كينز وحرفية الطاهي
ربما يوحي عنوان هذا الفصل بأن كينز أحد الطهاة الماهرين، ولكن أكثر ما يلائمه هو وصفه بالساحر الرائع. فقد نسج كينز تعويذته على علم الاقتصاد في الوقت الذي كان الأمر فيه يتصاعد ليشغل المرتبة الرئيسية في الدراسة الجامعية. وصفته مجلة «تايم» بأنه أعظم عالم اقتصاد في القرن العشرين، وفي الحقيقة لم يكن هناك أيُّ مرشحٍ آخر يمكن أن يتحدَّاه. وفي السبعين أو الثمانين سنة الماضية، كان كينز يسيطر على النقاش الاقتصادي من قِبَل مَن اتبعه وطوَّر أفكاره، وبنفس القدر من الأهمية من قِبَل مَن أرادوا أن يتحَدَّوه. قال المعلقون إن السببَ في طرح حكومة بوش برنامجًا لتخفيض الضرائب وزيادة نفقات الحكومة للحماية من حدوث الكساد، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية؛ هو إعادةُ اكتشاف واشنطن لكينز. ولكن حدث ما هو أكثر من ذلك، عندما انزلق العالم إلى الأزمة في عام ٢٠٠٨، برز كينز إلى الواجهة، وحثَّ خبراءُ الاقتصاد الكينزيُّون الحكومات على اتِّباع علاجاته. وعاد كينز إلى العمل في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١. وربما يكون من الأدق أن نقول إنه لم يرحل قط.
من كان كينز؟ جون مينارد كينز، الذي كان يُعرف بمينارد بين أصحابه وزملائه، وُلد عام ١٨٨٣، وهو نفس العام الذي شهد وفاة ماركس في وحدته. أما والده، جون نيفيل كينز فكان أستاذًا معروفًا في علم الاقتصاد في جامعة كامبريدج، مع أنه لم يكن بنفس شهرة معاصره ألفريد مارشال. ويستحق مارشال الذي كان معلمًا لكينز الصغير، أن نذكر عنه نبذة مختصرة. عندما تركنا علم الاقتصاد الإنجليزي الكلاسيكي، عمَّت حالة من الفوضى، بعد تدخُّل ماركس ليتحدَّى بعض فرضياته المحكمة والعادية. لقد كان الإسهام العظيم لمارشال هو وضع علم الاقتصاد الكلاسيكي في الإطار المنطقي، وهو ما يعرفه طلاب علم الاقتصاد في الوقت الحالي. وقد أمدَّنا كتابه الذي نُشر عام ١٨٩٠، تحت عنوان «مبادئ الاقتصاد»، ليس فقط بأول إشارة واضحة بأن الاقتصاد على وشك التطور كأحد العلوم، وليس فقط كفن الاقتصاد السياسي؛ بل إنه أوضح كيف تتلاءم «الحديات» — التكلفة الحدية والإيراد الحدي والمنفعة الحدية — التي تعرضنا لها من قبل. إذا كان سميث وريكاردو وميل وآخرون يعدُّون من خبراء الاقتصاد الكلاسيكي، فقد كانت أفكار مارشال بمنزلة الكلاسيكية الجديدة، حيث تناول ووضع أعمالهم فيما كان يُعرف وقتها بالسياق الحديث. وقد قيل إن كينز، في بعض الأحيان، ألقى بأعمال أستاذه في وجهه عن طريق قلب بعض فرضياتها، ولكن هذا ليس عدلًا. اهتم مارشال أساسًا بالاقتصاد الجزئي، أي العمل في الأسواق الفردية، أما كينز فقد كان الاقتصاد الكلي أهمَّ جانب ترك فيه بصمته.
بعد أن درس كينز في جامعة إيتون عاد مرة أخرى إلى كامبريدج لدراسة الرياضيات وليس الاقتصاد، وقد حصل فيها على درجة علمية. وأثناء وجوده هناك أصبح كينز رائدًا، أي عضوًا في الجماعة السرية للصفوة في الجامعة، كما مارس الشذوذ الجنسي، ربما بسبب إيمان هذه الجماعة بتفوُّق نوع الحب الذي يعتمد على المثلية الجنسية. ومن الواضح أنه تراجع عن ممارسة الشذوذ بعد أن تزوَّج في عام ١٩٢٥ من راقصة الباليه الروسية ليديا لوبوكوفا، التي أثبتَت أنها كانت مصدرًا عظيمًا لمساندته في سنوات حياته التالية، وبالتحديد بعد إصابته بأول أزمة قلبية في ١٩٣٧. دخل كينز المكتب الهندي (جزءًا مما يُعرف الآن بوزارة الخارجية) في عام ١٩٠٩، وظل به عامَين قبل الانتقال إلى كامبريدج ليعمل مدرسًا لعلم الاقتصاد، ومن هنا قام مارشال بمتابعة مهاراته وتشجيعها في هذا المجال. وعلى الفور أصبح محررًا في الجريدة المعروفة باسم «الجريدة الاقتصادية».
تعتبر الحرب العالمية الأولى وما ترتَّب عليها من نتائج من صنع كينز، كما سنرى، ولكن حتى بمعرفة نُبذة عن حياته لا يمكننا إغفال الصفات غير العادية لرجل عصر النهضة غير العادي. لقد كان عضوًا في جماعة بلومسبري التي ضمَّت فيرجينيا وولف وليتون ستراتشي. وكانا من المعجبين بكتاباته الخاصة المنمَّقة. في الواقع تعدُّ مقولات أوسكار وايلد هي المنافس الوحيد لأفضل مقولات كينز. يقول كينز: «أفضِّل أن أكون مصيبًا إلى حدٍّ ما على أن أكون مخطئًا تمامًا.» ويقول أيضًا: «لا أعرف ما الذي يجعل الإنسان أكثر تحفظًا؛ أهو عدم معرفته شيئًا سوى الحاضر، أم عدم معرفته شيئًا سوى الماضي.» ولقد سمع أغلب الناس، إن لم يكونوا قد استخدموا، مبرِّرات كينز لتغيير وجهة النظر: «عندما تتغيَّر الحقائق، أغيِّر رأيي. فماذا تفعل يا سيدي؟» وقد يكون كينز أيضًا مؤثرًا للغاية. فقد كتب عن أحد كبار المسئولين في وزارة الخزانة: «إنه يستطيع أن يلتزم الصمت بعدة لغات.» ثم قال عن آخر إن «صغر سنِّه» هو السبب في عدم فهمه لعناصر علم الاقتصاد. وكان عادةً ما يحصل على رد لهذه السخرية. ففي أثناء مؤتمر عام ١٩٤٦ في سافانا في جورجيا، الذي تولَّد عنه تأسيس صندوق النقد الدولي، قال كينز إنه أثناء جلسة العمل لا يأمل أن يُدمر «عفريتًا خبيثًا»، فقام فريدريك فينسون رئيس وفد الولايات المتحدة وقال: «لا أمانع في أن أُوصف بالخبيث، ولكنني أمانع في أن أوصف بعفريت.»
لقد تبحَّر كينز في عالم الحياة الأكاديمية، وعالم الحكومة وعالم المدينة وعالم الفنون. فترأس الجمعية القومية للتأمين التعاوني على الحياة، ومسرح كامبريدج للفنون، وكأحد المستثمرين الناجحين استطاع جَمْع المال لنفسه ولمحبوبته جامعة كينجز كوليدج، إلا أنه فقدَ الكثير من هذا المال في انهيار بورصة وول ستريت عام ١٩٢٩، وهو ما لم يتوقَّع حدوثه، ولكنه نجح في استعادته مرة أخرى وأكثر منه في السنوات القصيرة التالية. لقد كان أول رئيس لما أصبح بعد ذلك المجلس الفني.
لم يكن كينز يعيش في برج عاجيٍّ. فعادةً ما كان يضايق ويخدع السياسيين وكانت وزارة الخزانة تقاوم دائمًا أفكاره. لقد كان أحيانًا يعرض آراءه على صفحات جريدة «ذا تايمز»، ويرد على منتقديه. وفي أحد أشهر مقولات كينز وصف السياسيين بأنهم «مجانين في السلطة»، حيث إنهم ليسوا إلا «عبيدًا لعالم اقتصاد ميت». لقد بذل كينز كل ما في وسعه للتأكد من أن آراءه سيؤخذ بها قبل أن يموت. لقد عاش حتى ١٩٤٦ وتوفِّي في سن الثانية والستين، حيث تعتبر حياته قصيرةً نسبيًّا. وقد كان يعاني ضعف صحَّته في السنوات العشر الأخيرة من عمره. ويُقال إن تأثيره كان أكثر بكثير بعد وفاته. والآن دعونا نعرف السبب.
النتائج الاقتصادية للسلام وتشرشل
لقد عاد كينز إلى العمل الحكومي في أوائل عام ١٩١٥، عند ثبوت خطأ النظرة المتفائلة للحرب العالمية الأولى، التي انتهت تمامًا في عيد الميلاد في عام ١٩١٤. وبصفته وزيرًا للخزانة، كانت درجته صغيرةً في البداية، ولكنه صعد السلم سريعًا، وتولَّى مسئولية المهمَّة الرئيسية في تنظيم نفقات الدولة من العملات الأجنبية في الواردات الضرورية وقت الحرب. لم يتحمَّل كينز الحمقى عن طيب خاطر، كما كان واضحًا في العديد من المناسبات، حتى لو كانوا أعلى منه مكانة؛ ففي إحدى المرات أخبر لويد جورج رئيس الوزراء أن ما يقوله هراء. ومن المدهش أن هذا الصدق الهمجي لم يسبب له سوى ضرر بسيط مع القادة السياسيين. ومع أنه كان شابًّا له نفوذ كبير؛ فقد كان مُحبطًا أثناء خدمته في وقت الحرب في وزارة الخزانة، وقد كتب لزميله دانكن جرانت عضو جماعة بلومسبري في ديسمبر ١٩١٧: «إنني أعمل لحكومةٍ أحتقرها بسبب غاياتها التي أعتقد أنها شريرة.»
تلاشى هذا الإحباط في نهاية الحرب، عندما تولى رئاسة وفد المملكة المتحدة في مؤتمر السلام في فرساي، واستقال في يونيو ١٩١٩ لاعتقاده أن الأمور تسير في اتجاه خطير. كان الأمر يتعلق بمقدار التعويضات التي ستدفعها ألمانيا المهزومة للحلفاء المنتصرين. كان كينز لا يريد أكثر من مليارَي جنيه إسترليني، وكان ذلك مبلغًا كبيرًا في هذا الوقت، وكان الآخرون يضغطون لزيادة هذا المبلغ، ومن الواضح أنهم نجحوا في غايتهم، وأصبح المبلغ ٢٤ مليار جنيه إسترليني. ومع أن الرقم لم يظهر في معاهدة فرساي، فإن مضمون المعاهدة كان يوصي بأهمية وجود التعويضات. وبعد استقالته، قام كينز بتأليف كتاب بعنوان «الآثار الاقتصادية للسلام» الذي انتقد فيه طريقة الحلفاء في فرساي. وقد كتب يقول: «إذا كنا نهدف عن قصدٍ إلى إفقار وسط أوروبا؛ فالانتقام، كما أتوقَّع، لن يكون هينًا.» فالتعويضات الكبيرة سينتج عنها في البداية تضخم عظيم، وفي النهاية ستحدث الحرب «التي ستدمِّر حضارةَ وتقدمَ أجيالنا، بغضِّ النظر عن المنتصر».
لقد اختلف المؤرخون حول تحديد إذا كان كينز على صواب أم لا. ومع أن معاهدة فرساي قد بدَت صارمة، فإن مقدار التعويضات التي دفعتها ألمانيا كان أقلَّ من مليارَي جنيه إسترليني. ومع ذلك حدث تضخم كبير، وهو التضخم المفرط الذي حدث في حقبة فايمار. ويحدث التضخم عندما يزداد المستوى العام للأسعار. أما التضخم المفرط، وفقًا لأحد التعريفات، فيحدث عند الزيادة السريعة للأسعار إلى أكثر من ٥٠٪ في الشهر. وفي أوائل العشرينيات من القرن العشرين حقَّقت ألمانيا هذه النسبة. وبين أغسطس ١٩٢٢ ونوفمبر ١٩٢٣ ارتفعَت الأسعار بمعدل ٣٢٢٪ في الشهر. والفضل يرجع هنا إلى قوة الفائدة المركَّبة، وهذا يعني أن الأسعار في نهاية الفترة تضاعفت ١٠٫٢ مليارات مرة عما كانت عليه في البداية. ومن أجل وضع ذلك في منظور صحيح، فإن نحو مليون مارك في بداية الفترة سيعادل أقل من بفنك (وحدة العملة الأصغر في المارك الألماني) واحد في النهاية. لقد صنعت معاهدة فرساي أجواءً كان الشعب الألماني المهزوم يشعر فيها بالغضب والاستياء؛ لأنه كان يبدو أن الحلفاء مصمِّمون على أخذ الثأر كاملًا. وكانت تلك الأجواء ملائمةً لظهور أدولف هتلر.
لقد أصبح كتاب «الآثار الاقتصادية للسلام» من الكتب الأكثر مبيعًا، وأصبح كينز من الشخصيات العامَّة في بريطانيا وفي العالم، حتى مع اختلافه مع المؤسسة السياسية في الكثير من الأحيان. لقد تضاعف هذا الأمر في عام ١٩٢٣، عندما قام بنشر «بحث في الإصلاح النقدي» الذي اعترض فيه بشدة على عودة قاعدة الذهب في فترة ما قبل الحرب. إن قاعدة الذهب، التي كانت في أَوجها في الفترة ما بين ١٨٨٠ و١٩١٤، كما يظهر من الاسم، هي نظام ترتبط فيه أسعار العملات بأسعار الذهب، سواء في الأغراض المحلية أو العالمية. لقد كان ذلك يتوافق مع «العملات التي تتمتع بقوًى شرائية كبيرة»، وكان ينطوي على شيء من التبسيط النظري. فالدولة التي تعاني عجزًا في ميزان المدفوعات يجب عليها نظريًّا نقل ذهبها للخارج لدى الدول الدائنة (وعمليًّا يُنقل عادةً بين مخازن البنوك المركزية المختلفة). وهذا الفقد في الذهب بدوره قد يقلِّل من كمية المخزون من الذهب ويقلل من النفقات في الوطن، ومن هنا يجري تصحيح العجز. لكن كينز لم يكن لديه متسع من الوقت للذهب، أو «لتذكار غير حضاري»، أو للنظام. عندما عادت بريطانيا مرة أخرى، على عكس ما نصح به كينز، لقاعدة الذهب عام ١٩٢٥، فبمجرد أن اتخذ رئيس الوزراء آنذاك وينستون تشرشل هذا القرار، قام كينز بكتابة «الآثار الاقتصادية للسيد تشرشل». وقد توقَّع فيه أن نتيجة هذا القرار ستكون ارتفاع سعر الصرف على نحو ضارٍّ، وارتفاع نسبة البطالة الدائمة. ومرة أخرى كان صائبًا. فتركت بريطانيا قاعدة الذهب بعد ذلك بست سنوات في عام ١٩٣١، ولكن بعد أن كان الضرر قد وقع بالفعل.
حماية الرأسمالية من نفسها
لقد كان لكل النقد الذي قدمه كينز عن الحكمة المألوفة الفضلُ في شهرته وثرائه وسوء سمعته أيضًا، ولكن الإسهام الأكبر والأكثر تأثيرًا لم يكن قد حان موعده بعد. فوجود نسبة عالية من البطالة في السنوات التي تخلَّلت الحرب، بسبب سلسلة من الأحداث، منها الرغبة الخاطئة لدى الدول في العودة لقاعدة الذهب، وانهيار بورصة وول ستريت عام ١٩٢٩، ومحاولة الدول حماية أنفسها من الويلات الاقتصادية العالمية عن طريق وضع الحدود التجارية (تعريفة إفقار الجار، مثل القانون الأمريكي سموت-هاولي عام ١٩٣٠، الذي رفع التعريفة الجمركية على واردات الولايات المتحدة لأكثر من ٥٠٪). وقد تسبَّب هذا في معاناة الصناعات الأساسية، مثل الفحم والحديد والصلب وبناء السفن من الزيادة المستمرة للسعة الإنتاجية، وضربت أجزاء من بريطانيا بالتحديد بشدة. مثلما أوضح إيريك هوبسبوم في كتابه «الصناعة والإمبراطورية»:
في عامَي ١٩١٣-١٩١٤ أصبح حوالي ٣٪ من العمال في ويلز بدون عمل؛ بمعدَّل أقل من المتوسط القومي. وفي عام ١٩٣٤ — بعد حالة الانتعاش التي حدثت — فقدَ نحو ٣٧٪ من القوى العاملة في جلامورجان، ونحو ٣٦٪ من القوى العاملة في مونماوث؛ وظائفهم. أما ثلثا العمال في فيرندال، وثلاثة أرباعهم في برين ماور ودووليس وبلاينا؛ و٧٠٪ منهم في ميرثير، فلم يجدوا ما يفعلونه سوى الوقوف في جوانب الطرقات لاعنين النظام الذي أوصلهم إلى هذا الوضع. لقد كان الناس في مدينة جارو في مقاطعة دورهام يعيشون في مرفأ السفن في شركة بالمر. وعندما أُغلقت الشركة في عام ١٩٣٣ أصبحت جارو مهجورة، وفقدَ ٨ من كل ١٠ عمال عملهم. ويبدو أنهم فقدوا كل مدخراتهم في انهيار المرفأ، الذي كان يمثِّل لهم لفترةٍ طويلةٍ العالم القاسي والمفعم بالضجيج.
في الواقع لا يوجد مكان بمأمن من الخطر. ففي أمريكا، وبدون حالة الرفاهية المحدودة التي حدثت في أوروبا قبل الحرب، كانت آثار البطالة الجماعية أشدَّ قسوة. وقد كان الكساد العظيم دليلًا على وجود أزمة عالمية في الرأسمالية، المتمثلة في حدوث حركة جماعية من أفراد يائسين في محاولة للبحث عن العمل والطعام، وقد صوَّرها جون شتاينبيك في كتابه بعنوان «عناقيد الغضب»، وكذا فشل آلاف البنوك؛ ومن ثَم عدم منح أي ائتمان وهو ما أوضحت بعض التفسيرات أنه سبب الجانب الأكبر من المشكلات.
ليس صحيحًا أن نقول إن علماء الاقتصاد قبل كينز فشلوا في تصوُّر حدوث البطالة الجماعية. ذلك مع أنهم اعتقدوا أنه غالبًا ما سيحدث تصحيح ذاتي لتلك الأوضاع. ففترات البطالة قد ينتج عنها انخفاض المرتبات، التي قد تزيد من طلب أصحاب الأعمال للعمال. لقد أنذر كلٌّ من الكساد والبطالة الجماعية بنهاية الرأسمالية في الفترة التي تخلَّلت الحرب. بل ربما كانت في النزع الأخير. فالعديد من أهل الفكر في المجتمعات الغربية الرأسمالية رأَوْا في هذه الأزمة برهانًا على صحة أفكار ماركس، وقد رأى الكثيرون أن الماركسية هي الحل الوحيد لهذه الأزمة. وهكذا بدت «اليد الخفية» لسميث إما مرتعشة وإما أنها لم تعد صالحة للعمل بالمرة.
أما كينز فلم يكن كذلك. فعندما كتب «الآثار الاقتصادية للسيد تشرشل»، كان يؤيد برنامجًا لنفقات الحكومة كبديل للعودة إلى قاعدة الذهب، عن طريق تحمل عجز الموازنة عن قصد، حتى يتم استعادة النمو الاقتصادي وتقليل نسبة البطالة. وقد قام بنفس الشيء عندما جرى تعيينه في لجنة مكميلان للتمويل والصناعة في عام ١٩٢٩، وأيضًا عندما كانت تتاح له الفرصة في العديد من كتاباته للصحف والمجلات. لكنه كان يحارب ضد قوة عظمى، يطلق عليها «رؤية الخزانة». وكانت أفكار كينز من وجهة نظر القائمين على حماية الأموال العامَّة في بريطانيا متطرفة على نحو خطير. اعتقدوا أن البلاد يجب أن تكون لديها موازنة متوازنة، وأن تحاول قدر الإمكان سداد ديونها، ولا تسمح عن قصد بتراكم هذا الدين. ذكر وزير الخزانة البريطاني جوردون براون أنه وجد كتيبًا كتبه كينز في أرشيف الخزانة. وقد كُتبت فوق الكتابة كلمة «التضخُّم» فقط بخطِّ أحد الموظفين الكبار آنذاك.
النظرية العامة
لم يتوقف كينز عن الكتابة. ففي عام ١٩٣٥ كتب لجورج برنارد شو الكاتب المسرحي: «أعتقد أنني أؤلف كتابًا عن النظرية الاقتصادية، سيؤدي إلى حدوث ثورة في الطريقة التي يفكر بها العالم في المشكلات الاقتصادية، وأعتقد أنها لن تحدث فورًا ولكن في السنوات العشر القادمة.» نُشر الكتاب عام ١٩٣٦، وكان عنوانه «النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود». واستطاع كينز إقناع الناشر مكميلان بعرض الكتاب للبيع مقابل خمسة شلنات (٢٥ بنسًا)، معتقدًا أنه سيصبح مثل أوائل أعماله، أي من الكتب الأكثر مبيعًا. لقد كانت نظرته متفائلة. ومع بيع عشرات الآلاف من النسخ التي اشتراها خبراء الاقتصاد والطلاب على مر السنين، لم يكن الكتاب موجهًا للقارئ العادي. حتى إن علماء الاقتصاد كانوا يواجهون صعوبة في فهم بعض ما جاء به، كما كانوا يَرَونه محيرًا ومتناقضًا. ألَّف هذا المؤلِّف العظيم — الذي يكتب مقالات في الصفحات المقابلة لصفحات المحرر في جريدة «تايمز» — كتابًا يصعب فهمه. ومع ذلك، فقد كانت تلك الصعوبة أقل أهمية مقارنةً بما احتواه الكتاب من رسالة جعلت الناس يفكرون في المشكلات الاقتصادية بطريقة مختلفة، كما كان يتوقع لها، وأصبح هذا الكتاب بسببها واحدًا من أهم ثلاثة كتب صدرَت في الاقتصاد؛ فهو يقف جنبًا إلى جنب مع كتاب سميث «ثروة الأمم» وكتاب ماركس «رأس المال». وكنا في انتظار كتاب رابع يضاف لهذه الثلاثة، مع أن ذلك لا يرجع إلى قلة محاولات الناشرين. فعندما قام الخبير المالي جورج سوروس في أواخر التسعينيات من القرن العشرين بتأليف كتاب يتناول موضوع «أزمة الرأسمالية العالمية» (وقد كان ذلك بعد أن تعرضت آسيا لمشكلات مالية واقتصادية) ادعى الناشرون بسخرية أنه قد أضاف الكتاب الرابع لينضم لرباعي العظماء.
من الضروري لفهم تقدم كينز، بدون الخوض في تعقيدات النظرية العامة، العودة إلى «أكثر المعادلات في علم الاقتصاد نفعًا» التي ذكرتها من قبل. وهي المعادلة التي تقول:
حيث «م» هو نفقات المستهلك، و«ك» هو نفقات الحكومة، و«ث» الاستثمار، و«ص» الصادرات و«س» الاستيراد.
دعونا نتجاهل «س، ص» للحظةٍ ونركز على الباقي. ماذا سيحدث عندما تقلُّ نفقات المستهلك بسبب ارتفاع نسبة البطالة، ويضعف الاستثمار بسبب عدم قدرة المشروعات على رؤية أي مؤشر على عودة الأيام الجيدة؟ من هنا تحتَّم أن يكون إجمالي الناتج المحلي (إجمالي الناتج المحلي – المجموع الكلي للنشاط الاقتصادي) ضعيفًا. وسيزداد ضعفه لأن الحكومة ترغب في تعديل الأمور لتناسب أغراضها؛ فقد تلجأ إلى تقليل النفقات لضعف إيرادات الضرائب. رفض كينز كل ذلك. وقال إنه في هذه الظروف يجب أن تقوم الحكومات بعكس كل ذلك. يجب أن تزيد من النفقات، خاصةً على الأشغال العامة. وعن طريق زيادة نفقات الحكومة ونصيب القطاع العام من الاستثمار، سيرتفع إجمالي الناتج المحلي تلقائيًّا، وسيُسْتعاد النمو الاقتصادي مرة أخرى.
هل الأمر بهذه البساطة؟ بعد فشل كل الحكومات في تحقيق الثروة، وإعادة توزيع النقود التي جمعوها من الضرائب. ونتيجة للحل الذي وضعه، وفي حالة عدم حدوث التضخم، فمن المرجح أن يحدث تحفيزٌ مؤقتٌ للنظام الاقتصادي، بعد ذلك سيصبح في ورطة أكثر مما سبق؟ لقد كان لكينز العديد من العبارات الشهيرة: «وفي النهاية سوف نموت جميعًا» هذه هي أحد أكثر العبارات شهرة. ومن أكثر الأمور ارتباطًا بالموضوع في هذا السياق من كتاب «النظرية العامة»:
إذا كانت وزارة الخزانة ستملأ زجاجاتٍ قديمةً بالأوراق النقدية، وتدفنها على عمق مناسب في مناجم فحم مهجورة ومملوءة بنفايات المدينة، وستتركها للاكتشافات الشخصية وفقًا لمبادئ جرى تجربتها جيدًا لسياسة عدم التدخُّل؛ لاستخراج هذه الأوراق مرة أخرى (سيكون الحصول على حقوق القيام بذلك، بالطبع، عن طريق تقديم العطاءات الإيجارية للسلطات التي تختص بالأوراق النقدية) فلن تكون هناك بطالة بعد ذلك، ونتيجة للآثار المترتبة على هذا سيصبح الدخل الحقيقي للمجتمع، وثروته الأساسية أيضًا، أفضل مما كان عليه في الواقع.
تتلخَّص الفكرة في أن نفقات الحكومة الإضافية، في الوقت المناسب، قد «تزيد من النمو الاقتصادي»، مما سينعكس على نمو إجمالي النظام الاقتصادي. أما الآلية التي حدث عن طريقها هذا الأمر، فمن المحتمل أن يكون أحد إسهامات كينز الأكثر أهمية. حيث يضمن المضاعف الذي تناولناه من قبل، أن كل النفقات الإضافية للحكومة تتحرَّك داخل النظام الاقتصادي. نفترض أن برنامج المشروعات العامة يوظِّف حوالي ١٠٠ ألف عاطل عن العمل، براتب ٥٠٠ جنيه إسترليني في الأسبوع. هذا يعني حدوث زيادة نحو ٥٠ مليون جنيه إسترليني في الدخل. لن يُنفق بالطبع كل هذا المبلغ، ولكن إذا كان يجري إنفاق ٩٠٪ منه (وفي المتوسط نجد أن العمال يميلون لاستهلاك تسعة أعشار دخلهم)، ينتج نحو ٤٥ مليون جنيه إسترليني من النفقات الإضافية التي ستظهر كرواتب لعمال المصانع، وسائقي سيارات النقل والعمال في المحلات وغيرهم. يضمن هذا المضاعف أيضًا أن جزءًا من الحقن المبدئي للأموال العامة على الأقل سيعود للخزانة مرة أخرى، على شكل إيرادات أعلى من الضرائب. ويعتبر حجم المضاعِف، مثار جدل كبير، كما تناولنا من قبل. إن المتحمِّسين للحلول الكينزية سوف يزعمون أن المضاعِفات المالية كبيرة، وخاصة عندما يتم تعزيز الإنفاق الحكومي. أما المعارضون فسوف يميلون إلى الزعم بأن هذه المضاعفات صغيرةٌ للغاية. وبعيدًا عن هذا النقاش، يطرح هذا المضاعِف سببًا قويًّا لعدم فعالية العلاج «الكلاسيكي» للبطالة وخفض الرواتب؛ لإجبار العمال على الرجوع للعمل. وبعيدًا عن الحقيقة التي تقول إنه من الصعب إرغام العمال على تقبل خفض الأجور، حتى عندما تكون الأسعار منخفضة؛ فإن خفض الأجور، كطريقة لخفض الدخل، سيعني خفض القوة الإنفاقية، أو «إجمالي الطلب».
يبدو كلُّ ذلك جيدًا، ولكن ألا يوجد طريقٌ مباشرٌ لتحفيز النظام الاقتصادي، عن طريق تخفيض أسعار الفائدة؟ سنتناول في الفصل التالي بالتفصيل كيف تحدث هذه العملية عادةً، ولكن فكرة كينز الأساسية، في وقت تأليف كتابه، هي أن أسعار الفائدة قد فقدَت قوتها. وفي رأيه أنه من الممكن أن يتطور الموقف حيث تنخفض أسعار الفائدة بنفس القدر الذي تستطيعه السلطات، ولكنها تظل مرتفعة أكثر من اللازم بما يحول دون تحفيز الاستثمار؛ لأن المشروعات لا تبشر بالنجاح، فيقول كينز إنها تفتقد «الحيوية والنشاط». بمعنًى آخر من الممكن أن نحاصر النظام الاقتصادي بما يطلق عليه «فخ السيولة». حتى بعد أن تصبح أسعار الفائدة في أقل مستوياتها المستخدمة، وربما تصل للصفر، لا يرغب أيُّ شخصٍ في الاقتراض. في هذه الظروف فإن زيادة النقود والائتمان لا تكون ذات فائدة. فكل ما سيحدث هو تراكم الأرصدة «المعطلة» في البنوك. إذا كان كل ذلك يبدو وكأنه بعيد المنال، كان هناك مثال معاصر حتى قبل الأزمة المالية العالمية.
فخلال ما يقرب من عقدَين من الزمان منذ عام ١٩٩٠، وحتى انضمام أغلب الاقتصادات المتقدمة الأخرى إليها عندما اندلعت الأزمة، كانت اليابان مثالًا حيًّا لاقتصاد وقع في فخ السيولة، حيث تم خفض أسعار الفائدة إلى الصفر دون تحفيز الاقتصاد، وخاصة بسبب انخفاض الأسعار، أو الانكماش. ومن المثير للاهتمام أن الحكومة اليابانية جربت العلاجات «الكينزية» في عدد من المناسبات، مع تخفيضات ضريبية وبرامج أشغال عامة. ولكنها لم تنجح، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى بطء الحكومة اليابانية في معالجة المشاكل في نظامها المصرفي، ولأنها لم تتبعها على نحو ثابت — كانت هناك أوقات سحبت فيها السلطات التحفيز المالي قبل الأوان — وبسبب فقدان الثقة العامة في قادتها السياسيين. وتحول «العقد الضائع» الأول لليابان في تسعينيات القرن العشرين إلى عقد ثانٍ من الركود الاقتصادي والانكماش (انخفاض الأسعار) في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولم تتحسَّن الأمور كثيرًا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
فقد قدَّمت الأزمة المالية العالمية ما اعتُبر على نطاق واسع بمثابة عودة ثانية لكينز، كما وصفه كاتب سيرته الذاتية، روبرت سكيدلسكي، في كتابه «عودة المعلم»، في عام ٢٠٠٩:
لقد عاد الخبير الاقتصادي جون مينارد كينز إلى الأضواء. فقد خصصت صحيفة «وول ستريت جورنال»، التي تدافع عن عقيدة السوق الحرة، صفحة كاملة له في الثامن من يناير ٢٠٠٩. والسبب واضح. الاقتصاد العالمي في حالة ركود؛ و«حزم التحفيز» هي الاتجاه السائد. ولكن أهمية كينز لا تكمن فقط في كونه مؤسس «حزم التحفيز». فقد عرفت الحكومات كيفية «تحفيز» الاقتصادات المريضة — عادة بسبب الحرب — منذ بداية علمها بالأمور. وكانت أهمية كينز تتلخَّص في تقديم «نظرية عامة» تفسِّر كيف تسقط الاقتصادات في حالة ركود، والإشارة إلى السياسات والمؤسسات اللازمة لتجنُّبها. في الوضع الحالي، لا توجد نظرية أفضل من نظرية سيئة، لكن النظرية الجيدة أفضل من عدم وجود نظرية. يمكن أن تساعدنا النظرية الجيدة في تجنُّب ردود الفعل المذعورة، وتعطينا رؤًى حول جوانب قصور الأسواق والحكومات. في رأيي، يقدِّم كينز النوع الصحيح من النظرية، على الرغم من وضوح أنه ليس الكلمة الأخيرة في الأحداث التي وقعت بعد ٦٣ عامًا من وفاته.
لم يكن كينز قادرًا على تحقيق كل شيء بطريقته الخاصة. على الرغم من أن معظم الحكومات قدَّمت حزم تحفيز مالي، وضعت الأغلبية أيضًا خططًا لإصلاح ماليتها العامة — عن طريق سحب التحفيز — في الأمد المتوسط. نشأ نقاش عنيف، حيث أصرَّ الكينزيون على أنه من الضروري الحفاظ على التحفيز إلى ما بعد الأزمة المباشرة.
هناك الكثير مما يتعلق بكينز والنظرية العامة أكثر مما سمح به هذا الملخص الموجز. إن الطلاب الذين يتعمَّقون قليلًا في هذا الموضوع سرعان ما سيواجهون ما يسمَّى بإطار «الطلب الكلي والمعروض الكلي»، الذي صممه اثنان من أتباع كينز؛ السير جون هيكس وألفين هانسن. وسوف يعتادون على التعامل مع الطلب الكلي والمعروض الكلي. وسوف تكشف القراءة الإضافية عن نقاش شرس حول ما إذا كانت النظرية العامة لكينز عامة في الواقع، أم أنها مجرد نظرية مطبقة على الحالة الخاصة لسنوات ما بين الحربَين العالميتَين. وسوف يجدون أيضًا أنه شرير في نظر الكثير من الناس بقدر ما هو بطل. ربما أنقذ كينز الرأسمالية من نفسها في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن بالنسبة لمنتقديه فقد بشر أيضًا بعصر الحكومة الكبيرة وتمويل العجز التضخمي (لم تمت وجهة نظر الخزانة تمامًا). وينبغي للقراء العاديين الذين لديهم الوقت والاهتمام أن يقرءوا السيرة الذاتية الممتازة لكينز، والتي تتألَّف من ثلاثة مجلداتٍ والتي كتبها روبرت سكيدلسكي.
بريتون وودز
قبل أن نترك كينز، من المفيد أن نتعرض باختصار لما قام به بعد تأليف كتاب «النظرية العامة». وبعيدًا عن السياسيين المهاجمين والمناقشات الحادة مع من ينتقدونه لكي نؤكد على أن أفكاره يجب نشرها، عاد مرةً أخرى — بالرغم من الأزمة القلبية التي تعرَّض لها عام ١٩٣٧ — إلى العمل الحكومي النشيط. في عام ١٩٤٠ نشر كتاب «كيف ندفع ثمن الحرب» وفيه خطة عبقرية تتضمَّن ضرائب مؤقَّتة (لمنع التضخُّم الذي يحدث في فترة الحرب بسبب الضغط على الموارد)، مع تحصيل الأموال من دافعي الضرائب بمجرد انتهاء الحرب. كانت هناك إشارات عن ذلك في موازنة كينجزلي وود عام ١٩٤١، ولكن كان من الواضح أن لها أصولًا كينزية في جوانب أخرى. كان دور كينز الأكبر في المفاوضات الدولية، وخاصة مع الأمريكيين. لقد رأى بأسلوب واضح أن طموح أمريكا في وقت الحرب هو دعم الحليف العسكري القديم، ولكن عندما نكون بصدد المساعدة المالية، فسوف تقوم أمريكا بذلك شريطة أن تتأكَّد من إزاحة بريطانيا كقوة اقتصادية عظمى، والاستعاضة عنها بالولايات المتحدة. لقد رأى كينز أن حدوث ذلك أصبح وشيكًا، عندما قامت أمريكا بمساعدة بريطانيا وقت الحرب عن طريق اتفاق التسليف والتأجير بين بريطانيا وأمريكا، وأيضًا القرض الأمريكي الذي كان من شأنه قلب النظام الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب. ويقول البعض إن فشل كينز في تغيير طريقة أمريكا أسهم في موته المبكر في أبريل ١٩٤٦.
قبل ذلك كان كينز المفاوض الرئيسي لبريطانيا في مؤتمر بريتون وودز في صيف ١٩٤٤. لقد جرى اختيار بريتون ووزد، وهو فندق مستطيل الشكل، وأصبح الآن أكثر أناقة في منتزه وايت ماونتن ناشونال بارك في نيوهامشير، ليكون مكانًا لعقد مؤتمر سوف يحدد شكل النظام المالي العالمي في فترة ما بعد الحرب. لقد كان واضحًا في هذا الوقت أن ألمانيا سوف تُهزم، مع أن الأمر قد استغرق عامًا آخر لكي تنتهي هذه المهمة؛ لذلك كان من الضروري عمل نظام يمكنه تجنب المشكلات التي حدثت في الفترة التي فصلت بين الحربَين. لقد كانت خطة كينز الأساسية، هي تأسيس بنك مركزي عالمي يستطيع تقديم الائتمان، ويسوي المدفوعات بين الدول بعملته الخاصة، التي تُدعى «بانكور». ومرة أخرى سبق كينز عصره، وخاصةً بالنسبة إلى الفريق الأمريكي ووزير ماليتهم هاري ديكستر وايت. لقد أسفر مؤتمر بريتون وودز عن نوع من البنوك أُطلق عليه البنك الدولي، وأيضًا صندوق النقد الدولي. كما أسفر المؤتمر عن نظام ثبات سعر الصرف القابل للتعديل الذي كان نظامًا ناجحًا لنحو ٢٥ عامًا بعد الحرب. جرى تثبيت سعر العملات أمام العملات الأخرى، في حدود ضيقة، ولكن مع إمكانية تعديلها في ظروف استثنائية. قامت بريطانيا بعمل تعديلَين في ظل هذا النظام، فقامت بتقليل قيمة الجنيه الإسترليني في عام ١٩٤٩ (من ٤ دولارات أمريكية إلى ٢٫٨٠ دولار أمريكي) وفي عام ١٩٦٧ (من ٢٫٨٠ دولار أمريكي إلى ٢٫٤٠ دولار أمريكي). ومما أزعج كينز أن هذا النظام يقوم على أصداء قاعدة الذهب ولهذا كان يكرهه. يُسمى هذا النظام، قاعدة الصرف بالدولار الذهبي، واستمر العمل به حتى أوقفت أمريكا برئاسة ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولارات إلى ذهب عام ١٩٧١.
مع أن كينز لم يستطِع فعل ما يحلو له في مؤتمر بريتون وودز، فإن إسهامه كان ضخمًا. يقول البعض إن النظام النقدي العالمي الذي تصوَّره كان سيظل ساريًا اليوم، ولقد لجأ بعض كبار الشخصيات الصينية إلى الاستشهاد بخطته على نحو إيجابي، وباعتبارها أفضل من النظام القائم على الدولار الذي انتهى إليه العالم. ومثلما كان الحال مع كل شيء آخر فعله، كان من المستحيل تجاهله.
•••
والآن بعد أن تركنا كينز ملوحًا بيده، حان الوقت للعودة مرة أخرى للوقت الحاضر. لقد أصبحت الصورة الاقتصادية كاملة تقريبًا وأصبح الضيوف يشعرون بالشبع. لذا حان الوقت للحديث عن شيءٍ عادةً ما يثار على موائد العشاء، ومن الممكن أن يُسبب عسر الهضم، ويشاع عنه أنه أصل كل الشرور، لكن دوره جوهري في قصتنا الاقتصادية. بطبيعة الحال أنا أتحدث عن المال.