كلمة في سائر موارد الثروة

المعادن

لم تلتفت الحكومة العثمانية في زمن من الأزمان إلى تَحَرِّي المعادن الموجودة في بلاد السلطنة بعناية تضمن استخراج تلك الكنوز الدفينة، ولكن كل الظواهر البادية من تشعُّب المناطق والتربة فيها وبحث السياح وطلاب الثروة بطريق الامتيازات واهتمام بعض الولاة وتقارير قناصل الدول تؤدي إلى الاعتقاد بوجود معادن كثيرة مختلفة الأنواع عظيمة الشأن. مما ظهرت آثاره ومما لم تظهر.

فالفحمُ الحجريُّ وهو من أعظم أركان الثروة موجود في قسمي أُوروبا وآسيا مما بذلت بعض الهمة في استخراجه كمعادن هركلي، ومما لا يزال مهملًا كمناجم مندلي في ولاية بغداد. ومعادن الكروم والرصاص الفضي تُستخرج بقلة من الولايات الأوروبية، ومثلها معادن الحمر في الأراضي السنية بسوريا والنحاس في أرغني بولاية ديار بكر، وفي مواضع كثيرة معادن ظاهرة، وتوشك أن تكون مهملة كل الإهمال، ومنها الذهب والفضة والأنتيمون والزرنيخ والسنباذج والزئبق والمنغنيس والحديد والقار الحجري والسائل والكبريت والبورق ومقالع الرخام على اختلاف أنواعه.

وليس ببعيدٍ أن يكون فيها منابع بترول غزيرة. فقد شرع منذ نحو خمس وعشرين سنة باستخراجه من ضواحي الإسكندرونة ثم أُهمل لأسباب غامضة، وأما في ولاية بغداد فوجودُه محقَّق؛ إذ يستعمله أهالي مندلي وجوارها بحالته الطبيعية بلا تصفية، وقد كان مدحت باشا اهتم باستخراجه على الطرق الحديثة، فأنفق مبالغ طائلة على بناء معمل في بعقوبة استجلب له الآلات والمهندسين، وطالما بدت بوارقُ النجاح غادر مدحت الولاية فأُقفل المعمل ولعبت به أيدي الدمار، وأما المياه المعدنية بجميع أنواعها الحارة والباردة فهي متفجرة في مواضعَ كثيرةٍ لا يكاد يُلتفت إليها مع ثُبُوت مضاهاتها لأحسن الأنواع من أمثالها في أُوروبا، وهي كثيرةٌ بعضها في أُوروبا كمياه بورصة، وبعضها في آسيا كمياه وادي العمق بولاية حلب.

ومن الغريب أن مياه الحمة في فلسطين، التي كان يقصدها عظماءُ أُوروبا للاستشفاء، وأنشأ فيها قياصرةُ الرومان حمامات تدل آثارُها على عظمةٍ لا مثيل لها في أشباهها بأُوروبا، باتت مهملة لا ينتابها إلَّا القليلون من أبناء الجوار ممن لا يُطيق الانتقال إلى أوروبا.

وأَمَّا الملاحات البرية والبحرية فكثيرةٌ جدًّا، وبعضها يُستخرج منه الملح بهَمَّةٍ وعناية فينتج دخلًا غير قليل، ولا عجب بتلك العناية الخاصة فإدارة الديون العمومية هي الرقيبة عليها الحافظة لدخلها.

وفي الدستور القديم قانونٌ وافٍ للمعادن ضامنٌ لحقوق الدولة والأفراد، ولكن الاستبداد كان يعبث به عبثه في غيره؛ فقد شاهدنا غير مرة باحثًا مجتهدًا أو مكتشفًا خبيرًا عثر على منجم فأنفق المال في البحث والامتحان وطلب الرخصة الرسمية باستخراجه وأُجريت المعاملات المعتادة، وإذا بالإرادة السنية صدرت بإعطائه هبة أو لقاء بدل طفيف لأحد المقربين.

وأَمَّا الغاباتُ والحراج، فقد كانت كثيرة جدًا ومن أنواعٍ شتى بَادَ معظمها بالإهمال، ومع ذلك فالباقي منها كثيرٌ كحراج قسطموني وكليكيا في الأناضول، وغيرهما مما لا يفوقه شيءٌ من أمثاله في بلاد أُوروبا.

ولا شك أن الحكومة الدستورية ناظرةٌ إلى جميع فروع هذه الثروة الدفينة والمبدَّدة، وحريصة على لَمِّ شعثها وادخارها.

الصناعة

إن الصناعة في البلاد العثمانية أسوأ حالًا من الزراعة، مع أن فيها منشأَ كثير من الصناعات القديمة التي بادت كصناعة الزجاج والقرمز في فينيقيا. والنحت والحفر وصناعة التماثيل في جزر الأرخبيل. والرسم وما لحق به من نتاج الفنون الجميلة في القسطنطينية وما وَلِيَهَا من بلاد الروملي. وكان آخر هذه الصناعات عهدًا بالاضمحلال صناعة القاشاني البديعة في دمشق الشام، وهو معلوم أن معظم الأُمم القاطنة في بلاد الروملي والأناضول والجزر اليونانية وسوريا وأعالي العراق ممن اشتهر في أكثر العصور بالحذق والمهارة في الصناعة ولكن صروف الزمان التي انتابتْ بلادهم قوضت في جملة ما قوضت أركان صناعتهم، ثم قامت معامل البخار في أُوروبا فكانت الضربة القاضية عليها.

ومع ذلك فلا يَزال في كثيرٍ من هذه البلاد كثيرٌ من الصناعات الخاصة بها مما يُستعمل لحاجات السكان من المصنوعات المعدنية من الذهب والفضة والنحاس والحديد والحجارة الكريمة والمنسوجات الحريرية ومحوكات الصوف والقطن وصناعة الخشب والدباغة وزخرف البناء وغير ذلك، وإن لهم في بعض هذه الصناعات مهارةٌ توشك أن تُستغرب من قوم طال عهد القطيعة بينهم وبين نتاج الصناعة في العلم الحديث. وحسبك أن تدخل جامع الخليفة عمر الذي جُدِّدَ بناؤه حديثًا في دمشق الشام أو تنظر إلى المنسوجات الحريرية في كثيرٍ من المُدُن ونفس القرى؛ تتحقق أن جرثومة الصناعة حية تنهض منبعثة لأول دافع يدفعها.

ولا شك أن هذه الصناعات — على قلتها — تفيد البلاد فائدة جزيلة بما تستخرجه لأهاليها من لوازمهم، وما تُفيضه من الرزق على العَمَلة والتجار. ولكن هذه الفائدة لا تُذكر بإزاء ما تحتمله البلاد بما فيها من يدِ عاملٍ ونتاج تربة وطبيعة؛ إذ لا يكاد أكثر هذه المصنوعات يكفي السكان، وإذا استثنينا مصنوعاتٍ قليلةً كالسجاد الذي يصدر من أزمير والصدف المنقوش الذي يصدر من بيت لحم والكهرباء من صنع الأستانة، فليس في البلاد العثمانية صادر صناعة إلى الخارج وأشد من ذلك عليها أن الوارد من المصنوعات الإفرنجية من نفس المصنوعات المحلية يربو كثيرًا على ما يُصرف في البلاد من مصنوعِ أهلها.

وأغرب من هذا أن في أُوروبا مصنوعاتٍ كثيرةً مما لا يُستعمل فيها وإنما يُصنع فيها ليُرسل إلينا، ولربما جهل الصناع وجهة استعماله كالمنسوج المعروف باليازمة وكوفيات العرب المعروفة باليشمق وزجاج النراكيل. حتى الفيوس أو الطرابيش التي هي شعار العثمانيين لم ينشأ لها معملٌ إلا لعهد قريب بهمة الخزينة الخاصة، ولكنه لا يُخرج إلا جزءًا مما تستلزمه حاجة البلاد.

ولربما أخذوا مادة تلك المصنوعات من عندنا، فربح بها التاجر، وأُرسلت إليهم فأنفقوا على نقلها ورسومها وأدخلوها معاملهم فأخذ العامل أُجرته الباهظة، وأضيفت إليها نفقاتُ الشحن والرسوم، وأرباح أصحاب المعامل والتجار فذهبت جزة الصوف من عندنا بثمن زهيد، وأُعيدت إلينا طرابيش أو غيرها بأضعاف أضعاف ثمنها. وتوزعت أرباحُها على أصناف الناس. ولم يصبنا منها إلا الثمن الأصلي الطفيف.

وإنه ليؤلم العثمانيين — بعد نهضتهم هذه — أن تكون تلك حالة الصناعة في بلادهم، وجميع مواد الصناعة ومعداتها متوفرة لديهم، فعندهم العامل الحاذق النشيط، وعندهم الفحم الحجري ومنتجات القوة المتفرقة في أنحاء البلاد، من منحدرات الأنهار الكبيرة إلى شلالات الجداول الصغيرة التي تُولِّد الكهرباء بقوة أُلوف الأحصنة، وعندهم أحسن المواد اللازمة لمعامل الحديد والخشب والزجاج حتى بناء السفن، وعندهم الحرير والصوف والقطن والكتان للمنسوجات على اختلاف أنواعها، وعندهم المعادن المختلفة وسائر اللوازم المادية. فإذا نشطوا من عقال الخمول فشأنهم في إتقان الصناعة لا يقل عنه في سائر الشئُون.

ولقد حدت الهمة فيما مضى كثيرين منهم إلى إنشاء المعامل على الطرز الأوروبي فلم يفلح إلا القليل، وهذه معامل الورق في الأستانة وبيروت لم تكد تعيش حتى ماتت؛ إذ لم يكن في البلاد من ينشط الصناعة، وموازرة الحكومة مفقودة. ولكن حيث توفرت أسباب النجاح وساد الأمن وأخذت الحيطة اللازمة لإتقان الصنعة ما لبث الأهالي أن أفلحوا وانتزعوا الصناعة من أيدي الأوروبيين أنفسهم، وهذه معامل حل الحرير في جبل لبنان لا تخلو منها الآن بقعة من بقاعه وهي تكاد تكون كلها لأهله، وقد كانت منذ سنين قلائل بضعة معامل في يد الأوروبيين، فما تعلم السكان تلك الصناعة حتى شاد تجارهم معاملُ خاصة بهم. وبمدة يسيرة استولوا على صناعة جديدة على الطراز الحديث، فكانت مورد رزق عظيم لجميع سكان البلاد.

التجارة

إن بلادًا كبلاد الدولة العثمانية، وهي عروة الوصل بين قارات العالم القديم الثلاث، كان يجب أن تكون قابضةً على أوثق أزمة التجارة، فحيثما سرَّحت نظرك على موقعها في رسم الكرة، من ضفة الطونا إلى السودان، ومن بلاد إيران إلى بحر الأدرياتيك؛ رأيتها مرتبطة بآسيا وأُوروبا وأفريقيا بصلاتٍ طبيعية تجعل لها ميزة خاصة تعز على ما سواها، وخصوصًا أن لها ثغورًا تشرف على البحار شرقًا وغربًا وشمالًا في طريق لا يكاد يفصله فاصلٌ من البحر الأحمر بترعة السويس حتى بحر عمان والأوقيانوس الهندي وخليج فارس.

وإن في هذه البلاد شعوبًا كان لها في كل زمان — قديمًا وحديثًا — شأنٌ في التجارة عظيم، يطوف أبناؤها البحار، ويرودون القفار في سُبُلها طلبًا للكسب والاستعمار، فحيثما استتبت لهم قوة اليد والمال زادوا على زُمر تجارهم المقيمين في البلاد روادًا يجوبون المجاهل في أقاصي المعمور، فيستعمرون استعمار الفينيقيين أو يستطلعون استطلاع العرب الذين بلغوا بطوافهم أطراف العالم الجديد، وإذا ضعفت قوتهم وقَلَّ مالُهم ضربوا أشتاتًا في قلب الأرض، واتجروا بالقليل من المال إلى أن يتجمع لديهم كثيرُهُ — كما يفعل المهاجرون العثمانيون في هذه الأيام.

فبلادٌ هذا موقعُها وتلك صفاتُ سكانها لا بد أن يكون أهلها يومًا في مقدمة الأُمَم التجارية إذا التأم صدعها وصلحت حالُها. وليس من غرضنا في هذا المجال الضيق أن نضع تقويمًا لتجارة البلاد ونَصِفَ الصادر والوارد، وإنما هي كلمةٌ إجماليةٌ نستكمل بها هذا البحث الموجز.

إن التجارة في البلاد العثمانية جاريةٌ بمجراها الطبيعيِّ بمعنى أنها تقوى وتضعف بالعوامل الطارئة عليها، وقلما نرى للحكومة مسعًى في إنمائها إلا ما أتى عن طريق التوسيع في وسائل النقل وأكثره صادر عن مساعي الأجانب. ولكن في تحويل هذه الطرق من جهة أُخرى، أو فتح طرق جديدة خرابُ بلاد وعمارُ بلاد، كما جرى بعد فتح ترعة السويس؛ إذ تحولت جميعُ تجارة العجم وبعض تجارة الهند إلى هذا الطريق بعد أن كان الصادر والوارد يقطعان العراق إلى ثغر الإسكندرونة، فانحطت تجارة البلاد من ذلك الثغر إلى حلب وبغداد، وبلغ الضرر جميع البلاد الممتدة برًّا حتى الأستانة. وهكذا فإن فتح هذا الطريق الجديد أَضَرَّ بتجارة جميع البلاد العثمانية، وإن ما نشأ عنه من النفع بالنظر إلى ثغور البحر الأحمر لا يُذكر بجانب ضرره. ولا نعرف بلدًا استفاد منه فائدة حقيقية إلا البصرة إذ سَهَّلَ لها إصدار حاصلاتها — وأخصها التمر — إلى أُوروبا. فلو كانت طرق الحديد ممتدة في البلاد امتدادها في أُوروبا لخفَّت وطأة ذلك الضرر، فإن الطرق القليلة التي أُنشئت حديثًا في سوريا قد نشأ عنها رواجٌ في التجارة غير قليل، ولا ريب أنه بعد بلوغ سكة حديد بغداد إلى خليج فارس، وتشعُّب الفروع منها إلى أطراف البلاد يكون للتجارة حركة لم تكن في الحسبان.

ومع أن الملاحة الوطنية بحكم العدم، فللثغور تجارة رائجةٌ بفضل السفن الأجنبية. وأما البلاد البعيدة عن مشارف البحر كديار بكر والموصل وأريافهما، فما أشد ما ينالها من الضرر لصعوبة النقل منها وإليها. فلقد يشهد المُراقب فيها ما شهد فرعون في مصر إذ أكلت البقرات العجاف البقرات السمان، ومرت عليها بعد سنة ١٨٧٤ سنو خصب ورخاء فضاقت البيادر بحاصل الحبوب من نتاج الزراعة، ولم يكن في الإمكان إصدارها إلى الخارج لصعوبة النقل وغلاء أُجرته مع رخص أثمان الحبوب، فبقيت رُكامًا بعضها فوق بعض إلى أن تَلِفَت. ثم عقب تلك السنين زمنُ قحط فلم تأت سنة ١٨٧٩ حتى اشتد الضيق، ثم كانت مجاعةٌ فتكت بالسكان أَيَّ فَتْكٍ، ولم يبلغهم المدد لبُعد المسافة حتى فَنِيَ منهم من فني وتشتت من تشتت من الفقراء، وابتاع الباقون من الموسرين قُوت يومهم بدخل سَنَتهم.

على أن أمثال تلك النكبات سيمتنع حصولُها بعد تشعُّب الطرق في البلاد، وإن تفاؤلنا بنمو التجارة في جميع أنحاء السلطنة لا يقل عنه بسائر وسائل النمو والارتقاء المادية والمعنوية.

وإذا اعتبرت أن في داخل البلاد جميع أصناف التجارة من حاصل الزراعة حبوبًا وبُقُولًا وثمرًا وسائر ما تُنبت الأرض ويربى فيها مما يُستعمل نسيجًا وصبغًا ويدخل في الصناعات المختلفة وما تدخره الطبيعة من غاب ومعدن وحجر وصدف، وما يسرح على وجه الأرض من ماشية بلحمها وصوفها وجلدها من داب وطائر وسابح؛ إذا اعتبرت ذلك ونظرت بعين البصيرة إلى المستقبل فتصورت ما يكون من شأن جميع هذه الأصناف بعد بسط العدل واستتاب الأمن وتسهيل وسائل النقل برًّا وبحرًا، وإذا أضفت إلى ما تقدم نتاج الصناعة المقبلة مع ما تعلمه من اتساع هذه البلاد وتوسطها بين الشرق والغرب؛ يخيَّل لك أنه لا يطول بها العهد حتى تصبح المحور الأعظم لتجارة العالم.

الأعمال العامة والشركات

إذا ضَجَّت البلاد بالشكوى من إهمال الزراعة والصناعة وقِلَّة العناية بإنماء التجارة فشكواها عظيمةٌ أيضًا لإهمال الأعمال العامة المنوط النظر فيها بنظارة النافعة.

ولسنا بمُنكرين أن في البلاد طرقًا حديدية ومرافئ قليلة وبعض الطرق للعربات وشركات قليلةٌ لتوزيع المياه وما أشبه، ولكن كل ذلك نقطةٌ من بحر من حاجة البلاد، فوسائل النقل وتقريب سبل الاتصال — وهي روح إنماء الثروة — لا تزال قاصرة على بعض طرق الحديد التي لا تفي بالمراد، وجميعُها — ما خلا سكة حديد الحجاز — مما يُدار بالامتياز بأيدي الأجانب بشروطٍ فادحة تُثقل كاهل الدولة والأُمَّة.

ولقد كانت الحكومةُ وضعت لعهد السلطان عبد العزيز خُطَّةً مستوفاة لجميع فروع الطريق الحديدية التي يجب أن تَخترق البلاد عرضًا وطولًا، ولكنها أُهملت فيما أُهمل إلا نزرًا مما أنشأته الشركات الأجنبية. وأظن المقترح لتلك الخطة مدحت باشا.

وأما الملاحة — وهي قرينة طرق الحديد — فهي في جميع البلاد العثمانية اسمٌ بلا مسمًّى. وإذا استثنينا بعض بويخرات تمخر في البوسفور لنقل المصطافين أو تقطع دجلة لحساب الخزينة الخاصة أو تتهادى بين أزمير والأستانة لحساب بعض الأهالي، فليس في البلاد العثمانية كلها طائفةُ سفن تجارية تزود الثغور العثمانية وغيرها لحساب القوة الحاكمة أو الأُمَّة المحكومة.

أوليس من الغرائب أن تكون هذه البلاد المتسعة الأرجاء وثغورها ممتدة على ألوف من الأميال، وجزرها قائمة كالرواسي في قلب البحار، ولها من الإشراف على الشواطئ ما تحسدها عليه جميع دول أُوروبا؟ حتى إنكلترا ملكة البحار مضطرة هي وحكومتها إلى استخدام سفن الأجانب في أقل الحاجات.

فإذا كان لنا زملاء مماثلون في التأخر والتقهقر في جميع الشئُون فليس لنا من أُمَم الأرض أُمَّة تماثلنا بتأخر ملاحتنا، وهذه أصغر الدول لا تعدم سفنًا تجارية لها أو لأبنائها تمخر في عرض البحار، وهذه جارتنا إيران تجوب بواخرُها خليج فارس والإقيانوس الهندي وغيرهما. وهذه الدول الصغيرة التي انفصلت من جسمنا باتت جميعها ذواتَ أساطيلَ تجاريةٍ.

وإذا كان سلك البحار بما يعد مسافة يسيرة عن الشاطئ مباحًا لجميع الدول على السواء، وكان لنا غنًى بسفن الأجانب لنقل ركابنا وأصناف تجارتنا، أليس من العار أن نكون مضطرين إلى نقل بريدنا بين ثغر وثغر على سفن الأجانب مسافة ساعات؟

وإذا أرادت الحكومة أن تتملص من تبعة هذا الإهمال زاعمةً أن ذلك شأن الأهالي وأنها لم تصدهم يومًا عن القيام بمثل هذه الأعمال؛ فحسبنا ردًّا لهذا الزعم الرجوعُ إلى موقفها إزاء الشركات الوطنية — كما سيأتي بعيد هذا — وإلا فسكان جميع الثغور البحرية أهلُ مجازفة في التجارة وإقدام في التجارة كما يشهد ماضيهم، وكثيرًا ما يهب أفرادهم إلى بناء السفن الشراعية لتجارتهم، ولكن بعد أن قضى البُخار على الشراع في الأسفار الطويلة باتت سفنهم الخاصة غير وافية بالمقصود التام.

انظر مثلًا إلى اليونان أبناء الدولة المنفصلة من دولتنا، وإلى اليونان إخواننا في بلادنا وهم جميعًا من دمٍ واحد، فلماذا ترى لأولئك بواخر وشركات تسيرها شرقًا وغربًا ولا ترى لهؤلاء أمثالها؟ وانظر أيضًا إلى العرب أبناء الدولة العثمانية وإلى إخوانهم من سُكَّان حضرموت وبحر عمان مما خرج عن سيطرة الدولة، وهم أقل منهم علمًا ومدنية، فعلامَ لا ترى لعربنا أُسطولًا تجاريًّا ولأولئك أساطيلُ تعد سفنها بالمئات وهي إن كانت شراعية فإنهم يبنونها بأيديهم ويسيرون بها ماخرين بتجارتهم من ساحل بحر عمان إلى الهند والصين وجاوه وسيلان وثغور البحر الأحمر وخليج فارس.

فالملاحةُ من بعض جهاتها أشد لزومًا من طرق الاتصال الداخلية؛ لأنها من جهةٍ تربط البلاد بعضها ببعض، وهي من جهة أُخرى عروة الوصل بينها وبين بلاد الأجانب. فهي بهذا الاعتبار من أعظمِ أركان الثروة والقوة والعظمة، وهذه الدولة الإنكليزية يشهد تاريخُها أن أُسطولها التجاري كانت يده في إنماء الثروة وإعلاء شأن البلاد فوق يدِ الأُسطول الحربي بكل قوته وعظمته.

ومن لوازم الملاحة أيضًا: إصلاح المرافئ، وهي على كونها تعدُّ بالمئات ليس فيها ما يَصلح لرسوِّ السفن الكبيرة وإقامتها فيها إلا ما أَعَدَّتْه الطبيعة كثغر الإسكندرونة وأشباهها، ما خلا مرافئ قليلة أُصلحت بيد الشركات الأجنبية كمرافئ الأستانة وأزمير وبيروت، فهذه جميعها أُمور داخلةٌ في مجال الإصلاح المتسع الذي اختطته الحكومة الدستورية لإعلاء شأن البلاد.

وليست وسائل النقل برًّا وبحرًا داخل البلاد وخارجها على المسافات الشاسعة بأسوأ حالًا من وسائل انتقال أصناف الناس على المسافات القريبة داخل البلاد، مما يمكن تسهيله بمد خطوط الترام أو تسهيل طرق العربات. ولقد طالما رأينا المثرين من العثمانيين سكان المدن يؤثرون الاصطياف في أُوروبا تفاديًا من مشقة السفر إلى أريفهم العذبة الماء النقية الهواء، ولا غرو فإن ابن دمشق الشام مثلًا لا يُعاني في قَطْع البحار وصعود الجبال إلى سويسرا نصف ما يعانيه هو وعياله بتسلُّق مشاعب الجبل الشرقي إلى إحدى قُراه البديعة الموقع البهجة المناظر، هذا بصرف النظر عن سهولة المعيشة في تلك وصعوبته في هذه.

وإذا انثنيت إلى المدائن في قلب البلاد بدت لك أيضًا تلك الصعوبة، وإن كانت أخف وطأة فإن الشاخص مثلًا في نفس بغداد من الباب الشرقي إلى باب المعظم تعجزه السهولة التي ينتقل بها ابن باريس إلى ڨرساي أو ابن لندن إلى بريَتْنُ على مسافات تعادل أضعاف أضعاف تلك المسافة.

وقس على ذلك جميع شئُون المدن الداخلية، مما يدخل في اختصاص البلديات من إنارة وتنظيف وتوسيع شوارع.

سألني أحد أصدقائي ممن لم يروا الأستانة أن أكتب له شيئًا في وصفها، وكان ذلك في زمن الاستبداد يوم كانت جميع الرسائل تحت رحمة الجواسيس وكلمة نقد جريمة لا تغتفر، فقلت — تملُّصًا من حراجة الموقف بعد وصف جمال ذلك الموقع الفريد: «وكأن الإنسان أشفق على ذلك الجمال الرائع أن تعبث به يده البشرية فغادره على فطرة خالقه.»

وأثناء معرض شيكاغو شخص إليها بعض تجار الأستانة فوصلوها بيوم مطير وبعض أطراف البلدة إذ ذاك غير مستتم التنظيم فكتبتْ إحدى الجرائد: «وصلت اليوم زمرة من زوار المعرض قادمةً من القسطنطينية فأهلًا بالضيوف، وإنه ليَسُرُّنا جدًّا أنهم وصلوا بمثل هذا اليوم والأوحال ملء الأزقة، فلا تأخذهم الوحشة لفراق عاصمتهم إذ يرون من قذارة شوارعنا ما يستأنسون به لذكرى وطنهم العزيز.»

وإن من قرأ نظام البلديات وجال في أنحاء السلطنة تتولاه الدهشة لما يرى من التناقض بين القول والعمل، بل يزداد دهشة مما يراه من فضل المدن الصغيرة على الكبيرة بإنفاذ مضمون ذلك النظام، فلو جُلْت في شوارع مدللي البلد الصغير، ثم طفت شوارع الأستانة تلك العاصمة العظمى، هالك ما رأيت من فضل الاعتناء بالصغير على الكبير، والسبب في ذلك أن ما يُجبى من المال لحساب البلديات في المدن الصغيرة لا يذهب منه هدرًا إلا ما يختلسه المأمورون. وأما في المدن الكبيرة فعوامل تبديد المال محيطة بالبلديات من كل جانب؛ فهناك الاختلاسُ العادي، وهناك الأوامر القاضية بصرف تلك الأموال بوجهات غير مشروعة بحجج شتى، أو تقديمها للخزينة قرضًا لا يخطر في البال ردُّه. ولا ننس أيضًا أن قسمًا عظيمًا من أموال البلديات يذهب بإرادات سنية معاشات للمنفيين من الأحرار أو المتزلفين إلى ذوي الكلمة العالية من المقربين، فلا يبقى في خزانة البلدية غير ثمالة لا تشفي غليلًا.

فلا تعجب — بعد ما تقدم بيانه — أن تكون أكثرُ الشوارع قذرةً، والأزقة ضَيِّقة معوجة، يصعب المرور فيها نهارًا لكثرة الازدحام وليلًا لاشتداد الظلام، ولو لم تكن يدُ العناية قد جعلت أكثر تلك المدائن في مواقع نقية الهواء لكانت الأوبئة تجرف السكان جرفًا.

أما سائرُ الأعمال النافعة الخارجة عن اختصاص الحكومة والبلديات والتي لا تقوم إلا بتألف الجماعات لإنفاق المال فحالتُها أَشَرُّ وأدهى؛ إذ لا يكاد يوجد أثرٌ للشركات الوطنية، وحيثما وُجدت طريق حديد أو شركة لتوزيع الماء أو لإنارة بلدة وما أشبه فإنما هي بيد الشركات الأجنبية، ما خلا القليل من مثل الشركة الخيرية والشركة المخصوصة التي تنقل الركاب بين الأستانة وجزر الأُمراء وضفاف البوسفور أو شركة ترامواي الكاظم التي أنشأها مدحت باشا ببغداد، ولكن منافع هذه الشركات منحصرةٌ بيد أفرادٍ قلائلَ، وليست أسهمُها مما تتداولُه الأيدي بسهولةِ تداوُل ما لسواها من سائر الأسهم لأسبابٍ ليس هنا موضع بسطها، فليست إذًا بالمثال الذي يُقاس عليه.

ومن المضحكات أنك لو قلت هذا القول في زمن الاستبداد فأقل ما كان يصيبك من أسباب المهانة أن تكذَّب فيه، فيُقال لك إن جميع الشركات في البلاد العثمانية عثمانيةٌ بمقتضى القانون، فيقال البنك العثماني وشركة الرزي (احتكار الدخان) العثمانية، فهل كان يتاح لك حينئذ أن تقول إن نعت تلك الشركات بالعثمانية إنما هو حلية لا تفيد كونها وطنية، وكيف تكون عثمانية بالفعل ومجالس إدارتها في باريس ولندن وفينا وبرلين.

وإن بعض هذه الشركات، كالبنك العثماني، وشركات طرق الحديد، وشركات الماء؛ قد أفاد فائدة يحق لها أن تقتضي تسطيرها في التاريخ، ولكن ذلك ليس بالمانع لنا من التصريح أن الشركات الوطنية أجزلُ نفعًا — لو أمكن تأليفها وأُحسنت إدارتها ولم تقيد حريتها.

ولقد يقول أنصارُ الاستبداد أن المانع من إنشاء الشركات الوطنية أسبابٌ ثلاثةٌ لا شأن للحكومة فيها. أولها: قلة المال. وثانيها: قلة رغبة الأهالي في الإقبال عليها. وثالثها: تعذُّر وجود المديرين الصالحين للقيام بالعمل. وهو كلام لا يخلو من الصحة في كل وجوههِ، ولكنه لولا وجود سبب رابع هو: قلة الثقة بالحكومة لَتيسر تلافي هذه الموانع الثلاثة شيئًا فشيئًا.

فأما المال فإننا لا نزعم أنه متوفر لدينا توفُّرَه في أُوروبا، ولكننا مع ذلك لو حسبنا أموال العثمانيين الموزعة في الشركات الأجنبية داخل البلاد وخارجها لكان لنا من ذلك رأس مال يُعد بالملايين. وهو إن لم يكن كافيًا للقيام بجميع الأعمال اللازمة فلا ريب أن بعضه يكفي للقيام بجزء عظيم منها. وأما قلة رغبة الأهالي في الإقبال على أمر لم يألفوه، فمما تقدم يتضح أن ذلك زَعْمٌ فاسد وإليك مثالًا يثبت فساده بأجلى بيان.

أراد المرحوم برتقال باشا سنة ١٨٩٢ — وهو إذ ذاك ناظر الخزينة الخاصة — أن يسيِّر طائفة من السفن تمخر في دجلة بين بغداد والبصرة، ثم في الفُرات بين البصرة ومسكنة؛ لتقوم مقام بواخر إدارة عمان التي أنشأها مدحت باشا، وكادت تئول إلى الاضمحلال. فخطر له؛ دفعًا لمظان الريب عن الخزينة الخاصة — ونعم الخاطر — أن يؤلف شركة وطنية من أهالي العراق باشتراك الخزينة الخاصة، وكنا ممن أخذ رأيه في الأمر لسابق اطلاعنا على أعمال إدارة عمان. فقلنا: إن إقبال الأهالي على الاكتتاب سيكون عظيمًا على شرط أن تُطلق يدهم في العمل، فخُوبِرَ والي بغداد فجمع التجار، ثم أرسل تقريرًا ضافيًا يقول فيه إن تجار بغداد وحدها مستعدون للاكتتاب بضعفي رأس المال المطلوب، فنظم برتقال باشا قانون الشركة، وجعل من جملة شروطه أن يكون الوالي (أو ناظر الأراضي السنية ببغداد) رئيسًا دائمًا لمجلس الشركة، وأنه هو الذي يعين مواقيت سفر البواخر، فقلنا حينئذ إننا وإن لم نكن ممن اعتاد الرهان نراهن بكل ما عَزَّ وهان أنه لا يتيسر جمع شيء مما اكتتب به ما لم يلغ هذا الشرط، فلم يقع هذا القول موقع القبول، ولما اطلع تجار بغداد على مضمون ذلك القانون نكلوا جميعًا وآل الأمرُ إلى إنشاء تلك البواخر لحساب الخزينة الخاصة، فسيرتها في دجلة على نية أن تسير أخواتها على الفرات.

وأما القول بتعذُّر وجود المديرين الصالحين لإدارة العمل من كل وجوهه، فهو صحيحٌ ولكن الإفرنج لم يُخلقوا مديرين للشركات، فما المانع أن نحذو حذوهم، ونتخذ منهم معاونين نتدرَّب بموازرتهم على إدارتها، فلا يمر زمن يسير حتى نعتاد ما اعتادوا، ونحسن ما أحسنوا، فإن حاجتنا إليهم من هذه الوجهة ليست دون حاجتنا إليهم للأعمال الهندسية وسائر ما سبقت لهم به خبرةٌ لم ينلنا منها بَعْدُ غير نصيب ضئيل.

ثم إن من راقب أحوال البلاد الاقتصادية في الثلاثين سنة الماضية يرى في البلاد نهضة حقيقية لتثمير المال بواسطة المشروعات العامة، وإذ لم يكن للعثمانيين ثقةٌ بحكومتهم وحكامهم كانوا حيثما أرادوا وُلُوج هذه الأعمال أو تثمير أموالهم بِأَسْهُم الشركات تستروا تحت أذيال الأجانب.

وإننا لا نزال نذكر أيامًا تقدمت إعطاء الامتياز بمرفأ بيروت، فبحث البيروتيون في المسألة على اختلاف نِحَلِهم فقلنا لرجل من كبار موسريهم يتلهب غيرةً على الاسم العثماني ويجود للجند بمالٍ كثير زكاةً عن ماله: «علامَ لا تؤسسون شركتكم هنا وتحرزون كل فائدتها؟» فقال: «ومن يضمن لنا كَفَّ يد الحكومة أو الولاةِ عن التدخُّل بشئُوننا، والمال عزيز نَضِنُّ به أن يكون طوع أمر ولاة الأمر، فأنا الضمين بتقديم نصف رأس المال وحدي إذا كان مركز إدارة الشركة في باريس أو لندن، ولا أُجازف بقرش إذا كانت الشركة عثمانية اسمًا وفعلًا ومركز مجلس إدارتها بيروت أو الأستانة.»

وإذا أردت برهانًا أعظم فانظر إلى كل صنائع «المابين» الذين كانوا ينالون الامتيازات بلا عناء، أفما كانوا جميعهم يبيعونها من الأجانب بأثمانٍ بخسة مع علمهم أنهم لو ألفوا لها شركات أو استثمروها بأنفسهم لَنَالَهم من الربح أضعاف ما نقدوه، ولكن أنى يتسنى لهم ذلك وثقتهم مفقودةٌ من نفس أنفسهم، ولا يعلم الواحد منهم مع كل عظمته متى تأتي نوبته فينضى سيف النقمة فوق هامته فكيف تحصل الثقة بعد ذلك لسائر الناس.

ولقد أسلفنا أننا لسنا ممن ينكر فضل الأجانب بتأليف الشركات عندنا؛ إذ لولاهم لبقينا الآن نخترق الوديان والهضاب على البغال والجمال، ولم يكن لنا مرفأ ولا مصرف ولا شيء من وسائل العمران الحديث ولسنا أيضًا ممن يقول بوجوب الاستغناء عنهم — لو فرضنا ذلك في الإمكان — فالبلاد تستفيد من مالهم وعلمهم لقاء ما يستفيدون منها، ولكننا ننكر — كل الإنكار — أن لا يكون لنا يَدٌ في شيء من تلك الأعمال في بلادنا، وإذا شاركناهم بالمال فإنما نحن شُركاءُ متسترون بنفوذهم وسيطرتهم.

أما الآن وقد احتجب طالعُ الاستبداد وفُتحت الأبواب للطلاب؛ فالأملُ أن لا تمر برهة طويلة حتى نرى أيدي أبناء الوطن ممتدة إلى كل عمل مفيد في بلادهم، سواء استقلوا به بأنفسهم أو استرشدوا له بشريك أجنبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤