهاجري المسلمين أفرادٌ من البدو، ولولا لُطف الله بهذا الدستور لسَرَت الغيرةُ في داخل البلاد حتى بغداد، وخصوصًا بعد ما كان يبلغ ذلك الفلاحَ البائسَ في أرضه أن إخوانه في سعة من العيش والحرية في ديار الغربة، ومنهم الآن العامل والزارع والتاجر، وأن لهم هنالك يدًا بمعاونة بعضهم بعضًا مما لا يُتاح لهم في نفس بلادهم.

وهذه الجمعيةُ الخيريةُ الإسلاميةُ في البرازيل لا تُغادر بائسًا منهم على بؤسه؛ فتعول المقعَد وتدواي المريض وتنفق على المَعُوز الراغب في معاودة وطنه، وحكومة الاستبداد في نفس بيروت بددت شمل جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية — كما مر بك.

قصدتُ بلودان في صيف سنة ١٩٠٦ مع رفقة من صفوة أدباء دمشق الشام من آل العظم والبخاري والعسلي وشهبندر وبلودان، هذه قرية غَنَّاء فوق روض أريض من رياض البقاع، تعلو عن سطح البحر ١٥٠٠ متر، جَنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار، لو كانت في ديار الأمن والعدل لكانت منتجعَ الرُّوَّاد. يتمنى ابن باريس لو يقطع منها بضعة أمتار يرتاض فيها بعد العناء ويرتاح بعد العياء. وهي مع ذلك كسائر القرى حقيرةُ البيوت ذاتُ طرق مُعْوَجَّة ضيقة كمعابر الماعز في غاب الجبال، يصعد إليها النازل من قطار سكة الحديد عند محطة الزبداني في مسلكٍ أشبه بلولب منه بطريقٍ يمتد متعرجًا على ثلاثة أميال. قد اعتادت حُمُر تلك البلاد تسلقه بلا عناء، فركبنا الحمير وخَلْفنا أصحابها من أهل تلك القرية، وكان رفيقي القروي كهلًا نظيري، فأخذت أُباحثه بشئُون قريته وزراعتها وزُوَّراها إلى أن بلغ بنا الحديث إلى عمال الحكومة وجباة الأموال، وكنت في كل كلامي أتودد إليه متلطفًا تسكينًا لخاطره ودفعًا لريبته.

فلما اطمأن انطلق لسانه، وكانت زفراته أطول من عباراتهِ، ولم نزل على ذلك الحديث إلى أن بلغ بي سفح القمة أمام الفندق الذي كنت أقصده ولا فندق سواه، بل كان في الأصل بيتًا لرجل عليل من وجهاء الشام بناه لنفسه مصيفًا يقيم فيه مستشفِيًا من مرضه ثمَّ جعله فندقًا للمصطافين. فقال لي صاحبي والزفرة تكاد تخنقه: هذا هو النزل المقصود، متعك الله فيه بالهناء والسرور أنت ورفاقك، وأما أنا ورفاقي فلقد عقدنا النية على أن نُغادر لكم في الصيف المقبل هذه البلاد بما فيها، غير آسفين على أرضنا وعقارنا في هذه الجنة الحمراء، سائرين على بركات الله إلى حيث نرجو أن نكون بمأمن من ظلم هؤلاء العُتاة الفجار الذين حَبَّبُوا إلينا الموت. وتناول أُجرته شاكرًا وانصرف.

قلت في نفسي: غوثك اللهمَّ! إذا كان هذا مبلغ اليأس والسأم من نفس هذا الفلاح وهو مالكٌ أرضًا وبيتًا وله مورد رزق دائم مما يبذله روَّاد جنته هذه، فما الظن بالفلاح المأجور الذي لا يملك كوخًا يأوي إليه ولا شجرة يتفيأ بظلها في تلك السهول المحرقة، والدرهم بعيد عن كفه بُعد الرحمة عن قلوب أولئك الظلام.

وهنالك صنف آخر من أصناف المهاجرين من البلاد العثمانية لا أجد تعبيرًا وافيًا لوصف بؤسهم وشقائهم، وأعني بهم: جماعة الأرمن، مزيجٌ من التجار والصناع والزراع مقيمون في بلادهم من ولايات: وان وأرضروم وطرابزون، وما والاها، وقد مرت عليهم القرون وهم عائشون بأمن مع جيرانهم الأكراد والترك وغيرهم، وإذا حصل بينهم خلافٌ فإنما هو سحابةُ صيف لا تلبث أن تنقشع، ومنهم زرافات عديدة من ذوي المناصب من كل الدرجات ومن أرباب التجارة والعقار والصرافة وسائر الحرف متوزِّعون في كل أطراف السلطنة، لا يَقلُّ عددهم في نفس الأستانة عن المائة والخمسين ألفًا.

بدأ ثائر الشقاق يثور بين الأرمن والأكراد منذ استفحل أمرُ حكومة الاستبداد، أي: منذ خمس وعشرين سنة، وكانت البواعث شديدة من الداخل والخارج.

وليس هنا محل بسط تاريخ المسألة وإنما نَستخرج من مذكراتنا عنها ما يقتضيه سياقُ الحديث.

لا يكاد الإنسانُ يفقه سرًّا لمغازي سياسة الحكومة الغابرة إذ كانت تعمل على إضعاف بل إتلاف جميع العناصر المؤلَّفة منها هذه الأُمَّة، فما شعرت بهذا التنافر بين سكان أرمينيا حتى قامت توسع في الخرق، فبدلًا من أن تتلافى الأمر أرسل إليهم عمال «المابين» رجالًا على شاكلتهم. وكلما تعالت الشكوى زادت المغارم إلى أن كانت الفتنة الأولى في وان وموش وخربوط وأرضروم سنة ١٨٨٨. فهاجر من الأرمن من هاجر، ثم خَبَتْ النارُ تحت الرماد ولم تزل بين شبوب وسكون إلى سنة ١٨٩٥؛ حيث كانت المذبحة الهائلة، فتجاوزت أرمينيا إلى الأستانة حيث قتل في يومي ٢٥-٢٦ آب (أغسطس) زهاء خمسة عشر ألف نفس، وامتدت منها إلى أطراف البلاد.

وما كان اعتراض الوزراء والعلماء وبعض المشيرين ولا مروءة ذوي المروءات كفؤاد باشا — على ما تقدم في باب التعصب — لتؤثر مقدار ذرة في أفكار عمال «المابين»، فإن قوتهم إنما كانت بأضعاف جميع الخلق، فما انثنوا حتى ارتووا بما سال من دماء تلك الألوف، والذي يدلك على أن عمال «المابين» لم يصدقوا بزعمهم لدى عقلاء الأُمَّة أنه تيار اندفع بالقسر عنهم فلم يستطيعوا أن يقفوا بوجهه أنه لم تكد تصدر الأوامر من يلدز بإيقافه حتى أصبحت جميع أنحاء الأستانة في نصف ساعة دار أمن وسلام بعد أن كانت بحرًا مضطرب اليم بأمواج الدماء. ولم تنحصر البلوى بقتل تلك النفوس، فإنك تستنتج — بلا ريب — أن سيل المهاجرة اندفع يَجْرُفُ كل ما لقي في سبيله، وأنه عقب ذلك مجاعةٌ عَمَّتْ تلك الأصقاع فباد فيها زهاء ما باد بالسيف والرصاص «والنبُّوت»، وتعطلت المزارع ودمرت البيوت وأقفرت بلاد عامرة؛ فكانت خسارة البلاد في سنة واحدة بالقتل والموت بالمرض والجوع والمهاجرة نحو أربعمائة ألف نفس.

ولا ريب أن اختلاج عواطف الحنان والإخاء في أفئدة الأحرار في الآونة الأخيرة، واندفاعهم مئات وألوفًا باحتفال باهر إلى مقابر الأرمن؛ حيث كانت تُنقل الجثث مكدسة على عربات المزابل إلى خلجان تُرمى فيها ركامًا، بعض فوق بعض، وذهابهم بالزهور والأكاليل لتُلقى فيها فوق تلك الأضرحة الفسيحة؛ لأعظمُ دليلٍ على أن عقلاء الأُمَّة كانوا ناقمين ساخطين، وإن في ذلك لبلسمًا لِجِرَاح مَنْ بقي من أنسباء أولئك التُّعَسَاء، ولكنه لا يعوض البلاد شيئًا من خسارتها الفادحة.

وإن غوائل المسألة الأرمنية امتدتْ خسائرها إلى جميع أجزاء البلاد، خذ الأستانة مثلًا تَرَ أنه على أثر تلك الحادثة انقطعت عنها الثقة المالية من أُوروبا؛ فتَعَطَّلَت المتاجر وقَلَّت الأعمال ونفد المال وأخذ التجار والصناع من أبناء جميع الملل يهجرونها إلى مصر وأُوروبا. وقد شهدنا مئاتٍ منهم في مصر القاهرة وحدها من الأُوروبيين واليونان والترك والعرب، ولو أُحصي عدد سكان الأستانة سنة ١٨٩٧ لأسفر الإحصاء بلا ريب عن نقص مائة ألف نفس بأقل تعديل.

بقيتْ علينا لفتةٌ مؤلمةٌ إلى آخر صنف من المهاجرين، وهو تلك الفئة التي كان يجب أن تكون عمادَ الدولة ورُوحَ البلاد، ونعني بها: فئة الأحرار ودُعاة الإصلاح — بعُرْفنا. والخونة المجرمين السياسيين وأعداء الدولة — باصطلاح عمال «المابين.»

لم يكد مستشارو السوء يُشيرون بفض مجلس المبعوثان سنة ١٨٧٧ حتى أخذوا يتطلعون إلى جميع الذرائع المؤدية إلى إماتة تلك الروح؛ روح الحرية المنبثقة من مساعي مدحت وكمال وأنصارهما، ودفن المذهب الدستوري بمهده. وإذ كان ذلك مطلبًا بعيد الشُّقة عسير المنال لم يروا بدًّا من الشروع في إبعاد طلاب الحرية عن مواقف النفوذ، فمن قَوِيَ منهم على كتمان هوى نفسه وتدبر الأمر بطول الأناة؛ بقي في منصبه — إذا كان ذا منصب — أو غُودر آمنًا في منزله، وكلا الرجلين تحت أكناف الخفية. ومن بدرت منه بادرةُ تَشَفٍّ عما في ضميره، أو خِيف أن يحول دون مأرب من مآرب رجال «المابين» ضُربت عليه الذلة والمسكنة. ومن هؤلاء نزر يسير يسوءنا جدًّا أن نعترف أنهم انقلبوا إلى زُمرة الجواسيس، فزادوا في بلاء رفاقهم القدماء.

ولسنا هنا ننكر ما تقدم بهذا الصدد في باب رجال الدولة وغيرها، ولكن محصل القول أن معيشة هؤلاء الأحرار في بلاد السلطنة باتت من المستحيلات، فلا أُولو الأمر يُطيقون إقامتهم بينهم ولا هم بقيتْ لهم طاقةٌ على تحمُّل الضيم، وخصوصًا أنهم باتوا على شفا المهالك، والمخاطرُ محدقةٌ بهم من كل صوب؛ فأخذوا ينسلُّون الواحد بعد الآخر، ويفرون شرقًا وغربًا. وانسلال كل واحد منهم يُلقي الشبهات على عشرات من أنسبائه وأصدقائه، فيضطرُّ كثيرون منهم إلى اللحاق به. ولطالما قُبض على الواحد منهم وهو على أُهبة السفر فزُجَّ في سجن فمات فيه أو فَرَّ منه مرة أُخرى. أو سيق فأُميت خفية أو أُقصي إلى منفاه.

وإذ كان الغدر بذوي العقل والصلاح والحرية والذكاء أسهل الأُمور على عمال «المابين» أخذت الناسَ الرعدةُ ومال الجمُّ الغفير إلى مغادرة البلاد لغير سبب سابق، ولكن خشية من سعاية مقبلة، ولولا شدة رقابه الخفية وقيام الحُرَّاس على الثغور ليلًا ونهارًا وشدة التنكيل بمن قُبض عليه فارًّا لخلت البلاد من أرباب العقول — كما كادت تخلو من زرَّاع الحقول.

وليس أحدٌ من أبناء هذا الصنف ممن غادر بلاده وراء باب رزق أوسع في دار الاغتراب، بل كانوا جميعًا بالعكس من ذلك ينزلون عن منصة الرخاء إلى بيت الذل الضَّيِّق، ولقد شهدنا الكثيرين منهم من أبناء الكبراء والوزراء وسعة العيش يحتالون على خدمةٍ في محل تاجر، أو إدارة شركة، أو مصرف براتب كان يتناوله بعضُ الحشم في دور آبائهم.

هؤلاء هم الأحرار الذين انبثُّوا في جميع الأقطار وتَأَلَّفوا في البلاد النائية، وهؤلاء هم المهاجرون الذين لبثتْ بلادهم ودولتهم نُصب أعينهم في سرهم وعلانيتهم.

ومن كان هذا شأنُهُ فلا بدع أن يَصرف كل قواه إلى استئصال جرثومةِ الفساد ودَرْءِ شبهات الحساد ومواصلة السعي لبلوغ المراد. قصدوا البلاد الأجنبية شُذَّاذًا شُرَّادًا فتآلفوا فيها وتألَّفوا عصاباتٍ وجمعيات سرية وغير سرية في باريس وجنوه ولوندرا ومصر، ولم تخلُ منهم عاصمة من العواصم الأُوروبية حتى بلغوا أميركا.

هذه هي الجالية التي كانت أشد شقاء من سائر الجاليات، فأصبحت الآن أسعدها، وأي سعادة أعظم من بلوغ منتهى الآمال؟ وهذه هي الجالية التي تتهافت الآن قافلةً إلى بلادها تهافُت الظباء على موارد الماء في قيظ الهاجرة. ولئن نالت البلادَ خسارةٌ بجلائها فستنقلب كل الخسارة ربحًا بعودها إلى أوطانها، وقد ضمت إلى نزعتها الحرة ما أكسبها الاغترابُ من زيادة المعرفة والاختيار.

وإذا علمت أنها لا تَقِلُّ عن السبعين ألفًا، منهم خمسة وستون ألفًا من المسلمين وخمسة آلاف من المسيحيين، وأنهم جميعًا من ذوي الدراية والنشاط، ومن جميع عناصر الأُمَّة العثمانية؛ اتضح لك قيمة الذُّخر الثمين الذي يعودون به إلى أوطانهم. ولا عبرة بمن خرط نفسه بينهم من زمرة الجواسيس مدَّعيًا أنه من دُعاة الحرية، فذلك عَرَضٌ زالت الآن كلُّ آثاره.

ذلك ما يُقال إجمالًا عن أصناف المهاجرين العثمانيين، ولا شك أن تَبَدُّل الحال بإعلان الدستور سيُحدث انقلابًا ليس في الحسبان، فيرجع بعض الأصناف كالصنف الأخير برمَّته، وسائر الأصناف يَعُود معظمُهُ إلى حظائره، ويقف هذا السيلُ الجارفُ فينثني من نوى الهجرة عن عزمه. وليس ببعيد عنا ذلك اليوم الذي ينعكس فيه ذلك المجرى منا إلينا، يوم يَستَتِبُّ الأمنُ ويسود العدل بصلاح الأحكام، فتبيت البلاد العثمانية مطلب المهاجرين من أقاصي الديار، فتفتح أبوابها لمن وسعتْه منهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤