الفصل الثاني عشر

طبق الحلو — الأمريكيون

لماذا أصبحت أمريكا والأمريكيون هم المتحكمين في الاقتصاد بعد عام ١٩٤٥؟ عندما خربت أوروبا بفعل الحرب والاضطهاد، أصبحت الجامعات الأمريكية هي الملاذ للمثقفين الأوروبيين الذين تشرَّدوا من أوطانهم. وبالطبع لم ينطبق ذلك على الاقتصاد فقط، إلا أنه وفر دعمًا ملحوظًا له. لقد واجهت أمريكا أيضًا في الاقتصاد بعض الصعاب التي ارتبطت بطبيعة مجتمعها. ففي بريطانيا، دخل الاقتصاد في معارك طويلة ضد مدعي الثقافة الذين أصروا على أنه ليس موضوعًا مناسبًا إلى حد بعيد. يرى الراحل إيريك رول، في كتابه «تاريخ الفكر الاقتصادي» أن ذلك نتيجة طبيعية لتنحية بريطانيا كقوة اقتصادية عالمية:

من غير المدهش أن التفوُّق النسبي للفكر الاقتصادي البريطاني قد تضاءل، بعد أن انتهى دور بريطانيا في كونها الدولة الرأسمالية الوحيدة المهمة. وليس من المدهش أيضًا الظهورُ المتزامنُ للولايات المتحدة كدولة رأسمالية رائدة، مع زيادة ملحوظة في النشاط الأمريكي النظري. وفي الوقت الحاضر، أصبح النتاج المتزايد والمتداول مما كُتب عن الاقتصاد الأمريكي هائلًا، وليس من المبالغة حاليًّا أن نقول إن الولايات المتحدة هي الموطن الملائم لدراسة علم الاقتصاد، كما عهدناها في الأعوام المائة السابقة.»

لم يُشكِّك أحدٌ في سيطرة أمريكا في الوقت الحالي على الاقتصاد العالمي. تأسست جائزة نوبل في الاقتصاد في عام ١٩٦٩. وحتى وقت تأليف هذا الكتاب، مُنح حوالي ٨٩ خبيرًا اقتصاديًّا هذه الجائزة (وقد تقاسمها بعضهم). أما سيطرة أمريكا فتنبع من واقع أن ٦١ من هؤلاء الخبراء كانوا من الأمريكيين (رغم أن البعض منهم كانوا مزدوجي الجنسية). وحصدت بريطانيا على جائزة نوبل في الاقتصاد إحدى عشرة مرة، وهي بذلك تحتل المركز الثاني في عدد الجوائز، ونشير إلى أن خمسًا من الفائزين بالجائزة مزدوجو الجنسية. ومن بين الفائزين بالجائزة في أمريكا ميلتون فريدمان، وبول صمويلسون، وكينيث أرو، وهربرت سيمون، وروبرت سولو، وجاري بيكر، وجون ناش، وروبرت لوكاس، وإدموند فيليبس، وبول كروجمان، وإلينور أوستروم؛ أول امرأة تفوز بالجائزة.

منذ مرحلة مبكرة، كانت هناك بضعة شكوك عن قيمة الاقتصاد في أمريكا، مع أن تصميم العديد من الذين تناولوا الموضوع لتحويله ليصبح علمًا تامًّا وله أساس حسابي، قد يعني أنه يختلف عن «الاقتصاد السياسي» الذي عرفه معظم خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين البريطانيين، وحتى من خَلَفَهم من خبراء في القرن العشرين. هذا لا يعني أن أمريكا قد اخترعت الاقتصاد الحسابي — فقد كانت طريقة ألفريد مارشال طريقة حسابية جدًّا — ولكن الخبراء الأمريكيين قاموا بتطويره. وهذا لا يدل على عدم وجود أي خبراء اقتصاد أمريكيين عظام قبل عام ١٩٤٥. فقد كان أحد هؤلاء الخبراء هو جون بيتس كلارك (١٨٤٧–١٩٣٨)، الذي عمل في مجال الأجور وتوزيع الدخل، وفي مجالات أخرى كذلك، مثل اتِّباعه للطريقة «الحدية» للبريطاني مارشال. وفي هذا العصر فإن أشهر هؤلاء وأعظمهم هو إيرفينج فيشر (١٨٦٧–١٩٤٧).

فيشر والنقود

يعتبر إيرفينج فيشر عند البعض أفضل خبراء الاقتصاد الأمريكيين على الإطلاق؛ فقد كان شخصية رائعة. لقد أصبح مليونيرًا ليس من خلال الاقتصاد، ولكن من خلال اختراع جهاز بطاقة الفهرسة الخاصة به وتسجيله لبراءة الاختراع، يُعرف هذا الجهاز الآن بالرولوديكس. وقد أنشأ فيشر شركة لتصنيع الجهاز وبيعه، وبحلول العشرينيات من القرن العشرين كان قد جنى ثروةً هائلة. ولسوء الحظ، فقد صوره البعض على أنه يمثل العصر الجديد للاقتصاد الأمريكي في العشرينيات من القرن العشرين — مثله مثل النظام الاقتصادي الجديد لتكنولوجيا المعلومات في التسعينيات من القرن العشرين — إلا أنه فشل في التنبُّؤ بقرب حدوث الكساد في عام ١٩٢٩. وقد كتب في منتصف أكتوبر عام ١٩٢٩ يقول: «لقد وصلت أسعار الأسهم لمرحلة من الاستقرار الدائم في مستوًى عالٍ.» إلا أن سمعته وثروته قد أصابهما الضرر عندما انهار السوق، ولم يستطِع أن يستعيد قوته بالكامل.

إن أكبر إسهامَين لفيشر كانا في الطريقة التي نفكر بها في معدل سعر الفائدة وخصوصًا النقود. لقد كان كتابه «معدل سعر الفائدة» الذي نُشر في عام ١٩٠٧، وكتابه «نظرية الفائدة» عام ١٩٣٠ بمنزلة الدعم الأساسي لما أصبح إطارًا تقليديًّا للتفكير في الفائدة، وهي — كما وضعها في كتابه الأول — مؤشر لتفضيل المجتمع لدولار الفائدة الحالي على الدولار الأمريكي للدخل مستقبلًا. يعني ذلك أنه كلما زاد سعر الفائدة زاد استعدادنا للامتناع عن الإنفاق الحالي في سبيل الإنفاق مستقبلًا. لقد كان هذا العنصر الزمني حاسمًا جدًّا. كان ذلك، في الظروف العادية، ردًّا على سؤال حول أسباب كون أسعار الفائدة الحقيقية (بعد التضخم) إيجابية؛ أما أي نقود أخرى يجري ادخارها فتتآكل قيمتها عن طريق التضخم. لقد أوضحت «معادلة فيشر» أن مستوى سعر الفائدة في أي وقت يتكوَّن من مجموع سعر الفائدة الحقيقي ومقدار التضخم المتوقع. وأوضح فيشر تأثير سعر الفائدة على قرارات الاستثمار، ومدى قدرة أسعار الفائدة المختلفة على تغيير ترتيب المشروعات المتنافسة على سبيل المثال، بالاستناد جزئيًّا على فترة السداد لكل مشروعٍ منها.

أما إسهامه الأشهر فكان ما يعرف بالنظرية الكمية للنقود (يطلق عليها أحيانًا: «تعريف فيشر»، أو ما يُحيِّرنا عندما نطلق عليها: «معادلة فيشر للتبادل».) وقد تكون هذه هي النقطة التي نخرج فيها عن قاعدة هذا الكتاب «بدون معادلات». فبالرجوع إلى السياسة النقدية التي تناولناها في الفصل السابق، قام فيشر بتحويل ما كان يعتبر وصفًا مطولًا وغير دقيقٍ للعلاقة بين النقود والأسعار، ليصبح شيئًا يستطيع خبراء الاقتصاد المعاصرون استخدامه. كانت النظرية الكمية بسيطة جدًّا: ن س = ع م. وهنا يكون «ن» هو كمية النقود المتداولة (الغطاء النقدي)، و«س» هو السرعة التي تُتداول بها النقود في الاقتصاد، أما «ع» فهو مستوى الأسعار، و«م» هو عدد المعاملات. وبناءً على الافتراض البسيط الذي يقول: إن «س» ثابت إلى حدٍّ كبير، و«م» لا يتغيَّر كثيرًا، (من الضروري توضيح أن هذه الافتراضات أدَّت لحدوث العديد من المشكلات للخبراء في مبدأ النقدية)، فإن التغيير في «ن» — مخزون النقود — ينتج عنه تغييرٌ في «ع» الأسعار.

وكما يقول فيشر: «يرتبط مستوى الأسعار طرديًّا مع كمية النقود المتداولة، شريطةَ ألَّا تتغير سرعة النقود وحجم التجارة الذي يجب عليها تحقيقه.» فإذا تحكمت في النقود تستطيع التحكم في التضخم. هذا بالطبع هو القاعدة للسياسة النقدية لمارجريت تاتشر، والنسخة التي اتبعتها أمريكا تحت رئاسة رونالد ريجان في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، في ظل رئاسة بول فولكر لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. كان أحد أهداف التيسير الكمي، الذي أوردناه في الفصل السابق، هو تعزيز المعروض النقدي «ن»؛ ومن ثَم منع «ع»، مستوى الأسعار، من الانخفاض، والاقتصادات من الانزلاق إلى الانكماش؛ انخفاض الأسعار.

بول صمويلسون خبير الاقتصاد الكينزي الأكثر رواجًا

مثل أي كاتب آخر، لديَّ آمال عظيمة لهذا الكتاب، ولكني لا أستطيع أن أتوقَّع أنه لن يبيع عددًا من النسخ مثل ما حققه كتاب صمويلسون «علم الاقتصاد». لقد نُشِر لأول مرة عام ١٩٤٨، عندما كان في الثالثة والثلاثين من عمره، وأُصدر العديد من الطبعات منه منذ ذلك الحين. القليل من طلاب علم الاقتصاد، أو دراسات الأعمال أو أي موضوعات مشابهة لم يتطرَّقوا لطبعة من هذا الكتاب. وقد كتب مارك سكوزن في كتاب بعنوان «تناول علم الاقتصاد الحديث»: «قُدِّر لكتاب «علم الاقتصاد» أن يصبح أكثر الكتب المنهجية التي نُشِرت في أي مجال نجاحًا.»

بِيعَ أكثر من أربعة ملايين نسخة من ١٩ طبعة وتُرجم لأكثر من ٤٠ لغة. ولا يوجد أي كتاب منهجي يمكن أن يُقارن به، بما في ذلك مؤلفات جان بابتيست ساي، وجون ستيوارت ميل وألفريد مارشال. لقد تمكَّن كتاب صمويلسون «علم الاقتصاد» من البقاء في ظل تغيرات قوية حدثت في الاقتصاد العالمي، وفي مهنة الاقتصاد في نصف قرن: السلام والحرب، الانتعاش والكساد، التضخم والانكماش، الجمهوريون والديموقراطيون، ومنظومة من النظريات الاقتصادية الحديثة.

أما باقي الكتب المنهجية الأخرى فتأتي وتذهب. فالطلاب البريطانيون قد يتذكرون كتاب ريتشارد ليبسي الذي بعنوان «مقدمة في الاقتصاد الإيجابي». أما الطلاب الذين جاءوا بعد ذلك، فقد استفادوا من إحدى الطبعات العديدة من كتاب: «الاقتصاد» لبيج ودورنبوش وفيشر. لقد أمدنا صمويلسون بالقالب الأساسي، وقد يكون محظوظًا مع كتابه الأكثر مبيعًا. فقد ظهر هذا الكتاب عندما حدثت فجوة في السوق، لم يتعرض لها أيٌّ من الكتب التي كانت في ذلك العصر تسير في ظل الاقتصاد الكينزي. كان في البداية عبارة عن ملاحظات تعليمية للطلاب في هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (يعتبر هذا المعهد المكان الذي استطاع صمويلسون أن يبني شهرته فيه). لقد كان أكثر من مجرد شخص عادي استطاع أن يجعل كينز أكثر رواجًا. فمثله مثل خبراء الاقتصاد الأمريكيين البارزين أمثال: ألفن هانسن، أحد أساتذة صمويلسون؛ فقد منحنا ما عُرف بعد ذلك بالإطار الكينزي. لم يكن الأمر مسألة تفسير فحسب. ففي كتابه «النظرية العامة» عام ١٩٣٦ كان كينز غامضًا ومتناقضًا. يرجع الفضل للكينزيين الأمريكيين بالتحديد في جعل الكتاب مترابطًا ومنطقيًّا.

فهم نجحوا في صبغ الكتاب بصبغة الرياضيات إلى حدٍّ بعيد. وكان قد عُرف عن كينز أنه من علماء الرياضيات، مثله مثل معظم الكبار من خبراء الاقتصاد الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب، ولم يُخفِ رأيه عن مواطن الضعف في التراث البريطاني «المدوَّن» في شرح الاقتصاد. إذا كان علم الاقتصاد علمًا ناضجًا، فلا بد أن يستخدم لغة العلم. ومعنى هذا الكلام أن علم الاقتصاد الأكاديمي أصبح مجتمعًا مغلقًا على نفسه به تطبيقات تقييدية؛ مما يُفقِد مَن لا يعرفون هذه اللغة أو الشفرة الأمل في الدخول في هذا العلم. فلا يوجد أي سبيل لفهم مقالات الصحف الاقتصادية حتى للشخص الذكي العادي، مع أن صمويلسون قد يقول إن هذه ليست الحال بالنسبة إلى كتابه، وهذا صحيح.

أمدَّنا صمويلسون في شكل مخطَّطات بيانية ومعادلات بما كان يعرف بتحليل كينز القياسي، باستخدام تعريف الدخل القومي (أو قد يطلق عليه أكثر المعادلات نفعًا في علم الاقتصاد). هذه هي الصيغة التي ذكرناها عندما كنا نتناول الطبق الرئيسي، والتي تُبين أن إجمالي الناتج المحلي يتكون من نفقات المستهلك والاستثمار ونفقات الحكومة وصافي الصادرات (ناتج طرح الواردات من الصادرات)، وبتعبير آخر إجمالي الناتج المحلي = م + ث + ك + ص − س. لقد ابتكر أيضًا دالَّة الاستهلاك — ارتفاع نفقات المستهلك بالتناسب مع الدخل — وركائز أخرى في السياسة الكينزية الاقتصادية. وجوهر السياسة الكينزية هو أنه عندما تفشل السوق — في أحيان كثيرة — في توفير العمالة الكاملة، فمن الضروري أن تقوم الحكومة بهذا. لقد كان صمويلسون يرشد جون إف كينيدي في فترة توليه الرئاسة في أعوام ١٩٦٠–١٩٦٣.

وهناك مثالان على إسهاماته يستحقان تسليط الضوء عليهما. أما الأول فهو متناقضة الادخار، التي أشار إليها كينز في كتابه «النظرية العامة»، ولكن جرى تطويرها على نحو صحيح على يد صمويلسون. كان هذا هو الحال حينما كانت المدخرات الإضافية لتمويل الاستثمار المنتِج، تعتبر بشكل طبيعي شيئًا رائعًا تمامًا، فإذا زادت المدخرات وقلَّ الاستهلاك ومن ثَمَّ إجمالي الطلب، فمن الممكن أن تُحدِث تأثيرًا مدمرًا، حتى للاستثمار. وإذا كان ما يراه كل رجال الأعمال من أن النظام الاقتصادي بطيء؛ لأن الناس يدخرون بكثرة وينفقون بمقدار أقل، فلماذا يستثمرون؟

ثمة إسهام آخر، وهو: «مُضاعِف الموازنة المتوازنة» الذي يُظهر براعة الاقتصاد الكينزي في التطبيق. تُشير الموازنة المتوازنة ضمنًا إلى أنه لا تقوم الحكومة بزيادة أو إنقاص الطلب في النظام الاقتصادي. فلا بد أن تكون سياسة الحكومة محايدة. لكن صمويلسون أوضح أنها سواء كانت محايدة أم لا، فهي تعتمد على التفاصيل الخاصَّة بسياسة الحكومة المالية. فالحكومة التي استحدثت سياسات «الضرائب والإنفاق»، فتزيد الضرائب لترفع النفقات العامة بنفس المقدار، قد تستطيع إنعاش النظام الاقتصادي مع الالتزام بموازنة متوازنة. كيف يتم ذلك؟ إن نفقات الحكومة تمد النظام الاقتصادي بحوافز عظيمة؛ بالتوجه مباشرة إلى زيادة الطلب على البضائع، والخدمات والعمالة. تخضع الضرائب للعديد من أشكال «التسرب»، على سبيل المثال في صورة مدخرات أو واردات. لذلك فمليار جنيه إسترليني تقوم الحكومة بإنفاقه سيكون له تأثيرٌ يفوق تأثير مليار جنيه إسترليني يستخدم كتخفيض في الضرائب. وضمنيًّا فإن المليار الذي يُزاد من خلال ضرائب إضافية، ويُنفق على الخدمات العامة سيوفر حافزًا صافيًا.

لقد كان لهذا النوع من التفكير تأثيرٌ هائل في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ثم تقادم، ولكنه عاد إلى الحياة مؤخرًا. لقد عاش صمويلسون، الذي توفِّي في نهاية عام ٢٠٠٩، وقتًا طويلًا بما يكفي ليشهد بعضًا من هذا الإحياء.

فريدمان والتأثير العكسي

من وقت ليس ببعيد، كان النقاش الاقتصادي كله يتسم بمعركة بين أصحاب مبدأ النقدية وأصحاب النظرية الكينزية. كان النقاش حادًّا كأنه نقاش ديني تعصبي، أو تنافس رياضي متأصل، ونتج عنه انشقاق بين أهل الاقتصاد. من الممكن أن يكون المذهب البرجماتي هو الطريقة المناسبة والعصرية التي يجب اعتناقها الآن، ولكن في الثمانينيات من القرن العشرين لم يكن ذلك مسموحًا به. فإنك إما أن تكون مؤيدًا لمبدأ النقدية وإما أن تكون مؤيدًا للنظرية الكينزية لأن المنهجَين لا يلتقيان. في عام ١٩٨١، وكما هو معروف، قام حوالي ٣٦٤ خبيرًا اقتصاديًّا كينزيًّا من الجامعات البريطانية، بتوقيع عريضة تُفيد بأنه قد نما إلى علمهم أن سياسات مارجريت تاتشر النقدية ستؤدي إلى كارثة اقتصادية. وفي أمريكا كانت المعركة بنفس الضراوة. فقد كان يُنظر للكينزيين على أنهم المتأنقون والأثرياء وجماعة النظريين الذين لا يهتمُّون بأن السياسة التي يؤيدونها ستؤدي في النهاية، حتمًا، إلى التضخم. ويقول النقَّاد: إنه عن طريق تشجيع الحكومة على أداء دور أكبر، ستُصبغ هذه السياسة بصبغة سياسية تقدمية. وفي المقابل يأتي مؤيدو مبدأ السياسة النقدية من خارج المنظومة. فقد شاركوا في حملات حرب العصابات ضد النظرية الكينزية المتعصبة السائدة، مع اعتقادهم ليس فقط في القوة الشرائية للنقود، ولكن أيضًا في السوق الحرة وتقليل دور الحكومة. لقد كانوا أوفياء لهذا الاعتقاد، وكان أبرزهم ميلتون فريدمان.

وُلد فريدمان في بروكلين عام ١٩١٢ لوالدَين فقيرَين كانا من الجيل الأول للمهاجرين لأمريكا من اليهود، ولم يكن ليصبح خبيرًا اقتصاديًّا على الإطلاق، حيث كان نقص المال يهدد بقطع دراسته. ولحسن الحظ تمكَّن من المواظبة على الدراسة، ولحسن الحظ أيضًا وجد نفسه في جامعة شيكاغو. حافظت كلية شيكاغو للاقتصاد، مثل الكلية النمساوية المرتبطة بأسماء مهمة مثل لودفيج فون ميسيز وفريدريك هايك، على مبادئ حرية السوق واستقرار النقود، في وقت كانت هذه المبادئ مهددةً فيه بخطر الاندثار. فقد كان نصف العالم يتبع نظرية ماركس في الاقتصاد، ويتبع النصف الآخر منهجًا، من وجهة نظر مفكري السوق الحرة، له نفس الخطورة الناجمة عن زيادة نطاق تدخل الحكومة. تمكَّنت كلية شيكاغو في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين أن تقف حصنًا ضد التفكير الكينزي الذي اجتاح عالم الاقتصاد، وذلك بفضل علماء اقتصاد أمثال هنري سيمونز ولويد مينتس وفرانك نايت وجيكوب فينر.

قدم فريدمان ثلاثة إسهامات مهمة: أعد برنامجًا تليفزيونيًّا يتكلم فيه عن علم الاقتصاد، ويعرض بالصور الطريقة التي يحدث بها التضخم عن طريق تشغيل مطبعة لطبع النقود الورقية. وكان أول إسهاماته هو إعادة إحياء نظرية فيشر الكمية عن النقود عام ١٩٥٦. أزاح مؤلَّف «النظرية الكمية عن النقود: إعادة صياغة» الكثير من الغبار عن أعمال فيشر. كان يخاطب جزءًا من النقد الأساسي الذي وُجِّه لمبدأ النقدية من قبل الكينزيين، والذي يقول: إنه من المستحيل أن تنشأ علاقة ثابتة ومتوقعة بين النقود (ن) والأسعار (ع)؛ لأن مقدار النقود التي يأمل الناس في اكتسابها — الطلب على النقود — كان أمرًا غير ثابت أساسًا. وافق فريدمان على أن النقود واحدةٌ من عدد من المدخرات التي يحتاجها الناس، أما الأشياء الأخرى فتبدأ من الأسهم والسندات، ووصولًا إلى السيارات والسلع المعمرة والمنازل. ابتكر أيضًا كما ذكرنا من قبلُ مفهومَ الدخل «الثابت». لقد كانت نظرية الدخل الثابت ببساطة هي فكرة أن الناس يؤمنون بمبدأ دوام أو طول مدة الدخل. يعني ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى ما هو أبعد من العجز والكسب غير المتوقَّع المؤقتَين. ويرتبط بذلك، كما يقول فريدمان، احتياجهم إلى فكرة واضحة عن كمية المال الذي سيحتاجون الحصول عليه، من أجل أغراضٍ وقائيةٍ وأغراضٍ أخرى، ترتبط بهذا الدخل الثابت. فماذا يحدث عندما يزيد مخزون النقود؟ يجد كل فرد أنه يمتلك أموالًا — ترتبط بتلك الأصول الأخرى والدخل الثابت — أكثر مما يحتاج، ويكون رد فعله هو التخلُّص من هذه النقود عن طريق الشراء، ليس فقط شراء المدخرات المالية، ولكن السيارات، والغسالات وأي شيء. فالزيادة في مخزون النقود تحفز الإنفاق. ويؤدي جزء من هذا الإنفاق إلى نمو اقتصادي عالٍ ولكن، وكما أضاف فريدمان فإن المزيد منه سيتحوَّل إلى تضخُّم. وقد جاء في مقولته الشهيرة: إن التضخم «في كل مكان وزمان» هو ظاهرة نقدية، والعلاقة بين الأسعار والنقود قويةٌ كأية علاقة مشابهة في أي علم.

أما إسهامه الثاني العظيم، فكان مع أنَّا شفارتس وقد كان نتاج جهد عظيم، إنه كتاب: «التاريخ النقدي للولايات المتحدة» الذي نُشر عام ١٩٦٣. لم يتعرَّض هذا الكتاب للعلاقات التي افترضها في نسخته من النظرية الكمية بعد تطبيقها فقط — بالرغم من شكِّ الآخرين في ذلك — لكن الأمر الأكثر أهمية هو أنه قد أمدَّنا بنظرة مختلفة تمامًا عن الكساد الأمريكي الكبير، الذي حدث في الفترة بين ١٩٢٩–١٩٣٣. قال فريدمان وشفارت لم يكن لهذا أي علاقة بفجوة السيولة التي تكلَّم عنها كينز، أو أزمة رأس المال التي قد لا تستطيع سوى برامج الأشغال العامَّة أن تقدِّم حلولًا لها. ولكن بدلًا من ذلك، كان هناك تفسير نقدي مباشر. فقد ساورت الشكوك الاحتياطي الفيدرالي، البنك المركزي الأمريكي، عن مدى التوسُّع الاقتصادي في عام ١٩٢٨، عندما كانت فترة العشرينيات من القرن العشرين تعجُّ بالصخب، وبدأت في تشغيل المكابح النقدية. لقد قامت بتشديد هذه المكابح إلى حد ما، وبحلول العام التالي، عندما كانت البنوك تتهاوى في أمريكا، حيث كانت الثقة المالية فيها تُحتضَر، كان المخزون المالي يهوي كالحجر. وكما قال فريدمان، إن الكساد الكبير كان شاهدًا على قوة السياسة النقدية. فالنظام الاقتصادي «انهار لأن الاحتياطي الفيدرالي قام بفرض أو بإتاحة حدوث تخفيض حادٍّ في القاعدة النقدية، لفشله في القيام بمسئولياته حيال قانون الاحتياطي الفيدرالي في توفير السيولة للنظام البنكي.»

المعدل الطبيعي

وأخيرًا أعطانا فريدمان أداة يستخدمها علماء الاقتصاد وصناع القرار السياسي، بطريقة مكثفة وبنسب نجاح متفاوتة. «المعدل الطبيعي للبطالة» يشبه المفاهيم الإكلينيكية، وربما يكون السبب في التعبير عنه هذه الأيام بمصطلح «معدل التضخم غير المتسارع للبطالة». يقصد بهذا المصطلح البغيض معدل البطالة الذي يكون فيه التضخم ثابتًا. فقلة نسبة البطالة وزيادة الضغوط على الأجور — بالإضافة إلى توقعات زيادة الأسعار — ستؤدي إلى معدل تضخم عالٍ. وعند السماح للبطالة بالارتفاع إلى حدٍّ بعيد، ستكون النتيجة انخفاض التضخم. قد يبدو ذلك دقيقًا أكثر من الواقع. فخبراء الاقتصاد أضاعوا الكثير من الوقت في محاولة معرفة طبيعة معدَّل التضخُّم غير المتسارع للبطالة، فقط ليكتشفوا أنه في الواقع العملي تنخفض البطالة عن هذا المعدل بدون أن تزيد من التضخم. ففي أواخر التسعينيات من القرن العشرين، انخفضت نسبة البطالة في الولايات المتحدة وبريطانيا أقلَّ من المستويات المقدرة لمعدل التضخم غير المتسارع للبطالة. على أي حال لنرجع للمعدل الطبيعي. تناول فريدمان في خطابه الرئاسي للجمعية الاقتصادية الأمريكية عام ١٩٦٧ منحنى فيليبس من المنظور الكينزي. وهذا المنحنى، كما تعرف، ابتكره في مدرسة لندن للاقتصاد بيل فيليبس الذي قام بتصميم وبناء الآلات التي تعرض العوامل المساعدة للاقتصاد. ويوضح المنحنى العلاقة بين البطالة وتضخم الأجور، عندما تزداد البطالة ينخفض التضخم والعكس صحيح. وبالنسبة إلى الحكومات التي تقوم بضبط النظام الاقتصادي، عن طريق الإدارة الكينزية للطلب (لمسات بسيطة على الدفَّة عن طريق إجراء تغييراتٍ في الضرائب أو النفقات العامة). يخبرها منحنى فيليبس بما يجب أن تفعله. إذا كان التضخم عاليًا جدًّا، لا بد من الضغط على المكابح عن طريق رفع الضرائب وتقليل الإنفاق، أي لا بد من خلق نوع من البطالة. أما إذا كان التضخم منخفضًا وترتفع معدلات البطالة، فلا بد من خلق قدر من النمو ربما عن طريق زيادة الإنفاق العام. بالنسبة إلى فريدمان ينطوي هذا على سوء فهم جوهري للطريقة التي يعمل بها التضخم؛ ومن ثَم ابتكر مفهوم المعدل الطبيعي لتوضيح السبب.

دعونا نفترض أن المعدل الطبيعي للبطالة في الاقتصاد هو ٥٪ من القوى العاملة. وهو في هذا المستوى بسبب الوجود الدائم لمقدارٍ معينٍ من البطالة «الاحتكاكية» — الأفراد الذين ينتقلون بين الوظائف — ولكن أيضًا بسبب نقص المهارات الضرورية لدى البعض، أو أنهم قد يكونون مكدسين في مناطق تكون فرص العمل المتاحة فيها قليلة، ويصعب عليهم الانتقال إلى مكان آخر. نفترض الآن أن حكومة ما، قد جرى انتخابها على أساس وعد منها بتخفيض البطالة للنصف. وتحاول هذه الحكومة القيام بذلك عن طريق توسيع الاقتصاد بواسطة كلٍّ من السياسة المالية والنقدية (زيادة مخزون النقود). في البداية ينجح الأمر، وعندما تواجه الشركات زيادة كبيرة في الطلب، فإنها تضطلع بتوظيف حتى العمال الذين لا تكون مهاراتهم على المستوى المطلوب وتزيد من إنتاجها. وهي تقوم أيضًا برفع الأسعار واثقة في القيام بذلك لأنها ترى أن الطلب في الاقتصاد قويٌّ، وخاصةً بسبب كل هذه العمالة الزائدة في الوظائف. من هنا ينتج من البطالة المنخفضة، زيادة نسبة التضخم. فربما يرتفع معدل التضخم من ٢٪ إلى ٤٪. وحتى الآن، هذا هو منحنى فيليبس فحسب. وهنا قام فريدمان بفحص الدورة التالية. ماذا سيحدث إذا حاولت الحكومة الحفاظ على البطالة في مستوياتٍ أدنى من المعدل الطبيعي، عن طريق استمرار التحكُّم في معدلات الزيادة؟ في هذه الحالة سيتذكَّر العمال التضخم العالي في المرحلة السابقة وسيريدون التعويض عنه عن طريق زيادة الأجور. لقد تغيرت «توقعاتهم». هم يتوقَّعون الآن أن يرتفع التضخم ٢٪ عن معدله الحالي، أي يصبح ٦٪، ويستمر الوضع هكذا. من هنا فالنقطة الرئيسية هي أن محاولة المحافظة على معدل البطالة أقل من المعدل الطبيعي، لا تعني فقط قبول حدوث ارتفاع لمرة واحدة في معدل التضخم، ولكنها تعني أيضًا قبول معدَّل متسارع من التضخم (ومن ثَم معدل التضخم غير المتسارع للبطالة). لذلك هل يوجد ما يستطيع صناع القرار السياسي عمله حيال البطالة، إذا كان معدلها الطبيعي أو معدل التضخم غير المتسارع للبطالة قد أصبح عاليًا؟ نعم بالتأكيد. ولكن يتعين على صناع السياسات أن يتصرفوا على جانب العرض من الاقتصاد؛ على سبيل المثال، من خلال جعل أسواق العمل أكثر مرونة والحد من الممارسات التقييدية، بدلًا من مجرد تعزيز الطلب.

لوكاس والعقلانيون

أكدت مقدمة فريدمان عن المعدل الطبيعي للبطالة على دور التوقعات في التأثير على سلوك وفعالية السياسة. تُعرف نسخة فريدمان من منحنى فيليبس في بعض الأحيان منحنى فيليبس «المعزز بالتوقعات». وفي السبعينيات من القرن العشرين، تناولت مجموعة من خبراء الاقتصاد الأمريكيين هذه المرحلة بتوسع. لقد أعطانا روبرت لوكاس وتوماس سارجنت وجون موث وخاصةً لوكاس، توقعات «عقلانية». كانت هذه التوقعات العقلانية، مثل كل الإنجازات الكبيرة، بسيطة جدًّا. حيث إنه جاء في مقالات لوكاس النقدية عن الاقتصاد الكينزي التقليدي افتراض الغباء في الناس. وإليك أحد المواقف المشابهة في السياسة الانتخابية البريطانية. فالحزب الحاكم إذا أراد إعادة الترشيح، لا بد أن يقدم الموازنة في الربيع قبل الانتخابات في الصيف. ويقوم أيضًا بتخفيض الضرائب ويتأكد من انخفاض سعر الفائدة (لا يحدث ذلك بسهولة الآن في ظل استقلال بنك إنجلترا). وهنا يشعر الناخبون بالراحة والسعادة؛ ومن ثَم يعطونه أصواتهم ويدعمونه، ولكن بعد بضعة أشهر، ولأن الليل يأتي بعد النهار، تعود الضرائب وأسعار الفائدة في الارتفاع مرة أخرى. إذا كان الناخبون أغبياء فقد يتكرر هذا الأمر كثيرًا. لكن التوقعات العقلانية تقول إننا نتعلم من أخطائنا، تمامًا كفئران التجارب. فإذا لُدغنا مرة، فلن نعاود الذهاب إلى الجحر مرة أخرى. ينطبق هذا الأمر، بالطبع، ليس فقط على السياسة الاقتصادية قبل الانتخابات، ولكن على السياسة بشكل عام. نجح «الفكر الكينزي عن إدارة الطلب» لأن الناس يستجيبون للمحفزات الاقتصادية الأولية — تخفيض الضرائب أو زيادة النفقات العامة — عن طريق زيادة نفقاتهم، ولحسن الحظ لا يدركون حدوث زيادة معدلات التضخم إلا في وقت متأخر. أوضحت مقالات لوكاس النقدية أن هذا لن يحدث. فسيستطيع الناس على الفور إدراك المعدل المرتفع للتضخم، ولن يستجيبوا لإغراءات صناع القرار السياسي. فسوف يأخذون حذرهم من مِنح الحكومة.

لكن هل الناس عقلانيون على هذا النحو؟ من الصعب أن نجزم بذلك. فمجرد حقيقة مفادها أن الحكومات استمرَّت في استخدام اقتصاديات الانتخابات لسنوات عديدة، تشير إلى أنه من الممكن خداع بعض الناس على الأقل لبعض الوقت. وهناك الكثير من الأمثلة التي يواصل فيها الناس القيام بأشياء لفترة طويلة، بعد أن يبدو الأمر عقلانيًّا. فقد أدَّت الطفرة التي شهدتها أسهم التكنولوجيا في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، إلى ذروة لمؤشر ناسداك (مؤشر الولايات المتحدة للأسهم التكنولوجية في الأساس) تجاوزت ٥٠٠٠ نقطة في مارس ٢٠٠٠. وفي غضون عام أو نحو ذلك هبط المؤشر إلى أقل من ثلث تلك الذروة. وقبل فترة طويلة من بلوغ الأسهم ذروتها، حذر آلان جرينسبان، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، من النشوة «غير العقلانية». ولكن ماذا عن الطفرة الطويلة التي قادها الائتمان في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في الفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية؟ وكما سنرى لاحقًا، يلقي بعض المنتقدين باللوم على التوقعات العقلانية، وتغلغلها في الكثير من التفكير الاقتصادي، بأنها سبب الأزمة.

هناك فكرة أخرى مثيرة للاهتمام مرتبطة بسلوك أسواق الأسهم على سبيل المثال. تقول «فرضية السوق الكفؤة» في جوهرها إن السوق سوف تستقرُّ عند مستوًى يعكس بكفاءةٍ الحالة الحالية للمعلومات المتاحة للمستثمرين. كيف يمكن أن تكون السوق كفؤةً عندما يتجاوز سعرها ٥٠٠٠ في عام و١٥٠٠ في العام التالي؟ الإجابة، التي لا تساعد تمامًا أي شخص يريد تحديد ما إذا كانت الأسهم رخيصة أم غالية بطريقة علمية، ربما مفادها أن جزءًا من المعلومات، التي يستخدمها المستثمرون بكفاءة في الذروة، يتمثَّل في أن هناك الكثير من المغفلين الذين يبدو أنهم على استعداد للشراء، مهما كان السعر. مرة أخرى، كان لفرضية السوق الكفؤة نصيبها العادل من المنتقدين.

على أية حال، نعود للتوقعات العقلانية. اقترحت مقالات لوكاس النقدية أنه لا مغزى من محاولات الحكومة منع التغيرات الدورية في الاقتصاد — الانتعاش والكساد — بسبب أن الناس والمشروعات سيتمكَّنون دائمًا، عن طريق العمل بعقلانية، من التفكير مرة أخرى في القرارات السياسية. أوضح لوكاس سببًا آخر لرفض مثل هذه الطريقة السياسية. كان مؤيدًا لما يسمَّى «نظرية دورة المشروعات الحقيقية». اقتنع الكينزيون أن دورةَ المشروعات (قابلية الاقتصاد ليكون به فترات من الانتعاش، يتبعها فترات من النمو البطيء أو الكساد) حدثت بسبب التنوُّع في الطلب، أي بسبب التنوع في الاستثمار وطلب المستهلك. وفي المقابل يُجادل مؤيدو نظرية دورة المشروعات الحقيقية في أن هذه الدورة ترجع إلى التنوع في العرض، وإلى صدمات اقتصادية إيجابية وسلبية. بالتحديد فترات من الانتعاش يسببها اكتشاف أو انتشار التكنولوجيات الحديثة — مثل الانتعاش في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في أمريكا في التسعينيات من القرن العشرين — في حين حدث الكساد عندما انتهت فترة الصدمات الإيجابية، وكذلك انخفاض معدَّل نمو الإنتاجية (إنتاج العامل الواحد). لقد أصبح الحل الكينزي التقليدي في محاولة التصدِّي للكساد عن طريق زيادة نفقات الحكومة في غير محله. قد يذهب البعض للادعاء بأن أي نوع من سياسة الاستقرار، مثل تخفيض بنك إنجلترا لسعر الفائدة في فترات الكساد، يكون غير ملائم. قد يجادل بعضهم قائلًا إن فترات الانتعاش والكساد تعتبر جزءًا من النظام الطبيعي للأمور، وإن محاولة الوقوف في وجهها من الممكن أن تضرَّ أكثر مما تفيد. والجدير بالذكر أن قلَّةً من صناع القرار السياسي يؤيدون هذا الرأي، على الرغم من أن إحدى الحجج التي ظهرت بعد أن تحوَّل الازدهار الطويل إلى كسادٍ في عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، أفادت بأن حدوث ركود صغير أو اثنين على طول الطريق، كان من شأنه أن يقلِّل من حدَّة الركود في نهاية المطاف.

السلوكيون

ربما كانت إحدى أكثر المناقشات الاقتصادية حيوية في السنوات الأخيرة، قد دارت بين «العقلانيين» و«السلوكيين». يفترض العقلانيون أن الأفراد والأسواق تتصرَّف بعقلانية. أما السلوكيون فلا يفترضون ذلك. يفترض الاقتصاد السلوكي، والتمويل السلوكي، على أقل تقدير أن الناس يكيفون سلوكهم استجابة لظروفهم ومحيطهم. الاقتصاد السلوكي ليس جديدًا. في أربعينيات القرن العشرين، شكك هربرت سيمون، الذي كان آنذاك من جامعة كارنيجي ميلون، في فكرة الإنسان الاقتصادي العقلاني. وقال إن الوصف الأفضل هو «العقلانية المحدودة»؛ لا يستطيع الناس التصرُّف بعقلانية إلا بقدر ما تسمح به المعلومات المتاحة لهم، وتعكس قدرتهم على حل الأمور. في عام ١٩٧٩، نشر دانييل كانمان من جامعة برينستون وأموس تفيرسكي من جامعة ستانفورد ورقة بحثية مؤثرة للغاية، بعنوان «نظرية التوقعات: تحليل عملية اتخاذ القرار في ظل المخاطر»، والتي فحصت كيف يتخذ الناس القرارات عندما يواجهون عدم اليقين والمخاطر. كانت إحدى الأفكار الرئيسية التي توصَّلت إليها الورقة أن قرارات الناس سوف تختلف وفقًا لكيفية صياغة البدائل. بعبارة أخرى، الناس ليسوا آلاتٍ حسابيةً عقلانية؛ لذا يمكن التأثير عليهم غالبًا بسهولة تامة. ربما هذا هو السبب في تبنِّي الاقتصاد السلوكي بحماسٍ من جانب العديد من العاملين في صناعة الإعلان. فاز كلٌّ من سيمون وكانمان بجائزة نوبل في الاقتصاد (كان تفيرسكي قد توفِّي بحلول وقت حصول كانمان على جائزة نوبل).

يقدم ريتشارد ثالر، المؤلف المشارك مع كاس سانستين لكتاب «الدَّفعة» الأكثر مبيعًا، مثالًا جيدًا لفكرة التأطير. في عام ٢٠٢١، كان ثالر، وهو خبير اقتصادي سلوكي بارز — تم تبني أفكاره على نطاق واسع، بما في ذلك من جانب الحكومة الائتلافية في بريطانيا — يستشهد بعدد من الحالات التي يمكن فيها التأثير على الناس. ومن بين الأمثلة المفضلة لديه أن مشاكل «الانسكاب» يمكن حلُّها في المطارات وغيرها من المباني العامة، على سبيل المثال، من خلال جهاز بسيط لرسم ذبابة على الخزف في المراحيض الرجالية. ويبدو أن هدف المستخدمين يتحسَّن بشكل كبير. وكان المثال الأكثر أهمية هو برنامج «ادخر المزيد غدًا». نظر ثالر، جنبًا إلى جنب مع شلومو بينارتزي من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، في القضية الشائكة المتمثِّلة في كيفية زيادة مدخرات التقاعد. وبدلًا من مطالبة الناس بتوفير المزيد من المال للتقاعد من دَخْلهم الحالي، تمَّت دعوتهم إلى الالتزام المسبق بزيادة مساهماتهم في المعاشات التقاعدية من زيادات الرواتب المستقبلية. ولكن مع تأجيل الألم (وكذلك الحال مع الفوائد المترتبة على مساهمات المعاش التقاعدي الإضافية)، تحسن الإقبال بشكل كبير. فقد أظهرت إحدى التجارب التي أُجريت داخل إحدى الشركات أنه في حين كان بضعة في المائة فقط من الناس، على استعداد لزيادة مساهماتهم من الدخل الحالي، كان ما يقرب من ٨٠ في المائة منهم على استعداد للقيام بذلك من خلال زيادات الرواتب المستقبلية. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى من هذا القبيل.

ففي ورقةٍ بحثيةٍ نشرتها مؤسَّسة الاقتصاد الجديد البريطانية في عام ٢٠٠٥ بعنوان «الاقتصاد السلوكي: سبعة مبادئ لصانعي السياسات»، قدَّمت المؤسسة وصفًا مفيدًا لكيفية اختلاف الاقتصاد السلوكي عن النموذج العقلاني «الكلاسيكي الجديد». وكانت المبادئ السبعة التي وضعتها مؤسسة الاقتصاد الجديد هي:

  • سلوك الآخرين مهم: فالناس يفعلون أشياء كثيرة من خلال مراقبة الآخرين وتقليدهم؛ ويتم تشجيع الناس على الاستمرار في القيام بالأشياء، عندما يشعرون بأن الآخرين يوافقون على سلوكهم.

  • العادات مهمة: فالناس يفعلون أشياء كثيرة دون التفكير فيها بوعي. هذه العادات يصعب تغييرها؛ على الرغم من أن الناس قد يرغبون في تغيير سلوكهم، ليس الأمر سهلًا بالنسبة إليهم.

  • يتم تحفيز الناس على «فعل الشيء الصحيح»: هناك حالات يكون فيها المال محبطًا؛ لأنه يقوِّض الدافع الجوهري للناس؛ على سبيل المثال، ستتوقَّف بسرعة عن دعوة الأصدقاء لتناول العشاء إذا أصرُّوا على الدفع لك.

  • تؤثر توقُّعات الناس الذاتية على سلوكهم: فهم يريدون أن تكون أفعالهم متماشيةً مع قيمهم والتزاماتهم.

  • يكره الناس الخسارة ويتمسكون بما يعتبرونه «ملكهم».

  • الناس سيئون في الحساب عند اتخاذ القرارات: فهم يضعون وزنًا غير ملائم للأحداث الأخيرة، وأقل مما ينبغي للأحداث البعيدة، ولا يستطيعون حساب الاحتمالات بشكلٍ جيد ويقلقون كثيرًا بشأن الأحداث غير المحتملة، وهم يتأثرون بشدة بكيفية تقديم المشكلة / المعلومات إليهم.

  • يحتاج الناس إلى الشعور بالمشاركة والفعالية لإحداث التغيير: فمجرد إعطاء الناس الحوافز والمعلومات ليس بالضرورة كافيًا.

لقد قدم علم الاقتصاد السلوكي فرعًا مثيرًا للاهتمام من هذا الموضوع. ويناقش خبراء الاقتصاد ما إذا كان قد غيَّر علم الاقتصاد بشكل جوهري، أم أنه أوضح فقط ما كان يعرفه معظم الناس على أي حال؛ وهو أن العقلانية كانت دائمًا مجرد افتراضٍ تبسيطي. وكما أوضحنا في بداية هذا الكتاب، فمن الممكن وضع معظم السلوكيات، بما في ذلك الإيثار، في سياق اقتصادي عقلاني إلى حدٍّ ما. لقد أوضح علماء السلوك، على أقل تقدير، لماذا نفعل الأشياء بطرق معينة.

متفرقات أمريكية

أنجبت أمريكا العديد من خبراء الاقتصاد العظماء في فترة ما بعد الحرب. ولكن لم يتسع الوقت ولا المكان لذكرهم جميعًا. سيعرف الكثيرون بول كروجمان، الذي حصل على جائزة نوبل في عام ٢٠٠٩، عن عمله في التجارة الدولية، لكنه معروف بشكل أفضل هذه الأيام كمناظر. فاز جوزيف ستيجليتز، وهو معلق معروف آخر، بجائزة نوبل في عام ٢٠٠١، إلى جانب جورج أكرلوف ومايكل سبنس، عن أعمالهم في مجال اقتصاد المعلومات غير المتماثلة، كما في «سوق الليمون» المذكور سابقًا في الكتاب. الشيء العظيم في خبراء الاقتصاد في أمريكا هو أنهم كان لديهم الوقت والموارد اللازمة لأخذ الموضوع إلى مجالات جديدة. لقد طبق جاري بيكر الاقتصاد على كل شيء تقريبًا، بما في ذلك الجريمة وإدمان المخدرات والتمييز العنصري. إن الوسم «السلوكي» يناسب الكثير من أعماله بشكل جيد. كان جيمس توبين، الذي توفِّي عام ٢٠٠٢، بعد ٢١ عامًا من فوزه بجائزة نوبل، عالمًا آخر. فقد أصبحت «ضريبة توبين» التي اقترحها — وهي ضريبة على معاملات الصرف الأجنبي المضارباتية لاستخدامها في مساعدة فقراء العالم — رمزًا لجماعات الضغط لمكافحة الفقر والمحتجِّين المناهضين للعولمة. وكثيرًا ما يُناقَش فرض ضريبة على المعاملات المالية التي لا تقتصر على صفقات الصرف الأجنبي، باعتبارها خيارًا سياسيًّا. خدم توبين في البحرية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى جانب هيرمان ووك، الذي ألَّف في وقت لاحق كتاب «تمرد كين» وشارك فيه توبين، متنكِّرًا بشكلٍ رقيقٍ في هيئة شخصية تدعى توبيت. وكان عمل توبين واسع النطاق. فقد أظهر كيف تتلاءم الأسواق المالية مع الإطار الاقتصادي الكينزي، من خلال عمله في مجال اختيار المحافظ الاستثمارية. كما أظهر كيف تؤثِّر خصائص الأسر على سلوكها الاقتصادي (وهو ما أطلق عليه «تحليل توبيت».) كما قدَّم لمحللي الأسواق المالية أداة تسمَّى q توبين — العلاقة بين تقييم سوق الأوراق المالية للشركة وصافي قيمتها الأساسية — لحساب ما إذا كان السهم، وسوق الأوراق المالية ككل، مبالغًا في قيمته أو أقل من قيمته الحقيقية.

يوجد فرع آخر رائع من النظرية الاقتصادية طُوِّر على يد خبراء اقتصاد أمريكيين، وخاصةً جيمس بوكانان وجوردون تولوك وهي نظرية الاختيار العام. تطبِّق نظرية الاختيار العام المبادئ الاقتصادية على سلوك الناخبين، والزعماء السياسيين والموظفين. فعلى سبيل المثال يحكم سلوك البيروقراطيين المنفعة الشخصية وليس الرغبة في الخدمة غير الأنانية للمجتمع. لذلك يكون دافعهم هو الراتب والمنصب والمكافآت والسمعة والسلطة. ومن ناحيةٍ أخرى، تكون الرغبة في إعادة الانتخاب هي الدافع للسياسيين، ولكنَّهم يقعون فريسةً لجماعات قوية من أصحاب المصالح. أما الناخبون الذين يجب أن يتفحَّصوا ويوازنوا سلوك السياسيين، فليسوا على قدر من الكفاءة للقيام بذلك. تقترح نظرية الاختيار العام أنه إذا لم يجرِ التحكم في الحكومة، فإنها ستنزع إلى النمو أكثر وأكثر. ويدافع مؤيِّدوها عن هذه الضوابط. فعلى سبيل المثال، فإن السماح بارتفاع الضرائب سيحدث فقط في حالة موافقة ثلثَي أو ثلاثة أرباع أعضاء الهيئة التشريعية، كما يجب السماح للموظفين بتولِّي المناصب لفترات محددة فقط.

لم أصف هنا بالتفصيل أعمال العديد من الاقتصاديين الأمريكيين العظماء، بما في ذلك أغلب الحائزين على جائزة نوبل، في القرن الحادي والعشرين. فقد عملوا، إلى جانب الفائزين البريطانيين المعاصرين بهذه الجائزة، على تطوير هذا الموضوع، ومن بينهم توماس شيلينج، وإدموند فيليبس، وإلينور أوستروم، وتوماس سارجنت، ويوجين فاما، وروبرت شيلر، وويليام نوردهاوس، وبول رومر.

ومع هذا العدد الكبير من جوائز نوبل التي نالها، كان بوسع الاقتصاديين الأمريكيين أن يملئوا كتابًا كاملًا، ناهيك عن فصل كامل. ويمكن الاطلاع على المزيد على الموقع www.nobelprize.org. ففي أغلب الحالات، تقدم محاضرات الفائزين بجوائز نوبل نكهة أكثر اكتمالًا لأعمالهم مما أتاحته المساحة هنا.

•••

والآن نأتي إلى شيء، إن لم يكن مختلفًا تمامًا، فهو على الأقل مهم للغاية. في بداية الكتاب ذكرت أننا عانينا من صدمتَين «مرة واحدة في العمر» في غضون أكثر من عقد بقليل: الأزمة المالية العالمية في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وجائحة كورونا في الفترة ٢٠٢٠-٢٠٢١. وبين هاتَين الصدمتَين، كان هناك قرارٌ اتخذه الناخبون في المملكة المتحدة اعتبره العديد من خبراء الاقتصاد بمثابة صدمة اقتصادية فرضوها على أنفسهم؛ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كلٌّ من هذه الصدمات تستحقُّ كتابًا خاصًّا بها، والواقع أن العديد من هذه الكتب قد كُتبت، أو سيتم تأليفها. ومع ذلك، دعوني أتناول الحدثَين بالترتيب، بدءًا بالأزمة المالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥