السياح والمستوطنون

لا يعجبن القارئُ اللبيبُ إذا عقدنا لهذا البحث بابًا خاصًّا ألحقناه بأبواب موارد الثروة، وإن كان لا يجوز حسبانه من مصادر الثروة الطبيعية، ولا سيما في بلاد لا يجد السائح الغريب فيها كل ما تتطلبه نفسُه من أسباب النزهة والراحة. فإننا الآن في إِبَّان نهضة يجب أن نتطلع من خلالها إلى كل وسيلة من وسائل العمران. والأموال التي ينفقها رُوَّاد البلاد ليست بالمبالغ التي لا يُعتد بها.

وإننا لا نطمع أن يكون لنا — بزمن قريب — مراتعُ للنزهة الخالصة، كباريس، تلك الجنة الجامعة للَّهو والزهو واللطف والظرف والعلم والمال؛ فإنها لم تبلغ ذلك المبلغ إلا بقرونٍ مضافة إلى كياسة السكان وجهادهم. ولكنه يحق لنا أن نطمع مذ الآن بجعل بلادنا نجعة الرواد، من كل طالب راحة وعافية وراغب في ترويض نظر وترويح نفس واستطلاع أثر ومن كل وَرِعٍ متعبِّد.

وإن لنا من اختلاف مواقعها وتاريخها ميزةً خاصة تجتذب السياح من كل فَجٍّ سحيق.

فإن فيها مواطنَ الأنبياء ومهابطَ الوحي، فهي — بهذا الاعتبار — محجة المسلمين والمسيحيين وبني إسرائيل من كل أقطار الأرض. وليس هذا بالشيء القليل وإن لاح قليلًا في الحالة الحاضرة، إذ لو نظرت إلى المعالم الدينية في أُوروبا وعلمت أن زُوَّار واحدة منها كسيدة لورد في فرنسا يربو على عدد جميع الزوار الذين ينتابون بيت المقدس من أبناء جميع الأديان؛ تحققتَ أننا لو أعددنا هنا من أسباب الراحة في الحِلِّ والترحال ما أَعدوا هنالك لكان للبلاد من وراء ذلك موردُ ثروة جديد.

ولا ريب أن أعظم حسنة يسجلها التاريخ للحكومة الغابرة إنما هي سكة حديد الحجاز؛ لأنها بعد انتهائها ومد فروعها إلى البحر الأحمر وانتظام شعبها إلى البحر المتوسط ستكون بقطع النظر عن سائر ما لها من الحسنات أعظم دعامة لهذا الركن المتين، وسيتضاعف بها عدد الحجاج عما قريب.

ومع ذلك فيبقى على أُولي الأمر وأبناء البلاد ابتداعُ كثير من الإصلاح اللازم لمعدات الراحة في الإقامة والانتقال داخل فلسطين وما جاورها مما لا بد منه من أسباب التأمين والتشويق على ما اعتاده زوار المسيحيين والإسرائيليين في أُوروبا.

ولا يجب أن ننسى سائر مقامات الزيارة داخل البلاد كالنجف وكربلاء والكاظم في ولاية بغداد وما لها من الحرمة لدى المسلمين كافةً وأهل الشيعة منهم خاصةً، يتوافدون إليها مئات وألوفًا من إيران والهند مع كل ما يلقون من عنت الحكام وطمع المأمورين، وإن جميع أبناء بغداد وحكامها يعلمون أن هؤلاء الزوار من أعظم مروِّجات التجارة عندهم، يتشوفون إلى قُدُومهم تشوف الظمآن إلى الماء. كيف لا وهم يزيدون عن الخمسين ألفًا سنويًّا من إيران وحدها؟ ومع هذا فقد يُذيقهم الحكام من مرارة المعاملة ما يُلجئ الشاه في بعض السنين إلى منع رعاياه من الزيارة، فيشعر البغداديون بالكساد، ويبسطون يد الرجاء إلى حكامهم، فيأمرون ببسط الأمن، ويُبدون المجاملة؛ فيعود الزوار إلى زيارتهم مدة، ولكنهم لا يلبثون أن يروا من سوء المعاملة ما يضطرهم إلى الشكوى مرة أخرى.

فلو مُهِّدَتْ لهم السبل كما يُرجى أن تمهد الآن وضُرب على أيدي العُتاة من آمر ومأمور فالإقبالُ حينئذٍ عظيمٌ والفائدةُ مضمونة للفريقين.

وهو معلوم أيضًا أن البلاد العثمانية تضم في أكنافها أعظمَ معالم التاريخ القديم، ولا يخفى ما في ذلك من مشوقات الزيارة لمستطلعي الأخبار ومكتشفي الآثار وكل سائح ضارب في الأرض عالمًا كان أو طالب نزهة مرتاض. ففيها مواطن البابليين والأشوريين والحيثيين والسلوقيين. وفيها قامت دول المصريين والإسرائليين والعرب والأرمن ودول اليونان الفريجية والليقية والليدية والطروادية والبمفيلية والقباذوكية وغيرهن. وفيها كثيرٌ من آثار الدول التي احتلت بعض أجزائها كالفرس والرومان، ومنها أخذت نفائس الآثار التي تزدان بها متاحف باريس ولندن وبرلين وبطرسبرج.

ولقد طالما رأينا السياح يأتون من أقصى الديار فيقطعون البوادي والقفار لرؤية تلك المعالم يعانون من المشاق ما لا يكادون يعانون أعظم منه في مجاهل أفريقيا، تنظَّم لهم القوافل، وتُحمل لهم المطابخ والخيام، وتعد لهم المطايا فينفقون لرؤية آثار بابل وأشور ما لا ينفقونه بسياحة حول العالم. وزد على ذلك أنهم لا يبلغون جميع الأمكنة التي يقصدونها لاختلال الأمن في كثير من تلك الأصقاع، ومع هذا فلا نعدم منهم وفودًا عامًا بعد عام.

فإذا مُهِّدَتْ لهم الطرق وأُقيمت وأُعدت لهم أسبابُ الأمن والراحة، فما عسى أن يكون من إقبالهم وانتفاع البلاد بعلمهم ومالهم.

وإذ انثنينا الآن إلى سائر أسباب السياحة من طلب صحة بتبديل هواء وراحة بعد عناء ونزهة في بلاد جميلة المناظر صافية الجو عذبة الماء، ففي البلاد العثمانية كل ما يتطلبه السائح صيفًا وشتاءً، خريفًا وربيعًا، من كل ما وقع تحت سماء المناطق المعتدلة والحارة والباردة.

فإن طالب الدفء واللاجئ من زمهرير الشتاء لا يجد في نيس وما حاذاها ورومة وما وليها ملاذًا آمنًا من أطراف فلسطين وأرياف العراق ومدائنه وثغور طرابلس الغرب، ولا نضرب مصر مثلًا؛ لأن سياح العالم أجمع عرفوا مزيتها قبل الآن، وهي قَدَّرَتْهم قدرهم فاستتمت لهم المعدات، فنالت قسطها منهم ونالوا قسطهم منها، وإذا استبقوا فيها كل سنة ما يقرب من ثمانية ملايين من الجنيهات، فإنما هو كسبٌ تحرزهُ رزقًا طيبًا ومالًا حلالًا.

وطالب النسيم العليل المنهزم من قيظ الهجير والجانح إلى العزلة والسكينة فرارًا من ضجة المدائن أو استجماعًا لقوة أنهكها توالي الإكباب على العمل لا يجدان في جبال سويسرا وأشباهها معتصمًا أَمْنَعَ ومرتعًا أَبْهَجَ من الجبال المتشعِّبة في قلب كثير من الولايات الأوروبية والممتدة إلى كليكيا وسوريا، وحسبك منها جبال بيلان ولبنان والجبل الشرقي، قننٌ تتعالى بعض فوق بعض لك منها ما شئت لجميع الأمزجة من قويٍّ وضعيف، من علو مئات من الأقدام إلى علو عشرة آلاف قدم، تنفجر منها الينابيع بالماء الزلال ولا يشوبها تقلُّب الهواء الفجائي الذي يعتري جبال أُوروبا، وإن لك من صحة أجسام ساكنيها على شقائهم وخشونة معيشتهم دليلًا على فضلها على ما وازاها من جبال أُوروبا.

جرى لنا في صيف سنة ١٩٠٤ حديث مع المرحوم مظفر باشا متصرف جبل لبنان، فكان يتأفف متبرمًا من حراجة موقفه وقصر يدهِ عن إتيان ما يرغب من الإصلاح ونفع الجبل بما يستبقي له فيه الذكر الجميل، قال: قد كاد يبلغ اليأس مني أقصاه؛ فلا أرى وجهًا لإتيان أمرٍ جديد أنفع به هذه البلاد، رغبت في إنشاء المرافئ فصدوني من الخارج، ورغبت في زيادة الضرائب لإجراء بعض الإصلاح فصدوني من الداخل. وجبلكم فقير صغير يضيق نطاقه عن معاش سكانه، يهجرونه أفواجًا إلى الديار القاصية حتى خلت قرًى كثيرةٌ من السكان، ولست أرى ما سيكون من سوء المصير.

فقلنا بعد بحث طويل: وهب أنه ليس في لبنان شيءٌ من موارد الرزق، أليس هذا موقعه على أكتاف الأراضي المقدسة، وهذا هو هواؤه وماؤه، أوليست هذه الفئة التي تقصده للاصطياف من جواره في سوريا ومن القطر المصري مورد رزق ينمو عامًا فعامًا. ينفق المصريون المصطافون في أُوروبا زهاء خمسة ملايين من الجنيهات مع جهل كثيرين منهم طبائع الأُوروبيين ولغاتهم، فلو سُهِّلت لهم وسائل الرفاه والراحة فحسبُنا منهم خُمس هذا المبلغ، ولا نقول كله أو نصفه، أفلا ترى دولتكم أن كل سنة يلقون فيها بشرًا وإيناسًا بمرفأ بيروت تتلوها سنةٌ أُخرى يتضاعف فيها عددهم، وكل سنة يصادفون فيها عبوسًا وتضييقًا تتلوها سنواتٌ لا نرى منهم فيها غير النزر القليل، فلو سعيتم لدى المراجع العالية بإكرام وفادتهم في الثغور، ثم أجهدتم النفس بإتقان الوسائل الداخلية من طرق وفنادق وأشباهها كان لكم أثرٌ فوق كل أثر. فقال: كل هذا صحيح ولست بغافل عنه ولكن …

ثم إن الراغب في الجمع بين النزهة والاستشفاء بانتياب ما يُدعى في أوروبا بمدائن الماء، هيهات أن يلقى في شيء منها فوق ما يلقى من جودة الهواء واعتدال حرارة الماء وبهجة المناظر على ضفاف البوسفور وما قابله من جزائر الأُمراء وجزر الأرخبيل وثغور البحر المتوسط.

وألحق بما تقدم ينابيعَ المياه المعدنية الصالحة للشرب والاستحمام، والذاهبة جميعها ضياعًا ما خلا شيء من ينابيع بورصة، فما أجدرها أن تكون مجمعًا للسياح يرتادونها إلى هيت، وما يليها من أراضي العراق وأطراف العمق في حلب، وغير ذلك مما هو متفرِّقٌ في أطراف البلاد، وقد سبق لنا في التاريخ أن تكون بعضُ ينابيعنا المعدنية مجتمعًا لسياح العالم الروماني كما أسلفْنا عن حمامات فلسطين، ومنها تتألف المياه أنهارًا تندفع إلى البحر كزرقاء معين وغيرها، فما المانع من رجوع مثل ذلك العهد على عهد الإصلاح هذا.

وإننا غير مغترين بوفرة هذه المصادر الطبيعية للثروة، ولسنا بطامعين أن تفيض ميازيبها نضارًا في سنة أو سنوات قلائل، ولكنه لا بد من تنبُّه إخواننا العثمانيين في كل قطر من أقطارهم إلى ثروةٍ يُمكن الشروعُ مذ الآن في استدرارها شيئًا فشيئًا.

تلك خلاصةُ ما يُقال بالإيجاز عن حالة السياحة في البلاد العثمانية، وأما المهاجرة إليها بقصد الإقامة أو الاستعمار، فعلى نوعين أحدهما مهاجرة فئة من الأجانب بمعاونة أرباب الأموال منهم، فتتوطن في بقعة من الأرض توطُّنها في بعض جهات فلسطين مع البقاء على جنسيتها، وليس هنا موضع البحث فيها، وخصوصًا أن هذه الفئة تجد لها من نفسها من أسباب العناية بها ما يغنيها عن عناية الحكومة، والثاني مهاجرة القادمين إليها من تلقاء أنفسهم بقصد الإقامة والتجنس بالجنسية العثمانية كمهاجري بلاد الجركس وإكريت وبوسنه وهرسك وهؤلاء هم الذين يجب أن توجه الحكومة كل عنايتها إلى نفعهم والانتفاع بهم، فإن اللجنة المعروفة بقومسيون المهاجرة والمعقودة لهذا الغرض في الأستانة يحق لها جزيل الثناء لما تبذله من المساعي، ولكنها قد لا تُصيب الغرضَ المقصود في بعض الأحوال، إذ ما الفائدة مثلًا من إسكان الجماهير من هؤلاء المهاجرين، ومعظمهم من الزُّرَّاع في المدن الكبيرة كأزمير أو دمشق الشام، مع وجود البقاع المخصبة التي تنعق بها غربان القفر، فإذا كانت ثمة مطالعات ماضية فقد انقضى أمرها، ثم إنه ليسوءنا أيضًا أن الذين أُسكنوا في الأراضي الزراعية لم ينظر الولاة بعين العناية إلى أسباب راحتهم وإمدادهم بالمعدات اللازمة وإعداد المنازل الواقية لهم من حر الصيف وبرد الشتاء؛ ولهذا فشا الموت في بعض فِرَقِهِم ممن أُنزل في أعالي العراق فقلَّت رغبةُ المهاجرة بين مواطنيهم في بلادهم لما بلغهم من تلك الأخبار المؤلمة.

وإن مجال المهاجرة إلى البلاد العثمانية مُتَّسِعٌ جدًّا، وتناول أطراف البحث فيها مما يضيق عنه نطاق سفرنا هذا الصغير، وإنما هي نفثات عثماني محب لوطنهِ باح بشيء منها وادَّخَر ما بقي مِنها لفرصة أُخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤