فاتح الشهية
يحدِّثنا هذا الكتاب عن علم الاقتصاد. لقد اعتدتُ أن أقول هذا كاعتذار جزئي، مع علمي بأن علم الاقتصاد كان عليه أن يعمل بجديةٍ شديدةٍ للتنافس مع مجالات أخرى، فضلًا عن معظم الأشياء الأخرى في المكتبات. الأمور مختلفة الآن. ينبغي أن يهتمَّ علم الاقتصاد بالجميع، ويجب على الجميع أن يعرفوا شيئًا عن علم الاقتصاد. عندما نُشرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام ٢٠٠٣، كانت الظروف الاقتصادية مختلفة. والواقع أنه على الرغم من الأحداث العالمية الكبرى، مثل الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر على أمريكا، كان من الشائع آنذاك الحديثُ عن «الاعتدال العظيم». فقد بدا النمو الاقتصادي مضمونًا، وكان التضخُّم تحت السيطرة، وكانت معدَّلات البطالة منخفضةً وآخذة في الانخفاض. ونسب الساسة الفضل في ذلك إلى أنفسهم، وكذلك فعلت البنوك المركزية. ولكنني أستبق الأحداث. فإذا كانت هذه هي المرة الأولى التي تتعرَّف فيها على علم الاقتصاد، فقد لا تعرف ما هو البنك المركزي. ولكن لا تقلق، فسأشرح لك كل شيء.
النقطة المهمة هنا هي أننا شهدنا في السنوات الأخيرة اضطرابين اقتصاديين هائلين، وُصِفَا بأنهما صدمتان «تحدثان مرة واحدة في العمر» في غضون أكثر من عقد بقليل. كانت الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في الظهور في صيف عام ٢٠٠٧، والتي كانت لها آثارٌ استمرَّت لسنوات — وأنا أكتب هذا في عام ٢٠٢١، ولم تختفِ تلك الآثار تمامًا — هي الأولى. وقد سلَّطت تلك الأزمة الضوء بشكلٍ حادٍّ على أسئلة حول كيفية عمل الاقتصادات الحديثة. وقد مثلت تحولًا من النمو السهل القائم على الائتمان، في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى شيءٍ مختلف تمامًا. كانت البنوك مؤسسات آمنة وثابتة، أليس كذلك؟ بلى، وفي خريف عام ٢٠٠٨ اقترب النظام المصرفي الغربي كثيرًا من الانهيار. كان هذا هو الوقت الذي لم يتمَّ فيه إعادة تعبئة ماكينات صرف النقود على المستوى العملي تقريبًا، ولم تتمَّ إعادة تخزين أرفف المتاجر الكبرى تقريبًا، ولم يتم دفع الأجور. كان الأمر قريبًا جدًّا من حالة طوارئ اقتصادية كاملة، في بريطانيا وفي بلدان أخرى. لدى الجميع وجهة نظر بشأن الأزمة، ولدى معظم الناس ما يغضبون منه، بشأن المصرفيين والمنظمين والسياسيين وحتى خبراء الاقتصاد. لقد بشرت بفترة من التقشف، والتي سأحددها وأستكشفها.
والثانية كانت جائحة فيروس كورونا المستجد، التي بدأت تؤثِّر في معظم البلدان في أوائل عام ٢٠٢٠، مما أدَّى إلى أعمق ركودٍ في العديد من الاقتصادات لعقود أو حتى قرون. كانت جائحة كورونا في المقام الأول حالة طوارئ صحية تحوَّلت إلى حالة طوارئ اقتصادية. فرضت البلدان عمليات إغلاق بطريقة لم تحدث في الأوبئة السابقة، مما أدَّى فعليًّا إلى إغلاق الكثير من الأنشطة الاقتصادية الطبيعية. وقد اقترح البعض أن هذا يضع الاقتصاد في مواجهة الصحة العامة، ولكن (كما سنرى) لم يكن الأمر بهذه البساطة. والواقع أن خبراء الاقتصاد يعتقدون أن العكس هو الصحيح.
ففي المملكة المتحدة، إلى جانب هذه الأحداث التي غيَّرت العالم، كان هناك أيضًا حدثٌ اقتصاديٌّ كبير آخر، وهو خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي بعد نحو نصف قرن من العضوية. وكان خروج المملكة المتحدة، في ٣١ يناير ٢٠٢٠، الذي أعقبه فترة انتقالية استمرَّت حتى نهاية عام ٢٠٢٠، قد جاء بعد استفتاء في يونيو ٢٠١٦. وقد وضع الاستفتاء الاقتصاد في مواجهة دوافع أخرى، ولا سيما السيادة والهجرة. قالت الغالبية العظمى من خبراء الاقتصاد إن مغادرة الاتحاد الأوروبي — بريكست — من شأنها أن تلحق الضرر باقتصاد المملكة المتحدة في الأمد القريب والبعيد، ولكن الحجج الاقتصادية لم تكن كافيةً لرجحان كفتها. فوفقًا لنسبة أقل قليلًا من ٥٢٪ إلى أكثر قليلًا من ٤٨٪، كانت النتيجة مغادرة الاتحاد الأوروبي. وسوف يكون هناك المزيد حول هذا لاحقًا في الكتاب.
لا أتمنَّى لأي شخص أن يمرَّ بأزمتَين «مرة واحدة في العمر»، وقرار مغادرة الاتحاد الأوروبي، بطبيعته، هو شيء لا يمكن أن يحدث إلا مرة واحدة، على الرغم من أن آثاره ستكون طويلة الأمد. ستتجلى هذه الآثار في هذا الكتاب، لكنها لن تهيمن عليه. فهذا كتاب عن الاقتصاد. وهو كتاب عن الاقتصاد لا يشبه أي كتاب آخر. لا توجد رسوم بيانية معقَّدة من النوع الذي يجعلك تتساءل عما إذا كانت الصفحة قد طُبعت بالطريقة الصحيحة. ولا توجد معادلات رياضية معقدة. وما لم يكن من السهل تفسير شيء ما، فلا مكان له في هذا الكتاب. وفوق كل شيء، وفي الوقت الذي نحتاج فيه جميعًا إلى معرفة بعض الاقتصاد، فهو كتاب عملي للغاية. لن يجعلك هذا الكتاب بالضرورة مليونيرًا — فأنا أقول دائمًا إن الاقتصاديين الوحيدين الذين تراهم يقودون سيارات رولز رويس يرتدون قبعات السائقين — ولكنه سيخبرك عن العملية التي نصبح من خلالها، في الأساس، أفضل حالًا، بصرف النظر عن وقت وقوع تلك الأزمات. كما آمل أن يكون ممتعًا إلى حد معقول.
الهدف من هذا الكتاب هو سد الفجوة، تمامًا مثل الغداء الجيد. فلعدَّة سنواتٍ طالبني قراء جريدة «صنداي تايمز» والصحف الأخرى بأن أوصي بكتاب سهل الاستيعاب عن علم الاقتصاد، سواء لغير المتخصصين في هذا العلم أو لمن قدم فهمهم له. وقد صعب الأمر عليَّ حتى الآن. وهناك بعض الكتب المنهجية الممتازة عن علم الاقتصاد، وسوف أوصي ببعضٍ منها لاحقًا؛ إلا أن الغرض منها هو استعمالها في مجالات الدراسة المنهجية لعلم الاقتصاد، بمساعدة أساتذة متخصصين. لكن هذا الكتاب يعدُّ مختلفًا. وأملي أن يقرأَه عدد كبير من الطلبة ويستفيدوا منه كأداة مكملة لدراستهم وليس بديلًا لها. وهناك أيضًا بعض الأعمال الممتازة التي تتناول التاريخ الحديث لعلم الاقتصاد، ولكن هذه النوعية قد تكون صعبة إن لم تكن قراءتها مستحيلة بدون وجود بنية مسبقة من المعلومات. وعلى سبيل المثال، عندما نتناول الفترة الزمنية التي تولَّى فيها آلان جرينسبان أو بن برنانكي أو جانيت يلين رئاسة مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن، وخليفتهم جيروم باول، نرى أن هناك حاجةً إلى الإلمام ببعض المعلومات عن السياسة المالية، وعن كيفية إدارة البنوك المركزية لهذه السياسة. لقد تغير هذا كثيرًا. وعلى نحو مماثل، ماذا عن تلك المصطلحات الاقتصادية التي تسمعها تتردَّد طوال الوقت؟ ما هو الفرق بين الإنتاجية والربحية، أو الإنتاجية والإنتاج، ولماذا يهم هذا الأمر؟ ما هو إجمالي؟ الناتج المحلي وهل هو وسيلة جيدة لقياس النشاط الاقتصادي؟ ابقوا معنا وسوف يتضح كل شيء.
أما لماذا اخترت عنوان دعوة غداء لهذا الكتاب؟ فليس لأي من الأسباب التي قد تخطر لك ببال؛ فهو ليس محاولة ملتوية لزيادة المبيعات بعَنْوَنة كتاب عن علم الاقتصاد وكأنه إضافة جديدة للمجموعة المتزايدة والأكثر شهرة من كتب الطهو، مع أن الفكرة ليست سيئة. ولكن على العكس؛ فالسبب في اختيار هذا العنوان هو العبارة الشهيرة في علم الاقتصاد التي ربما سمع عنها الكثيرون، حتى ولو كانوا يجهلون مدى صلتها بالموضوع، وهي: «لا يوجد ما يسمَّى بالغداء المجاني». بمعنًى آخر لا يمكنك الحصول على شيء ما بدون مقابل. وفي العمل الصحفي كثيرًا ما كنت أدعى على الغداء، ومع أن دعوات الغداء من المواقف التي قد تكون غير ممتعة في بعض الأحيان، فإن تناول الطعام من الأشياء المحبَّبة إلى نفسي. تعتبر المقولة السابقة من المقولات الشهيرة مع أن أصولها غير معروفة. ففي حين تنسب إلى عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان، الذي سنتعرَّف على المزيد عنه فيما بعد، فقد جاء أيضًا في قاموس أكسفورد للأقوال المأثورة: إنها عبارة مجهولة النسب، لقد أصبحت هذه المقولة متداولةً عن طريق أقسام الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في الستينيات من القرن العشرين، وقد جاءت هذه العبارة في إحدى روايات كاتب الخيال العلمي روبرت هاينلاين عام ١٩٦٦، ألا وهي رواية «القمر عشيقة فظة» وليس في أحد الكتب المنهجية أو في المقالات المتخصِّصة. ومع ذلك، فمن المرجَّح أنها كانت قيد الاستخدام قبل ذلك. فقد استخدمتها جريدة «سان فرانسيسكو» في صفحتها الافتتاحية لعدد عام ١٩٤٩، وقد استخدمتها نفس الجريدة من قبلُ في إحدى الطبعات عام ١٩٣٨، فضلًا عن ذلك فقد قالها عمدة نيويورك العظيم فيوريللو لاجارديا باللاتينية عام ١٩٣٤. وأما أصل الفكرة فهو ينبع من الحانات في غرب أمريكا، التي عادةً ما كانت تقدم وجبات غداء مجانية لأصحاب الحانات الذين يشترون كمياتٍ كبيرةً من الكحوليات لا سيما في فترة حمى الذهب. أما الذين حافظوا على عدم تناول الكحوليات بكثرة، فقد توصَّلوا إلى أنهم يدفعون ثمن ذلك الغداء عن طريق ما يدفعونه ثمنًا لتلك المشروبات.
فهل تسري مقولة: «لا يوجد ما يسمَّى بالغداء المجاني» لتصبح جزءًا من علم الاقتصاد؟ قد يعتقد معظمنا أن هناك حالاتٍ حصلنا فيها على شيء ما بدون مقابل. مثل أجرة الأتوبيس التي لم تدفعها أو ورقة الجنيهات العشرة التي قمت بالتقاطها من الشارع. لكن، فكر في الموضوع. ستجد أن الأجرة التي لم تدفعها، لها مقابل وهو ليس فقط المخاطرة بتعرضك للمساءلة، ولكن أيضًا فإن التهرُّب من دفعها على المدى الطويل يعني زيادة قيمة الأجرة على الجميع، بما في ذلك المتهرِّب من الدفع. أما ورقة الجنيهات العشرة، فلن أزعم بوجود سلطة اقتصادية عُليا تضمن أن مكاسب وخسائر كل فرد تتساوى بمرور الوقت، ولكن هناك ما يتوافق مع ذلك، ويقع في دائرة تجارب معظم الناس. من هذا المنطلق، فإن أي مقامر سوف يحدِّثك عن مدى صعوبة التفوق على وكيل المراهنات، كما سيفعل أي مستثمر في سوق الأوراق المالية؛ حيث سيحدثك عن صعوبة تخطِّي المؤشرات باستمرار.
دعني أُعطِك مثالًا عمليًّا آخر على فكرة «دعوة غداء». إذا كنت قد اشتريت هذا الكتاب لتوك، فشكرًا لك، وتكون بذلك قد أثبتَّ فعليًّا عدم وجود ما يطلق عليه مجاني. أما إذا كنت قد استعرته من صديق، فإنك ستكون ممتنًّا له، وسيكون المقابل أن تقرضه شيئًا من أشيائك. أما إذا كنت قد استعرته من المكتبة، فإنك تدفع المقابل عن طريق الضرائب التي ستقوم بسدادها بعد ذلك. أما إذا سرقت هذا الكتاب فعارٌ عليك ما فعلت، ولكن ستدفع ثمن ذلك من الشعور بتأنيب الضمير، ومن المحتمل أن يُقبض عليك. ومن هنا فإنني سوف أوقِّع معك اتفاقًا؛ فمقابل الحصول على هذا الكتاب، وبعد قراءته، ستتعرَّف على المزيد من المعلومات عن علم الاقتصاد، بقدر ما تحتاج وبقدر أكثر مما يحتاجه معظم الناس. بصرف النظر بالطبع عن إمكانية قراءة الآخرين لهذا الكتاب أيضًا. من هذا المنطلق سوف أحتل موضع المحتكر. فضلًا عن ذلك، فإن مدة احتكارنا للقارئ لن تكون طويلة، وهذا لأن علم الاقتصاد يجعلنا نتعرَّف إلى أعمال أخرى مشابهة، وكذا على سيل من المنافسين الموجودين في السوق. وهكذا سيصبح علم الاقتصاد فن الطبخ الجديد.
والكتاب من جهةٍ هو أداة مساعدة في قراءة الصحف، وبخاصة صفحات الاقتصاد؛ ومن ثَم القدرة على إدراك حقيقة الادعاءات الاقتصادية والادعاءات المضادة من قِبَل السياسيين. لماذا نهتمُّ بموضوع مثل التضخم ومستوى سعر الفائدة وميزان المدفوعات وعجز الميزانية، وما هو المعنى الحقيقي لهذه المصطلحات؟ وكذلك لماذا نهتم ببعض هذه الموضوعات دون غيرها، وفي أوقات بعينها؟ من هنا لن تقوم بطَيِّ الصفحة عندما ترى مقالاتٍ اقتصاديةً على الصفحات المخصصة للاقتصاد والمال (وخاصة الموجودة على الصفحات الرئيسية). بالإضافة لذلك فإن التقارير الاقتصادية الموجودة في المجلات أو الصحف التي يصعب فَهْمها، هي تلك التي كُتبت بأسلوب رديء. فعندما تسمع أن أحد السياسيين يقول إنه في هذا العام تنفق حكومته قدرًا كبيرًا من الأموال على الخدمات الصحية أكثر من أي وقت مضى، ستصرخ في التلفاز مثلي قائلًا: «ولكن هذا هو حالنا كل عام منذ تطبيق نظام خدمات الصحة القومي!» أو على الأقل كان كذلك. ولهذا السبب يجب أن يكون كل ناخب على دراية ببعض المعلومات عن علم الاقتصاد.
ولكن في كتاب دعوة غداء هناك أكثر مما ذكرناه سابقًا. فعندما أطلب من جمهور القراء من طلاب المدارس أو الجامعات تعلُّم الاقتصاد، فهذا ليس فقط من منطلق أهمية وضرورة معرفة هذا النوع من المعلومات في الحياة المعاصرة. ولكن بسبب أن الطريقة التي يفكِّر بها خبراء الاقتصاد في المشكلات والطريقة المنطقية لتحليلهم إياها، تفيد في كثيرٍ من المجالات. إن ملاحظة خبراء الاقتصاد أثناء العمل لا تعتبر دائمًا من المناظر الجميلة، كما أن الفكاهات التي تتداول عن طبيعتهم المترددة كثيرة. وقد عانى الرئيس هاري ترومان بسبب عدم ثباتهم على رأي واحد، ولطالما طالَب بوجود خبير اقتصادي يستقر على رأي واحد؛ حيث إن غالبيتهم يقولون: «من ناحية نرى كذا، ومن ناحية أخرى نرى كذا.» من هنا، واستنادًا إلى المقولات القديمة، يمكنك ضمُّ وتجميعُ خبراء الاقتصاد في العالم لمناقشة موضوع واحد، ولن تصل أيضًا لنتيجة نهائية. ولكن هذا ليس عدلًا فلا بد من عدم الخلط بين القدرات القيمة للخبراء، التي تمكِّنهم من رؤية الأمر بوجهَيه، وما يصفه البعض بعدم القدرة على الوصول لقرارات محددة. فالتفكير مثل خبراء الاقتصاد يعني التعامل مع المشكلات بأسلوب منطقي، عن طريق استبدال التحليل بالتوكيد. لن تصبح بعد قراءة هذا الكتاب خبيرًا من خبراء الاقتصاد بين ليلة وضحاها، ولكنه سيشجعك على اتخاذ منهج مختلف عند التفكير في أي شيء.
إن هذا الكتاب، شأنه في ذلك شأن جميع الوجبات الغذائية الجيدة، يتكوَّن من عدة أصناف. وقد جرى إعداده كوجبة، وهذا هو فاتح الشهية. ويمكن هضمه في جلسةٍ واحدة، سواء كنت تتناوله صنفًا صنفًا، أم كنت تتناول منه من وقت لآخر كوجبة خفيفة. والطبعة الثالثة ليست بدون نوبات عسر هضم كما هو مذكور أعلاه. وأيًّا كان، أتمنَّى لك الاستمتاع بها.