الفصل الحادي عشر

المال

عاجلًا أو آجلًا، تتحوَّل معظم المحادثات على موائد العشاء إلى الحديث عن المال، وإن انطوى ذلك على شيء من عدم اللياقة أحيانًا. ومن المستغرب أننا حتى الآن لم نأتِ على ذكر النقود بشكل صريح بعد، مع أننا تحرَّينا موضوعات مفضلة أخرى؛ مثل الرهن العقاري وأسعار العقارات. فبدون نقود ماذا سيصبح حالنا؟ مجرد بدائيين نقوم بمقايضة نصف دستة من البقر مقابل الحصول على زوجة جديدة؟ في واقع الأمر لعبت الماشية دورًا مهمًّا في تطور النقود. فكلمة المنقولات Chattels، «كالزوجة والممتلكات المنقولة» وكلمة رأس المال Capital، «كرأس مال الاستثمار» أو حتى اسم أكثر أعمال ماركس شهرة؛ لها نفس الجذر اللغوي لكلمة ماشية Cattle في اللغة الإنجليزية القديمة.

وقد استُخدم لفظ النقود في بعض المجتمعات البدائية المعروفة بطريقة معقدة جدًّا، حتى ولو كانت تلك العملة تختلف عما نعرفه الآن. فإذا تتبَّعنا تاريخها فسنجد أنه في جزيرة ياب في جنوب المحيط الهادي كان السكان يستخدمون أحجارًا ثقيلة جدًّا كنقود، مما جعل أمر سرقتها صعبًا، وفي نيو هيبرايدز كان الريش العملة المستخدمة، وماذا يمكن أن يكون أسهل من ذلك لحمله والسير به؟ وفي بورنيو كانت الجماجم البشرية تمثِّل النقود، حسب التقاليد المتعارف عليها، وإن بدا لنا ذلك مخيفًا لأنها كانت تمثل أثمن ما يمتلكون. أما بالنسبة لجزر فيجي فكانوا يستخدمون أسنان الحيتان. وقد كانت المانيلا وهي أشكال من حلي الزينة المعدنية، تستخدم في غرب أفريقيا كنقود حتى وقت قريب، نحو عام ١٩٤٩. وحتى في الأنظمة الاقتصادية الحديثة، وفي ظروف بعينها، كانت أشياء أخرى تستخدم كبدائل للنقود التقليدية. أما في وقتنا الحالي فإن السجائر أو المخدرات تعدُّ هي العملة الرئيسية المستخدمة في السجون؛ حيث إن النقود السائلة تتسم بمحدودية الاستخدام. وقد أصبحت السجائر أيضًا العملة المفضلة لدى الناس خلال التضخم الأوروبي الجامح الذي وقع في القرن العشرين، وعلى وجه التحديد في ألمانيا. وكما يبدو فإن السجائر قد احتفظت بقيمتها أكثر من النقود.

قد يكون من الممتع أن نتتبَّع أثر كيفية استمداد العملات أسماءها. فالباوند (الجنيه الإسترليني) أطلق عليه هذا الاسم لعدة أسباب واضحة، فهو يمثِّل كمية الفضة التي يزنها الباوند الروماني أو الليرة (ومن ثَم الليرة أيضًا، في الواقع كان حرف l يستخدم للإشارة لكلا المعنيَين). أما المارك فهو وحدة قياس للوزن؛ وهو يعادل ثلثَي الباوند. والدراخمة تعني حفنة من الحبوب، وقد تحولت إلى اليورو في اليونان حاليًّا. وكان البنس هو الوحدة النقدية التي كانت بريطانيا تستخدمها في العصور الوسطى، والتي كان يرمز لها بالحرف d نسبة للدينار (ديناريوس) اللاتيني الذي تولدت عنه الكثير من أسماء العملات، خاصة الدينار. وبالفعل أصبح الباوند جنيهًا إسترلينيًّا منذ حوالي القرن الثاني عشر، أو ربما قبل ذلك بقليل، والسبب في ذلك غير مؤكد. ونحن نعرف أن كلمة «الإسترليني» كانت تصف البنس؛ لذلك فإن جنيهًا إسترلينيًّا يعني باوندًا فعليًّا من الإسترليني. من أين جاءت كلمة إسترليني؟ يقول أحد المقترحات إنه تحريف لكلمة «ستارلنج» starling التي تعني اسم طائر، وهي أيضًا مشتقة من كلمة «إيستلنجس» eastelings، وتعني التجار الأوروبيين من الشمال الشرقي. وقد فضَّل نيكولاس مايهيو، أستاذ علم العملات والتاريخ النقدي ونائب مدير متحف أشموليان في أكسفورد، والذي كتب على نطاق واسع حول هذا الموضوع، التفسير القائل بأن هذه العملة مشتقَّة من كلمة ster، وهي كلمة إنجليزية من العصور الوسطى تعني القوة والاستقرار.

ما وظيفة النقود؟ ربما نتساءل. أقر كارل مينجر في مقاله الكلاسيكي عام ١٨٩٢ تحت عنوان «في أصول النقود» بأن الحقيقة التي تقول إن كل فردٍ وكل مشروع «يجب أن يكون مستعدًّا ليتبادل البضائع مقابل أسطوانات معدنية صغيرة، أو مقابل وثائق تمثل تلك الأسطوانات»، كانت «غامضة تمامًا» فيما يبدو. إلا أن الفقرة السابقة تعطينا القصة شبه كاملة. فالغرض الأساسي من المال هو أنه وسيلة للتبادل. لذلك يجب أن تكون مقبولة عمومًا. وغالبًا تكون المقبولية أمرًا أكثر أهمية من شيء معين تعوَّد الناس عليه أو تعلَّقوا به، فيجب أن يتعامل الناس بالنقود على أنها نقود قانونية. ووفقًا للقانون، فإن النقود القانونية هي ما يجب أن يقبله الناس عند سداد الديون. من الممكن أن يتنوَّع ذلك. فالبنس من النقود القانونية في الكثير من الاستخدامات، ولكن إذا كان شخص ما يريد تسوية فاتورة مقدارها ١٠٠٠ جنيه إسترليني باستخدام البنس، فقد يُرفض ذلك بشكل مشروع. فلعدة أجيال كان الاسكتلنديون في وقت ارتدائهم للتنورة ذات الثنيات الطويلة (الكتلية الاسكتلندية) وذهابهم إلى لندن لمشاهدة لعبة الرجبي، كانوا يستشيطون غضبًا عند رفض سائقي سيارات الأجرة قبول نقودهم الاسكتلندية، إلا أن سائقي سيارات الأجرة كانوا على حق. فمع أن هذه العملة مقبولة بصفة عامة في شمال الحدود، فإن الأوراق النقدية الاسكتلندية لا تعدُّ الآن نقودًا قانونية حتى في اسكتلندا نفسها. يتم إصدار جميع الأوراق النقدية في إنجلترا وويلز من قِبَل بنك إنجلترا، ولكن في اسكتلندا، يصدر بنك رويال بنك أوف اسكتلندا وبنك اسكتلندا وبنك كلايدسديل الأوراق النقدية. تتمتَّع أربعة بنوك بحقوق إصدار الأوراق النقدية في أيرلندا الشمالية: بنك أيرلندا، وبنك فيرست تراست (جزء من بنك أيرلندا الدولي)، وبنك دانسكه، وبنك أولستر.

وصحيح أن المقبولية شرط أساسي، ولكن المال لا بد أن يكون أيضًا مستودعًا للقيمة، وهذا هو السبب الذي جعل المعادن المعمرة تستخدم كنقود، وأيضًا السبب وراء استغراق الأمر وقتًا حتى أصبحت النقود الورقية موثوقًا بها. هناك الكثير من الأمثلة على استخدام الطعام كنقود، ولكن، مثل أي سلعة قابلة للتلف، فإنه يعاني من عيب أساسي معين. يجب أن يكون المال أيضًا وحدة حساب. ما دام الناس قادرين على تحديد قيمة الأشياء من حيث عدد السجائر التي ستكلفها، فلا يوجد ما يمنع نقود السجائر من العمل كوحدة حساب. ومع ذلك، أوضح مينجر، في مقالته عام ١٨٩٢، سبب ملاءمة المعادن الثمينة بشكل غريب للعمل كنقود. وأشار إلى أنها كانت مطلوبةً على نطاق واسع ونادرة فيما يتعلق بالطلب عليها. قد تعترض على قبول عملة بلاستيكية كوسيلة للدفع، ولكن لا تعترض على قبول عملة ذهبية أو فضية على الإطلاق.

من النقود لبطاقات الائتمان العالمية

تُعتبر قصة المصارف أقدم من قصة النقود نفسها، أو على الأقل العملات. ففي بلاد الرافدَين (العراق حاليًّا) أو في مصر القديمة، كانت البنوك هي مخازن الحبوب أو السلع الأخرى. وقد استخدمت الإيصالات وتعهدات السداد، التي تُصدر للودائع والتحويلات من الحبوب، كعملات. من هنا يرجع استخدام العملات الورقية منذ القدم، وهو بالفعل ما كانت تمثِّله. وقد كانت الحضارات القديمة تتمتَّع بأنظمة مصرفية معقدة نسبيًّا. فنحن نعرف، من العملات الرومانية والإغريقية التي وصلت إلينا، أن مقدار النقود المتداولة كان كبيرًا. ونعرف أيضًا أن العملات هي فقط جزءٌ من إطار نقدي كثيف، بما في ذلك البنوك. ولكن تاريخ العملات لم يكن مع ذلك تاريخًا ممهدًا. فالعملات الورقية يبدو أنها اختفت عندما انهارت الإمبراطورية الرومانية، ولم تنتعش مرة أخرى، على الأقل في أوروبا، حتى قرابة القرن الثاني عشر، بناءً على قوة دفع من جانب الحملات الصليبية، عندما كان يجب إيجاد طريقة معينة لسداد قيمة المؤن والمعدات ولدفع الأموال لحلفائهم. فالخدمات المصرفية التي تطورت سريعًا في المدن الإيطالية مثل روما وجنوة؛ بدأت تأخذ طابعًا عالميًّا.

وإذا مضينا قدمًا بالتاريخ لنصل إلى إنجلترا في القرن السابع عشر، والحرب الأهلية (١٦٤٢–١٦٥١)، نجد أن الأغنياء كانوا يخزِّنون المجوهرات والسبائك والأشياء الثمينة الأخرى في الخزائن الحديدية الصغيرة أو في خزائن الصياغ. وكما كانت الحال في مصر القديمة كانت العملات الورقية نتيجة منطقية لمثل هذه الودائع. الشيك — أمر للصائغ بالدفع — ينتج عنه تحويل مال من شخص لآخر. والإيصالات التي تُقدم بناءً على وديعة من الأشياء الثمينة من الممكن تداولها. وبحلول عام ١٦٦٠ أصبحت هذه الإيصالات أوراقًا مالية. وقد حدثت تطورات مماثلة في دول أخرى.

لكن إلى الآن لا يوجد شيء يتعلق بالنقود الورقية يميزها عن الذهب وعن الأشياء النفيسة الأخرى التي تمثلها، بغض النظر عن الحقيقة التي تقول إنها أخف وأكثر ملاءمة للحمل. بدأ هذا الفرق في الظهور عندما بدأ الصاغة يدركون أن غالبية النفائس الموجودة في خزائنهم لا تغادرها أبدًا. فما دام الناس يثقون في أنهم عندما يحين الوقت سيستطيعون سحب الذهب، سيكونون سعداء بالتعامل في تجارتهم بورق يمثل الذهب. وما دام الصياغ يثقون أن كل الناس لن يقوموا بسحب ذهبهم في نفس الوقت، فيمكنهم إصدار المزيد من الأوراق النقدية — التي تسحب على حساب الذهب — ولكنها أصبحت تزيد على الكميات التي تحويها خزائنهم من المعادن النفيسة. ويبدو أن الأمر كان يمثل بعض التحايل ولكنه القاعدة الأساسية للنظام المصرفي الحديث. لقد قام الاسكتلندي جون لو، الذي كان في وقت ما يُعرف بأغنى رجل في العالم، بتحمُّل عبء هذا العمل منذ أوائل القرن الثامن عشر، عن طريق إقناع البلاط الملكي الفرنسي باتِّباع ما كان يُعتبر في ذلك الوقت أكثر نظم النقود الورقية تعقيدًا في العالم. ولأن النظام كان يرتبط بأسهم في شركة مسيسيبي، وحيث إنها كانت مغامرة في المضاربة عالية جدًّا، فقد انتهت التجربة على نحو مشئوم. إلا أن ذلك شهد مولد عصر النقود الورقية.

وبعيدًا عن هذه الظروف، يجب عدم الخلط بين موضوع النقود الورقية وحقيقة أن البنوك لا بد أن تتأكد أن كلًّا من ودائعها وقروضها متوازنة تقريبًا. ينطبق نفس الأمر بالطبع على النقود السائلة الآن. نتذكر صدمتنا عندما كنا صغارًا، واكتشفنا أنه إذا أراد كل فرد أن يسحب نقوده وعملاته من البنك في وقت واحد، فلن يكون هناك ما يكفي للتداول. في بعض الأحيان، بطبيعة الحال، يختبر المودعون هذه العملية إلى أقصى حد، عندما يكون هناك تهافت على البنك من النوع الذي ضرب نورثرن روك، وهو بنك سابق في شمال شرق إنجلترا تحوَّل إلى جمعية بناء، في سبتمبر ٢٠٠٧ (أول تهافت من هذا النوع منذ ستينيات القرن التاسع عشر). هذه هي الظروف التي يضطرُّ فيها البنك المركزي باعتباره الملاذ الأخير إلى التدخُّل كمقرض، غالبًا بدعم من بنوك أخرى حريصة على الحفاظ على الثقة في النظام. عندما يكون هناك تهافت على النظام ككل، يمكن للبنك المركزي أن يستجيب بطباعة المزيد من النقود، على الرغم من أن نتيجة ذلك قد تكون التضخم، والذي سنتحدث عنه أدناه.

تُعرف الطريقة التي تزيد بها البنوك من مقدار «النقود» في النظام الاقتصادي، عن طريق قاعدة نقدية صغيرة نسبيًّا «بخلق الائتمان». وفيها يجري تحديد مقدار النقود المتداولة، على التوالي، عن طريق ما يُعرف «بالمضاعِف النقدي». وإذا اكتشفت البنوك عن طريق العرف والممارسة أنها تحتاج للاحتفاظ بحوالي ١٠٪ من القروض والودائع في شكل نقود سائلة، سيصبح المضاعِف النقدي ١٠٪، أي إن هناك مقدارًا نقديًّا متداولًا يساوي ١٠ أضعاف مقدار النقد السائل. وعمليًّا فإن معظم الدول تعمل على أساس من النقود السائلة أقل قليلًا — بالتأكيد أقل من ١٠٪ — ومن ثَم يتراوح المضاعِف النقدي بين ١٠ و٢٠. فالبنك المركزي الذي يرغب في إبطاء عملية الاقتراض في النظام الاقتصادي، ربما لأن الاقتصاد معرض لخطر التضخم، مع النمو السريع أكثر من اللازم والانجراف نحو مشكلة التضخم، من الممكن أن يفرض «متطلبات احتياطية» أكثر إحكامًا، مما يؤدي إلى زيادة مقدار النقود السائلة (والودائع لدى البنك المركزي) التي يجب أن تكون في حوزة البنك.

ماذا عن الأموال البلاستيكية؟ بعيدًا عن حقيقة أن بطاقات الائتمان والحسابات المدينة دفعت الناس للتوفير بصورة أكبر في استخدامهم النقود السائلة، فهي تعتبر مجرد امتداد لتغيرات سابقة من الأموال غير السائلة التي تناولناها من قبل. فبطاقة الحساب المدين هي نسخة بلاستيكية من الشيك. أما بطاقة الائتمان فهي تختلف بقدر بسيط، فهي قرض، عادةً ما يكون قصير الأجل، يعطى من البنك للعملاء الأفراد، ويقوم المتجر الذي تم السداد له عادةً بدفع الأتعاب التجارية للبنك الذي أعطى القرض مقابل ميزة القيام بهذا السداد (مع أن العميل يدفع بالمثل للبنك عند تحويل شيك). مع ذلك فإن المبدأ الأساسي لهذه العملية لا يختلف عن صور فتح الاعتماد الأخرى.

النقود والسياسة النقدية

كل فردٍ منا يعلم ما هي النقود، ولكن ما هي السياسة النقدية؟ ثماني مرات في السنة ولمدة يومَين، يجتمع تسعة رجال ونساء معًا في قاعة اللجان في بنك إنجلترا تظهر فيها لوحة لمونتاجو نورمان، وهو أحد رؤساء البنك العظماء، الذي أصبح متميزًا، خاصة بالقرب من نهاية مدة خدمته التي استمرَّت ٢٤ سنة (١٩٢٠–١٩٤٤). هؤلاء التسعة معًا يُعرفون بلجنة السياسة النقدية. ففي حين يعمل وزير الخزانة وفريقه في وزارة الخزانة على ترتيب السياسة المالية في وايتهول، تعمل لجنة السياسة النقدية على إصلاح السياسة النقدية في مدينة لندن. ويبدو هذا الآن طبيعيًّا تمامًا، ولكن كما يدرك معظم الناس، هذه ظاهرة حديثة جدًّا في المملكة المتحدة. فقد تأسَّس البنك منذ عام ١٦٩٤، ولكن لم يُمنح الاستقلال، على نحو مثير للجدل، إلا من قِبَل جوردون براون في عام ١٩٩٧. وتتمثَّل مهمة البنك في تحديد أسعار الفائدة، أو استخدام وسائل أخرى لتحقيق هدف الحكومة فيما يتصل بتضخم أسعار المستهلك، والذي يبلغ حاليًّا ٢٪. ولو كان البنك مسئولًا عن تحديد هدفه الخاص، لكان مستقلًّا تمامًا. ولأن الحكومة هي التي تحدِّد الهدف، فإنه، وفقًا للمصطلحات، مستقلٌّ «عمليًّا». ثم اكتسب البنك مسئوليات أخرى، وسنتناولها بمزيدٍ من التفصيل في وقت لاحق.

لماذا يُعد هذا الأمر مهمًّا؟ إحقاقًا للحق، هناك ترتيبات مشابهة تجري في أمريكا، حيث يقوم نظام الاحتياطي الفيدرالي بعقد لجنة فيدرالية للسوق المفتوحة مسئوليتها تحديد سعر الفائدة لسنوات كثيرة. وفي ألمانيا حقَّق البنك المركزي الألماني، الذي جرى تأسيسه في الخمسينيات من القرن العشرين؛ نتيجة للتضخم المفرط الثاني في الاقتصاد الألماني الذي وقع بعد الحرب، سمعةً طيبةً عن جدارة للعملات المستقرة والتضخم المنخفض. وهكذا فقد أصبح البنك المركزي الألماني بمنزلة النموذج المثالي للبنك المركزي الأوروبي. كان الاستقلال حدثًا كبيرًا في بريطانيا؛ لأن أي رئيس وزراء سابق، حتى ولو حثَّه وزير الخزانة على القيام بذلك، لم يعتبر أن استقلال البنك المركزي مناسب لبريطانيا. إن بريطانيا أمة من أصحاب المساكن: فنحو ثلثي كل العقارات السكنية مأهولة بالسكان. وهي أيضًا أمة من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. واعتاد أغلب الفئتَين الاقتراض على أساس أسعار فائدة متغيرة؛ لذا إذا تضاعفت أسعار الفائدة، فإن أصحاب المساكن والشركات الصغيرة يشعرون بالتأثير على الفور. ورغم الأدلة الأكاديمية القوية التي تؤكد أن البنوك المركزية المستقلَّة كانت مرتبطةً بأداء اقتصادي أفضل — انخفاض التضخم، واستقرار أكبر، ونمو اقتصادي أسرع إلى حدٍّ ما — فإن الساسة البريطانيين كانوا دائمًا يعتبرون أسعار الفائدة بالغة الأهمية؛ بحيث لا يجوز تسليمها إلى مصرفيين غير منتخبين. ولكي نفهم لماذا حدث هذا، فمن الضروري أن نستعرض بإيجازٍ كتالوج الأخطاء التي سبقت استقلال بنك إنجلترا.

العصور السبعة للسياسة النقدية

كما يوجد سبع مراحل في حياة الإنسان، يوجد سبع مراحل مرَّت بها السياسة النقدية في المملكة المتحدة. يعتبر ذلك طريقةً جيدةً لبحث المحاولات والأخطاء في استقلال بنك إنجلترا. تحسَّست بلاد أخرى طريقها للوصول إلى السياسة النقدية المثالية. فإذا رجعنا للوراء ربع قرن أو ما يقرب من ربع قرن، في السبعينيات من القرن العشرين، نجد أن هذا الوقت يتميز بالاضطراب الهائل في الاقتصاد العالمي، وكان ينذر بحدوث كارثة في بريطانيا. ويعتبر هذا العصر أيضًا هو أول عصور السياسة النقدية الحديثة في المملكة المتحدة؛ عصر السياسة النقدية المعارضة. وفي عام ١٩٧٦ كانت الحكومة على وشك الإفلاس، فلجأت إلى صندوق النقد الدولي. وفي فترة ما بعد الحرب اندثرت المبادئ الكينزية. لقد كتب بيتر جاي، السفير البريطاني في واشنطن والمحرِّر الاقتصادي لجريدة «ذا تايمز» ولهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، خطابًا لوالد زوجته جيمس كالاهان، في مؤتمر حزب العمال عام ١٩٧٦، الذي كان يحوي كلماتٍ خالدةً جاء فيها: «سأقول لك بكل صراحة: لا يمكنك أن تستمر في الإنفاق بينما تحاول الخروج من حالة الكساد.» لقد كانت توصية صندوق النقد الدولي تحتوي على عنصرَين رئيسيَّين. وركزت على وجود تخفيضات حادَّة في الإنفاق العام؛ ولقد أُجبرت الحكومة على تبني أهداف نقدية، للسيطرة على المعروض النقدي، أو على وجه التحديد، معيارَين «للنقود»؛ أحدهما يسمى «المعيار الثالث لغطاء الإسترليني» والآخر «توسيع الائتمان المحلي». وكانت النقطة الأساسية بسيطة. فمن أجل استقرار الاقتصاد، والسيطرة على التضخم (الذي ارتفع إلى ما يزيد على ٢٦٪ خلال عام ١٩٧٥)، كان من الضروري السيطرة على المعروض النقدي. وسوف نتناول المزيد من هذا الموضوع عندما نلتقي ميلتون فريدمان بعد قليل، ولكن أساس هذه السياسة كان بسيطًا للغاية؛ فمثلما لا يمكنك قيادة سيارة بدون وقود، لا يمكنك أن تعاني من التضخم بدون نقود. وكلما زادت سرعة طباعة النقود، وسُمح للائتمان بالنمو، ارتفع التضخم. ولم يكن استهداف المعروض النقدي خاليًا من المتاعب بأي حال من الأحوال. فقد وجدت حكومة حزب العمال أنه من غير الممكن السيطرة على المعروض النقدي وسعر الصرف في نفس الوقت. وبحلول الوقت الذي خسرت فيه انتخابات عام ١٩٧٩، كانت الضغوط التضخمية قد بدأت تتراكم بقوة. ومع ذلك، ساعدت هذه «النقدية المترددة» في إنقاذ الاقتصاد.

في عام ١٩٧٩ بدأت المرحلة الثانية — عصر السياسة النقدية الراغبة — في ظل حكومة تاتشر، التي التزمت بثبات بالسيطرة على الغطاء النقدي كوسيلة للحد من التضخم. ومع أن المحافظين كانوا معاونين مؤيدين لفريدمان، فقد اختاروا هدفًا نقديًّا «أشمل»، وهو المعيار الثالث لغطاء الإسترليني، الذي لم يُوصِ به فريدمان. لقد تقدَّموا بعد ذلك لاتخاذ إجراءات سياسية أخرى، خاصةً إلغاء التحكم في سعر الصرف (القيود على مقدار العملة ورأس المال الذي يمكن استيعابه أو إخراجه من الدولة) إلغاء خطة الإيداع الإضافي الخاص في بنك إنجلترا (القيود المفروضة على قروض البنك)، الذي يجعل من تحقيق أهداف المعيار الثالث لغطاء الإسترليني مستحيلًا. وحتى وقتنا الحاضر يعتقد كثيرٌ من الناس أن السياسة النقدية لها علاقة بخفض النفقات العامة. لقد كان السبب في ذلك هو أن اختيار حكومة تاتشر لهدف الغطاء النقدي كان يرتبط بمستوى الاقتراض العام؛ ومن ثَم مقدار نفقات الحكومة. استمرَّت هذه المرحلة من السياسة النقدية الراغبة لمدة عامَين أو ثلاثة أعوام، قبل إتاحة الفرصة للعصر الثالث في الظهور؛ عصر السياسة النقدية الواقعية.

في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين وضع تشارلز جودهارت، المستشار النقدي الرئيسي لبنك إنجلترا آنذاك، قانون جودهارت، وهو شكل من أشكال قانون مورفي في علم الاقتصاد. لا يقصد بذلك أنه إذا قمت بترك قطعة من الخبز المحمص، فمن الضروري أن تقع على الجانب الذي وضعت عليه الزبد، ولكن أي إجراء خاص بالغطاء النقدي تستهدفه، سيخضع تلقائيًّا لتشويهات تجعل من الصعب السيطرة عليه. لذلك اتبعت حكومة المحافظين نظامًا أكثر تحررًا، مما أكد أنها لا تزال تؤمن بالتحكم في الغطاء النقدي، بجانب اختيار مجموعة من الإجراءات المستهدفة، مع عدم القلق إذا أخطأ أحدها أو غالبيتها الهدف. لقد جرى تطبيق هذا النظام جيدًا؛ فمنذ عام ١٩٨٢ حتى عام ١٩٨٥ شهدت بريطانيا نموًّا اقتصاديًّا معقولًا، حتى مع حدوث ارتفاع في نسبة البطالة، وانخفاض التضخم.

لسوء الحظ، لا يزال الإسترليني يخضع لأزمات دورية، يُعتبر الإسترليني كعب أخيل التقليدي للنظام الاقتصادي في المملكة المتحدة. بدأ شهر يناير عام ١٩٨٥ — بعد انضمامي بقليل لجريدة «ذا تايمز» كمراسل اقتصادي — بمعدَّلات سعر فائدة حوالي ٩٫٥٪، وأغلقت على معدلات سعر فائدة حوالي ١٤٪، واقترب الإسترليني من حد التساوي مع الدولار بقدر بسيط في هذه العملية. وفي الوقت الحالي نشعر بالاستفزاز، عندما نعلم أن أسعار الفائدة ستتغير بربع درجة مئوية في الشهر. ولذلك أصبح نايجل لاوسون في عام ١٩٨٥ — وهو وزير المالية آنذاك — شغوفًا بوضع الإسترليني داخل آلية سعر الصرف الأوروبي — «نظام ثبات سعر الصرف مع قابلية تعديله» الذي رأى النور في عام ١٩٧٩ مبشرًا بحتمية وجود عملة موحدة. وعندما منعته تاتشر، قام بعمل بديل لذلك. فتحت مظلة الجهود العالمية لتثبيت العملات، أي ما يطلق عليه اتفاقيات بلازا واتفاقية اللوفر للعظماء الخمسة والعظماء السبعة، كان البديل سعر صرف غير رسمي يهدف إلى إضعاف المارك الألماني، ويعتبر ذلك هو المرحلة الرابعة للسياسة النقدية. ما مدى مسئولية ذلك عن الانتعاش والكساد الذي وقع في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين؟ المسئولية كبيرة جدًّا، ولكن في ألمانيا، كان هذا هو الحال. فقد تم خفض أسعار الفائدة في محاولة لإبقاء الجنيه منخفضًا. وتم الاستعاضة عن البرجماتية السابقة بالجمود، حيث كان الجمود موجهًا لمنع الجنيه من الارتفاع فوق ثلاثة ماركات ألمانية.

أما المرحلة الخامسة فهي الاستهداف الرسمي لسعر الصرف؛ أي فترة آلية سعر الصرف. لقد كان جون ميجور أكثر نجاحًا من لاوسون عند إقناع تاتشر بمزايا تطبيق نظام آلية سعر الصرف؛ لأنه أقنعها أنه السبيل لتخفيض أسعار الفائدة. ومن ثَم في أكتوبر ١٩٩٠ عندما أُعلن أن الجنيه الإسترليني سينضم لنظام آلية سعر الصرف بسعر صرف ٢٫٩٥ مارك ألماني، أعلنوا أيضًا أن سعر الفائدة سيُخفض في الوقت نفسه من ١٥٪ إلى ١٤٪. ومع ذلك كانت المشكلة في عضوية نظام آلية سعر الصرف عكس ما اقترحه ميجور. وبعيدًا عن كونه طريقًا لتقليل سعر الفائدة، منع تخفيضات سعر الفائدة في الوقت الذي كانت فيه الحاجة ملحَّة إلى ذلك. فمجموع ما لوحظ كارتفاع في سعر الصرف وثبات الارتفاع في معدلات سعر الفائدة يعني أن فترة العضوية في نظام آلية سعر الصرف تتواكب مع كساد عام ١٩٩٠–١٩٩٢. ولقد حدث تعقيد إضافي. فنتيجة للضغوط التي أوجدتها وحدة ألمانيا الشرقية والغربية، ارتفعت أسعار الفائدة الألمانية عن المعتاد؛ ومن ثَم أصبحت تلك الأسعار نموذجًا لباقي أوروبا بما في ذلك — في هذا الوقت — بريطانيا. وبحلول صيف ١٩٩٢ قامت حكومة حزب المحافظين، بعد أن نجحت في الانتخابات مرة أخرى بصعوبة في أبريل ١٩٩٢ (وقد كان ميجور رئيسًا للوزراء آنذاك) بالتشبُّث بقوة بنظام آلية سعر الصرف. وفي ١٦ سبتمبر ١٩٩٢ انتهت هذه اللعبة. لقد كان هذا اليوم في نظر كبار الصحفيين هو الأربعاء «الأسود»، كما رآه البعض الآخر على أنه الأربعاء «الأبيض» أو «الذهبي»، لقد كان هذا هو اليوم الذي نَفد فيه احتياطي بنك إنجلترا الذي يحتاجه لدعم الجنيه الإسترليني، في ظل هذا النظام (قام بشراء كميات كبيرة من الإسترليني برصيده من العملات الأجنبية)، ولكن الفضل يرجع لجورج سوروس، الخبير الرائع في مجال صناديق التحوط، ومضاربين آخرين في فشل هذه المحاولات.

لقد جاء العصر السادس بعد الأربعاء الأسود، وخروج الجنيه الإسترليني من آلية سعر الصرف الأوروبية، ويمكننا أن نطلق عليه «استقلالية» بنك إنجلترا «شبه المستقلة». وفي وضع إطار للسياسة النقدية من بين أنقاض فشل آلية سعر الصرف الأوروبية، وفي القيام بذلك بسرعة وفي بيئة بدا فيها أن الحكومة قد تسقط في أي لحظة، حقَّقت وزارة الخزانة ووزير الخزانة آنذاك نورمان لامونت معجزة صغيرة. لقد كان هذا الإطارُ — الذي تبنَّى هدف التضخُّم بدلًا من أهداف المعروض النقدي أو سعر الصرف، والذي ألزم بنك إنجلترا بإعداد تقرير ربع سنوي عن التضخم، وحمل البنك على تقديم المشورة علنًا وبانتظام بشأن تغييرات أسعار الفائدة (أصبح هذا «عرض كين وإيدي»، بعد كينيث كلارك، خليفة لامونت، وإيدي جورج، محافظ البنك) — ناجحًا للغاية. لقد مهَّد الطريق لتصبح فترة التسعينيات، بعد الكوارث في البداية، فترة من النمو غير التضخُّمي، والكأس المقدسة للسياسة الاقتصادية. ومن هنا كانت الخطوة قصيرة نسبيًّا نحو إعطاء البنك هذه الوظيفة.

وبالتالي فإن المرحلة السابعة هي الاستقلال التشغيلي للبنك، حيث يحدد البنك أسعار الفائدة لتلبية هدف التضخم، ٢٪، الذي تحدده الحكومة. هل هذه هي نقطة نهاية السياسة النقدية؟ لقد دامَت لفترة أطول بكثير من غيرها. لا يوجد أي احتمال، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لانضمام المملكة المتحدة إلى اليورو. لم تكن هناك فرصةٌ كبيرة من قبل. الأنظمة النقدية تستمرُّ ما دامت تعمل. إذا فقد البنك السيطرة على التضخُّم، أو أشرف على أزمةٍ مصرفيةٍ حادَّةٍ أخرى، فربما يكون هناك ضغوط لتغيير النظام.

كيف تعمل السياسة النقدية؟

عندما تجتمع لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا، يكون ذلك لاتخاذ أحد القرارات الثلاثة بشأن أسعار الفائدة: رفعها، أو خفضها، أو تركها كما هي. وبالنسبة لجميع البنوك المركزية، فإن ترك أسعار الفائدة دون تغيير هو القرار الأكثر شيوعًا. ويتطلَّب رفعها، أو خفضها، إقناع أعضاء اللجنة بأن ما تغير منذ اجتماعهم الأخير كافٍ لتبرير التغيير. وهذا لا يعني أن تغييرات الأسعار نادرةٌ في الأوقات العادية. فقد كانت معظم البنوك المركزية تميل إلى العمل وفقًا لمبدأ «التغيير البسيط والمتكرر» في الأسعار، بدلًا من التغيير الكبير والجريء.

ما الذي يجعل أسعار الفائدة تتمتَّع بهذا التأثير على الاقتصاد؟ إن الاقتصاد يتألَّف من المدخرين والمقترضين؛ ومن ثَم فإن التأثير الصافي لتغيير أسعار الفائدة هو صفر. فارتفاع أسعار الفائدة أمر جيد للمدَّخرين، ولكنه يشكِّل ضربة للمقترضين، والعكس صحيح بالنسبة لهبوط أسعار الفائدة. إن غذاء شخص ما قد يكون سمًّا لشخص آخر. والواقع أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك بقليل، وإن لم يكن إلى حدٍّ كبير. والطريقة التي تؤثِّر بها أسعار الفائدة على الاقتصاد تسمَّى «آلية انتقال السياسة النقدية». وللمزيد من المعلومات، هناك دليلٌ بسيط على موقع البنك على الإنترنت (www.bankofengland.co.uk) بعنوان «كيف تعمل السياسة النقدية»، فضلًا عن سلسلة من الأسئلة والأجوبة الشائعة.

ولنتأمل ما يحدث عندما تقرر لجنة السياسة النقدية رفع أسعار الفائدة. إنها تفعل ذلك لأنها تعتقد أن هناك خطرًا حقيقيًّا يتمثَّل في ارتفاع التضخم إلى ما يتجاوز هدف ٢٪؛ وهو معدل التضخم الذي تعتبره الحكومة متسقًا مع استقرار الاقتصاد. إن التأثير الأول والأكثر وضوحًا على الأفراد هو جعل الادخار أكثر جاذبية، من خلال زيادة أسعار الفائدة على حسابات التوفير؛ يصبح الاقتراض أقلَّ جاذبية لأنه أصبح أكثر تكلفة. يشعر الأشخاص الذين لديهم مدخرات بالسعادة لأن دخلهم ارتفع. يجد الأشخاص الذين لديهم اقتراضات — وأكثر من ٨٠ في المائة من القروض الشخصية في بريطانيا في شكل رهن عقاري — أن أقساطهم الشهرية قد ارتفعت. وهذا صحيح ما لم يكن لديهم رهن عقاري بسعر ثابت، على الرغم من أنه حتى في هذه الحالة قد يضطرُّون إلى دفع المزيد على قروض أخرى. النتيجة المترتِّبة على المقترضين هي أن لديهم ما ينفقونه أقل على أشياء أخرى. لماذا لا يتم تعويض هذا بالضبط من خلال الإنفاق الأكبر من قبل المدخرين الذين ارتفع دخلهم؟ هناك افتراض ضروري مدعوم بالحقائق لحسن الحظ. السبب وراء ذلك هو أن المدخرين لديهم ميل أقل إلى إنفاق أي دخل إضافي، وميل هامشي أقل إلى الاستهلاك، مقارنة بالمقترضين. لماذا ينبغي أن يكون الأمر كذلك؟ بموجب فرضية دورة الحياة، التي واجهناها بالفعل، تنقسم حياة الناس بشكل طبيعي إلى فترات إنفاق وفترات ادخار. وبشكل عام، فإن أولئك الذين تبلغ أعمارهم ٤٥ عامًا أو أقل هم منفقون كثيرًا ومدخرون قليلًا. فمن سن الخامسة والأربعين أو نحو ذلك حتى سنِّ التقاعد، يدخر الناس أكثر نسبيًّا وينفقون أقل نسبيًّا، كما أنهم أقل عرضة للاقتراض بكثافة. وعند التقاعد، يبدءون في سحب هذه المدخرات.

وبالتالي فإن خفض أسعار الفائدة له تأثير وضع المزيد من المال في أيدي هؤلاء الأشخاص الأكثر احتمالًا لإنفاقه؛ أولئك الذين لديهم قروض عقارية مرتفعة نسبة إلى الدخل. أما ارتفاع أسعار الفائدة فله تأثير معاكس. وهناك عواقب أخرى للأفراد. وارتفاع أسعار الفائدة يميل إلى جعل الناس يعتقدون أن هناك أوقاتًا أكثر صعوبة في الطريق، وربما تكون وظائفهم في خطر. وارتفاع أسعار الفائدة قد يرتبط أيضًا بتباطؤ النمو (أو الانخفاض) في أسعار المساكن وسوق الأوراق المالية، الأمر الذي يؤثر من ثَم على الثروة. والثروة، وهذا التمييز لا يتم توضيحه دائمًا، هي مخزون الأصول التي تراكمت بمرور الوقت. أما الدخل فهو تدفُّق الأموال الجديدة الواردة. ويشكِّل الإسكان ما يقرب من نصف الثروة الفردية في بريطانيا، بينما يتم الاحتفاظ بأغلب الباقي (غالبًا بشكل غير مباشر من خلال صناديق التقاعد) في استثمارات سوق الأوراق المالية.

وعلى هذا فإن ارتفاع أسعار الفائدة من شأنه، من خلال هذه الطرق المختلفة، أن يؤدي إلى إبطاء الإنفاق الاستهلاكي، في حين أن انخفاض أسعار الفائدة من شأنه أن يؤدِّي إلى تسريعه. وتنطبق مبادئ مماثلة، وإن كانت في شكل مختلف قليلًا، عندما يتعلق الأمر بالشركات. وكما يقول بنك إنجلترا نفسه:

إن زيادة سعر الفائدة الرسمي سيكون لها تأثير مباشر على جميع الشركات التي تعتمد على الاقتراض المصرفي، أو على القروض من أي نوع المرتبطة بأسعار فائدة سوق المال القصيرة الأجل. إن ارتفاع أسعار الفائدة يزيد من تكاليف الاقتراض. إن ارتفاع أسعار الفائدة يقلِّل من أرباح هذه الشركات، ويزيد من العائد الذي ستحتاجه الشركات من مشاريع الاستثمار الجديدة، مما يجعل من غير المرجَّح أن تبدأها. تؤثِّر تكاليف الفائدة على تكلفة الاحتفاظ بالمخزونات [مخزون المكونات أو السلع النهائية]، والتي غالبًا ما يتم تمويلها من خلال قروضٍ مصرفية. كما أن ارتفاع تكاليف الفائدة يجعل من الأقل احتمالية أن تقوم الشركات المتضرِّرة بتوظيف المزيد من الموظفين، ومن الأكثر احتمالية أن تقلل من العمالة أو ساعات العمل. وعلى النقيض من ذلك، عندما تنخفض أسعار الفائدة، يكون من الأرخص للشركات تمويل الاستثمار في مصانع ومعدات جديدة، ومن المرجح أن تتوسع في قوتها العاملة.

من النمو إلى التضخم

هذا كله جيد جدًّا، ولكن أين يأتي التضخم فيه؟ حتى الآن، كل ما رأيناه هو أن أسعار الفائدة تؤثر على نمو الاقتصاد، إما للأفضل وإما للأسوأ. ومن ثَم، فإن المتطلب الأساسي هو أن يكون النمو والتضخم مرتبطَين؛ ولهذا نحتاج إلى أدوات أخرى. الأولى هي فكرة معدل نمو الاقتصاد الطويل الأجل أو السائد، والذي كان يُعتقد تقليديًّا في حالة بريطانيا أنه حوالي ٢٫٥ في المائة، على الرغم من أن كلًّا من الأزمة المالية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والجائحة ربما خفض ذلك إلى ما بين ١ و١٫٥ في المائة. والثانية هي ما يسمَّى «فجوة الناتج». هذا يحتاج إلى تفسير. دعونا نفترض معدل نمو اتجاهي يبلغ ١٫٥ في المائة سنويًّا، ونفترض أنه، عامًا بعد عام، نما اقتصاد المملكة المتحدة بهذا المعدل. سوف يكون الاقتصاد في حالة نمو وفقًا للاتجاه السائد بالضبط، وسوف تكون فجوة الناتج صفرًا. افترض الآن أن هناك ثلاث سنوات متتالية من النمو الصفري. العواقب المترتبة على ذلك ستتمثَّل في ارتفاع معدلات البطالة والقدرة الاحتياطية. كما ستتمثَّل في انخفاض التضخُّم. وكلما زاد التراخي في الاقتصاد، ضعفت الضغوط التضخمية (مع تثبيت جميع العوامل الأخرى). كان الناتج سينخفض بشكلٍ كبير عن الاتجاه السائد. وكان من الممكن خلق فجوةٍ في الناتج، والقدرة الاحتياطية على مستوى الاقتصاد.

وفي هذه الحالة، ستكون هناك حاجة إلى ثلاث سنوات من النمو بمعدل ٣٪ سنويًّا، لإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح، ولا داعي للبنك أن يقلق كثيرًا بشأن مثل هذا المعدل السريع من التوسع. ولكن إذا أخذنا موقفًا آخر، عندما بدأَت ثلاث سنوات من النمو بمعدل ٣٪ من النقطة التي كان فيها الاقتصاد بالفعل يسير في الاتجاه السائد، فستكون القصة مختلفة. إن التأثير سيكون انخفاضًا حادًّا في معدلات البطالة، وربما نقصًا خطيرًا في المهارات، وضغوطًا على القدرة في أماكن أخرى. وسوف تنشأ فجوة «سلبية» في الناتج؛ أو بعبارة أخرى، اقتصاد يعمل فوق الاتجاه السائد. وسوف يكون من المتوقَّع ارتفاع معدلات التضخم، وسوف تكون استجابة البنك المركزي رفع أسعار الفائدة، لإعادة الاقتصاد إلى الاتجاه السائد بأسرع ما يمكن.

لا يمكن لهذه الأمور أن تكون ميكانيكية بحتة، بطبيعة الحال. ففي أعقاب الأزمة المالية، ثار نقاش كبير حول مقدار القدرة الإنتاجية البريطانية على جانب العرض التي دمرت بشكل دائم في فترة الركود، ومقدار ما تبقى منها. ومن المؤكد أن قدرة الاقتصاد على النمو، ومعدل التوسع السائد، بدا وكأنه تأثَّر. وتتطلَّب السياسة النقدية الناجحة المهارة واللمسة، فضلًا عن القدرة على تفسير الأرقام الاقتصادية. ولكن هذه، باختصار، هي الطريقة التي تعمل بها. فالاقتصاد الذي ينمو بسرعة، والذي يكون عند الاتجاه السائد أو أعلى منه، من المرجح أن يتجه نحو ارتفاع التضخم، وينبغي أن يكون رفع أسعار الفائدة هو الاستجابة السياسية، والعكس صحيح.

الجنيه الذي تحمله في جيبك

هناك طريق آخر لنقل التغيرات في أسعار الفائدة إلى التضخم يجب مراعاته، وهو سعر الصرف. في حالة بريطانيا، وبسبب انفتاح الاقتصاد (الصادرات والواردات يعادل كلٌّ منهما ما يقل قليلًا عن ثلث إجمالي الناتج المحلي)، كان أداء الجنيه الإسترليني في المعتاد مهمًّا للغاية. لقد انزعج العديد من أفضل الخطط التي وضعتها الحكومات، كما رأينا في المراحل السبع للسياسة النقدية، بسبب عدم رغبة الجنيه الإسترليني في التصرُّف. في الظروف العادية، من المفترض أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة في المملكة المتحدة إلى دفع الجنيه الإسترليني إلى الارتفاع، في حين أن خفضها سيكون له تأثير معاكس. ذلك لأن المستثمرين الدوليين، من الناحية النظرية، يفحصون العالم دائمًا بحثًا عن أفضل العائدات. إن قيام بنك إنجلترا برفع أسعار الفائدة يشكِّل إشارة إلى هؤلاء المستثمرين لتحويل أموالهم إلى لندن.

ولكن الأمور لا تسير على هذا النحو دائمًا. ففي سبتمبر ١٩٩٢، لم تنجح حتى أسعار الفائدة البالغة ١٥٪ في دفع الجنيه الإسترليني إلى الارتفاع؛ لأن المجتمع المالي الدولي كان على قناعة بأن قيمة الجنيه الإسترليني على وشك تخفيض قيمته (ومن ثَم فإن حاملي الجنيه الإسترليني كانوا سيصبحون أكثر فقرًا). وإذا تركنا مثل هذه الظروف جانبًا، وعلى افتراض أن أسعار الفائدة المرتفعة تؤدي بالفعل إلى زيادة قوة الجنيه الإسترليني، فليس من الصعب أن نرى لماذا ينبغي أن يرتبط هذا بانخفاض التضخم. وهناك ارتباط مباشر بالأسعار؛ لأن ارتفاع قيمة الجنيه الإسترليني مقابل العملات الأخرى يؤدِّي إلى خفض تكلفة الواردات، من السلع الأساسية إلى السيارات. وهناك أيضًا تأثيرٌ غير مباشر، من خلال النمو. فارتفاع قيمة الجنيه الإسترليني يجعل الصادرات أكثر تكلفة؛ ومن ثَم يضر بالشركات المصدِّرة، في حين تستفيد منه الشركات في البلدان الأخرى (تلك التي تبيع لبريطانيا أو تنافس صادرات المملكة المتحدة في أسواق أخرى). إن هذه التأثيرات قد تكون قوية، ولو أن حجمها يعتمد على الظروف.

وهنا قد تصبح الأمور صعبة للغاية. فمع خروج الجنيه الإسترليني من آلية سعر الصرف الأوروبية في عام ١٩٩٢، وما تلا ذلك من انخفاض كبير في قيمته، خشي كثيرون من ارتفاع حادٍّ في التضخُّم. (يحدث انخفاض القيمة عندما تنزلق العملة إلى الأسفل حتى تصل إلى مستواها، في حين يحدث خفض القيمة عندما تنقلها السلطات من سعر ثابت إلى سعر أدنى؛ كان آخر خفض رسمي لقيمة العملة في بريطانيا في عام ١٩٦٧، عندما تم خفض قيمة الجنيه الإسترليني من ٢٫٨٠ دولار إلى ٢٫٤٠ دولار). ولم يحدث هذا بعد عام ١٩٩٢ لأن الاقتصاد كان يتعافى للتو من الركود. وبعبارة أخرى، كانت هناك فجوة كبيرة في الناتج.

عندما انخفض الجنيه بشكل حاد نحو نهاية عام ٢٠٠٧ استجابة للأزمة المالية، واستقرَّ في النهاية بنحو ٢٥ في المائة أقل من حيث بدأ، كان التأثير في هذه الحالة تضخميًّا. كان البنك، مسترجعًا تجربة أوائل التسعينيات، يتوقَّع أن تؤدي فجوة الناتج الأكبر التي نتجت عن الركود في عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ إلى الحد من التضخم. وبدلًا من ذلك، ارتفع معدل التضخم إلى ٥ في المائة، وهو أعلى بكثير من الهدف الرسمي. لماذا حدث هذا؟ ربما كان أحد الأسباب هو أن هبوط الجنيه كان أكبر؛ ٢٥ في المائة بدلًا من ١٤ في المائة في أوائل التسعينيات. كان هناك عاملٌ آخر وهو أن التعافي من الركود العالمي العظيم في عام ٢٠٠٩ كان بقيادة الاقتصادات الناشئة المتعطِّشة للسلع الأساسية، مثل الصين والهند. وعلى النقيض من تسعينيات القرن العشرين، عندما انخفضت أسعار السلع الأساسية لسنوات في أعقاب الركود، انتعشَت بقوة شديدة، مما خلق بيئة عالمية أكثر تضخمًا. وكان عامل آخر، كما أشرنا أعلاه، هو أن فجوة الناتج ربما كانت أصغر مما بدت عليه.

عندما أصبحت نتيجة استفتاء المملكة المتحدة الخاص بانضمامها من عدمه للاتحاد الأوروبي، معروفةً في الساعات الأولى من يوم ٢٤ يونيو ٢٠١٦، عانى الجنيه الإسترليني من أكبر انخفاض قصير الأجل لأي عُملة رئيسية في حقبة أسعار الصرف العائمة. ففي غضون يومَين، انخفض الجنيه الإسترليني بنسبة ١١٪ مقابل الدولار، ونحو ١٠٪ مقابل سلة من العملات. وارتفع التضخم من ٠٫٣٪ قبل الاستفتاء إلى ٣٪ بعد عام من ذلك.

طباعة النقود – التيسير الكمي أم لا؟

ذكرت أعلاه أنه عندما تجتمع لجان وضع السياسة النقدية يكون لديها أحد ثلاثة خيارات: رفع أسعار الفائدة، أو خفضها، أو تركها كما هي. وفي الأوقات العادية، هذا صحيح. ولكن من الصحيح أيضًا أن البنوك المركزية لديها أسلحة أخرى في ترسانتها. فخلال الأزمة المالية وما بعدها، انخرطت في ما أصبح يُعرف بالسياسة غير التقليدية. كان بعض هذا مستوحًى مباشرة من كتاب البنوك المركزية: توفير السيولة للأسواق المالية التي هي في أمسِّ الحاجة إليها، والعمل كمقرض أخير للمؤسسات المتعثِّرة، وما إلى ذلك. ولكن جانبًا من هذا كان جديدًا؛ لا سيَّما «التيسير الكمي»، أو ما يُعرف أيضًا بعمليات شراء الأصول من جانب البنوك المركزية: خلق النقود إلكترونيًّا أو، بالنسبة لمنتقديه، طباعة النقود ببساطة. إن أسهل طريقة لشرح ذلك هو بالإشارة إلى ما تفعله البنوك المركزية عادة، وهو تعديل أسعار الفائدة. ولكن ماذا يحدث عندما لا تتمكن من التعديل بعد الآن؛ لأنها خفضت أسعار الفائدة إلى أقرب ما يمكن إلى الصفر؟ في الواقع، هناك نقاش حول ما إذا كان بإمكانها المضي قدمًا والانتقال إلى أسعار فائدة سلبية؛ معاقبة البنوك التجارية التي تحتفظ باحتياطيات في البنك المركزي، من خلال فرض رسوم عليها مقابل الاحتفاظ بأموالها هناك. اشتدت المناقشة حول أسعار الفائدة السلبية أثناء جائحة فيروس كورونا، وكان رد فعل بنك إنجلترا الأولي هو خفض سعر الفائدة المصرفية إلى مستوًى منخفضٍ جديد يبلغ ٠٫١ في المائة فقط. في عام ٢٠٢١، أضاف البنك أسعار فائدة سلبية إلى «مجموعة أدواته» للسياسة النقدية، من خلال ضمان قدرة البنوك التجارية على التعامل معها أولًا. لكن ما فعله في البداية هو الكشف عن كميات كبيرة من التيسير الكمي.

كان بنك اليابان رائدًا في التيسير الكمي قبل فترة طويلة من الأزمة المالية العالمية والجائحة. لقد نجح البنك المركزي الأوروبي في تنفيذ هذه السياسة منذ عام ٢٠٠١ حتى عام ٢٠٠٦، وإن كان الإجماع على نجاحها ضئيلًا. وسوف يستمر الجدل حول ما إذا كانت هذه السياسة فعَّالة عندما تستخدمها البنوك المركزية الأخرى، خاصَّة منذ عام ٢٠٠٩ فصاعدًا، لسنوات عديدة. وكان التيسير الكميُّ بمثابة هدية لكُتاب العناوين الرئيسية. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك: «البنك المركزي يطلق التيسير الكمي» أو «بنك الاحتياطي الفيدرالي يطلق التيسير الكمي الثاني» (المرحلة الثانية من السياسة). ولكن كيف يعمل هذا التيسير الكمي؟ إن الوصف التالي، من بنك إنجلترا، لا يقلُّ جودة عن أي وصف آخر. وهو مأخوذ من وثيقة بعنوان «شرح التيسير الكمي»:

إن قرار لجنة السياسة النقدية بضخ الأموال مباشرة في الاقتصاد لا يتضمَّن طباعة المزيد من الأوراق النقدية. بل يشتري البنك الأصول من مؤسسات القطاع الخاص — والتي قد تكون شركات تأمين أو صناديق تقاعد أو بنوكًا أو شركات غير مالية — ويضيفها إلى الحساب المصرفي للبائع. ومن ثَم، يكون لدى البائع المزيد من الأموال في حسابه المصرفي، بينما يحتفظ بنكه بمطالبة مماثلة ضد بنك إنجلترا (المعروفة بالاحتياطيات). والنتيجة النهائية هي المزيد من الأموال في الاقتصاد الأوسع. ويمكن للجنة السياسة النقدية أن تختار شراء مجموعةٍ متنوعةٍ من الأصول. على سبيل المثال، في مارس ٢٠٠٩، قرَّرت الحكومة شراء نوعَين من الأصول؛ سندات الحكومة البريطانية (المعروفة باسم السندات الحكومية) والديون العالية الجودة التي تصدرها شركات خاصة … إن عمليات الضخِّ المباشر للأموال في الاقتصاد، في المقام الأول من خلال شراء السندات الحكومية، قد يخلف عددًا من التأثيرات. فبائعو الأصول لديهم المزيد من المال؛ لذا فقد يخرجون وينفقونه. وهذا من شأنه أن يساعد في تعزيز النمو. أو قد يشترون أصولًا أخرى بدلًا من ذلك، مثل الأسهم أو سندات الشركات. وهذا من شأنه أن يدفع أسعار هذه الأصول إلى الارتفاع، الأمر الذي يجعل الناس الذين يمتلكونها، إما بشكل مباشر وإما من خلال صناديق التقاعد الخاصة بهم، في حال أفضل. لذا فقد يخرجون وينفقون المزيد. وارتفاع أسعار الأصول يعني انخفاض العائدات، وهو ما يؤدي إلى خفض تكاليف الاقتراض بالنسبة للشركات والأسر. وهذا من شأنه أن يوفِّر دفعة أخرى للإنفاق.

في حين يناقش البعض جدوى التيسير الكمي، فإنه استخدم على نطاق واسع من قبل البنوك المركزية، جنبًا إلى جنب مع أسعار الفائدة المنخفضة. استخدمه بنك إنجلترا مرارًا وتكرارًا. بعد ٢٠٠ مليار جنيه إسترليني في عام ٢٠٠٩، عاد إلى تلك السياسة خلال أزمة منطقة اليورو بعد عامَين إلى ثلاثة أعوام، ومرة أخرى بعد استفتاء المملكة المتحدة على الاتحاد الأوروبي. تم تجاوز كل الجهود في عام ٢٠٢٠، عندما أعلن البنك، في استجابة لجائحة كورونا، عن ٤٥٠ مليار جنيه إسترليني أخرى من التيسير الكمي، متجاوزًا المبلغ الذي خصصه في السنوات الإحدى عشرة السابقة، ليصل الإجمالي إلى ٨٩٥ مليار جنيه إسترليني. اتُّهم خلال عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١ بالاقتراب مما يُعرف ﺑ «التمويل النقدي»: شراء السندات الحكومية لتسهيل تمويل الحكومة لعجز ميزانيتها الضخم، بدلًا من تحفيز الاقتصاد. أنكر البنك ذلك، وأصرَّ على أن أفعاله كانت مدفوعةً بالحاجة إلى تحفيز الاقتصاد.

لقد جعل التيسير الكمي، الذي وسع بشكل كبير حجم الميزانيات العمومية للبنوك المركزية، بعض محافظي البنوك المركزية يشعرون بعدم الارتياح، وحرصوا على التخلص من بعضه في أقرب وقت ممكن. حاول الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي القيام بذلك على نطاق متواضع في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه توقف عن القيام بذلك حتى قبل أن تندلع الجائحة، ويرجع ذلك أساسًا إلى قلقه بشأن التأثير السلبي على الاقتصاد الأمريكي؛ نتيجة للحرب التجارية التي شنها دونالد ترامب على الصين.

سوف يستمرُّ الجدل الدائر حول التيسير الكمي لسنوات. لقد كان مثالًا لأشياء غير عادية للغاية تحدث استجابة لمجموعتَين من الظروف غير العادية للغاية: الأزمة المالية والجائحة. ولقد قدَّر تقييم أجراه بنك إنجلترا أن مبلغ ٢٠٠ مليار جنيه إسترليني، الذي تعهَّد به في عام ٢٠٠٩ من التيسير الكمي، كان يعادل في تأثيره خفض أسعار الفائدة بنسبة تتراوح بين ١٫٥٪ و٣٪. كما أدى إلى تعزيز إجمالي الناتج المحلي بنسبة تتراوح بين ١٫٥٪ و٢٪، وخفض التضخم بنسبة تتراوح بين ٠٫٧٥٪ و١٫٥٪. ولكن من المؤكَّد أن هذه السياسة كانت خاضعةً لمفهوم اقتصادي آخر: قانون تناقص العائدات، حيث يتلاشى تأثيره مع كل جولة جديدة من التيسير الكمي.

ماذا حدث للسياسة النقدية؟

هناك العديد من الأمور التي يمكن الحديث عنها في موضوع النقود، ولكن حان الوقت للمضي قدمًا. فهناك مجموعة أخرى من الضيوف سيأتون لتسليتنا، ويجب ألا نتركهم ينتظرون كثيرًا. ولأن أحدهم هو ميلتون فريدمان فيجب أن نطرح سؤالًا واحدًا. لماذا لا نتحدث عن مبدأ النقدية الآن، مع أنه كان مزدهرًا في الثمانينيات من القرن العشرين؟ على الرغم من أن التيسير الكمي تم استحداثه بسبب القلق بشأن تباطؤ نمو المعروض النقدي — بل وانخفاض المعروض النقدي — أثناء الأزمة المالية، فمن المرجَّح أن تسمع الناس يقولون «نحن جميعًا كينزيون الآن» أكثر من أن يقولوا إن الجميع عادوا إلى النقدية.

تعود جذور السياسات النقدية إلى نشأة الاقتصاد الحديث. ومبدؤها المركزي هو البساطة نفسها. فكلما كان نمو كمية النقود المتداولة أسرع، كان معدل ارتفاع الأسعار أسرع، حال تثبيت كل العوامل الأخرى، ويقصد بارتفاع الأسعار التضخم. لقد كتب ديفيد هيوم، وهو معاصر لآدم سميث، في مقال له عام ١٧٥٠ بعنوان «عن النقود»، عن آثار زيادة كمية النقود المتداولة: «في البداية، لا يُلاحَظ أي تغيير، بل يرتفع السعر تدريجيًّا، أولًا لسلعة واحدة، ثم لأخرى، حتى يصل كلٌّ أخيرًا إلى نسبة عادلة مع كمية النقود الموجودة في المملكة». إن اللغة قديمة بعض الشيء، ولكن الرسالة واضحة نسبيًّا، على الرغم من أن ألفريد مارشال، أستاذ كينز في كامبريدج، ربما عبَّر عن الأمر بشكلٍ أكثر إيجازًا بعد ١٥٠ عامًا؛ إذ كتب يقول: «إذا ظل كل شيءٍ آخر على حاله، فإن هناك علاقةً طرديةً بين حجم العملة ومستوى الأسعار؛ بحيث إذا زاد أحدهما بنسبة ١٠ في المائة، فإن الآخر سيرتفع أيضًا بنسبة ١٠ في المائة.»

وحتى عام ١٩١٤، لم يدخل سوى عدد قليل من خبراء الاقتصاد في تحدٍّ مع أساس السياسات النقدية، أو نظرية كمية النقود. لقد أكد معيار الذهب الذي كان سائدًا قبل الحرب العالمية الأولى، والذي كانت النقود الورقية مدعومة بالذهب وقابلة للتحويل إليه، على تفوق النقود كرافعة اقتصادية وعلى الترتيبات النقدية المؤسسية. وفي ظل معيار الذهب، كان الساسة والبنوك المركزية غير الموثوق بها مقيدين بعدم توسيع المعروض النقدي بسرعة كبيرة. لقد كان بمثابة جنة نقدية.

إذن ماذا حدث؟ حدث أمران: كينز والكساد الكبير. لقد أكد كينز على قوة السياسة المالية، وشرح كيف يمكن للسياسة النقدية أن تفقد فعاليتها؛ فقد تكون فعَّالة مثل «الضغط على قطعة من الخيط». وعلى نفس القدر من الأهمية، كان هناك مثال واقعي في أمريكا خلال سنوات الكساد. والواقع أن هناك تفسيرًا نقديًّا جيدًا للكساد والانكماش (هبوط الأسعار) في ثلاثينيات القرن العشرين. في درس طُبع في أذهان كل رئيس لاحق للاحتياطي الفيدرالي، وخاصة بن برنانكي، وهو طالب متحمس في ذلك العصر، سمح الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لعدد كبير للغاية من البنوك بالإفلاس، مما أدى إلى انكماش حادٍّ في المعروض النقدي. ومن المثير للاهتمام أن أحد الأسباب التي دفعت اليابان إلى اللجوء إلى التيسير الكمي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ جاء من الاعتقاد بأن الوقت قد حان لتجربة العلاج النقدي — التوسع الكبير في النقود والائتمان — بعد أن جربت اليابان العلاج الكينزي، مع برامج الأشغال العامة المتكررة.

ولكن في بعض البلدان، لم تختفِ النقدية على الإطلاق، في حين اختفت مؤقتًا في بلدان أخرى. ففي خمسينيات القرن العشرين، عندما ظهر البنك المركزي الألماني الأسطوري — البنك المركزي السابق لألمانيا — استخدم مزيجًا من النهج النقدي والذاكرة الشعبية الألمانية لتضخمَين مفرطَين؛ لتحقيق أكثر من ٤٠ عامًا من التضخم المنخفض. وكانت بريطانيا وأمريكا أكثر حرصًا على النهج الكينزي و«الضبط الدقيق». ولم يستغرق الأمر حتى عام ١٩٧٩، وانتخاب مارجريت تاتشر، حتى تبنَّت الحكومة البريطانية النقدية طوعًا، (كما أشرنا أعلاه) مما أدى إلى نتائج متباينة.

فهل كانت النقدية صائبة أم خاطئة؟ لن يجادل سوى قلةٍ من خبراء الاقتصاد في وجود علاقة بين المعروض النقدي والتضخم، ولو أن كثيرين قد يتساءلون عما إذا كانت هذه العلاقة يمكن أن تكون دقيقةً على الإطلاق. من ناحية، تؤثر السرعة التي يدور بها المال في الاقتصاد (المصطلح المتخصص هو «سرعة التداول») على العبور من المال إلى التضخم. ومن ناحية أخرى، فإن الفترات الفاصلة بين التغيرات في المعروض النقدي والتضخم، كما يعترف خبراء النقد، «طويلة ومتغيرة». كما يمكن أن يتأثر الارتباط بين المال والتضخم بالتغيرات في النظام المالي وفي استخدام المال. والتحول السريع نحو مجتمع بلا نقود لا يعني عدم وجود رسالة مفيدة في معدل نمو النقد، ولكنه يعني أن مثل هذه المعلومات يجب تفسيرها بعناية. ويزعم آخرون أنه لا يوجد شيء سحري في الارتباط بين المال والتضخم. عندما يتعافى الاقتصاد، فإن أحد أول الأشياء التي تحدث هو أن الأفراد والشركات تبدأ في الاقتراض أكثر. ومن ثَم، تبدأ مقاييس المعروض النقدي في الارتفاع، قبل أي زيادة في التضخم. والقوة الدافعة للتضخم هي النمو الأسرع في الاقتصاد، وليس نمو المعروض النقدي الأسرع. ويقول منتقدو النقدية إن كل عام يكون هناك ارتفاع كبير في المعروض النقدي في الخريف، والذي يتبعه نوبة محمومة من التسوق لعيد الميلاد. ومع ذلك، لن يتظاهر أحد بأن الزيادة في المعروض النقدي «تسبَّبت» في عيد الميلاد.

سنتركهم يتجادلون حول هذا الأمر. وبحلول الوقت الذي تقرأ فيه هذا، ستعرف ما إذا كانت التحذيرات النقدية من ارتفاع التضخم بعد الجائحة، نتيجة لسياسات استثنائية، بما في ذلك كميات هائلة من التيسير الكمي، صحيحة أم خاطئة. إن النقطة المهمة هنا هي أن أغلب البنوك المركزية في هذه الأيام، حين تحدِّد أسعار الفائدة، تنتبه إلى ما يحدث للمعروض النقدي، ولكنها لا تخضع له. والواقع أن فكرة أن السياسة النقدية قد تعمل على أساس آلي — تحديد أهداف للمعروض النقدي والتأكد من الالتزام بها — فقدت مصداقيتها. ولكنَّ هناك شيئًا واحدًا في علم الاقتصاد: وهو أن الأفكار تظهر وتختفي؛ لذا فلا ينبغي لنا أن نستبعد نظرية النقد. ولكن في الوقت الحالي، لا تزال النقود تشكِّل أهمية، غير أن هناك الكثير من الأشياء الأخرى التي تشكِّل أهمية أيضًا.

•••

لقد حان الوقت للمضي قدمًا. ولعل القراء لاحظوا أن خبراء الاقتصاد البريطانيين كانوا مهيمنين، باستثناء النظرة الجانبية العرضية إلى الفرنسيين والحضور الضخم لكارل ماركس المولود في ألمانيا. ولكن كل هذا، للأسف، على وشك أن يتغير. فقد اكتشفت بريطانيا في عام ١٩٤٥ أنها لم تفقد إمبراطورية فحسب. بل إنها فقدَت أيضًا هيمنتها على الاقتصاد لصالح القوة العظمى الجديدة؛ أمريكا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥