الفصل الثالث عشر

حالة بغيضة من عسر الهضم

الواقع أن الاقتصادات معرضة لأزمات دورية، وكثيرًا ما تكون مدمرة للغاية. وقد بدأت أكبر الأزمات، من حيث عدد الأزمات التي شهدها أغلبنا في ذلك الوقت، في عام ٢٠٠٧. ولم يكن الناس يتوقعون حدوث ذلك في العموم. ولعل عنوان هذا الفصل لا يعبر جيدًا عن مدى سوء الأزمة. فمن المؤكد أن النظام المصرفي العالمي أصيب في خريف عام ٢٠٠٨ بما يشبه النوبة القلبية. ولا أريد أن أجعل القرَّاء يشعرون بالغثيان بلا داعٍ، ولا أن أجعل هذا الفصل بمثابة إعادة عرض للأزمة؛ بكل تفاصيلها بما يشمل الضغوط ومظاهر الركود. ويمكنك أن تجد ذلك، ولكن من دون ألفاظ تقريعية، في كتابي الصادر عام ٢٠١٠ بعنوان «عصر عدم الاستقرار: الأزمة المالية العالمية وما سيأتي بعد ذلك». بدلًا من ذلك، سوف أتحدَّث عن تأثير الأزمة في الاقتصاد والسياسات الاقتصادية. وبرغم كل شيء، قبل أن ينزلق العالم إلى الأزمة، اعتقد كثيرون أن الاقتصاد الكلي أصبح مملًّا للغاية، وأن كل الاهتمام كان منصبًّا على الاقتصاد الجزئي؛ وكلما كان أكثر غرابة، كان ذلك أفضل. إذن، ما مقدار ما قرأته حتى الآن الذي لا يزال ذا صلة؟ ما مدى التحدِّي الذي مثَّلته الأزمة للتفكير التقليدي؟ قبل الإجابة عن ذلك، من الضروري أن نتحدَّث قليلًا عن الأزمة وأسبابها.

من سماء أغسطس

بعض التواريخ محفورة بشكل دائم في الذاكرة، ويمكن أن نطلق عليها بشكل صحيح أنها غيرت العالم؛ ١١ سبتمبر ٢٠٠١ هو أحدها. كانت الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في ذلك اليوم تلقي بظلالها. ربما كان لها أيضًا تأثير اقتصادي، وكان ذلك هو تصميم السلطات الأمريكية على تجنُّب السماح لتنظيم القاعدة بالفوز، من خلال إلحاق أضرار اقتصادية دائمة. لقد أصبح النمو على الأقل لبضع سنوات هو الأولوية، وربما على حساب الحكمة. وعندما يتعلق الأمر بالأزمة المالية العالمية، والتي أدَّت بدورها إلى الركود العظيم (الذي سبقه الاعتدال العظيم أو الاستقرار العظيم)، فلا يوجد اتفاق على تاريخ البداية. فيقول البعض إنها بدأت في عام ٢٠٠٦، عندما بدأت أسعار المساكن في أمريكا في الانخفاض. ويحدِّدها آخرون بمنتصف سبتمبر ٢٠٠٨، وانهيار بنك ليمان براذرز الاستثماري الأمريكي.

ومن أفضل التواريخ المرشَّحة لبداية هذه الأزمة هو التاسع من أغسطس ٢٠٠٧. فقبل شهر واحد، انهار صندوقان تحوطيان مملوكان لبنك الاستثمار في وول ستريت بير ستيرنز. ولم تكن هذه أول علامة على الصعوبات في الأسواق، أو في سوق الرهن العقاري الثانوي في أمريكا، بل كانت في الأساس قروض لمقترضين من ذوي المخاطر الائتمانية المنخفضة. كانت هذه الرهون العقارية تُسمَّى أحيانًا «رهن النينجا» — للأشخاص الذين ليس لديهم دخل أو عمل أو أصول — على الرغم من أن إحدى شركات الرهن العقاري الأمريكية كانت فخورة جدًّا بمنتجها «نينجا»، إلى الحد الذي جعلها تحتفظ بحقوق الطبع والنشر لهذا الاسم. وكانت أهمية انهيار صندوقَي التحوط التابعَين لشركة بير ستيرنز، تكمن في أنهما أظهرا أن الرهن العقاري الثانوي كان يخلق خسائر تتجاوز سوق الرهن العقاري نفسها. وقد استثمر كلٌّ من صندوقَي التحوط بكثافة في أدوات مالية مجمعة معًا من هذه الرهون العقارية المنخفضة الجودة.

ربما كان التفسير الأبسط لأهمية هذا الأمر هو التفسير الذي قدمته في صحيفة «صنداي تايمز» في ٥ أغسطس ٢٠٠٧:

ظلَّت المشاكل في سوق الرهن العقاري الثانوي الأمريكي — القروض المقدَّمة إلى المقترضين ذوي السجلات الائتمانية المشبوهة — واضحة لشهور. ولكن حالات التخلف عن السداد أصبحت أكبر وأكثر تواترًا. ولنتصوَّر الأمر وكأنه هرم مقلوب، يرتكز على هذه القروض المشبوهة، التي تم تقطيعها وتفتيتها وتحويلها إلى مجموعة من المشتقات المالية المتطورة، ولا سيَّما التزامات الديون المضمونة. إن انهيار القاعدة يعني انهيار الهرم، وتزايد المخاوف من هذا، مما يؤدِّي إلى اتِّساع الفوارق (زيادة تكلفة الاقتراض) عبر مجموعة من الأسواق. والصفقات التي بدَت جيدةً عندما كانت الفوارق ضيِّقة، مثل عمليات الاستحواذ بالاستدانة، لم تعُد قابلة للاستمرار.

وتحدث المشاكل والتوترات بانتظام في الأسواق المالية. وتمر أغلبها دون أن تخلف تأثيرًا خطيرًا. ففي عام ١٩٩٨، على سبيل المثال، تضافرَت ثلاث أزماتٍ كبرى في آنٍ واحد: الأزمة المالية الآسيوية، وتخلُّف روسيا عن سداد ديونها، وفشل شركة إدارة رأس المال الطويلة الأجل، وهي صندوق تحوط كبير. ورغم ذلك فإن التأثير في الاقتصادات الغربية كان ضئيلًا. فلماذا إذن كان ما حدث في عام ٢٠٠٧ إشكاليًّا إلى هذا الحد؟ والجواب هو أن الخسائر المحتملة للنظام المصرفي من حيازات الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري ومشتقاتها؛ كانت غير معروفة، الأمر الذي أدَّى إلى تفاقم حالة عدم اليقين، ولكنها كانت ضخمة. قد لا نعرف أبدًا حجم الخسائر التي يمكن أن تعزى إلى مثل هذه الاستثمارات السيئة — إن فصلها عن الخسائر «العادية» المرتبطة بالركود أمر صعب —ولكن أحد تقديرات صندوق النقد الدولي أشار إلى أن الخسائر بلغت ٤ تريليونات دولار أمريكي.

والسبب في أن التاسع من أغسطس ٢٠٠٧ كان مرشحًا جيدًا لبدء الأزمة المالية العالمية، أن الأزمة ترجع إلى أن ذلك كان اليوم الذي انتقلَت فيه المشاكل بوضوحٍ إلى ما هو أبعد من سوق الرهن العقاري الثانوي في أمريكا، وخارج اقتصادها، وإلى المسرح العالمي. ومن واجبات البنك المركزي أن يعمل بمثابة «المقرض الأخير»، وعادة لمؤسسة فردية تواجه صعوبات. وعندما يوفر البنك المركزي السيولة للسوق ككل، فإن ذلك لا يتم إلا في أوقات التوتر الشديد. ولقد وصف والتر باجهوت، رجل عصر النهضة في القرن التاسع عشر — محرر مجلة «ذا إيكونيمست» ومؤلف النص الأبرز عن الدستور البريطاني — الدستور في كتابه الصادر عام ١٨٧٣ بعنوان «شارع لومبارد»: «إن أي فكرةٍ مفادها أن المال ليس متاحًا، أو أنه لا يمكن الحصول عليه بأي ثمن، لا تؤدي إلا إلى إثارة الذعر وتقويته إلى حد الجنون … إن الذعر ينمو بما يتغذَّى عليه.» وعلى هذا فإن التاسع من أغسطس ٢٠٠٧ كان اليوم الذي استجاب فيه البنك المركزي الأوروبي، الذي كان على بعد أميال عديدة من وول ستريت أو مدن فلوريدا؛ حيث كانت القروض العقارية الثانوية تُمنح بسهولة بالغة. ولقد أغرق الأسواق الأوروبية بالسيولة بعد اكتشافه أن البنوك في أوروبا، وخاصة في فرنسا، قد وقعت في فخ الاضطرابات وفقدت ثقة الأسواق.

اضطراب شديد

ولم تنتهِ الأمور عند هذا الحد. فلقد أعقب ذلك نوع من تأثير الدومينو، حيث اعتُبِرت البنوك ضعيفة أو مفرطة الاعتماد على أسواق المال بالجملة — تلك التي تقترض من بنوك أو مؤسسات مالية أخرى بدلًا من الاعتماد على ودائع المدخرين — الأكثر تعرضًا للمخاطر. وعندما كُشِف في الثالث عشر من سبتمبر ٢٠٠٧ أن بنك نورثرن روك، خامس أكبر بنك في بريطانيا في مجال الإقراض العقاري، يحظى بدعم من «بنك إنجلترا كمقرض أخير»، كان من الواضح أن شيئًا ما كان على وشك الحدوث. وفي اليوم التالي شهدنا تهافتًا على فروع نورثرن روك (وعبر الإنترنت)، وهو أول تهافت على بنك إنجليزي منذ شركة أوفرند جورني آند كومباني في عام ١٨٦٦.

وكان هناك المزيد من التطوُّرات. وفي نهاية المطاف قامَت حكومة حزب العمال البريطانية بتأميم نورثرن روك بعد محاولة استمرَّت خمسة أشهر للعثور على مشترٍ قابل للاستمرار من القطاع الخاص. كانت هناك آمال، بعد الإثارة التي شهدناها في شهرَي أغسطس وسبتمبر — عندما تجمَّدت أسواق المال بسبب نقص ثقة البنوك بعضها في بعض — بأن الأسوأ ربما يكون قد انتهى. ولكن هذا الأمل كان بلا جدوى. فبعد أشهر من إعلان بنوك الاستثمار في وول ستريت والبنوك الكبرى الأخرى في أمريكا، عن عمليات شطب (خسائر) أكبر على الإطلاق من استثماراتها المرتبطة بالرهن العقاري الثانوي، اضطر أحد هذه البنوك، بير ستيرنز، إلى بيع نفسه بسعر منخفض للغاية إلى جي بي مورجان، ولم يكن من الممكن إتمام الصفقة إلا لأنها كانت مصحوبة بقروض بقيمة ٣٠ مليار دولار أمريكي من الاحتياطي الفيدرالي، البنك المركزي الأمريكي. لقد كان بنك بير ستيرنز، الذي تأسَّس عام ١٩٢٣، جزءًا من أرستقراطية وول ستريت، وقد نجا من انهيار عام ١٩٢٩. وكان قد كشف أولًا عن المشاكل التي واجهَتها صناديق التحوط التابعة له قبل ثمانية أشهر. والآن أصبح البنك بأكمله ضحية.

في سبتمبر ومعظم أكتوبر من عام ٢٠٠٨، بدا الأمر وكأن كل عطلة نهاية أسبوع كانت تجلب أزمة جديدة تهدد بإجبار النظام المالي على الركوع. ودخلت الأزمة التي بدأت قبل أكثر من عام مرحلة جديدة وأكثر فتكًا. وفجأة، بلغ الخوف من الخسائر ومخاطر الطرف المقابل (عدم ثقة البنوك والمؤسَّسات الأخرى في أولئك الذين كانت تشعر بالراحة في التعامل معهم في السابق) مستويات مبالغًا فيها. وبالنسبة للبنوك الاستثمارية، التي تعتمد على جمع الأموال في أسواق الجملة — على النقيض من البنوك التجاريَّة — كانت تفتقر إلى عملاء التجزئة؛ كان هذا الافتقار إلى الثقة خطيرًا للغاية. لقد بدأت الدراما في عطلة نهاية الأسبوع من السادس إلى السابع من سبتمبر بإعلان وزارة الخزانة الأمريكية عن خطة إنقاذ، بتمويل من دافعي الضرائب لشركتَي فاني ماي (الرابطة الوطنية الفيدرالية للرهن العقاري) وفريدي ماك (شركة الرهن العقاري الفيدرالية)، اللتَين تشكِّلان حصنَين منيعَين لسوق الرهن العقاري في أمريكا. ورغم أن شركتَي فاني ماي وفريدي ماك مملوكتان لمساهمين، فإنهما كانتا مؤسستَين ترعاهما الحكومة، وتتمتعان بإمكانية الوصول إلى أموال أقل تكلفة من منافسيهما التجاريين، كما أنهما حصلتا على تفويض من الكونجرس لزيادة ملكية المساكن. وكانت حقيقة أنهما كانا بحاجة إلى الإنقاذ بمثابة شهادة على حجم المشكلة.

ولكن كان عدم الإنقاذ في عطلة نهاية الأسبوع التالية لبنك ليمان براذرز، بنك الاستثمار في وول ستريت، هو الذي أدَّى حقًّا إلى دفع الأسواق المالية إلى حالة من الدوار، وكاد ينتج ما لم يكن من قبيل المبالغة أن نسمِّيه «الانهيار المالي». وكما وصفه ميرفين كينج، محافظ بنك إنجلترا آنذاك:

منذ أغسطس ٢٠٠٧، اجتاحت الاضطرابات المالية العالم الصناعي. وفي أعقاب إفلاس بنك ليمان براذرز في الخامس عشر من سبتمبر، بدأت سلسلة غير عادية من الأحداث التي بلغت ذروتها بالإعلان في مختلف أنحاء العالم عن إعادة تمويل النظام المصرفي. ومن الصعب أن نبالغ في تقدير شدة وأهمية تلك الأحداث. فلم يسبق منذ بداية الحرب العالمية الأولى أن اقترب نظامنا المصرفي إلى هذا الحد من الانهيار. فقد ارتفعت تكاليف التمويل بشكل حاد، ولم يعد من الممكن بالنسبة للعديد من المؤسسات أن تقترض إلا بين عشية وضحاها. وكاد الائتمان للاقتصاد الحقيقي يتوقف عن التدفق.

وشمل هذا التسلسل «الذي لا يمكن تصوره» من الأحداث خطة إنقاذ بقيمة ٧٠٠ مليار دولار أمريكي للنظام المصرفي الأمريكي، من جانب وزارة الخزانة الأمريكية، وهي الخطة التي لم تتمَّ الموافقة عليها إلا بعد معركة شرسة مع الكونجرس. كان جورج دبليو بوش، في مناشدته لزعماء الكونجرس لدعم حزمة الإنقاذ المصرفي التي أقرَّها البيت الأبيض بعد أسبوعَين من انهيار ليمان، صريحًا كعادته: «إذا لم يتم تخفيف القيود المالية، فإن هذا الأحمق قد ينهار.» وقد كلف إنقاذ البنوك الحكومات مئات المليارات من الدولارات في توفير رأس المال، ودعم السيولة، والضمانات للنظام المصرفي. وفي بريطانيا، تضمَّنت الاستجابة تأميم جزء كبير من بنك برادفورد آند بينجلي، وهو بنك رهن عقاري، والاندماج الطارئ بين بنك لويدز تي إس بي وبنك هاليفاكس أوف سكوتلاند (إتش بي أو إس)، مع تنازل الحكومة عن قواعد المنافسة للسماح بإتمام الصفقة. وبعد ذلك، استحوذَت الحكومة على حصة كبيرة في بنك لويدز وحصة أكبر في بنك رويال أوف سكوتلاند (قبل الأزمة، كان أكبر بنك في العالم)، مما أدى فعليًّا إلى تأميمهما كلَيهما. كانت البنوك في ورطة وكان لا بد من إنقاذها. واضطرَّت شركة ميريل لينش، عملاقة أخرى في وول ستريت، إلى الاندماج مع بنك أوف أمريكا. وكان لا بد من إنقاذ شركة إيه آي جي، أكبر شركة تأمين في أمريكا، من جانب الحكومة الأمريكية. ووقع العديد من البنوك الأوروبية، بما في ذلك بنك فورتيس البلجيكي الهولندي وبنك هايبو العقاري الألماني، في ورطة. وكان الأمر بمثابة عدوى خطيرة.

مزيج من الديون

تتبع حالات الذعر المالي نمطًا مماثلًا عبر العصور. كان هذا النوع مختلفًا بسبب طبيعة الاستثمارات التي تسبَّبت في كل هذه المتاعب. فالأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري كانت عبارة عن مجموعة من الرهن العقاري مجمعة معًا؛ أو "مُوَرَّقَة". وكان المستثمرون يحصلون على عائدهم من المدفوعات الشهرية المنتظمة لمقترضي الرهن العقاري. وكانت هناك أشكال أخرى من الأوراق المالية المدعومة بالأصول. وكانت التزامات الدَّيْن المضمونة أكثر تطورًا؛ إذ كانت تقسم «الدين»، أو الاقتراض، وكانت أغلب هذه السندات تقسمه إلى شرائح تعكس المخاطر المختلفة المترتبة على التخلف عن السداد. بل إن الأمر أصبح أكثر تعقيدًا. كانت أدوات التزامات الدين المضمونة المربعة السيئة السمعة عبارةً عن سندات دَين مضمونة تتألَّف من سندات دين مضمونة أخرى. وكان هذا المزيج من الحروف الأبجدية يشتمل على اختصارَين آخرَين: مقايضات العجز الائتماني وصناديق الاستثمار الهيكلية. ومقايضات العجز الائتماني هي نوع من عقود التأمين. فالشركة التي ترغب في تقليل مخاطر الائتمان لديها تجعل شخصًا آخر يتحمَّل تلك المخاطر، مخاطر التخلف عن السداد، وتدفع قسطًا له للقيام بذلك. إنها تشتري مقايضات مخاطر الائتمان من شركة أخرى، في بعض الحالات شركة تأمين (كانت شركة التأمين الأمريكية العملاقة إيه آي جي، كبيرة جدًّا في مقايضات مخاطر الائتمان). نمَت سوق مقايضات مخاطر الائتمان ونمَت. عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٧، كانت قيمتها ٥٥ تريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل تقريبًا إجمالي الناتج المحلي العالمي، على الرغم من أن هذا لم يكن سوى جزءٍ بسيطٍ من تجارة ٥٠٠ تريليون دولار أمريكي، في جميع ما يسمَّى بالمشتقَّات. استخدمت البنوك أدوات الاستثمار المهيكلة على نطاق واسع. كانت أدوات الاستثمار المهيكلة تقسم الديون وتصدرها، وفي المقابل تتلقَّى تدفقًا من الدخل على هذا الدَّين. ولقد كانت معظم الائتمانات التي حصلوا عليها من البنوك نفسها، ولكنها ظلَّت بعيدةً عن ميزانياتها العمومية.

وكانت هذه المشتقات المالية وغيرها من الأدوات المالية مهمةً، ليس فقط لأنها كانت مسئولةً عن العديد من الخسائر في النظام المصرفي، بل أيضًا لأنها تقدم مثالًا صارخًا لأناس أذكياء ارتكبوا خطأً فادحًا. وفي حين كان المستثمرون مثل وارن بافيت من بيركشاير هاثاواي — حكيم أوماها — متشككين في هذه المشتقات، اقتنع بها العديد من صناع السياسات، ولا سيما آلان جرينسبان، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق. فقد قال أمام لجنة تابعة للكونجرس في عام ٢٠٠٣: «لقد وجدنا على مر السنين في السوق أن المشتقات المالية كانت بمثابة أداة مفيدة للغاية، لنقل المخاطر من أولئك الذين لا ينبغي لهم أن يتحمَّلوها إلى أولئك الراغبين والقادرين على القيام بذلك. وقبل ظهور المشتقات المالية على نطاق واسع، لم تكن لدينا هذه القدرة.»

ركود كبير

في مارس ٢٠٠٧، ألقى جوردون براون آخر خطاب له بشأن الموازنة أمام مجلس العموم بصفته وزيرًا للخزانة، قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء. وبدا أن كل شيء يسير على ما يرام. وقال: «أستطيع أن أؤكد لكم أن الاقتصاد البريطاني ينمو اليوم بسرعة أكبر من كل اقتصادات مجموعة الدول السبع الكبرى الأخرى.» وفي حال نسي أحد ذلك، فقد كرر شعار حزب العمال الجديد الذي استخدمه هو وتوني بلير منذ عام ١٩٩٧: «ولن نعود أبدًا إلى فترة الازدهار والكساد القديمة.»

إن الدورة الاقتصادية، أو دورة الأعمال، قديمة قدم الاقتصاد نفسه. ولا بد أن جوردون براون وتوني بلير كانا يدركان هذا، وخاصة لأن القواعد المالية التي تبنَّياها عند توليهما منصبَيهما كانت قابلة للتعديل الدوري. فقد أخذا في الاعتبار حقيقة مفادها أن الاقتصاد سوف يتقلَّب على مدى سنواتٍ بين النمو القوي والضعيف، وبين البطالة المتراجعة والمرتفعة. بالتأكيد أدركوا خطر الازدهار والكساد، أليس كذلك؟ وكما اتضح، فقد ترك بلير منصبه قبل الركود، على الرغم من احتلال براون لداونينج ستريت طوال ذلك؛ كان هذا رائعًا. فقد شهد الركود الذي بدأ في أوائل عام ٢٠٠٨ وانتهى رسميًّا في أواخر عام ٢٠٠٩، انخفاض إجمالي الناتج المحلي بنسبة تقترب من ٦ في المائة من ذروة ما قبل الركود إلى أدنى نقطة ركود له؛ الحضيض. هذا بالمقارنة مع نسبة ٤٫٥٪ في فترة ركود «أوبك» في الفترة ١٩٧٣–١٩٧٥ (بعد ارتفاع أسعار النفط بشكلٍ حادٍّ)، و٥٫٤٪ في أول ركود تاتشر في أوائل الثمانينيات و١٫٩٪ فقط في أوائل التسعينيات. كان ذلك حينذاك أسوأ ركودٍ في فترة ما بعد الحرب، وليس فقط في بريطانيا. قبل ٢٠٠٨-٢٠٠٩، كانت حالات الركود العالمية في فترة ما بعد الحرب عبارةً عن حالات ركود «نمو»، أي تباطؤ حاد في النمو العالمي ولكن ليس انكماشًا صريحًا. ولكن في عام ٢٠٠٩ انكمش الاقتصاد العالمي لأول مرة منذ عام ١٩٤٥.

لماذا عانى الاقتصاد العالمي من أشد انحدار له في الذاكرة الحية؟ كان ذلك التأثير التراكمي للأزمة المالية التي استمرَّت بحلول خريف عام ٢٠٠٨ لأكثر من عام. تعتمد الاقتصادات الحديثة على الائتمان؛ لذا فإن قطع إمدادات الائتمان كان من المحتم أن يكون له تأثير. ولقد ألقى البعض باللوم على أسعار النفط، التي ارتفعَت في صيف عام ٢٠٠٨، بمساعدة تحول المستثمرين إلى السلع الأساسية، إلى ١٤٧ دولارًا للبرميل، وهو مستوًى مرتفع بشكل غير عادي. ولكن حتى خريف عام ٢٠٠٨، بدا أن أغلب الاقتصادات قادرة على التعامل بشكل جيد مع أسعار النفط القياسية. لذا فإن الشرارة كانت سبتمبر ٢٠٠٨، وانهيار ليمان براذرز، وتداعي الثقة في النظام المصرفي والمالي. والسؤال هو: ما التفسير الاقتصادي لهذا الانهيار؟

السؤال الملكي

بصرف النظر عن التأثير على استثماراتها الخاصة، لا أحد يتوقع أن تكون للملكة أهمية كبيرة في الأزمة المالية العالمية. ومع ذلك، فإن التعليق العابر الذي أدلت به خلال إحدى زياراتها إلى كلية لندن للاقتصاد في نوفمبر ٢٠٠٨ دخل الثقافة الشعبية. كانت الأزمة مستعرة، وفي حديث مع البروفيسور لويس جاريكانو، وصفت الأزمة المالية العالمية بأنها «مروعة» وتساءلت: «إذا كانت هذه الأشياء كبيرة جدًّا، فكيف غفل عنها الجميع؟» وأشار جاريكانو إلى تراجع معايير الإقراض، وخاصة في سوق الإسكان في أمريكا، وغريزة القطيع في الأسواق المالية. لكنه اعترف أيضًا بأن التحذيرات كان يجب أن تكون أعلى صوتًا. وكتب لاحقًا: «كان ينبغي لنا، نحن الاقتصاديين والأكاديميين، أن نكون أعلى صوتًا في تحذيراتنا وأكثر استباقية في اقتراح الحلول.»

لقد أثار سؤال الملكة، البسيط والبريء بما فيه الكفاية، العديد من الاستجابات. في يونيو ٢٠٠٩، عقدت الأكاديمية البريطانية اجتماعًا للخبراء الاقتصاديين والماليين، من بينهم سبعة أشخاص كانوا يخدمون أو خدموا في لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا: تيم بيسلي، وديفيد مايلز، وبول تاكر، والسير آلان بود، والسير جون جيف، والأستاذ تشارلز جودهارت، وسوشيل وادواني. وكان هناك السير نيكولاس ماكفيرسون، السكرتير الدائم للخزانة، واثنان من أسلافه، السير دوجلاس واس والسير جوس أودونيل، سكرتير مجلس الوزراء آنذاك، إلى جانب آخرين عدة. ولخص تيم بيسلي وبيتر هينيسي، وكلاهما أستاذ وزميل في الأكاديمية البريطانية، استنتاجات المنتدى في رسالة إلى الملكة. ورغم أن البعض توقَّعوا أزمةً من نوع ما، ذكرت الرسالة أن «الشكل الدقيق الذي ستتخذه وتوقيت بدايتها وشدتها لم يتوقعه أحد». فيما يتصل بالمسألة المهمة المتمثلة في المخاطر، وتسعيرها في الأسواق المالية، أشار الخطاب إلى أن عددًا كبيرًا من الناس انخرطوا في تقييم المخاطر، بما في ذلك أربعة آلاف من مديري المخاطر في أحد البنوك الكبرى في بريطانيا وحدها. وكتبوا: «لكن الصعوبة كانت تكمن في رؤية المخاطر التي تهدد النظام ككل، وليس أي أداة مالية أو قرض محدد. وكثيرًا ما فقدوا الرؤية الكاملة للصورة.»

وكان السبب الآخر وراء شدة سوء الأزمة هو أن تراكمها كان طويلًا للغاية. هناك حالةٌ لتتبع الأحداث التي تكشفت باعثةً على إدراك جسامة الضرر إلى ما يعود إلى عام ١٩٨٠، وبدايات «الظل» المصرفي في أمريكا (الذي كان، بحلول وقت الأزمة، بحجم القطاع المصرفي الرسمي). البنوك الظلية هي إما كيانات منفصلة مثل صناديق سوق المال، وإما شركات تابعة مملوكة للبنوك خارج الميزانية العمومية. منذ أوائل التسعينيات، كانت هناك، بدءًا من أمريكا، زيادة حادة في الإقراض للشركات، مرتبطة جزئيًّا بطفرة شركات الإلكترونية. ثم، بدلًا من التراجع، انتشر، إلى إقراض الشركات في أماكن أخرى من العالم، ولكن بشكل أكثر تحديدًا للمستهلكين. وعلى مدى السنوات الثلاث أو الأربع التي سبقت الأزمة، إن لم يكن لفترة أطول، حافظ المستهلكون في بريطانيا وأمريكا على إنفاقهم من خلال الاقتراض. ورغم أن أكبر زيادة في الديون في بريطانيا منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين كانت في القطاع المالي نفسه، فإن ديون الأسر ارتفعت من ٣٩٠ مليار جنيه إسترليني في نهاية الركود في الفترة ١٩٩٠–١٩٩٢، إلى ١٤٣٠ مليار جنيه إسترليني في بداية الركود في الفترة ٢٠٠٨-٢٠٠٩.

الوفرة غير العقلانية

كان خبراء الاقتصاد ينتظرون أزمة ليعلِّقوا عليها اختلالات التوازن العالمية منذ انهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة، ولكن القابلة للتعديل في أوائل سبعينيات القرن العشرين، وبالتأكيد منذ العجز المزدوج في أمريكا — الميزانية وميزان المدفوعات — في عصر «اقتصاديات ريجان» في ثمانينيات القرن العشرين. وقد عانت اختلالات التوازن العالمية من مشكلة الإنذارات التي لا داعي لها. ولم يكن أحد يجهل هذه الأمور، رغم أن العالم بدا قادرًا على التعايش معها. وربما كان جزء من سبب الأزمة هو أنها كانت ممتدة إلى نقطة الانهيار. وكان أحد أعراض اختلال التوازن ما يُعرف ﺑ «فائض الادخار العالمي». فقد كانت دول مثل الصين، حيث كان الإنفاق الاستهلاكي منخفضًا والادخار مرتفعًا، تولد فوائض اجتاحت الاقتصاد العالمي. وأبقى هذا الفائض من المدَّخرات أسعار الفائدة منخفضة — ولنتأمَّل أسعار الفائدة باعتبارها السعر الذي يتساوى عنده العرض والطلب على الأموال — مما أدى إلى طفرة ائتمانية قوية ومستدامة. كما أدى إلى نشوء المنتج الثانوي الغريب المتمثِّل في أن الصين هي أكبر حامل دولي ﻟ «سندات الخزانة» الأمريكية؛ سندات الحكومة الأمريكية.

قد يزعم بعض خبراء الاقتصاد بحقٍّ أنهم اكتشفوا مشاكل أخرى في وقت مبكر. في عام ٢٠٠٠ كتب روبرت شيلر، أستاذ جامعة ييل، كتابًا بعنوان «الوفرة غير العقلانية»، والذي استمد عنوانه من عبارة استخدمها آلان جرينسبان في عام ١٩٩٦. وفي هذا الكتاب حذَّر من أن الوفرة التي اجتاحت أسواق الأوراق المالية، والتي استندت إلى فكرة «العصر الجديد» أو «النموذج الجديد» المبني على التكنولوجيا، كانت في غير محلها. فكما حدث في حلقات الوفرة غير العقلانية السابقة، مثل هوس السكك الحديدية في بريطانيا الفيكتورية، كانت الأسواق تبني آمالًا كاذبة. وكان شيلر محقًّا؛ إذ توقَّع كتابه انفجار فقاعة الإنترنت، وما يترتب على ذلك من انهيار في أسهم التكنولوجيا. وعندما ظهرت الطبعة الثانية من كتاب «الوفرة غير العقلانية» في عام ٢٠٠٥، محذِّرة من فقاعة العقارات في أمريكا، كان لزامًا على الناس أن ينتبهوا إلى هذا الأمر بقدر أكبر من الاهتمام. وكان محقًّا، وإن كان أولئك المسئولون عن إدارة الاقتصاد قد تبنَّوا وجهة نظر مختلفة. ولكن ما هو الفرق بين «الفقاعة» و«الطفرة»؟ فبعد وقت قصير من تعيينه رئيسًا للاحتياطي الفيدرالي (خلفًا لجرينسبان)، قدَّم بن برنانكي، الذي كان آنذاك رئيسًا لمجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد جورج دبليو بوش، طمأنة بشأن الإسكان.

ما الفرق بين «الفقاعة» و«الطفرة»؟ على الرغم من استخدام الكلمتَين بالتبادل، فهما مختلفتان. فمن الممكن، على سبيل المثال، أن تستمرَّ الطفرة لسنوات عديدة ولا تتبعها فترة كساد. إن فترات التنمية الاقتصادية السريعة هي فترات طفرة. فقد شهدت الصين طفرة، تقطعها فترات عرضية من تباطؤ النمو، لعقود بعد أواخر سبعينيات القرن العشرين. وقد تكون فترات الطفرة طويلة الأمد. إن الفقاعات، من فقاعة بحر الجنوب في عام ١٧٢٠ فصاعدًا، إن لم يكن قبل ذلك، لا يمكن أن تستمرَّ أبدًا.

التصويب نحو الهدف

ربما تتذكَّرون أهمية استهداف التضخُّم في تغيير طبيعة السياسة النقدية في بريطانيا. وعادة ما يتطلَّب الأمر انتكاسة لإحداث تغيير في المسار. وكانت الأزمة أكثر من مجرد انتكاسة. فقد كانت مفاجأة لبنك إنجلترا. فهل كانت السياسة التي اتبعها مسئولة بشكل مباشر؟ وقع اللوم لاستهداف التضخم لأن البنوك المركزية أغفلت التركيز على المشكلة، وتجاهلت العاصفة المالية التي كانت تلوح في الأفق. وقال البعض إن مشاكل بنك إنجلترا كانت نتيجة لفرض جوردون براون هدفًا للتضخم عليه في عام ٢٠٠٣، والذي لم يشمل أسعار المساكن. (كان الهدف الأصلي، الذي استند إلى مؤشر أسعار التجزئة، يتضمَّن عنصر أسعار المساكن، ولم يتضمن خليفته، مؤشر أسعار المستهلك، هذا العنصر). وكان ارتفاع أسعار الأصول، بما في ذلك أسعار المساكن، بمثابة قصة عن نمو ائتماني سريع للغاية، وهو ما قيل إن لجنة السياسة النقدية غضَّت الطرف عنه. وقيل إن البنك كان ينبغي له أن يولي اهتمامًا أكبر بكثير لطفرة أسعار المساكن، إما برفع أسعار الفائدة، حتى عندما كان مقياس التضخم المستهدف تحت السيطرة بشكل مريح؛ وهي الاستراتيجية المعروفة باسم «الاتكاء على الريح»، وإما ﺑ «التدخل اللفظي»، وهي تصريحات صارمة لمحاولة إقناع السوق بالتراجع.

إن رفع أسعار الفائدة، عندما لا يكون هناك خطر واضح على هدف التضخم، شيء يسهل قوله أكثر من فعله. وتحدَّث سبنسر ديل، كبير خبراء الاقتصاد في البنك في عام ٢٠٠٩، عن «الصعوبة العملية المتمثِّلة في تنفيذ سياسة «الاتكاء على الريح»، حيث تكون الأداة السياسية الرئيسية هي أسعار الفائدة القصيرة الأجل». «إذا نجحنا، كصناع سياسات، في منع فقاعة من التضخم، فقد يبدو الأمر وكأننا نستجيب لمخاوف وهمية»، كما قال. «لن تكون الفقاعة أو الخلل في التوازن موجودًا في أي مكان، ولكن أسعار الفائدة ستكون أعلى، وسوف يكون التضخم أقل من هدف التضخم، وسوف يبدو الأمر وكأننا ألحقنا صعوبات اقتصادية لا داعي لها.»

بالنسبة إلى البنوك المركزية، تعلمت درسَين كبيرَين في الاستجابة للأزمة. الأول أنه حتى أسعار الفائدة المنخفضة للغاية — في حالة بنك إنجلترا، كانت الأدنى منذ تأسيسه في عام ١٦٩٤ — قد لا تكون كافية. لذلك، وكما وصفنا بالفعل، كان على البنوك المركزية أن تذهب إلى أبعد من ذلك. في ظاهر الأمر، تبدو سياسة البنك المركزي المتمثِّلة في شراء سندات حكومته، وخاصة عندما تدير تلك الحكومة عجزًا ضخمًا في الميزانية؛ مشكوكًا فيها، وهو نوع من الأشياء التي تحدث في جمهوريات الموز. ولكن هذا هو بالضبط ما حدث في بريطانيا في عام ٢٠٠٩، عندما اشترى البنك ٢٠٠ مليار جنيه إسترليني من الأصول، ومعظمها سندات حكومية. وكان أعضاء لجنة السياسة النقدية، الذين اتخذوا القرار، حريصين على التأكيد على الكيفية التي أفاد بها هذا القرار الاقتصاد الأوسع. وقد دفعت سياسة شراء السندات الحكومية سعرها إلى الارتفاع؛ ومن ثَم خفض العائدات (سعر الفائدة عليها)، وهو التأثير الذي تكرَّر في سوق سندات الشركات. ولقد أدَّى هذا، إلى جانب الارتفاع المصاحب في سوق الأوراق المالية، إلى تيسير تمويل الشركات لنفسها في الأسواق، وساعد في تحريك الاقتصاد من الركود العميق إلى التعافي. وقد أشار تقييم أجراه موظفو البنك إلى أن التيسير الكمي عزَّز إجمالي الناتج المحلي بنسبة تتراوح بين ١٫٥ و٣ نقاط مئوية، مقارنة بما كان سيصير عليه في غياب هذه السياسة.

وكما اتضح، اختارَت الحكومة الائتلافية المنتخبة في مايو ٢٠١٠ الاستمرار في هدف التضخُّم، ولكن أيضًا نقل التنظيم المالي من هيئة الخدمات المالية إلى بنك إنجلترا. كما اتخذت بلدان أخرى خطوات لتعزيز تنظيمها للأنظمة المصرفية والمالية.

هل الأسواق فعَّالة؟

وفقًا للمنتقدين، أدَّى استهداف التضخُّم إلى خلق حالة من الرضا عن الذات وتجاهل ما كان يحدث حقًّا. فهل كان هناك سبب مباشر أهم من هذا؟ كانت فرضية السوق الفعَّالة موجودة في صور شتى طيلة أغلب القرن العشرين. وقد عرَّف البروفيسور يوجين فاما من جامعة شيكاغو هذه الفكرة في مقالة نُشرت في مجلة «جورنال أوف فاينانس» عام ١٩٧٠، بعنوان «أسواق رأس المال الفعَّالة: مراجعة للنظرية والعمل التجريبي». وكانت فكرة فاما بسيطة للغاية: الأسواق المالية فعَّالة بمعنى أن سعر أسهم الشركة يعكس كل المعلومات المعروفة في ذلك الوقت. وقال إن هناك درجاتٍ مختلفةً من القوة التي يمكن من خلالها صياغة هذه الفكرة. في أضعف نسخة، كان السعر الحالي يعكس المعلومات السابقة فقط عن الأسعار. وفي النسخة «شبه القوية»، يعكس السعر جميع المعلومات المتاحة للجمهور والتي تؤثر على الشركة. وفي أقوى نسخة، يعكس السعر جميع المعلومات المتاحة للجمهور والخاصة. وقد نال على الفور العديد من المعجبين. قال مايكل جينسن، الخبير الاقتصادي المالي في جامعة هارفارد، في عام ١٩٧٨: «لا يوجد اقتراح آخر في الاقتصاد لديه أدلة تجريبية أكثر صلابة تدعمه من فرضية السوق الفعَّالة.» وهذا يعني أنه من الصعب على المستثمرين أن يزعموا أنهم يتفوقون على السوق باستمرار. يعكس سعر اليوم جميع المعلومات المعروفة اليوم. وسعر الغد سوف يعكس حالة المعلومات غدًا، والتي قد تكون مختلفة ولكن لا أحد يستطيع أن يأمل في توقُّعها دون امتلاك تلك المعلومات مسبقًا.

ورغم بساطة الفرضية، فقد أُلقيَ عليها اللوم على نطاق واسع في المساهمة في الأزمة. ففي مقالة نقدية نُشرت في مارس ٢٠٠٩، كتب اللورد تيرنر، رئيس هيئة الخدمات المالية البريطانية، أن «الافتراض السائد وراء تنظيم الأسواق المالية — في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعلى نحو متزايد في مختلف أنحاء العالم — كان مفاده أن الأسواق المالية قادرة على أن تكون فعَّالة وعقلانية في الوقت نفسه، وأن الهدف الرئيسي لتنظيم الأسواق المالية يتلخص في إزالة العوائق التي قد تؤدي إلى ظهور أسواق غير فعَّالة وغير سائلة». ولكن الواقع، كما كتب، كان مختلفًا إلى حدٍّ ما: «يتعيَّن على صناع السياسات أن يدركوا أن جميع الأسواق المتداولة السائلة قادرة على التصرُّف بشكل غير عقلاني، وقد تكون عرضة لتأثيرات القطيع والزخم وهي تأثيرات تعزِّز نفسها.»

ويبدو أن نظرية فاما كانت مسئولة عن أضرار اقتصادية ومالية لا توصف. ولكن ربما كان الضرر قد حدث من جانب أولئك الذين اختبروا هذه الفرضية إلى حد التدمير. والواقع أن فكرة أن سعر السهم أو الأوراق المالية هو أفضل تقطير لجميع المعلومات المتاحة ذات الصلة، لا تستبعد ما يصفه منتقدو الفرضية بتأثيرات «الزخم» أو «القطيع». معرفة أن مستثمرين آخرين يشترون ويعتزمون شراء المزيد تشكِّل جزءًا من المعلومات المتاحة التي تساعد في تحديد السعر. ولا تقول الفرضية أي شيء عن السعر الذي سيكون غدًا، أو حتى في غضون بضع دقائق. فالمعلومات التي تؤثر على السعر قد تتغير بسرعة وبشكل كبير. وعلاوة على ذلك، كان أهم ما تنطوي عليه فرضية السوق الفعَّالة هو أن المحترفين لا يستطيعون أن يزعموا بشكل مشروع أنهم يتفوَّقون على الأسواق باستمرار. ولا يوجد حقًّا شيء مثل الغداء المجاني. إن أولئك الذين يزعمون باستمرار تحقيق عائدات أعلى من المعدلات الطبيعية — سواء كانوا محتالين مثل بيرني مادوف الراحل، أو بنوكًا استثمارية تزعم إيجاد طرق جديدة لتحقيق عائدات مرتفعة في عالم منخفض العائد — كانوا يقولون إنهم قادرون على التغلُّب على السوق. وكان لزامًا على فرضية السوق الكفؤة أن تخبر الجهات التنظيمية بأن هناك شيئًا مريبًا في هذا. وإذا كانوا يعتقدون أن الأسواق على حقٍّ دومًا، وأنها كانت دائمًا تسعر المخاطر والأخطار بدقَّة، فربما كان من الممكن أن يتعرَّضوا لمزيد من الخداع.

الرياضيات والنماذج

إن هذا الكتاب، كما تعلمون، يكاد يخلو من المعادلات. وهذا لا ينطبق على الاقتصاد بشكل عام. فقد أصبح الاقتصاد طوال تاريخه أكثر اعتمادًا على الرياضيات، واستنادًا على الصيغ الجبرية والبراهين الاقتصادية القياسية. وبالنسبة لبعض الناس، فقد بدأ الفساد عندما تطوَّر الاقتصاد السياسي، الذي كان وصفيًّا إلى حد كبير، ليصبح علم الاقتصاد. في أبريل ٢٠٠٩، نشرت مجلة «بيزنس ويك» مقالًا على الغلاف تحت عنوان «ما فائدة خبراء الاقتصاد على أية حال؟». ونقلت عن عدد من النقاد، بما في ذلك نسيم نيكولاس طالب، مؤلف كتاب «مخدوعون بالعشوائية» و«البجعة السوداء» (انظر الفصل الخامس عشر لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع). وقال إن خبراء الاقتصاد خدعوا أنفسهم وكل من حولهم بالاعتقاد بأن نماذجهم الرياضية قادرةٌ على التنبُّؤ بالمستقبل. ويمكن أن تتراوح النماذج الاقتصادية من البسيطة للغاية إلى شديدة التعقيد. ومن بين النماذج المعقَّدة ما يسمَّى بنماذج التوازن العام الديناميكي العشوائي، والتي تُستخدم على نطاق واسع من جانب البنوك المركزية والحكومات والمتنبِّئين في القطاع الخاص والشركات الاستشارية. وتجسِّد نماذج التوازن العام الديناميكي العشوائي التفكير الاقتصادي الكلي الحديث. كانت جميع البنوك المركزية الكبرى لديها هذه النماذج، بما في ذلك البنك المركزي الأوروبي، والاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا. كان نموذج بنك إنجلترا يُعرف باسم نموذج بنك إنجلترا ربع السنوي، أو، إذا كنت تفضل، «بيكهام»، على اسم لاعب كرة القدم الشهير. كانت هذه النماذج جميعها «ديناميكية»، وتتضمَّن التغيير، على عكس النماذج الثابتة القديمة. لقد أظهرت تأثير الصدمات والتغييرات، الذي كان العنصر العشوائي، ولقد كانت هذه النماذج مبنية على «التوازن العام»، أو الفكرة الأساسية التي مفادها أن كل الأسواق في الاقتصاد سوف تتحرَّك نحو وضع يكون العرض والطلب في ظله في حالة توازن.

وبدا أن مثل هذه النماذج تعمل بشكل جيد إلى حدٍّ كبير أثناء فترة الاعتدال العظيم، أو الاستقرار العظيم، عندما كان (ربما) التنبؤ واضحًا ومباشرًا. ولكنها فشلت عندما كانت هناك حاجة ماسَّة إليها؛ في فترة الأزمة. لقد لاحظ البروفيسور تشارلز جودهارت، العضو السابق في لجنة السياسة النقدية والمعروف بقانون جودهارت (أيُّ مقياسٍ للمعروض النقدي تستهدفه سوف يصبح مشوهًا تلقائيًّا)، قصورًا واضحًا: «إن المشاكل العامَّة المتعلقة بالسيولة تسير دائمًا بموازاة المخاوف بشأن الملاءة المالية، كما حدث في عام ٢٠٠٧. وإذا افترضت أنني أستطيع بالتأكيد سداد قرضك، فإنك سوف تقرضني دائمًا دون ضمانات وبمعدل خالٍ من المخاطر، وهو افتراض غير صحيح تم دمجه للأسف في معظم نماذج التوازن العام الديناميكي للاقتصاد الكلي.» والواقع أن هذه النماذج — سواء باستبعاد القطاع المالي أو بافتراض أن التمويل، أو الإقراض المصرفي، كان دائمًا متاحًا — لم يكن بوسعها أن تتنبَّأ بالأزمة.

فهل يمزق خبراء الاقتصاد معادلاتهم ويتخلَّون عن نماذجهم؟ كلا. إن صناع السياسات، حتى النادرين منهم الذين يعترفون بأنهم اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على نماذجهم، سوف يؤكِّدون دومًا على دور الحكمة والحس السليم في اتخاذ القرارات.

عودة كينز

بالنسبة لأتباع جون مينارد كينز، كانت الأزمة المالية العالمية مهمة ليس فقط بسبب حجمها، بل لأنها أعادت أيضًا رجلهم إلى ما اعتبروه مكانه الصحيح في قلب المناقشة الاقتصادية والاستجابة السياسية للأزمة. ورغم أن كينز لم يرحل قطُّ، تراجعت السياسة المالية «الكينزية» لبعض الوقت إلى الخلف. أصبحت السياسة النقدية — أسعار الفائدة — الرافعة الرئيسية للتأثير على النشاط الاقتصادي في الأمد القريب. ومن المؤكد أنه عندما اندلعت الأزمة، خفضت البنوك المركزية أسعار الفائدة بشكل عدواني إلى مستويات قريبة من الصِّفر. ومع ذلك، حذَّر كينز في ثلاثينيات القرن العشرين، من أنه حتى أسعار الفائدة المنخفضة للغاية قد لا تكون كافية. وقد تصبح غير فعالة، كما قال بشكل لا يُنسى، كالذي يحاول أن يرى في ظلام دامس. ولكن في حين كانت السياسة النقدية غير فعَّالة (على الرغم من محاولات البنوك المركزية جعلها أكثر فعالية من خلال تدابير «غير تقليدية» مثل التيسير الكمي)، أصبح المشهد مهيأً لتحفيز مالي واسع النطاق. وكأن كينز قد عاد.

في نوفمبر ٢٠٠٨، دعا صندوق النقد الدولي إلى تحفيز مالي عالمي يعادل نحو ٢٪ من إجمالي الناتج المحلي، أي نحو ١٫٣ تريليون دولار أمريكي، ولو أن ذلك كان يستند إلى التنبُّؤ بأن الاقتصاد العالمي سوف يتباطأ إلى ٢٪ فقط من النمو في عام ٢٠٠٩. وفي وقت لاحق، عدل الصندوق الذي يتخذ من واشنطن مقرًّا له توقعاته للاقتصاد العالمي في عام ٢٠٠٩ إلى انخفاض بنحو ٢٪. وكانت مجموعة العشرين عبارة عن مجموعة تضم، فضلًا عن البلدان الصناعية المتقدمة، الاقتصادات الناشئة الكبرى، بما في ذلك الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وتركيا والمملكة العربية السعودية. لقد أصبح البنك المركزي الأوروبي الهيئة الرئيسية خلال الأزمة المالية العالمية، وفي اجتماع عُقد في واشنطن في نوفمبر ٢٠٠٨، أقر البنك المركزي الأوروبي التدابير المالية لتحفيز الطلب «بأثر سريع»، بينما تعهد أيضًا باتخاذ خطوات لضمان تحقيق «الاستدامة المالية» مرة أخرى عند انتهاء الأزمة. لذا فإن العجز الأكبر في الميزانية سيكون الاستجابة للأزمة وتأثيرها الاقتصادي، لكنه سيكون مؤقتًا. واستحدثت الحكومات حول العالم حزم تحفيز، بما في ذلك ٥٨٦ مليار دولار أمريكي في الصين، و٥٠ مليار يورو في ألمانيا (على الرغم من التشكك الواضح من جانب أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا)، و٢٦ مليار يورو في فرنسا، و١٢ تريليون ين ياباني في اليابان، و٢٥ مليار جنيه إسترليني في بريطانيا. أما الحزمة الأخيرة، والتي كانت صغيرة بالضرورة بسبب الحالة السيئة للمالية العامة في البلاد، فقد تركزت في الأساس على خفض مؤقت لضريبة القيمة المضافة من ١٧٫٥٪ إلى ١٥٪، وذلك من الأول من ديسمبر ٢٠٠٨ إلى نهاية عام ٢٠٠٩.

وبدا إحياء كينز كاملًا. فقد قال روبرت لوكاس، الخبير الاقتصادي في جامعة شيكاغو، مازحًا: «أعتقد أن الجميع كينزيون في جحر ثعلب.» وعندما انتُخِب باراك أوباما رئيسًا في أواخر عام ٢٠٠٨، كان أحد أول أعماله، في فبراير ٢٠٠٩، هو الإعلان عن حزمة تحفيز بقيمة ٧٨٩ مليار دولار أمريكي في مواجهة معارضة الجمهوريين. وبعد شهرَين، في أبريل ٢٠٠٩، استضاف جوردون براون قمة أخرى لمجموعة العشرين، في منطقة دوكلاندز في لندن، حيث تباهى زعماء مجموعة العشرين ﺑ «التوسع المالي المنظم وغير المسبوق» الذي بلغ ٥ تريليونات دولار أمريكي، والذي قالوا إنه سيعزز الاقتصاد العالمي بنسبة ٤٪. ورغم أن هذا المبلغ البالغ ٥ تريليونات دولار أمريكي كان يشمل عنصرًا كبيرًا من التدهور المشترك في عجز الموازنة في الاقتصاد العالمي (بسبب تأثير الركود على عائدات الضرائب والإنفاق الحكومي)، فإنه كان يشمل كذلك تدابير مالية متعمدة لتخفيف تأثير الأزمة. وبعبارة أخرى، كان هناك رد كينزي. وربما كانت القصة ستنتهي عند هذا الحد، ولكنها لم تنتهِ.

فقد قسم الكينزيون وقتهم بعد الأزمة بين مهاجمة الأشخاص الذين اعتبروهم من أصحاب نظرية الأرض المسطحة — أولئك الذين يريدون إعادة العالم إلى ما وصفه بول كروجمان ﺑ «العصر المظلم للاقتصاد الكلي» — واليأس من استجابة الحكومة. كان الكينزيون يعتقدون أن الدرس قد تعلَّموه في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما دفع تشديد السياسة قبل الأوان أمريكا إلى الركود في عام ١٩٣٧. وكان بوسعهم أيضًا أن يشيروا إلى اليابان في العصر الحديث، التي أخطأت حكومتها أيضًا، في رأيهم، بوضع المكابح المالية في وقت مبكر للغاية. وعلى الرغم من هذا، تمسَّكت معظم الحكومات بالجزء الثاني من تعهُّد مجموعة العشرين في نوفمبر ٢٠٠٨، باتخاذ خطوات لإعادة ماليتها العامة إلى صحتها بمجرد انتهاء الأزمة المباشرة. وزعم الكينزيون أنه مع «تقليص» القطاع الخاص لديونه، فإن أسوأ ما يمكن للحكومات أن تفعله هو محاولة خفض ديونها وعجزها في نفس الوقت. وكان هذا أحد تلك النزاعات المستعصية على الحل. وعلى المستوى العملي، بدا الأمر وكأن الحكومات ليس لديها خيار سوى خفض عجز ميزانياتها، في محاولة لتجنُّب أزمة ديون سيادية خطيرة — خطر الإفلاس الوطني والتخلُّف عن سداد الديون — وخاصَّة في منطقة اليورو المضطربة. فهناك، بدءًا من عملية إنقاذ اليونان في مايو ٢٠١٠، حاولت الحكومات — دون جدوى في كثير من الأحيان — إقناع الأسواق بأنها بدأت تتغلَّب على عجز ميزانياتها. حتى أمريكا، التي شهدت تخفيض تصنيف ديونها السيادية من مستوى AAA في أغسطس ٢٠١١، لم تكن محصنة ضد هذه الضغوط. فقد زعم أتباع كينز أن ما يحتاج إليه العالم هو النمو، وأن كل هذا التشديد المالي هو أفضل وسيلة لضمان عدم حصوله عليه. واتفق أغلبهم على أننا كنا سنستعين بحكمة كينز نفسه.

هايك والنمساويون

لم يكن الإصدار الأول من كتاب «دعوة غداء» كافيًا فيما يتصل بالمدرسة النمساوية للاقتصاد. لقد فتحت الأزمة أمامي فرصة لتصحيح هذا الإغفال، ولست الوحيد الذي فعل ذلك. ففي عام ٢٠١١، بثَّت هيئة الإذاعة البريطانية مناظرة «كينز مقابل هايك» التي أقيمت في كلية لندن للاقتصاد. وبطبيعة الحال، كان الرجلان قد رحلا منذ فترة طويلة؛ لذا خاض أتباعهما معركة. والمدرسة النمساوية هي فرع من فروع الاقتصاد يعود تاريخه إلى فيينا في القرن التاسع عشر، ومؤسِّسوها، كارل مينجر، ويوجين بوم باورك، ولودفيج فون ميزس. وترتبط المدرسة أيضًا بالاقتصادي فريدريك هايك في القرن العشرين، المنافس الأكبر لكينز، وكذلك جوزيف شومبيتر، وفي أمريكا، موراي روثبارد، وآخرين. يزعم أتباع هذا الرأي أن الفترة التي سبقت الأزمة وخاتمتها اتبعت نمط الدورة الائتمانية النمساوية الكلاسيكية. فكما كان الكساد الكبير نتيجةً لطفرة الائتمان في عشرينيات القرن العشرين، فإن الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام ٢٠٠٧ كانت النتيجة المنطقية للتوسُّع الكبير في الائتمان والديون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأدَّت أسعار الفائدة المنخفضة إلى ارتفاع حاد في الاقتراض من النظام المصرفي، والتحوُّل إلى المزيد من المخاطر. إن عملية نموِّ الائتمان وخلقِ الائتمان يحفزها ما رآه النمساويون نظامًا غير مستقر في الأساس، ناجمًا عن تفاعل البنوك المركزية التي تضع سياسات فضفاضة بشكل غير مناسب (يعارض معظم النمساويين فكرة البنوك المركزية) والبنوك الاحتياطيَّة الجزئية، التي أوردنا ذكرها في الفصل الخاص بالنقود. وكلما طالت العملية، أصبحت عملية الإفراط في الاستثمار على خلفية الاقتراض المصرفي غير مستدامة. وهذا يؤدي في النهاية إلى انعكاس حادٍّ للدورة، وأزمة ائتمانية.

وفقًا لروجر جاريسون، أستاذ الاقتصاد في جامعة أوبورن في ألاباما، وأحد أتباع المدرسة الحديثة في الولايات المتحدة، كانت النظرية النمساوية «مصمَّمة خصِّيصَى» لفهم الفوضى التي وقع فيها الاقتصاد. وكتب: «البنك المركزي هو محور فهمنا للأزمة.» ولقد أبقى الاحتياطي الفيدرالي تحت قيادة آلان جرينسبان أسعار الفائدة منخفضة للغاية، خلال عامَي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ ثم رفعها بشكلٍ حاد. بعد ذلك أصبحت الاستثمارات التي استغرقت وقتًا طويلًا، والتي بدأت في الوقت الذي جعلها فيه الائتمان الرخيص جذابة على نحو مصطنع، باهظة التكلفة للغاية. وعلى المستوى الاقتصادي الكلي، تترجم هذه التسلسلات إلى طفرة ثم كساد على غرار ما حدث في النمسا.

وباعتبارها وصفًا للظروف التي أدت إلى الأزمة، تسير دورة الائتمان النمساوية على نحو جيد إلى حد معقول، على الرغم من أن العديد من الأشخاص الذين لم يكونوا أعضاءً مسجَّلين بالكامل في المدرسة النمساوية، كانوا أيضًا قلقين بشأن نمو الائتمان وتراكم الديون. واستشهد مستحسنًا ويليام وايت، كبير خبراء الاقتصاد السابق في بنك التسويات الدولية، والذي حذر أكثر من معظم الخبراء من الأزمة الوشيكة، بأقوال لودفيج فون ميزس وغيره من خبراء الاقتصاد النمساويين الأوائل. ولكن إحدى المشاكل التي واجهت النظرية النمساوية هي أنها، على الرغم من تفضيل بعض المستثمرين لها، كانت تعمل على هامش الاتجاه السائد. فعندما يناقش معظم خبراء الاقتصاد في أمريكا ما ينبغي للاحتياطي الفيدرالي أن يفعله، فمن السهل رفض الموقف النمساوي، الذي يزعم أن الاحتياطي الفيدرالي لا ينبغي له أن يوجد على الإطلاق، باعتباره موقفًا متقلبًا.

أما أولئك الذين لم يقبلوا التفسير النمساوي، فقد زعموا أنه لا يناسب عالَمًا يتسم بالاستثمار المفرط أكثر من الانفجار في الأدوات المالية غير التقليدية، وتسعير المخاطر بأقل من قيمتها الحقيقية. كانت المشكلة الأخرى التي واجهت أتباع المدرسة النمساوية، والتي ابتعدوا فيها عن الاتجاه السائد، هي أنهم أصيبوا بالرعب الشديد إزاء رد فعل السلطات في أمريكا وغيرها من البلدان — عمليات إنقاذ البنوك على نطاق واسع وحزم التحفيز المالي «الكينزية» الضخمة — إلى الحد الذي جعل العديد منهم ينكرون وجود الأزمة. وكان النمساويون يكرهون البنوك المركزية والتدخُّل الحكومي حتى في الأوقات الجيدة. وكانوا يكرهونها أكثر عندما احتلت السلطات مركز الصدارة في الأوقات العصيبة. والمنتدى الأكثر شعبيةً بين خبراء الاقتصاد النمساويين هو الموقع الإلكتروني لمعهد لودفيج فون ميزس. وخلال عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، كانت المنشورات الأكثر شيوعًا على مدوَّنته تنتقد عمليات إنقاذ البنوك، وحتى الحكومة الأكبر حجمًا. أشار البعض إلى الأزمة باعتبارها «خدعة ٢٠٠٨ الكبرى»، التي اختُرعت بهدف زيادة قوة الدولة. وزعم آخرون أنه بدلًا من إنقاذ البنوك، كان ينبغي للحكومات أن تقف جانبًا، أيًّا كانت العواقب. بعبارة أخرى، لا ينبغي لأي بنك أن يكون «أكبر من أن يُسمَح له بالإفلاس». فالفشل، حتى على نطاق ركودي هائل، كان جزءًا من العملية التي كان على الاقتصادات أن تمرَّ بها، قبل أن تتمكَّن من تطهير نفسها من التجاوزات والتعافي.

لحظة مينسكي

قبل مغادرة الأزمة، هناك اقتصادي آخر يجب ذكره. هايمان مينسكي، المولود في شيكاغو عام ١٩١٩، درس في جامعتَي شيكاغو وهارفارد. وفي هارفارد كان مساعدًا للتدريس لألفين هانسن، أحد أبرز تلاميذ كينز في أمريكا. لقد أمضى حياته المهنية في البحث والتدريس في جامعات مختلفة، بما في ذلك جامعة كارنيجي ميلون، وجامعة براون، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وعلى مدى ٢٥ عامًا بدءًا بعام ١٩٦٥، عمل أستاذًا للاقتصاد في جامعة واشنطن في سانت لويس. كان مينسكي يعتبر نفسه كينزيًّا، ولكنه لم يكن مرتاحًا للتفسيرات التقليدية لكينز. كما رفض فرضية السوق الفعَّالة. لم يكن من منظِّري البرج العاجي: في بيركلي درس سلوك المديرين التنفيذيين لبنك أوف أمريكا، وكان مديرًا لبنك مارك توين في سانت لويس. وبحلول وقت وفاته في عام ١٩٩٦، كان لديه عدد قليل من المتابعين المخلصين، الذين نموا بشكل كبير مع بداية الأزمة المالية في صيف عام ٢٠٠٧، ولكن من المؤكد أن هذا النمو كان بسبب عدم قدرة البنوك وشركات الاستثمار على الوفاء بالتزاماتها. ذلك أنه أعطانا نموذجًا لفهم الأزمة وما رآه ميلًا فطريًّا للرأسمالية نحو نوباتٍ من عدم الاستقرار الشديد.

ورغم أن مينسكي طوَّر ما وصفه ﺑ «فرضية عدم الاستقرار المالي» على مدى سنوات عديدة، فإن جوهر هذه الفرضية يكمن في ورقة بحثية من ١٠ صفحات نُشرت في عام ١٩٩٢، من جانب معهد جيروم ليفي للاقتصاد في كلية بارد، نيويورك. وقد رأى مينسكي أن البنوك وشركات الاستثمار تمر بثلاث مراحل متميزة. المرحلة الأولى، أو ما يسمى بالتمويل «التحوطي»، هي المرحلة التي تتمكَّن فيها البنوك وشركات الاستثمار من الوفاء بجميع التزاماتها، من خلال التدفُّقات النقدية. فهي لم تقترض كثيرًا، أو بعبارة أخرى، لا تستطيع أن تسدِّد ديونها بسهولة. وفي المرحلة الثانية، التمويل «المضاربي»، تنخرط البنوك وشركات الاستثمار في سلوكيات أكثر خطورة. فهي قادرة على مواصلة سداد الفائدة على ديونها، ولكنها لا تستطيع أن تبدأ في سداد قروضها. ومن ثَم فإن استجابتها عادة ما تكون «تجديد» ديونها. ما دام المقرضون راضين عن هذا، فلا ينبغي أن تكون هناك صعوبة. باستثناء ذلك، عادةً، لا تتوقَّف البنوك عند هذا الحد. فقد أطلق مينسكي على مرحلتها الثالثة والأكثر خطورة اسم «تمويل بونزي». وهذا ليس النوع من السلوك الاحتيالي الذي تبيَّن أن بيرني مادوف قد انخرط فيه على مرِّ السنين، أو (في عصر سابق) إيفار كروجر، الملقَّب بملك أعواد الثقاب. بل إنه يصف الموقف الذي تجد البنوك وشركات الاستثمار نفسها فيه، عندما يكون تدفُّقها النقدي غير كافٍ لمواكبة أقساط الفائدة أو سداد قروضها. ولا يمكنها التعامل مع هذا إلا من خلال الاقتراض أكثر (باستخدام قروضها لسداد الفائدة) أو ببيع الأصول. إن الأمر المهم في فرضية مينسكي هو أنه في حين يصف أنواعًا متميزة من السلوك، فإنه لا يصف بنوكًا أو شركات استثمارية متميزة. مفتاح فرضية عدم الاستقرار المالي هو أن سلوك البنوك يتغير، أو يتطور، بمرور الوقت. وقد تبدأ وحداته الاقتصادية بالانخراط في التمويل التحوطي فقط، ولكنها تهاجر بعد ذلك إلى السلوك المضاربي وسلوك بونزي. والحقيقة أن المزيد والمزيد من الشركات يفعل ذلك، وهو ما يخلق عدم الاستقرار المتأصل في الرأسمالية، وهذا ما يشكل جوهر فرضيته.

كيف ينتهي كل هذا؟ أيُّ قيمة في شركات بونزي تتبخَّر بسرعة عندما تتغير الظروف ولو قليلًا. وتضطرُّ هذه الشركات إلى البيع من أجل محاولة الوفاء بالتزاماتها. فتنخفض قيم الأصول. وتكتسب عملية البيع زخمًا، الأمر الذي يؤدي إلى الانهيارات المالية. وهذه هي «لحظة مينسكي»، التي حدثت في أغسطس ٢٠٠٧، بداية الأزمة.

أزمة للاقتصاد؟

لكن ما مدى تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد؟ وهل تبطل كل ما حدث من قبل؟ لا أعتقد ذلك. ففي المناقشات الكبرى التي أفرزتها الأزمة بين المدارس الاقتصادية المختلفة، اتفق أغلب الناس على أن الأدوات كانت موجودة، ولكن الناس وصناع السياسات لم يعرفوا بالضرورة كيف ومتى يستخدمونها. وعندما استسلمت منطقة اليورو للأزمة في عام ٢٠١٠، لم يكن سوى عدد قليل من خبراء الاقتصاد مندهشين للغاية. فقد حذروا منذ فترة طويلة من أن هذه الأزمة كانت بناءً معيبًا. لذا فإن الاقتصاد قد يتغير بدرجة أقل مما اقترحه النقاد من خارج الموضوع. وسوف يتم تحسين النماذج التي ثبت عدم كفاءتها، أو إعادة تقديرها، أو إعادة بنائها من الصفر. لقد تطوَّرت صناعة حول النمذجة الصحيحة للمال والخدمات المصرفية والائتمان. وأصبح علم الاقتصاد السلوكي، الذي يشكِّل نقطة الالتقاء بين علم النفس والاقتصاد، أكثر أهمية. وسوف يولي المزيد من الاهتمام ﻟ «الغرائز الحيوانية» التي ابتكرها كينز — المشاعر والمزاج — ولكينز نفسه. ولكن بعض هذا كان يحدث على أية حال. وسوف يكون الاقتصاد الذي سيتطوَّر — من الكساد الكبير — مختلفًا عن الاقتصاد الذي سبقه، ولكن ربما ليس بالقدر الذي يتوقَّعه البعض. فلم تفرز الأزمة كينز جديدًا أو أي طرق جديدة للتفكير، وإن كان هناك الكثير من الانتقادات للطرق القديمة. فقد اكتشف خبراء الاقتصاد، مثلهم مثل المصرفيين، أنهم أكثر عرضة للخطأ مما كانوا يعتقدون في السابق، وكان هذا بالنسبة لبعضهم تجربة مذلَّة. فقبل بضع سنوات فقط، في عام ٢٠٠٥، وصفت مجلة «نيوزويك» الأمريكية الاقتصاد بأنه «المهنة الأكثر جاذبية على قيد الحياة». وكان من الجيد أن يعود علم الاقتصاد إلى أرض الواقع.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن أغلب خبراء الاقتصاد لا ينخرطون في هذا النوع من النمذجة الاقتصادية الكلية رفيعة المستوى، التي ساعدت في ترك صناع السياسات غير مستعدين للأزمة. فمعظم خبراء الاقتصاد التجاري يهتمون بالتفاصيل، وبالأسئلة الاقتصادية الجزئية المفيدة والمهمة للشركات والحكومات. ويقدم خبراء الاقتصاد المشورة بشأن المنافسة، والتنظيم، وتصميم السياسات «على جانب العرض»، واستراتيجية الشركات. هناك خبراء اقتصاديون في مجال النقل، وخبراء اقتصاديون في مجال الصحة، وخبراء اقتصاديون في مجال التعليم، وخبراء اقتصاديون في مجال سوق العمل، وما إلى ذلك. ربما كان لديهم جميعًا وجهات نظر خاصة بشأن تراكم الأزمة، وكان لدى العديد منهم وجهات نظر خاصة، ولكن لم يكن من وظيفتهم تقديم المشورة أو التحذير. وعلى نحو مماثل، فإن معظم خبراء الاقتصاد الأكاديميين ليسوا خبراء في مجال الاقتصاد الكلي. وتميل الأبحاث إلى التركيز على الأسئلة الاقتصادية الجزئية. ولم يكن من المنطقي قطُّ أن نلقي باللوم على جميع خبراء الاقتصاد في نفس الموضوع. فقد كشفت الأزمة عن بعض أوجه القصور في الموضوع، لكنه يظل مفيدًا للغاية. ولكنك تتوقَّع مني أن أقول ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥